منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

ومن هنا يظهر ما ذكرناه سابقا من : أن مناقشة المحقق الأصفهاني لصاحب الكفاية في الوجه الثالث لا ترجع في الحقيقة إلى منعه في نفسه ، بل إلى بيان أنه غير مصحح ورافع لمحذور الواجب المعلق الّذي ذكره هو قدس‌سره ، لابتنائه على الالتزام بالتضايف بين البعث والانبعاث ، وكلام الكفاية أجنبي عنه.

والإنصاف ان ما التزم به من أن حقيقة الأمر جعل ما يمكن ان يكون باعثا وداعيا ، بلا وجه ملزم ـ وان تمّ ما رتبه عليه من استحالة الواجب المعلق ـ ، بل يمكننا الالتزام بأن حقيقة الأمر إنما هي جعل ما يقتضي الداعوية والبعث ، بمعنى جعل ما يمكن له اقتضاء الداعوية والتأثير فيها. ومن الواضح أن وجود المانع من تأثير المقتضى في مقتضاه سواء كان المانع من الخارج ، أو لأجل عدم قبول المحل ، لا ينافي كونه مقتضيا ، فالنار مقتض للإحراق ولو لم تكن فعلا مؤثرة فيه باعتبار وجود المانع. لأن معنى المقتضي هو ما يكون مؤثرا لو حصلت باقي اجزاء العلة من الشرط وعدم المانع ، فوجود المانع لا يرفع اقتضاء المقتضي ولا ينافيه.

وعليه ، فعدم إمكان الدعوة فعلا والانبعاث عن الأمر في الواجب المعلق لا ينافي كون الأمر مقتضيا للبعث والدعوة ، لأن عدم التمكن ناشئ من وجود المانع ، وعدم قابلية المورد للانبعاث ، وهذا لا يضير في اقتضاء الأمر فليس في مورد الواجب المعلق ما يتنافى مع حقيقة الأمر كي يلتزم بعدم الأمر.

ولعل نظر المحقق العراقي في ما ذكره في مقام الإجابة عن هذا الوجه : بان الأمر وان كانت حقيقته جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، لكنه لا يشترط ان يكون ممكن الدعوة فعلا ، بل يكفي فيه إمكانه ولو في المستقبل (١) ، لعل نظره في

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٣١٠ ـ الطبعة الأولى.

١٦١

ذلك إلى ما ذكرناه. فلاحظ.

وبالجملة : الّذي يبدو لنا هو عدم تمامية الوجه الّذي أفاده المحقق الأصفهاني في بيان استحالة الواجب المعلق.

الوجه الثالث : ـ وهو ما أفاده المحقق النائيني ـ ان كل قيد لا يكون واجب التحصيل لا بد وان يؤخذ مفروض الوجود بالنسبة إلى الحكم ، بمعنى أن يكون وجود الحكم مترتبا على وجوده كما مرّ تقريبه في مبحث الشرط المتأخر.

وعليه فإذا لم يكن قيد الواجب غير الاختياري كالزمان بواجب التحصيل فهو لا محالة يكون قيدا للحكم بنحو فرض الوجود ـ لأنه يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ـ ، وإذا ثبت ذلك امتنع تحقق الوجوب فعلا قبل حصول ذلك القيد ، لكون المفروض ترتب ثبوت الحكم وتحققه على تحقق ذلك القيد ـ كما هو مقتضى فرض الوجود ـ فوجوده قبل وجود القيد يستلزم الخلف.

ويمكن تقريب امتناع الواجب المعلق على بناء المحقق النائيني في باب جعل الأحكام ، وانها مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، وان جميع القيود التي لا يجب تحصيلها تؤخذ بنحو فرض الوجود ـ يمكن تقريبه ـ بوجه آخر وهو ان يقال : ان القدرة على المأمور به من شرائط التكليف عقلا ، فإذا فرض تقيد الواجب بقيد غير مقدور كالزمان ، امتنع تعلق الوجوب به قبل حصول قيده ، لأن وجود الحكم يترتب على وجود القدرة على متعلقه لأنها شرطه فتكون مأخوذة بنحو فرض الوجود الّذي عرفت استلزامه لتأخر الحكم عن قيده. فقبل حصول قيد المتعلق وهو الزمان لا قدرة عليه ، ومعه يمتنع تعلق الوجوب به لاستلزامه تقدم الحكم على موضوعه وهو خلف باطل.

ثم انه تصدى لدفع إيراد صاحب الكفاية قدس‌سره السالف الذّكر بعد بيانه بما محصله : ان تأخر الفعل عن الحكم انما هو في الحكم المجعول بنحو القضية الخارجية ، إذ جعله يكون ابتدائيا وبلا سابقة ، لأنه يرتبط بتشخيص

١٦٢

المولى تحقق موضوع الحكم ، فعند جعل الحكم الفعلي يتصور المكلف ما يترتب على إطاعة الحكم ومعصيته من ثواب وعقاب ، وذلك يستلزم انفكاك الواجب عن الوجوب.

اما بالنسبة إلى الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية ـ الّذي عرفت ان جعل الأحكام الشرعية كلها بهذا النحو ـ فتأخر الفعل عن الحكم ليس من الأمور القهرية الضرورية ـ كي يدعى ان الالتزام بالواجب المعلق ليس بالشيء الجديد المستحدث ، فإن الأحكام كلها تتعلق بأمر متأخر ـ ، وذلك لأن إنشاء الحكم بنحو القضية الحقيقية يكون سابقا على فعليته ، لتوقف فعليته على حصول شرائطها وقيودها المأخوذة بنحو فرض الوجود ، فيمكن ان يهيئ المكلف نفسه للامتثال قبل فعلية الحكم ، وذلك بتصور ما يترتب على إطاعة الحكم الّذي سيتحقق عند تحقق شرطه من الثواب وعلى معصيته من العقاب إلى غير ذلك مما يكون مقربا للامتثال ، فلا ينتظر العبد بعد ذلك إلا صيرورة الحكم فعليا لينبعث نحو متعلقه بلا تأخر.

وبالجملة : ما يدعى : من ان انفكاك الفعل عن الحكم أمر سار في جميع الأحكام ، وانه امر تقتضيه طبيعة الحكم وواقعه ، فلا خصوصية للمتعلق من هذه الجهة كي يدعى امتناعه. مندفع : بما عرفت من عدم سرايته بعد فرض كون جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، لإمكان اتصال الحكم مع الفعل بلا انفكاك.

لا نقول : بان عدم الانفكاك بين الحكم ومتعلقه لا يتحقق دائما بناء على جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، إذ يمكن ان يتحقق الانفكاك بداهة ، إذ قد لا يكون الشخص عالما بالحكم قبل حصول الشرط وانما يعلم به بعد ذلك ، فيحدث في نفسه التهيؤ للامتثال بعد حصول الحكم وفعليته.

وانما الّذي نريد ان نقوله : هو ان الانفكاك الحاصل ليس امرا دائميا

١٦٣

تقتضيه طبيعة الحكم وملاك جعله ، بتقريب انه لجعل الداعي وهو متأخر قهرا عن جعل الحكم لكي ينتهي من ذلك إلى جواز الواجب المعلق. فالحكم بطبيعته لا يتعلق بالأمر المتأخر دائما ، بل التأخر ينشأ من العوارض الخارجية ، وهذا لا يعني تعلق الحكم بأمر متأخر عنه الّذي يحاول المدعي إثباته كي يصل إلى إثبات دعواه من عدم استحالة الواجب المعلق. فلاحظ (١).

ومن هنا يتضح لك ان ما أفاده لدفع الوجه الثالث الّذي ذكره صاحب الكفاية ، وان رجع إلى منعه في نفسه وبيان عدم تماميته ، وبه يختلف عن نحو مناقشة المحقق الأصفهاني فيه ، لأنها لا ترجع إلى منعه في نفسه بتاتا ، لكنه إنما يدفعه في نفسه مبنيا على تقدير خاص وبناء معين ، وهو تقدير الالتزام بكون جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقية ولا يرجع إلى منعه بتاتا على جميع التقادير.

وبتعبير آخر : ان هذا المنع لا يلزم به صاحب الكفاية ، لإمكان ان يدعي نفي كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية.

والّذي يتحصل ان ما ذكره صاحب الكفاية إيرادا على الوجه الّذي ذكره المحقق النهاوندي لم تظهر الخدشة فيه من كلام هذين العلمين ، فوروده محكم.

هذا بالنسبة إلى ما يرتبط بكلام صاحب الكفاية.

واما نفس الوجه الّذي أفاده في بيان استحالة الواجب المعلق من رجوع قيد المتعلق الّذي لا يجب تحصيله إلى الموضوع المأخوذ بنحو فرض الوجود ، فيمتنع وجود الحكم قبله.

فالخدشة فيه تظهر مما تقدم منا من إنكار هذه الكلية التي يتكرر ذكرها في كلامه ، فليس كل ما لا يجب تحصيله يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود ، بل قد عرفت أن القيود على أنحاء ثلاثة : منها : ما يرجع إلى المتعلق. ومنها : ما يكون

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٦ ـ الطبعة الأولى.

١٦٤

مرتبطا بالحكم بنفسه ، كالزمان فان نسبته إلى الحكم نسبة الظرف إلى المظروف ومنها : ما لا ارتباط له بالحكم بنفسه أصلا. وعرفت ان ما يحتاج إلى أخذه مفروض الوجود هو النحو الثالث فقط دون مثل الزمان وقيود المتعلق ، إذ لا وجه يقتضي فرض الوجود فيهما ، وليس فرض الوجود امرا مدلولا لدليل شرعي كي يتمسك بإطلاقه.

وعليه ، فالقيد الّذي علق عليه الواجب ـ في الواجب المعلق ـ وان لم يجب تحصيله إلا أنه ليس مأخوذا في الموضوع بنحو فرض الوجود ، لأنه من قيود المتعلق التي لا تؤخذ كذلك ، على ما تحقق ، وإذا لم يتقيد بها الوجوب لم يمتنع أن يوجد قبلها ، فيكون الوجوب حاليا والوجوب استقباليا.

ودعوى : ان ما لا يجب تحصيله يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، فيكون ذلك ملاكا لأخذه في موضوع الحكم ومفروض الوجود (١).

مندفعة : فانه لا ملازمة بين ما لا يجب تحصيله وبين دخالته في الاتصاف بالمصلحة ، بل يمكن أن يكون الأمر غير الاختياري الّذي لا يجب تحصيله في وجود المصلحة وفعليتها ، كما لو كان الدواء غير نافع للمريض إلا في استعماله في وقت خاص كوقت النوم ونحوه. فان الوقت الخاصّ غير دخيل في الاتصاف بالمصلحة ، بل في وجودها وفعليتها ، فيكون ما تترتب عليه المصلحة هو الحصة المقيدة به ، فيتعلق به التكليف فعلا ، فالطبيب يأمر فعلا بشرب الدواء ليلا وعند النوم.

وعليه ، فيمكن ان يكون القيد المأخوذ في الواجب المعلق من هذا القبيل ، ويكون ما يترتب عليه المصلحة هو الحصة الخاصة المقيدة به ، مع عدم لزوم تحصيله لعدم اختياريته. فيتعلق به الوجوب فعلا لتحقق ملاكه. فلاحظ جيدا.

__________________

(١) كما عن المحقق النائيني قدس‌سره.

١٦٥

الوجه الرابع : وهو ما أشار إليه في الكفاية ان القدرة على العمل من شرائط التكليف عقلا ، فيكون الوجوب معلقا على تحققها ، وهي في الواجب المعلق غير متحققة في ظرف الوجوب لعدم القدرة على الواجب في ظرفه ، فيكون الوجوب قد تحقق قبل تحقق شرطه ، وأخذ الشرط القدرة في وقت الامتثال مرجعه إلى أخذها بنحو الشرط المتأخر. وهو ممنوع (١).

ومن هنا يظهر ان ما ذكره صاحب الكفاية في الجواب عن هذا الوجه : بان القدرة وان كان شرطا للتكليف ، لكنها القدرة في ظرف الامتثال لا في ظرف الأمر ، غاية الأمر تكون مأخوذة بنحو الشرط المتأخر.

لا يفي بالمطلوب على جميع التقادير ، لإنكار الشرط المتأخر من قبل بعض كما قرر في نفس الوجه ، فالالتزام بالشرط المتأخر لا يدفع الإيراد.

فالتحقيق ان يقال : ان إطلاق الشرط على القدرة لا يراد منه شرطية القدرة بالمعنى الفلسفي للشرط ، وهو ما كان دخيلا في تحقق المشروط ومن اجزاء العلة ، بل يراد منه شرطيتها بمعنى مصحح التكليف والموجب لخروجه عن اللغوية فلا يمتنع تأخرها عن الحكم ، نظير ما يقال : ان ترتب الأثر على الأصل شرط اعتباره وجريانه ، مع ان ترتب الأثر عليه متأخر رتبة عنه لا سابق عليه. وقد ذكرنا ـ هذا المعنى في مبحث التعبدي والتوصلي فراجع (٢) ـ.

وعليه ، فإذا لم تكن القدرة دخيلة في التأثير كي تؤخذ في الموضوع ويمتنع تأخرها عن الحكم ، بل كانت دخيلة في تصحيح العمل من الحكيم بحيث يخرج عن اللغوية ـ ولذا كانت شرطا في التكليف الصادر من الحكيم لا غيره ـ يكتفى منها بالقدرة على الواجب في ظرف الامتثال ليمكن الانبعاث نحوه وإتيانه ، ولا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) راجع ١ ـ ٤١٦ من هذا الكتاب.

١٦٦

يضير تأخرها عن أصل الوجوب لعدم أخذها في موضوعه ، وليست نسبتها إليه نسبة جزء العلة إلى المعلول.

والّذي يتحصل ان ما ذكر من الوجوه لبيان استحالة الواجب المعلق غير واف في إثبات استحالته ، فهو أمر ممكن ثبوتا ولا محذور فيه ظاهر. بل قيل : انه بالإضافة إلى إمكانه ثبوتا واقع إثباتا ، فلا يتجه إنكاره ، وذلك في موارد ثلاثة :

الأول : الواجبات التدريجية المقيدة بالزمان كالصوم ، فان الوجوب متعلق بالجزء الأخير من الإمساك ، وهو الإمساك في الجزء الأخير من النهار ـ متعلق به ـ من أول الفجر. ونظير الصلاة من أول الوقت ، فان الوجوب متعلق بآخر جزء منها المقيد بمضي زمان جميع الأجزاء السابقة عليه ـ متعلق به ـ من حين دخول الوقت ، لأن المفروض وحدة الوجوب والواجب في كلا الموردين فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب.

الثاني : الواجبات التدريجية غير المقيدة بزمان معين كالصلاة أثناء الوقت ، فان الوجوب يتعلق بالجزء الأخير منها من حين الابتداء بها.

الثالث : الواجبات التي يكون لها مقدمات يتوقف عليها حصولها ، إذ الوجوب متعلق بالواجب قبل الإتيان بمقدماته ، مع انه لا يمكن الإتيان به قبلها ، فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب وهو الواجب المعلق الّذي يدّعى امتناعه.

وهذه الأمور كما تذكر لبيان تحقق الواجب المعلق خارجا ، تذكر في مقام النقض على من يلتزم باستحالة الواجب المعلق ببيان : ان وقوع مثل ذلك خارجا ينافي دعوى استحالة الواجب المعلق.

وقد تصدى المحقق النائيني إلى التفصي عن هذه النقوض ، وبيان عدم المنافاة بين دعوى استحالة الواجب المعلق وتحقق مثل هذه الموارد ، بعد ان أوردها نقضا على دعوى استحالة الشرط المتأخر أيضا. ببيان : ان وجوب

١٦٧

الإمساك في أول الفجر مشروط ببقاء شرائط التكليف إلى آخر الوقت ، فإذا انتفى أحدها في الأثناء يكشف عن عدم تحقق الوجوب من أول الوقت.

وعليه ، فالتكليف بالإمساك من أول الوقت مشروط ببقاء شرائط التكليف إلى الغروب. فتحقق الشرائط في آخر الوقت متأخر زمانا عن تحقق التكليف مع انه شرطه ، وهكذا الحال في الصلاة أول الوقت ، لأن وجوبها أول الوقت مشروط ببقاء شروطها إلى مقدار أربع ركعات بعد أول الوقت ، وهو شرط متأخر.

هذا بالنسبة إلى النقض بالمورد الأول.

واما ما أفاده في مقام التفصي عن كلا النقضين فتوضيحه :

اما النقض بالمورد الأول على دعوى امتناع الشرط المتأخر ، فحلّه : انه بعد ان عرفت استحالة الشرط المتأخر عقلا ، فلا بد من الالتزام بان الشرط في مثل المورد الّذي دل الدليل فيه على أخذ المتأخر شرطا ليس هو نفس الأمر المتأخر ، بل العنوان المنتزع عن وجوده في ظرفه كعنوان التعقب ، إذ قد عرفت ان الالتزام بذلك في بعض الموارد لا محيص عنه ، فانه فيه جمعا بين الحكم العقلي باستحالة الشرط المتأخر وظاهر الدليل الّذي أخذ فيه المتأخر شرطا ، فيكون الشرط في الحقيقة في المورد هو بالنسبة إلى كل جزء من اجزاء العمل التدريجي هو الحياة المقارنة المسبوقة والملحوقة بمثلها ، فان عنوان السبق واللحوق أمر مقارن للجزء.

واما النقض به على دعوى امتناع الواجب المعلق فحلّه : ان الواجب وشرطه إذا كانا تدريجيين كانت فعلية الوجوب تدريجية أيضا ، وذلك لأن فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فبعد ان كان الشرط تدريجي الحصول كانت فعلية الحكم تدريجية أيضا بتدريجية الشرط. وعليه فلا يكون التكليف المتعلق بالجزء الأخير فعليا من أول الوقت ، بل يصير فعليا عند حصول الشرط في ظرفه ، ولا

١٦٨

منافاة بين تدريجية الحكم ووحدته ، كسائر الأمور التدريجية التي تتصف بالوحدة (١).

ثم انه قد يتساءل عن شيء وهو : ان المحقق النائيني رحمه‌الله ذهب إلى استحالة الواجب المعلق من جهة رجوعه في الحقيقة إلى الشرط المتأخر الّذي بنى على امتناعه.

وعليه ، فكان من السهل عليه ان يدفع النقض المذكور على كلتا دعوييه ـ أعني دعواه امتناع الشرط المتأخر ، ودعواه امتناع الواجب المعلق ـ بوجه واحد وهو : الالتزام بكون الشرط وما علق عليه الوجوب هو العنوان المنتزع ، فتنحل كلتا جهتي النقض. فما هو الوجه في العدول في مقام حل النقض على دعوى امتناع الواجب المعلق عن الوجه الّذي ذكره في حل النقض عن دعوى امتناع الشرط المتأخر وهو الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب المنتزع؟!.

والجواب عن هذا السؤال : بان الشرط المأخوذ في موضوع التكليف بالجزء الأخير ، بل غيره من الاجزاء ، هو القدرة عليه ، ومن الواضح ان العقل إنما يحكم بشرطيتها نفسها بملاك تقوم التكليف بها ، لأنه تحريك لقدرة العبد على الفعل ، دون العنوان المنتزع عن وجودها في ظرفها ، فوجوب الإمساك في آخر النهار مقيد بنفس القدرة عليه لا بالقدرة على غيره من الاجزاء اللاحقة للقدرة عليه. فان العقل يحكم بان متعلق الحكم لا بد وان يكون مقدورا ، فنفس القدرة مما يحكم بشرطيتها العقل.

فلا محيص في حل النقض إلا بما عرفت من دعوى عدم فعلية الحكم قبل فعلية القدرة على الجزء.

نعم القدرة على الاجزاء السابقة أو اللاحقة ليس مما يحكم العقل

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٤٥ ـ الطبعة الأولى.

١٦٩

بشرطيتها ، لتعلق التكليف بالجزء المسبوق والملحوق ، بل هي من الشرائط الشرعية ـ بمقتضى وحدة الواجب وارتباطيته ـ ، فيمكن أن يفرض كون الشرط هو العنوان المنتزع كما عرفت ، فيتخلص به عن محذور امتناع الشرط المتأخر.

وهكذا الحال في شرطية الحياة للتكليف بالجزء ، فان الحياة في وقت العمل شرط للتكليف لتقوّم التكليف بها لأنه توجه الخطاب إلى الحي ، فلا يكفي فيها العنوان المنتزع عن وجودها في الزمان اللاحق ، بل نفس الحياة في ظرف الجزء الأخير شرط تعلق التكليف.

واما ما ذكره في مقام التخلص عن النقض بالمورد الثاني فهو : ان العمل إذا لم يكن مقيدا بقيد غير مقدور كالزمان يكون مقدورا ولو بالواسطة ، وعليه فالجزء الأخير وان كان متأخرا في وجوده ، إلاّ انه لما كان مقدورا عليه فعلا بالقدرة على الإتيان بالاجزاء السابقة صح تعلق التكليف به فعلا لأنه مقدور عليه بالواسطة ، فمحذور الواجب المعلق وهو تعلق التكليف بما هو مقيد بغير المقدور كالزمان المستلزم لأخذ القدرة بنحو الشرط المتأخر غير متحقق هاهنا ، لأن التكليف متعلق بالمقدور فعلا.

ومن هنا يظهر التفصي عن النقض بالواجبات ذوات المقدمة ، فانها مقدورة فعلا بالقدرة على مقدماتها ، فلا مانع من تعلق التكليف فعلا بها ، إذ الشرط وهو القدرة متحقق فعلا. كما أنه لم يقيد الواجب بقيد لا بد وأن يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود كالزمان ـ كما هو المفروض ـ فكلا المحذورين في الواجب المعلق منتفيان في كلا الموردين.

وقد تفصى المحقق الأصفهاني قدس‌سره عن النقض بالواجبات التدريجية مطلقا ـ المقيدة بالزمان وغيرها ـ بعين ما تفصى به المحقق النائيني عن النقض بالواجبات التدريجية المقيدة بالزمان من : الالتزام بتدريجية فعلية الحكم بتدريجية حصول الشرط من دون منافاة ذلك لوحدة الحكم والشرط ، كما هو

١٧٠

الحال في سائر الأمور التدريجية المتصفة بالوحدة.

ولكنه تفصى عن النقض بالواجبات ذوات المقدمة بوجه آخر وهو : الالتزام بان التكليف بذي المقدمة قبل الإتيان بالمقدمة لا يكون فعليا وان تعلق به الشوق ، لوجود المانع عن فعليته ومحركيته. واما التكليف بالمقدمة فهو فعلي لترشح الشوق عليها من الشوق المتعلق بذيها ، والمفروض انه لا مانع من محركية الشوق المتعلق بها فيتعلق بها الطلب الفعلي.

وبالجملة : يلتزم المحقق الأصفهاني بفعلية البعث نحو المقدمة دون البعث نحو ذيها ، وانما التلازم بينهما في تعلق الشوق ، فان تعلقه بذي المقدمة ملازم لتعلقه بها (١).

والّذي يتحصل : ان هذه الموارد الثلاثة لا تصلح نقضا على من يلتزم باستحالة الواجب المعلق ، لإمكان حلّه بوجه معقول ثبوتا ، فيلتزم به إثباتا ، جمعا بين الحكم العقلي باستحالة الواجب المعلق ودلالة الدليل الشرعي على هذه الموارد.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ان أنهى الكلام عن إمكان الواجب المعلق ، تعرض إلى تحديد الوجوب المقدمي والمقدار الواجب من المقدمات ـ بيانا لثمرة الواجب المعلق ـ ، وهذا كما لا يخفى يبتني على مقدمتين :

الأولى : بيان نحو الوجوب النفسيّ الّذي يكون قابلا لأن يترشح منه الوجوب الغيري فعلا.

الثانية : بيان المقدمة القابلة لترشح الوجوب.

فقوله قدس‌سره : « ثم لا وجه لتخصيص المعلق ... » لتحقيق المقدمة الأولى ، وتوضيح ما أفاده : ان الملاك في الواجب المعلق حيث كان فعلية الوجوب

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٨٧ ـ الطبعة الأولى.

١٧١

وحاليته مع استقبالية الواجب الّذي يقصد منه ثبوت وجوب المقدمات فعلا ، لم يتجه تخصيص الواجب المعلق بما علق على أمر غير مقدور ، كما جاء في الفصول ، بل ينبغي تعميمه إلى كلما علق على أمر متأخر ، سواء كان مقدورا أو غير مقدور ، وسواء كان المقدور المتأخر مما يقبل لترشح الوجوب عليه في ظرف الواجب أو لا يقبل لاشتراك الجميع في كون الوجوب فعليا والواجب استقباليا.

وبذلك يختلف المعلق عن المشروط ، لعدم فعلية الوجوب في المشروط قبل وجود الشرط إلا في صورة واحدة ، وهي أن يكون الشرط مأخوذا بنحو الشرط المتأخر وفرض حصوله في ظرفه ، فيعلم بتحقق الوجوب فعلا فيترشح منه الوجوب الغيري (١).

وبذلك يكون الوجوب القابل لأن يترشح منه الوجوب الغيري فعلا أنواع ثلاثة :

الأول : الوجوب المنجّز.

الثاني : الوجوب المعلق بالنحو الّذي عمّمه صاحب الكفاية.

الثالث : الوجوب المشروط بالشرط المتأخر مع فرض حصول الشرط.

ولا يخفى أن ما ذكره استدراكا على تخصيص صاحب الفصول الواجب المعلق بما علق على أمر غير مقدور بتعميمه إلى كل ما يؤخذ قيدا للواجب في ظرف متأخر ولو كان مقدورا. لا وجه له.

وذلك لأن الأمر المقدور الّذي علّق عليه الواجب اما أن يعلق عليه الواجب بلا قيد تأخره ، بل مطلقا ولو كان فعلا ، فهذا لا يرجع إلى الواجب المعلق بل يكون واجبا منجزا. واما ان يقيد الأمر بالزمان المتأخر ويؤخذ قيدا للواجب بهذا القيد ـ كما هو ظاهر العبارة ـ ، فيخرج عن كونه مقدورا لتقيده بما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٧٢

هو غير مقدور وهو الزمان ، فيندرج في ما أفاده صاحب الفصول من ان الواجب المعلق ما علق على أمر غير مقدور إلا أن يكون الإيراد على صاحب الفصول لفظيا بان يقال له : بأنه ينبغي تعميم الواجب المعلق لما علق على أمر غير مقدور بنفسه أو بالواسطة ، وإلاّ فكل ما يعلق عليه الواجب بقيد التأخر يكون غير مقدور لتقيده بما هو غير مقدور. فتدبر.

واما ما أفاده في الواجب المشروط من أنه إذا علق على شرط متأخر وفرض حصوله في ظرفه كان الوجوب فعليا قبل حصول الشرط. فقد يدعى عدم خلوّه من المسامحة ، وذلك ببيان : ان صاحب الكفاية التزم بأن حقيقة شرط الحكم ليس إلاّ الوجود العلمي للأمر الخارجي من دون دخل لنفس الخارج في ثبوت الحكم ، لاستحالة ذلك بعد أن كان الحكم فعلا إراديا للحاكم.

وعليه ، فالحكم يدور مدار تصور المولى وإحرازه وجود الشرط خارجا ، سواء طابق إحرازه الواقع أو لم يطابق. فلا وجه حينئذ لتوقيف فعلية الوجوب المشروط على حصول الشرط المتأخر في ظرفه ، بل فعليته تدور مدار لحاظ المولى للشرط سواء تحقق خارجا أو لم يتحقق ، نعم في مثل شرائط المأمور به يتجه هذا الأمر ، باعتبار أنه جعل الأمر الخارجي طرفا للإضافة والتقيد ، فلا بد من فرض وجوده خارجا كي يعلم بتحقق الإضافة والتقيد.

وبالجملة : لما كان شرط الحكم حقيقة هو الوجود العلمي ، وهذا لا يتوقف على تحقق مطابقة خارجا ، لم يكن وجه لما أفاده صاحب الكفاية في المقام.

والإنصاف ان هذا لا يرد على صاحب الكفاية. كما لا يرد عليه ان الالتزام بالواجب المشروط مطلقا ينافي ما قرّره من ان شرط الحكم هو الإحراز لا نفس المحرز ، إذ بعد تبعية الحكم للصور الذهنية فلا معنى لتعليقه على تحقق شيء خارجا ، بل الأحكام اما موجودة من الأزل لتحقق لحاظ الشرط أزلا أو غير موجودة

١٧٣

من الأزل لعدم تحققه من الأزل. كما أشار إليه الشيخ (١) في تقريب رجوع الشرط إلى المادة لا الهيئة ، إذ امر الإرادة دائر بين الوجود والعدم لتبعيته للصور الذهنية واللحاظات.

وجه عدم ورود الإيراد الأول : أن الحكم المترتب على موضوع معين لا بد وان يحرز في موضوعه المعين وجود ملاكه والمصلحة الداعية إليه.

وعليه ، فإذا كان الحكم شخصيا مرتبا على فرد معين من الافراد كان جعل الحكم منوطا بإحراز المولى وجود الملاك في هذا الفرد الموضوع ، فإذا أحرز المولى ان زيدا محصل لما هو ملاك الحكم أمر بالشيء الكذائي ، ولا يضير في ذلك عدم مطابقة إحرازه لما هو الواقع ، إذ الحكم يناط بالإحراز والعلم بوجود شرط الملاك ، سواء طابق الواقع الخارجي أو لم يطابق. واما إذا كان الحكم كليا مرتبا على طبيعة بلا لحاظ خصوصية افرادها ، كان جعل الحكم منوطا بإحراز المولي وجود الملاك في الموضوع الكلي لا غير ، فعليه أن يحرز أن هذا الكلي مما يترتب عليه الملاك وليس عليه أن يحرز تحقق الملاك في افراده ، إذ الحكم ليس على كل فرد بعنوانه الخاصّ ، بل على كل فرد بعنوان الكلي. ولا فرق بين الحكم الشخصي والكلي في لزوم إحراز الملاك في موضوعه ، وانما الفرق ان الحكم الشخصي يستدعي إحراز تحققه في الفرد ـ لأنه موضوع الحكم ـ ، والحكم الكلي لا يستدعي إحراز تحققه في الفرد ، بل في الكلي فقط.

فعلى هذا فإذا أحرز المولى ان وجود شيء بعد حين دخيل في ثبوت الملاك فعلا في الشيء وكان هناك جماعة افراد أحرز المولى تحقق الشرط فيهم وجّه إليهم الخطاب شخصيا ، فيقول مثلا : « يجب عليكم كذا ». واما إذا لم يحرز وجود الملاك فيهم أجمع ، بل أحرزه في بعضهم ولم يحرزه في بعض آخر وأحرز عدمه في

__________________

(١) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٥٢ ـ الطبعة الأولى.

١٧٤

بعض ثالث ، فلا يمكن توجيه الخطاب إليهم شخصيا بإنشاء واحد ، بل لا يسعه إلا ان ينشئ الحكم على الموضوع الكلي ، وقد عرفت أنه لا يستدعي سوى إحراز كون العنوان محصلا للغرض وملاك الحكم بلا نظر إلى الافراد ، فإذا أحرز ان الاستطاعة بوجودها المتأخر محصلة للملاك ، ولم يحرز تحقق الاستطاعة في بعض الأشخاص ، أنشأ الحكم على الموضوع الكلي فيقول : « يجب الحج فعلا على المستطيع بعد حين » ، وبعد هذا يكون أمر تطبيق الموضوع على المكلفين بيدهم لا بيد المولى ، فان وظيفته ليس إلا جعل الحكم على موضوعه ، فمن علم انه يتحقق منه هذا الشرط فقد أحرز انه فرد الموضوع الكلي ، فيحرز ثبوت الحكم له ، وبدونه لا يحرز كونه فردا للموضوع كي يحرز ثبوت الحكم له.

فلا يقال : انه بعد أخذ الإحراز شرطا لا معنى لتقييد ثبوت الحكم بوجود الشرط في ظرفه.

فان هذا إنما يتم في الأحكام الشخصية دون الكلية ، لأنها لا تناط بإحراز تحقق الشرط خارجا ، إذ لا نظر للمولى إلى عالم الخارج ، بل تناط بإحراز دخالة الشرط في الملاك ، فالخطاء انما يتصور في هذا الفرض في دخالة الشرط في الملاك لا في أصل وجود الشرط.

ولا ينافي هذا الالتزام بكون الأحكام منشأة بنحو القضية الخارجية لا الحقيقية ، إذ المنفي هو أخذ الشرط بنحو فرض الوجود وترتيب وجود الحكم على وجوده اما جعل الحكم فعلا على الموضوع الكلي ، وكون أمر تطبيقه بيد المكلف لا بيد المولى ، فلا مانع من الالتزام به ، وهو لا ينافي القضية الخارجية كما في قول القائل : « كل من في الدار عالم » ، ولكنه إذا سئل عن : « أن زيدا كان في الدار أو لا » يجيب لا أدري. مع ان حكمه بنحو القضية الخارجية.

وبالجملة : كون الأحكام الشرعية بنحو الحكم الكلي لا الشخصي ، فلا يكون أمر تطبيق الموضوع بيد المولى بل بيد العبد ، مما يلتزم به صاحب الكفاية

١٧٥

وان رجع إلى القضية الحقيقية ، فانها بهذا المعنى لا ينكرها صاحب الكفاية ، بل المنكر هو أخذ الشيء مفروض الوجود.

ويشهد لما ذكرنا نفس التزامه بالواجب المشروط ، فانه لا يتلاءم الا مع ما ذكرناه.

ومن هنا يتضح الجواب عن الإيراد الثاني ، فان مقدمات الإرادة وان كانت تامة ، إلاّ انه قد يمنع مانع من جعل الحكم ، فإذا أحرز المولى تمامية المصلحة بعدم المانع ينشئ الحكم معلقا على عدم المانع بنحو كلي ويكون التطبيق بيد المكلفين. وقد أشار صاحب الكفاية فيما تقدم إلى هذا الجواب ، وانه قد تتحقق الإرادة بتحقق مقدماتها ، لكن يمنع مانع من جعل الحكم فيعلقه على زوال المانع.

ولا يخفى انه إنما يتم بالتوجيه الّذي عرفته من الحكم على الموضوع الكلي المفروض فيه زوال المانع وإلاّ فمجرد مانعية المانع لا تكفي في رفع الإشكال ، إذ للمستشكل ان يدعي بأنه كما كان إحراز الشرط دخيلا بنفسه دون نفس وجود الشرط ، فكذلك إحراز عدم المانع دون نفس عدم المانع ، لأنه من الخارجيات التي يمتنع تأثيرها في الإرادة ، فإذا أحرز المولى عدم المانع في المستقبل أنشأ الحكم فعلا بلا وجه لتعليقه على زواله.

فالجواب الصحيح ما عرفت من أن ما هو مرتبط بالمولى إحراز تمامية المصلحة بعدم المانع ، لا إحراز تحققه وعدم تحققه ، والملاك في إنشاء الحكم هو الأول دون الثاني. فتدبر جيدا.

هذا كله بالنسبة إلى المقدمة الأولى.

واما المقدمة الثانية : فقد تعرض إليها بقوله : « قد انقدح من مطاوي ... » ، وتوضيح ما أفاده : ان المقدمات بجميعها قابلة لترشح الوجوب عليها إلا أنواع ثلاثة :

الأول : مقدمة الوجوب ، والوجه في عدم قابليتها لترشح الوجوب عليها

١٧٦

ما عرفت من توقف حصول الوجوب على حصولها ، فلو ترشح الوجوب عليها والحال هذه لزم طلب الحاصل وهو محال.

الثاني : المقدمة الوجودية المأخوذة عنوانا للمكلف كالمسافر والحاضر ، فان السفر وان كان مقدمة وجودية لصلاة القصر ، لكنه يمتنع ترشح التكليف عليه ، لأن تعلق التكليف بالفعل لا يتحقق إلا عند تحققه ، لأنه أخذ في موضوع الحكم فلا بد من وجوده في وجود الحكم ، ومع ذلك يمتنع ترشح الوجوب عليه لاستلزامه طلب الحاصل أيضا.

الثالث : المقدمة الوجودية المأخوذة في الواجب بقيد حصولها اتفاقا ، بمعنى ان يكون الواجب هو الفعل المقيد بهذا القيد الحاصل بنحو الاتفاق عن اختياره أو غير اختيار ، لا بالبعث والتحريك نحوه. فان ترشح التكليف عليه قبل حصوله خلف فرض أخذه قيدا إذا حصل بنحو الاتفاق. وبعد حصوله يكون طلبا للحاصل.

فغير هذه الأنواع الثلاثة من المقدمات الوجودية لا مانع من تعلق الوجوب به إذا كان فعليا.

١٧٧
١٧٨

المقدمة المفوتة

وبعد هذا كله يقع الكلام في ثمرة الواجب المعلق ، فقد ادعي : ان ثمرته تصحيح وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان الواجب (١).

ولأجل ذلك ننقل الكلام إلى أصل المقدمات المفوتة وما دار من البحث حولها ، ولو كان أجنبيا عن مبحث الواجب المعلق ، ولكنه يذكر في ذيله لمناسبة له معه كما ستعرفه من طيات الحديث فيها.

فنقول : أنه وقع التسالم على وجوب بعض المقدمات قبل تحقق وقت ذيها إذا لم يتمكن على الإتيان بها بعد حلول وقت ذيها ، وهي موارد :

منها : التسالم على وجوب حفظ الماء قبل الوقت لمن يعلم أنه لا يجده بعد الوقت ، بل قد أفتى البعض بلزوم تحصيل الماء قبل الوقت لو علم انه لا يتمكن منه بعد الوقت.

منها : التسالم على لزوم الغسل للصوم قبل الفجر. فان وقت الواجب متأخر عن وقت وجوب المقدمة.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٧٩

ومنها : الحكم بوجوب حفظ الاستطاعة في أشهر الحج ، مع أنها مقدمة وجوبية ، بل أفتى البعض بلزوم حفظها مطلقا ولو قبل أشهر الحج ، فلا يجوز صرف المال مثلا في غير الحج ، وهكذا الحكم بلزوم تحصيل المقدمات الوجودية قبل وقت الحج ، كالسير مع الرفقة ونحوه.

ومنها : الحكم بلزوم التعلم على الصبي قبل بلوغه إذا علم بفوت الواجب بعد البلوغ لو تركه.

وجهة الاستشكال في هذه الموارد ونظائرها هي : ان الوجوب المقدمي حيث انه وجوب تبعي مترشح عن الوجوب النفسيّ ، فإذا فرض تأخر فعلية الوجوب النفسيّ لتأخر زمان الواجب ، فبأي ملاك تجب المقدمات قبل ذلك مع عدم فعلية الوجوب؟. خصوصا في مثل المقدمات الوجوبية كالاستطاعة.

وبتقريب آخر نقول : ان هذه المقدمات لا بد وان لا تكون واجبة أبدا ، لأنه في حال تمكن منها قبل زمان ذيها لا تجب لعدم فعلية الوجوب النفسيّ ، وبعد زمان ذيها لا يتمكن عليها ، فيسقط الوجوب النفسيّ لعدم القدرة على الواجب. فبأي وجه تصحح الفتوى ويوجه التسالم على وجوب المقدمات في الموارد المذكورة؟.

وقد أطلق على هذا النحو من المقدمات بـ : « المقدمات المفوتة » بلحاظ فوات الواجب بتركها.

وقد تصدى صاحب الكفاية قدس‌سره إلى تصحيح الفتوى بالوجوب قبل الوقت بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول : الالتزام بالواجب المعلق في هذه الموارد ، فيكون الوجوب فعليا قبل وقت الواجب ، ويكون الواجب استقباليا.

وعليه ، فيصح الحكم بوجوب المقدمة المفوتة قبل الوقت لفعلية الوجوب النفسيّ الّذي هو المناط في الترشح ووجوب المقدمة وان تأخر زمان الواجب.

١٨٠