منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

وذلك : لأن التعليق لا يرد على نفس الإبراز والاعتبار لأنه فعلي ، وانما يرد على المعتبر وهو كون الفعل في عهدة المكلف. ومن الواضح أن هذا من المفاهيم التركيبية الحرفية ، لأنه مدلول هيئة الإضافة ، فيأتي الكلام في صحة تعليقه وتقييده بالشرط.

والتحقيق في رفع هذا الإشكال ان يقال :

ان الاخبار والإنشاء ـ كما مرّ سابقا (١) ـ خارجان عن مدلول الجملة الخبرية والإنشائية ، وانما هما أمران نفسيان قصديان ، والجملة لا تدل إلا على النسبة بين الموضوع والمحمول لا أكثر. وهذه النسبة تارة تكون متعلقة للاخبار ، كما إذا قصد الحكاية عن ثبوتها. وأخرى متعلقة للإنشاء كما إذا قصد تحققها. وقد استشهدنا على ذلك بان من الجمل الخبرية ما لا يسمى اخبارا قطعا ، كما إذا قال : « علمت ان زيدا قائم » ، فان : « زيدا قائم » جملة خبرية ذات موضوع ومحمول ، مع انها لا تسمى خبرا ، إذ ليس القصد الحكاية عن تحقق مضمونها ، بل القصد الحكاية عن تحقق العلم بتحقق مضمونها فالجملة الخبرية الاسمية لا تدل إلا على النسبة الاتحادية بين الموضوع والمحمول ، بمعنى ان الموضوع والمحمول أمر واحد ، والاخبار ليس جزء مدلولها ، وانما يطرأ عليها ، وهو عبارة عن قصد الحكاية عن ثبوت هذه النسبة أو لا ثبوتها. ومن هنا يعلم ان ثبوت النسبة أو لا ثبوتها خارجان عن مدلول الجملة أيضا ، فلا دلالة لها على الثبوت وعدمه ، بل هي انما تدل على خصوص النسبة. اما ثبوتها فيعلم من دال آخر وهو القرينة العامة عند عدم أداة النفي ، وعدم ثبوتها يعلم من أداة النفي كليس ولا ونحوهما. فكل من الاخبار والثبوت خارجان عن مدلول الهيئة وليس مدلولها سوى النسبة. وهكذا الحال في الإنشاء ، فانه عبارة

__________________

(١) راجع ١ ـ ١٤٨ من هذا الكتاب.

١٤١

عن قصد تحقق النسبة ـ لا الحكاية عن ثبوتها ـ فتحقق النسبة خارج عن مدلول الهيئة كنفس القصد. وإذا اتضح ذلك يتضح اندفاع الإشكال ، فان مفاد الجملة الشرطية ليس تعليق إحدى النسبتين على الأخرى وتقييدها بها ، كي يدعى أن ذلك يستلزم تقييد المعنى الحرفي وهو ممتنع. وانما مفادها تعليق ثبوت إحدى النسبتين على ثبوت الأخرى ، فالجملة الشرطية الاخبارية تتكفل الاخبار بترتب ثبوت هذه النسبة على ثبوت تلك. وقد عرفت ان ثبوت النسبة خارج عن مدلول الهيئة فلا يكون من المعاني الحرفية وانما هو معنى اسمي قابل للتقييد. وهكذا الحال في الجملة الإنشائية فانها تتكفل تعليق تحقق الجزاء على ثبوت الشرط. وقد عرفت ان التحقق خارج عن مدلول الهيئة وهو من المعاني الاسمية القابلة للتقييد والتعليق ، فما هو المعلق على ثبوت الشرط غير المعنى الحرفي ، بل أمر خارج عن مدلول الكلام الحرفي ، وبذلك نجمع بين امتناع تقييد المعاني الحرفية وبداهة كون الربط في الجملة الشرطية بين المفاهيم التركيبية.

ومن هنا يظهر إمكان الواجب المشروط وعدم استحالته عقلا كما ادعاه الشيخ في الوجه الأول ، لأن القيد لا يطرأ على مدلول الهيئة وانما يطرأ على ما هو خارج عن مدلولها ـ أعني ثبوت النسبة ـ ، فالمقيد ليس نفس النسبة الطلبية المدلولة للهيئة ، وانما هو ثبوت النسبة ، وهو معنى اسمي قابل للتقييد ، ونتيجة ذلك عدم تحقق الوجوب إلا عند تحقق الشرط. فالتفت.

وبما ذكرناه يتضح انه يمكن التفصي عن الإشكال المزبور بما أفاده السيد الخوئي من : ان مدلول الهيئة الإنشائية إبراز الاعتبار النفسانيّ. ببيان : انه وان كان الاعتبار فعليا لكن المعتبر هو ثبوت الفعل في الذّمّة ، فالمقيد هو الثبوت الخارج عن مدلول الهيئة وهو من المعاني الاسمية كما تقدم. فالتفت.

ثم انه حفظه الله تعرض إلى ذكر بعض الإشكالات الواردة على الواجب المشروط والإجابة عنها.

١٤٢

الإشكال الأول : ما أشير إليه من أن معنى الهيئة من المعاني الحرفية وهي غير قابلة للتقييد.

وأجاب عنه : بان المعنى الحرفي انما لا يقبل التقييد بمعنى التضييق ، واما التقييد بمعنى التعليق الّذي هو مفاد أداة الجملة الشرطية فلا مانع منه (١).

وفيه :

أولا : أنه ظاهر في الالتزام بان معنى الهيئة من المعاني الحرفية ، وهو خلاف ما قرره أولا من خروج مدلولها عن المعاني الحرفية وأنه إبراز الاعتبار النفسانيّ.

وثانيا : أنه مناف لما قرّره في مبحث المعنى الحرفي من أن الحروف موضوعة للتضييق بما فيها أدوات الشرط ، فدعوى أن أداة الشرط لم توضع للتضييق لم يظهر لها وجه منه.

وبالجملة : ما أفاده هنا يستظهر منه إغفال عمّا قرّره في مبحث المعنى الحرفي من رأي.

الإشكال الثاني : ما أفاده المحقق النائيني من ان معنى الهيئة من المعاني الحرفية غير القابلة للحاظ الاستقلالي الّذي يقتضيه التقييد ، فلا يصح تقييدها لأنها ملحوظة آلة.

وأجاب عنه : بأنه يمكن ان يلحظ المعنى استقلالا فيقيد ، ثم يلحظ المقيد آلة في حال الاستعمال ، فالقيد يطرأ على ما هو ملحوظا استقلالا ثم المقيد يلحظ آلة في حال الاستعمال (٢).

وفيه : انه وان أشار إليه في الكفاية لكنه بلحاظ مقام الإنشاء لا مقام اللحاظ ، ان المعنى المقيد عند لحاظه بقيد التقيد آليا إما أن يكون ملحوظا

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٢٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٢٩ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

١٤٣

بالاستقلال المقوم للتقييد أو لا يكون. فان كان ملحوظا بالاستقلال لزم أن يجتمع اللحاظان فيه الآلي والاستقلالي. وان لم يكن ملحوظا بالاستقلال امتنع طروّ القيد عليه ولحاظه مقيدا حال الاستعمال ، لتقوم القيد بان يكون ذوه ملحوظا استقلالا.

وبالجملة : لا يجتمع تقيد المعنى الحرفي مع كونه ملحوظا آليا.

ثم انه قد تكرر في كلام السيد الخوئي التعبير بكون الاعتبار متعلقا بأمر على تقدير (١).

ولا بد من تحقيق هذا الأمر ومدى صحته وسقمه ، فانه مما يترتب عليه آثار عملية ، كصحة الالتزام بالكشف الانقلابي في عقد الفضولي. بيان ذلك : أنه وقع الكلام في عقد الفضولي المتعقب بالإجازة في أن الإجازة هل تكون موجبة لحدوث الملكية مثلا من حينها المصطلح عليه بالنقل ، أو كاشفة عن تحققها من حين العقد المصطلح عليه بالكشف؟. وهناك قول ثالث ، وهو أن الإجازة تكون موجبة لتحقق الملكية وترتب آثارها من حين العقد إلا أن حدوث الملكية السابقة يكون بالإجازة لا أنه كان من حين العقد ، ويعبّر عن هذا المعنى بالانقلاب ، وبه تصحح الروايات الدّالة على ترتب آثار المنشأ من حين العقد مع عدم معقولية الكشف الحقيقي.

وقد تبنى المحقق الإيرواني هذا الرّأي ، وعبّر عنه بالبرزخ بين الكشف والنقل ، وحاول تصحيحه بنحو يكون حكما على طبق القاعدة لا حكما تعبديا (٢). وتابعة السيد الخوئي في ذلك (٣). ولا يخفى ان صحة هذا المبنى تتوقف على الالتزام بإمكان تعلق الاعتبار الفعلي بالملكية أو نحوها في الزمان اللاحق ، وعلى تقدير

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٢٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الإيرواني الشيخ ميرزا علي. حاشية المكاسب ـ ١٢٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) التوحيدي محمد علي. مصباح الفقاهة ٤ ـ ١٤٢ ـ الطبعة الأولى.

١٤٤

شيء آت أو تعلقه بالملكية في الزمان السابق ، وبتعبير أخصر : إمكان اعتبار الملكية اللاحقة أو الملكية السابقة وعدمه. فلو تمّ بطلان هذا الأمر وامتناعه لم يثبت للانقلاب أساس.

فموضوع الكلام : هو تعلق الاعتبار فعلا بالملكية السابقة أو اللاحقة.

والّذي يبدو النّظر عدم إمكان ذلك عقلا ، وذلك : لأن الاعتبار الفعلي يتعلق بالملكية في الزمان المعين الخاصّ أو غيره من التقديرات ، بحيث تلحظ الملكية مرتبطة بالزمان الخاصّ. ومن الواضح ان كلا من الملكية والزمان مفهوم مستقل لا ارتباط بالآخر بما هو كذلك ، لأن كل مفهوم له تقرر خاص بحدّ واقعي ثابت.

وعليه ، فارتباط أحد المفهومين بالآخر بالنحو الّذي يصحح استعمال الحرف بينهما فيقال : « الملكية في الزمان المعين الكذائي » انما يكون بلحاظ وجود أحد المفهومين مرتبطا بوجود الآخر بنحو ارتباط ، كارتباط الظرفية بالنسبة إلى زمان المصحح لاستعمال « فيه » بمعنى أن يكون بين وجود كل منهما ووجود الآخر نحو إضافة ونسبة. وقد تقرّر ان مدلول الحرف ومعناه هو النسبة الذهنية بين المفهومين الناشئة عن لحاظ كل منهما مرتبطا بالآخر ، بحيث تكون النسبة من كيفيات اللحاظ ، فلحاظ زيد قائما يحقق النسبة الذهنية بين زيد والقيام. كما تقرر أن النسبة الذهنية بين المفهومين وضع لها الحرف لتكون مرآتا للخارج والنسبة الخارجية بين الوجودين الخارجيين ، فتحكي عنها حكاية المماثل عن المماثل ، لا بمعنى استلزامها لانتقال النسبة الخارجية إلى الذهن كما هو شأن سائر الاستعمالات لامتناع ذلك. فالنسبة الذهنية تطابق النسبة الخارجية ولو لم تكن متحققة حقيقة ، ولكن تؤخذ في عين الحال بنحو الفرض. فالنسبة بين القيام وزيد قد تتحقق في الذهن بلا أن يكون لها مطابق خارجي متحقق ، ولكنها تتحقق بالنحو الّذي يفرض به تحقق النسبة الخارجية وبكيفيته وهذا هو معنى المطابقة.

١٤٥

وبتعبير آخر : النسبة الذهنية بين زيد والقيام عبارة عن الصورة الذهنية لوجود زيد قائما. فالنسبة الذهنية صورة للنسبة الخارجية.

وإذا تقرر هذا ، فالملكية في الزمان الكذائي التي يراد اعتبارها فعلا قد لوحظ وجودها مرتبطا بوجود الزمان بنحو الظرفية ، فقولنا : « الملكية في يوم الجمعة » معناه الملكية المتحققة والموجودة في يوم الجمعة ، ومعه يمتنع اعتبارها ، إذ لا معنى لإيجاد الملكية الموجودة في يوم الجمعة. فمرجع اعتبار وإيجاد الملكية في الزمان اللاحق إلى إيجاد الملكية الموجودة في الزمان اللاحق لعدم إمكان فرض هذا العنوان ، أعني الملكية في الزمان اللاحق ، إلا بأخذ قيد الوجود في الملكية ، فيقال : « الملكية الموجودة في الزمان اللاحق » وبذلك يمتنع اعتبارها وإيجادها فعلا للخلف.

وبتعبير آخر : إذا توقف الاعتبار والإيجاد على أخذ قيد في المعتبر ناش منه ومعلول له وبلحاظ تحققه كان ذلك ممتنعا لاستلزامه أخذ المتأخر في مرحلة سابقة عليه ، إذ المفروض أن الملكية في الزمان اللاحق يراد إيجادها فعلا ، فكيف يؤخذ وجودها في موضوع الاعتبار والإيجاد؟. فبذلك يتضح امتناع كون الاعتبار متعلقا بأمر على تقدير الّذي ورد مكررا في عبارات السيد الخوئي ، كما يتضح امتناع القول بالكشف الانقلابي ، وتمام تحقيق ذلك في محلّه من مبحث التجارة والبيع.

ثم ان المحقق النائيني تصحيحا للواجب المشروط التزم برجوع القيد إلى المادة المنتسبة ، ببيان : ان القيد يرجع إلى المادة ، ولكن لا بمعنى كون القيد من قيود الواجب والوجوب يكون فعليا ، لأنه يرجع إلى الواجب المعلق الّذي التزم به صاحب الفصول (١) وهو باطل ، بل بمعنى ان القيد يطرأ على المادة من

__________________

(١) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية ـ ٧٩ ـ الطبعة الأولى.

١٤٦

حيث ورود النسبة عليها ، بتقريب : ان الشيء قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير تقييد. وقد يكون متعلقا للنسبة الطلبية حين اتصافه بقيد في الخارج ، مثلا الحج المطلق لا يتصف بالوجوب ، بل المتصف به وهو الحج المقيد بالاستطاعة الخارجية ، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب به وكونه طرفا للنسبة الطلبية ، فالقيد راجع إلى المادة ولكن لا بما هي ، بل بما هي منتسبة إلى الفاعل.

هذا ما أفاده المحقق النائيني بنص عبارة التقريرات تقريبا (١).

ولكن الّذي يتوجه عليه : أن تقيد المادة بالقيد بحيث يكون الواجب هو الحصة الخاصة ـ أعني الفعل على تقدير القيد الخاصّ ـ أمر مشترك بين الواجب المعلق والواجب المشروط ، وانما الاختلاف في أن فعلية الوجوب في المعلق متحققة قبل تحقق القيد ، بخلاف الوجوب في الواجب المشروط ، فيقال : بأنه ما الوجه في هذا الأمر؟ ان كان وجهه رجوع القيد في الوجوب المشروط في الحقيقة إلى النسبة ، عاد المحذور الّذي يحاول الفرار منه ، وهو لزوم تقييد المعنى الحرفي غير القابل للتقييد. وان لم يرجع القيد إلى النسبة ، فلا وجه لتوقف فعلية الوجوب على حصول القيد.

والحقيقة ان ما ذكرناه لا يعدّ إشكالا على مطلب المحقق النائيني ، بل هو أشبه بالسؤال عن مراده فيما أفاده ، فانه لم يوضح بأكثر مما عرفت كما انتهى بمجرد الادعاء. فالذي ينبغي هو التساؤل عن مراده لا الإيراد عليه كما قد يظهر من السيد الخوئي (٢).

هذا كله في المرحلة الأولى من البحث التي أشار إليها صاحب التقريرات بوجهه الأول ـ أعني مرحلة معرفة إمكان الواجب المشروط ورجوع القيد إلى

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٠ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

١٤٧

الهيئة وعدمه ـ وقد عرفت تصور رجوع القيد إلى أصل الوجوب.

يبقى الكلام في المرحلة الثانية التي أشار إليها بالوجه الثاني ، وهي رجوع القيد إلى المادة لبّا وان سلمنا إمكان رجوعه إلى الهيئة عقلا.

وقد عرفت تقريب ذلك : بأن الشيء إما أن لا يكون ذا مصلحة بجميع تقاديره ، فلا يتعلق به الإرادة. واما أن يكون ذا مصلحة على بعض تقاديره ، فيتعلق به الإرادة الفعلي على ذلك التقدير ، لأن العلم بتحقق المصلحة فيه في ذلك التقدير موجب لانقداح الشوق فعلا إليه ، أي إلى الفعل على ذلك التقدير. فلا يتصور التعليق في الإرادة ، بل أمرها دائر بين الوجود والعدم أصلا.

وقد تصدى صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى منع ذلك ، ببيان : ان الفعل قد يكون ذا مصلحة على بعض تقاديره فيتعلق به الإرادة الفعلية ، إلا أنه يكون هناك مانع من طلبه فلا يبعث نحوه فعلا ، بل يبعث نحوه على تقدير زوال المانع (١).

ولا يخفى انه مرجع إيراد صاحب الكفاية إلى : أن الإرادة التشريعية هي الإرادة المستتبعة للبعث والطلب ، فمع وجود المانع عن البعث لا تكون الإرادة إرادة تشريعية التي هي ملاك الحكم ، بل الموجود ليس إلاّ الشوق وهو غير كاف في الحكم.

وبدون هذا الإرجاع لا يظهر لإيراد صاحب الكفاية ربط بكلام الشيخ ، بل ظاهره أنه من واد آخر.

وعلى كل فالتحقيق ان يقال : انه إذا التزمنا بان حقيقة الحكم ليس إلاّ الإرادة وإبرازها لا أكثر ـ كما قد يلتزم به المحقق العراقي (٢) ـ كان ما أفاده

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول ـ ١٠٦ ـ الطبعة الأولى.

١٤٨

الشيخ هو المتعين (١) ، إذ مع كون الفعل ذا مصلحة على تقدير خاص أو مطلقا ، لا تتعلق به الإرادة ولا يتصور التعليق فيها ، لأنها فعل نفسي غير اختياري ينشأ عن العلم بالمصلحة ، فمع تصور المصلحة في الفعل يتحقق الشوق إليه فعلا بلا تعليق على شيء ، وأما الإبراز فالمفروض تحققه بالإنشاء. فالحكم بحقيقته ووجوده الواقعي ثابت متحقق بدون تعليق.

وان التزمنا بان حقيقة الحكم تختلف عن حقيقة الإرادة وانه أمر اعتباري مجعول مستتبع للإرادة كان ما ذكره صاحب الكفاية هو المتعين ، لأن الإرادة وان تحققت في النّفس بتصور المصلحة إلاّ أن الاعتبار والجعل يمكن ان يكون له مانع عن تحققه فيعلق تحققه على زوال المانع ، لأنه فعل اختياري قابل للتعليق ، فلا يتحقق الحكم الا عند تحقق القيد ، وان كانت الإرادة متحققة من السابق لعدم تصور التعليق في تحققها ، بل تتعلق بالأمر اللاحق لتصور المصلحة فيه فعلا الّذي هو ملاك تحقق الإرادة.

إذا عرفت التحقيق ، يبقى لدينا تشخيص أي الوجهين أصح ، وأن حقيقة الحكم هل هي عين الإرادة وإبرازها ، أو أنه امر جعلي اعتباري؟. الحق هو الثاني وانه أمر مجعول اعتباري ، فانه المرتكز بين الأصوليين ، بل بين الناس ، فان الإيجاب يرونه امرا غير محض الإرادة ، بل عبارة عن إلزام اعتباري.

ويدل عليه ورود الأدلة الرافعة للأحكام بلحاظ بعض العناوين الثانوية ، كالجهل والضرر والعسر والحرج وغيرها ، بضميمة ظهورها في الامتنان ، فان ذلك ظاهر في كون الحكم شيئا بيد الشارع يستطيع وضعه ويستطيع رفعه ، فرفعه امتنانا ، إذ لو كان الحكم عبارة عن الإرادة لم يكون رفعه ووضعه بيد الشارع لأنها غير اختيارية.

__________________

(١) سيأتي منه ( دام ظله ) في مبحث استصحاب الحكم التعليقي العدول عن ذلك ، الالتزام بان الإرادة لا تحصل الا عند حصول القيد. ( منه عفي عنه ).

١٤٩

ولا معنى للتعبير : بان الرفع كان لأجل الامتنان ، بل الارتفاع يكون لعدم تحقق مبادئها خارجا.

نعم لو لم يكن لسان هذه الأدلة لسان امتنان لم يكن لها دلالة على المدعى إذ يمكن ان يكون الرفع لعدم الإرادة لا لأجل الامتنان ، وانه كان يتمكن من الوضع فرفعه منّة ، الظاهر في كونه امرا اختيارا بيد الشارع.

وبالجملة : كون الحكم من المجعولات لا يمكن لنا إنكاره وجدانا ودليلا.

ثمّ أن صاحب الكفاية أشار إلى سؤال قد يتجه ، محصله : ان تصور المانع عن الحكم أمر معقول لو كان الحكم تابعا للمصلحة فيه ، فانه يمكن ان يفرض وجود المانع عن تحقق المصلحة فيه واما بناء على ان الحكم تابع لوجود المصلحة في متعلقه فيشكل وجود المانع منه ، لفرض تحقق المصلحة في متعلقه ، ولذا تعلقت به الإرادة ، كما ان المفروض تبعيته للمصلحة ، فمقتضى ذلك تحققه بلا تعليق على شيء.

وأجاب عنه : بان تبعية الأحكام للمصالح في متعلقاتها إنما يلتزم به في الأحكام الإنشائية. اما الأحكام الفعلية والبعث الفعلي ، فهو تابع للمصالح فيه ، ومعه يتصور المانع عن تحقق المصلحة فيه فيعلق على تقدير زواله (١).

ولكنه لأجل عدم وضوح وجود مرتبة إنشائية للحكم يكون له فيها وجود حقيقي ، لأن الإنشاء لا بداعي البعث لا يكون وجودا حقيقيا له ، والإنشاء بداعي البعث هو معنى الحكم الفعلي إذ لا يتصور إلا في فرض يمكن تحقق البعث بدون مانع.

لأجل ذلك ، عدل المحقق الأصفهاني إلى الإجابة عن السؤال ، بان المقصود من تبعية الحكم للمصلحة في متعلقه ليس تبعيته بنحو تبعية المعلول

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٠

للعلة ، بل بنحو تبعية المقتضى للمقتضي ، وعليه فيمكن فرض المانع مع وجود المصلحة في المتعلق. فلاحظ وتدبر (١).

هذا تمام الكلام في الواجب المشروط ، وقد عرفت انه لا دليل على امتناعه ثبوتا ولا إثباتا.

ويبقى الكلام في بعض الجهات المرتبطة بالبحث :

الجهة الأولى : فيما أفادوه ـ لغرض ربط البحث بمبحث وجوب المقدمة ـ من ان وجوب المقدمة بما انه مترشح عن وجوب ذيها ، فهو تابع في الإطلاق والاشتراط لوجوب ذيها ، فإذا كان وجوب ذي المقدمة مشروطا بشرط كان وجوبها كذلك (٢).

ويتوجه على هذا : ان ما ينتهي إليه بعد إثبات الملازمة ليس وجوب المقدمة ، بمعنى ان يثبت لها وجوب مجعول مترشح عن وجوب ذيها ، بل ما ينتهي إليه هو كون المقدمة متعلقة للإرادة كذيها.

فالثابت هو الملازمة بين إرادة ذيها وإرادتها لا بين تعلق الحكم بذيها وتعلقه بها ، فوجوب المقدمة ليس امرا مجعولا. بل بمعنى تعلق الإرادة بها ، وحقيقته ذلك لا غير. ـ وبذلك يفرّ عن إشكال لغوية جعل الوجوب لها ـ وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون وجوب المقدمة تابعا في الاشتراط لوجوب ذيها ، إذا عرفت أن وجوب المقدمة حقيقته إرادة المقدمة ، وقد عرفت ان الإرادة غير قابلة للتعليق ، بل إما أن توجد أو لا توجد ، والوجوب المشروط في ذي المقدمة هو الحكم الجعلي لا الإرادة المتعلقة به ، بل هي مطلقة فتتعلق الإرادة الفعلية بالمقدمة وان كان وجوب ذي المقدمة مشروطا.

وهذا الإيراد قد كان يجول في الذهن منذ القديم ولم نر له حلا.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٨٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٤٨ ـ الطبعة الأولى.

١٥١

الجهة الثانية : فيما تعرض صاحب الكفاية في بيان الثمرة بين اختياره في الواجب المشروط واختيار الشيخ رحمه‌الله.

ومحصل ما أفاده قدس‌سره : ان الشرط الّذي يعلق عليه الوجوب في الخطاب خارج عن محل النزاع على المختار من رجوعه إلى الوجوب ، لأنه يكون مقدمة وجوبية ، وقد عرفت عدم تأتي النزاع فيها فلا نعيد.

واما على مختار الشيخ : فهو وان كان من قيود الواجب إلاّ انه أخذ بنحو لا يكون قابلا لترشح الوجوب عليه ، وذلك لأن الواجب هو الشيء على ذلك التقدير ، فالوجوب متعلق بذلك الشيء على تقدير الشرط ، فتعلق الوجوب به يكون من باب طلب الحاصل (١).

وتوضيح ذلك : أن الشرط قد أخذ قيدا للواجب على أن يكون حصوله طبعيا ومن دون تسبيب من المولى ، فالوجوب متعلق بالفعل على تقدير حصول ذلك الشرط من نفسه وبطبعه ، وحينئذ قبل حصوله يمتنع أن يتعلق به طلب المولى وبعثه لأنه خلف أخذه قيدا على ان يتحقق طبعيا ، وبعد حصوله يمتنع ان يتعلق به الطلب لأنه طلب الحاصل. فالضمير في قوله : « فمعه » يرجع إلى حصول ذلك الشرط.

ومن هنا يندفع الإيراد على صاحب الكفاية : بأنه إذا كان الوجوب فعليا والواجب بقيده استقباليا ، فتعلقه بالقيد لا يكون من طلب الحاصل لأنك عرفت ان مراد صاحب الكفاية ان تعلق الوجوب بالشرط بعد حصوله يكون من طلب الحاصل كما لو كان مقدمة وجوبية ، لا أنه كذلك قبل حصوله ، بل المحذور في تعلقه به قبل حصوله أمر آخر يعلم من طي الكلام. فالتفت.

واما المقدمات الوجودية للواجب المشروط غير المعلق عليها وجوبه :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٢

فهي على مختار صاحب الكفاية لا تكون متعلقة للطلب الا بعد حصول الشرط ، لتبعية وجوبها في الاشتراط لوجوب ذيها ، إذ لا وجوب لذي المقدمة قبل حصول الشرط كي يترشح منه وجوب المقدمة.

واما على مختار الشيخ فهي تكون متعلقة للطلب قبل حصول الشرط ، لكون وجوب ذي المقدمة حاليا قابلا لأن يترشح منه وجوب المقدمات.

نعم ، الأمر في المعرفة والتعلّم يختلف عنه في غيرها من مقدمات الوجود ، فانه لا يبعد دعوى وجوبها قبل حصول الشرط حتى على المختار في الواجب المشروط ، ولكن لا من باب الملازمة ، بل من باب آخر ليس التعرض له محلّه هاهنا. هذا ملخص ما أفاده في الكفاية وقد ظهرت بذلك الثمرة بين القولين (١).

الجهة الثالثة : وهي ما أشار إليه في الكفاية تحت عنوان : « تذنيب » من ان إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل حصول شرطه مجاز على المختار ، لعدم التلبس فعلا بالوجوب. نعم إذا كان بلحاظ حال التلبس يكون حقيقة (٢).

وهكذا بناء على مختار الشيخ ، ولو بدون لحاظ حال حصوله لفعلية التلبس على اختياره (٣).

واما الصيغة مع الشرط : فاستعمالها حقيقي على القولين ، لأنها مستعملة على مختار الشيخ في الطلب المعلق أعني شخص الطلب الموضوعة له. وعلى المختار في الطلب المقيد ، ولكن نحو تعدد الدالّ والمدلول ، إذ الدلالة على التقيد بدال آخر وهو القيد.

وأنت إذا لاحظت ما جاء في الكفاية مما عرفته ، تعرف انه بيان لأمر لا أثر له أصلا لا عمليا ولا علميا ، فسواء كان الاستعمال حقيقيا أو مجازيا لا يختلف

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٤٥ ـ ٤٦ ـ الطبعة الأولى.

١٥٣

الأثر ، وليس هذا البحث بحث علمي. فتدبر.

التقسيم الثاني : انقسامه إلى المعلّق والمنجّز.

وهو الّذي ابتكره صاحب الفصول ، والّذي أفاده في بيان المراد من كل منهما هو : ان المنجز ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور ، كالمعرفة. والمعلق ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له ، كالحج ، فان الوجوب يتعلق به في أول أزمنة الاستطاعة أو خروج الرفقة ، لكن فعله يتوقف على مجيء وقته وهو غير مقدور للمكلف كما هو واضح (١).

وقد أنكر الشيخ رحمه‌الله هذا التقسيم (٢).

ووجّه صاحب الكفاية إنكاره : بان الواجب المعلق الّذي ذكره صاحب الفصول هو بعينه الواجب المشروط بالمعنى الّذي اختاره الشيخ ، فليس للمعلق معنى معقول في قبال المشروط ، ثم ذكر قدس‌سره : ان إنكار الشيخ في الحقيقة يرجع إلى إنكار الواجب المشروط بالمعنى المشهور له الّذي اختاره صاحب الكفاية ، لا إلى إنكار الواجب المعلق بالمعنى الّذي فرضه صاحب الفصول.

وبتعبير آخر : انه لم ينكر واقع الواجب المعلق الّذي فرضه صاحب الفصول ، وانما أنكر تسميته بالمعلّق بعد ان أطلق عليه المشروط (٣).

وقد تصدى البعض إلى بيان ان إنكار الشيخ يرجع واقعه إلى إنكار الواجب المعلق بواقعه لا بلفظه ، وأن ما ذهب إليه الشيخ من معنى الواجب المشروط يختلف عن معنى الواجب المعلق الّذي فرضه صاحب الفصول (٤).

__________________

(١) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية ـ ٧٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٥١ ـ ٥٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٤) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٠ ـ الطبعة الأولى.

١٥٤

وحيث انه لا يرجع إلى ثمرة عملية فلا ملزم لنا للبحث عن ذلك.

وانما نوقع الكلام في أصل الواجب المعلق ، وأنه هل يمكن تحققه أو لا يمكن.

وقبل ذلك لا بد ان تعرف ثمرة هذا التقسيم ، لأنه في الحقيقة تقسيم للواجب المطلق.

والّذي ادعاه صاحب الكفاية : عدم الثمرة ، وذلك لأن ما رتبه على وجود الواجب المعلق من فعلية وجوب المقدمة من آثار إطلاق الوجوب وحاليته لا من آثار استقبالية الواجب. وعليه فلا وقع لهذا التقسيم بعد ان كان بكلا قسميه من الواجب المطلق ، واختلاف أنحاء الواجب لا توجب التقسيم ما لم توجب الاختلاف في الأثر ، وإلاّ لكثرت تقسيماته إلى عدد كبير. وقد عرفت عدم الاختلاف في الأثر (١).

وأورد على صاحب الكفاية : بوجود الأثر المترتب على التقسيم ، وذلك تصحيح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان الواجب ، إذ قد يستشكل في ذلك ، فبدعوى وجود الواجب المعلق يصحح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان ذيها ، إذ مع امتناعه يمتنع وجوبها قبل زمان ذيها ، فالتقسيم لا يخلو من ثمرة تصحح التعرض لذكره والبحث عن خصوصيات اقسامه.

وبعد ذلك علينا ان نعرف امتناع الواجب المعلق وعدمه. فقد ادّعي امتناعه عقلا ، وذكر له وجوه :

الوجه الأول : ـ ما عن المحقق النهاوندي وقد ذكره في الكفاية ـ أن الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في جميع الخصوصيات والآثار ، غير ان الأولى تتعلق بفعل الغير ، والثانية تتعلق بفعل نفس الشخص ، وبما أن الإرادة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٥

التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد ، لأنها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ، فكذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعية عن المراد وهو فعل الغير.

وعليه ، فيمتنع الواجب المعلق لامتناع تعلق الإرادة الفعلية بأمر متأخر ، لاستلزامه انفكاك المراد عن الإرادة ، وهو ممتنع.

وقد تفصى عنه صاحب الكفاية بوجوه ثلاثة : ـ

الأول : إنكار امتناع انفكاك المراد عن الإرادة التكوينية ، وعدم امتناع تعلق الإرادة التكوينية بأمر استقبالي ، فانه من الواضح أنه قد يكون ما تعلق به الشوق مما يحتاج إلى مقدمات كثيرة كطي المسافات ونحوه ، ولا يخفى ان فعل هذه المقدمات لا يكون له إرادة استقلالية ، بل يتبع إرادة الوصول إلى المكان المقصود ، بحيث لو لا إرادته لما تعلقت بالمقدمات إرادة ، فقد تعلقت الإرادة بالأمر الاستقبالي بدليل الانبعاث نحو فعل المقدمات بلا أن تتعلق بها إرادة استقلالية ، بل إرادة تبعية مترشحة عن إرادة ذيها فعلا.

الثاني : ان المقصود من تعريف الإرادة بأنها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد الموهم لامتناع تعلقها بالمتأخر زمانا لامتناع تحريك العضلات نحوه ، ليس ما هو الظاهر من إرادة التحريك الفعلي ، بل المراد منه تحديد مرتبة الشوق الّذي يسمى بالإرادة ، وانه هو الحدّ الخاصّ الّذي يستتبع التحريك شأنا لا فعلا ، لإمكان ان يتعلق الشوق فعلا بأمر استقبالي غير محتاج إلى تمهيد مقدمة ، ويكون الشوق المتعلق به أقوى وآكد مما تعلق بأمر فعلي ، بحيث يستتبع التحريك فعلا.

الثالث : انه لو سلم عدم إمكان انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد ، فالحال في الإرادة التشريعية يختلف عنه في التكوينية ، إذ الطلب لا بد وان يتعلق بما هو متأخر ، وذلك لأن الطلب والأمر انما يكون لجعل الداعي وإحداثه في نفس

١٥٦

المكلف نحو المأمور به ، ولا يخفى ان حدوث الداعي يتوقف على بعض المقدمات ، كتصور العمل بما يترتب عليه من مثوبة وعلى مخالفته من عقوبة ، وهذا مما لا يمكن أن يتحقق إلا بعد البعث بزمان ولو قليلا جدا ، فالبعث يتعلق بالأمر المتأخر عنه دائما ، وإذا لم يستحل ذلك مع قصر الزمان فلا يستحيل أيضا مع طوله ، وذلك لأن ملاك الاستحالة والإمكان لا يختلف فيه الحال بين قصر المدة وطولها بعد انطباق الموضوع عليها ، وهو انفكاك المراد عن الإرادة التشريعية ، فإذا فرض ان الانفكاك قهري ولا يرى العقل مانعا فيه فطول الزمان وقصره لا يوجب اختلاف الحال فيه فتدبر (١).

وقد نوقش في الوجه الأول : بان ما ذكر شاهدا لتعلق الإرادة بما هو متأخر لا يصلح للاستشهاد به. وذلك لأن الشوق إلى المقدمة بما أنها مقدمة وان لم يحصل إلا بتبع الشوق المتعلق بذيها ، إلا أن الشوق المتعلق بذيها لم يبلغ حدّ الإرادة لعدم وصوله حدّ التحريك والباعثية لتوقف حصوله على المقدمات ، بخلاف الشوق إلى المقدمة فانه لا مانع من وصوله إلى حدّ التحريك والباعثية ولذا يكون إرادة ، فإرادة المقدمة غير تابعة لإرادة ذي المقدمة ، كيف؟ وإرادة ذي المقدمة غير متحققة ، بل الشوق إلى المقدمة تابع للشوق إلى ذي المقدمة ، وهو كاف في التحريك لعدم المانع. فالتبعية في أصل تعلق الشوق لا في حدّه ووصوله إلى مرحلة الباعثية (٢).

كما انه نوقش الوجه الثاني : بان (٣) المراد من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات ليس ما استظهره صاحب الكفاية ، من انه بيان لمرتبة الشوق وان لم يكن محركا بالفعل ، بل المراد هو الشوق المحرك فعلا وغيره لا يسمّى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٨٦ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٨٥ ـ الطبعة الأولى.

١٥٧

إرادة وان بلغ ما بلغ ، وقد أقيم على ذلك البرهان من كلام أهل الفن ، والبحث فيه ومعرفة الحقيقة من كلامهم وأدلتهم خارج عن الأصول ، وانما الّذي نقوله دليلا على عدم تمامية كلام صاحب الكفاية ، وان الإرادة هي الشوق المحرك للعضلات فعلا هو ما يلمسه وجدان كل أحد من أنه قد يحصل الشوق إلى شيء فيستتبع تحريك عضلاته نحوه ويعدّ إرادة ، ويحصل شوق آكد منه بمراتب إلى شيء آخر من دون استتباع لتحريك العضلات لوجود المانع ولا يعدّ إرادة ، فالشوق إلى الاستجمام مثلا غير المحرك للعضلات لعدم وجود المال الكافي آكد بمراتب من الشوق إلى قراءة كلمة يستتبع تحريك العضلات. ومن الواضح أن الثاني يعدّ إرادة دون الأول ، وهذا دليل على عدم كون أخذ تحريك العضلات في تعريف الإرادة لتحديد مرتبة الشوق الّذي يكون إرادة ، ولا لكان إطلاق الإرادة على الشوق الأول أولى. فلاحظ.

واما الوجه الثالث : فقد نوقش بوجهين : أحدهما : ذكره المحقق الأصفهاني (١). والآخر : ذكره المحقق النائيني (٢) ، إلا ان ما ذكراه لا يرجع في الحقيقة إلى منع ما أفاده صاحب الكفاية في نفسه ، وعدم توجهه على المحقق النهاوندي ، بل مرجع ما ذكراه إلى منع ورود كلام صاحب الكفاية وعدم تماميته على كل من الوجه الّذي أفاده كل منهما في بيان استحالة الواجب المعلق. فهو ليس في الحقيقة منعا لكلام صاحب الكفاية ، بل هو منع لتوجهه عليهما في ما يفيده كل منهما في بيان الاستحالة ، وانه أجنبي عن منع الاستحالة بالوجه الّذي يفيده كل منهما.

ولأجل ذلك نؤجل بيانه إلى ان تصل النوبة إلى ذكر ما أفاده كل منهما

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٨٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٦ ـ الطبعة الأولى.

١٥٨

في وجه استحالة الواجب المعلق.

هذا ما يرتبط بكلام صاحب الكفاية.

اما ما يربط بأصل الوجه الّذي ذكره المحقق النهاوندي في منع الواجب المعلق ، فالحق عدم تماميته فان الإرادة التشريعية ليس كالإرادة التكوينية مما يستحيل انفكاكها عن متعلقها ، لأن متعلقها فعل الغير وهو ليس بإرادي للمريد بل للغير ، وانفكاك فعل الغير عن الإرادة التشريعية أمر متحقق بالبداهة كموارد العصيان وعدم الإطاعة ، نعم الإرادة التشريعية إنما تستتبع طلب الفعل من الغير ـ الّذي هو فعل المريد ـ وهو غير منفك في الواجب المعلق لصدور الطلب والإيجاب من المولى.

وبالجملة : ما يمتنع انفكاكه عن الإرادة التشريعية إنما هو الطلب لا نفس فعل الغير ، فان انفكاكه بديهي التحقق ، والمفروض تحقق الطلب بلا انفكاك عن الإرادة التشريعية. فلا يتجه ما أفاده المحقق النهاوندي في وجه المنع.

الوجه الثاني : ـ وهو ما أفاده المحقق الأصفهاني ـ ان الأمر والطلب انما هو جعل ما يمكن ان يكون باعثا وداعيا ومحركا للمكلف نحو الفعل ، بحيث يصدر الفعل عن المكلف باختياره بداعي البعث الصادر من المولى ، إذ ما يترتب عليه المصلحة هو الفعل الاختياري للعبد والحصة الخاصة لا مطلق الفعل ولو كان بالقهر والجبر وإذا كانت حقيقة الطلب هو ما يمكن ان يكون باعثا امتنع تعلقه بالأمر الاستقبالي ، إذ مع تمامية جميع المقدمات وانقياد المكلف لأمر المولى لا يمكن انبعاثه نحو الفعل ، فلا يتحقق البعث بنحو الإمكان بالأمر أيضا.

وبتقريب آخر : نقول : ان البعث والانبعاث متضايفان ـ كالعلة والمعلول ـ فلا يصدق أحدهما بدون الآخر ، فلا بعث بدون انبعاث ، كما لا انبعاث بدون بعث ، وقد تقرر إن المتضايفين متكافئان في القوّة والفعليّة ، فإذا كان أحدهما فعلي التحقق كان الآخر كذلك ، ويمتنع ان يكون أحدهما متحققا بالفعل والآخر

١٥٩

بالقوة ، وعليه فإذا كان الأمر عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون باعثا فهو بعث بالإمكان ، فلا يتحقق واقعا إلا فيما يمكن تحقق الانبعاث.

وبتعبير آخر : أن الأمر إذا كان بعثا بالإمكان لزم تحقق الانبعاث بالإمكان عند تحققه لمكان التضايف. ففي المورد الّذي لا يتحقق الانبعاث الإمكاني لا يصدق البعث الإمكاني أيضا المساوق لعدم الأمر. وموردنا من هذا القبيل ، فانه مع تعلق الأمر بالفعل الاستقبالي لا يمكن الانبعاث نحوه في فرض حصول جميع مقدماته ، وإذا لم يتحقق الانبعاث إمكانا لم يتحقق البعث بالإمكان ، وهذا يرجع إلى عدم تحقق الأمر لأن حقيقته ليس إلا جعل ما يمكن أن يكون باعثا.

ومن هنا ينقدح : ان ما أورده صاحب الكفاية على المحقق النهاوندي من تحقق انفكاك المأمور به عن الأمر وتأخره في الوجود في مطلق الأوامر ، فلا محيص عن الالتزام بالواجب المعلق.

ليس بوارد على ما بيّن من وجه الاستحالة ، إذ ليس المحذور انفكاك تحقق الفعل خارجا عن الأمر ، بل المحذور هو انفكاك الانبعاث عن البعث ، وقد عرفت أن المراد من الانبعاث هو الانبعاث إمكانا لا خارجا ، فانه هو طرف التضايف لا الانبعاث الخارجي.

وعليه ، فإذا كان الأمر متعلقا بأمر فعلي كان الانبعاث ممكنا في كل وقت يفرض الانقياد فيه دون ما إذا تعلق بأمر استقبالي على ما عرفت ، وتأخر الانبعاث الخارجي عن الأمر غير ضائر ، لأنه ليس بطرف التضايف.

وعليه ، فلا يشترك الأمر بالفعل الحالي والأمر بالفعل الاستقبالي فيما هو ملاك الاستحالة ، لحصول الانبعاث إمكانا في الأول دون الثاني. فلا يتجه إيراد صاحب الكفاية (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٨٦ ـ الطبعة الأولى.

١٦٠