منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

الأمر الثاني : الّذي يدور البحث فيه حول تشخيص نوع الارتباط الموجود بين المجعول والأمور الخارجية.

وقد عرفت ان مرجع الارتباط بالأمور الخارجية هو كيفية الإنشاء والجعل ، لأن الاعتبار العقلائي تابع لقصد المنشئ ، فقد يقصد تحقق المعنى في ظرف معين ، فلا يتحقق الاعتبار إلا في ذلك الظرف ، وهذا هو معنى الارتباط ، فيعلم بذلك بان الارتباط بين الأمر الخارجي المفروض والمجعول ليس من قبيل ارتباط العلة بالمعلول ، بمعنى ان يكون الأمر الخارجي دخيلا في تحقق الاعتبار ومؤثرا فيه ، كي يستشكل بأن الاعتبار فعل من افعال العقلاء تابع للإرادة فلا يمكن ان يؤثر فيه ما هو خارج عن أفق النّفس من الخارجيات. وانما الارتباط بينهما ناشئ عن كيفية الإنشاء والجعل ، فانه كما عرفت تابع لقصد المنشئ ، فإذا أنشأ المعنى وقصد تحققه في فرض وتقدير خاص كان الاعتبار في ذلك الظرف الخاصّ وعلى ذلك التقدير المعين ، ولا يخرج بذلك عن كونه فعلا من افعال العقلاء تابعا لتحقق الإرادة بلا تأثير للخارجيات فيها أصلا.

الأمر الثالث : في تحقيق معنى الفرض والتقدير الّذي ورد في كلام المحقق النائيني في مقام بيان المراد من القضية الحقيقية من أن موضوعها مأخوذ بنحو فرض الوجود ، وانه هل يمكن ان يكون الأمر المتأخر مأخوذا بنحو الفرض والتقدير أو لا يمكن؟. ولا بد قبل ذلك من البحث في ان هذه القيود المأخوذة في القضية الحقيقية بنحو فرض الوجود هل هي من قبيل قيود متعلق التكليف أو لا ، بل تكون من قبيل آخر؟. بيان ذلك : ان قسما من القيود يكون راجعا إلى متعلق التكليف ولا يجب تحصيله ، كما إذا كان من الأمور غير الاختيارية كالوقت في مثل : « صل في الوقت الكذائي » ، أو كان من الأمور الاختيارية ولكن أخذ قيدا بوجوده ـ لا بذاته كي يجب تحصيله نظير أخذ الطهارة في الصلاة ـ ، وذلك كالمسجد في مثل : « صل في المسجد » ، فان كلا من

١٢١

المسجد والوقت مما لا يلزم تحصيله مع رجوعه إلى المتعلق ، فان متعلق التكليف هو الحصة الخاصة كالصلاة في الوقت أو في المسجد. وقسما من القيود لا يكون راجعا إلى المتعلق مع كونه قيدا للحكم ـ بمعنى تقيد الحكم به ـ كظرف الحكم ، فان الحكم إذا تحقق في زمان خاص كان متقيدا به واقعا مع ان ذلك الزمان لم يؤخذ قيدا في المتعلق ، بل المتعلق في حيّز الخطاب مطلق من جهته وان كان لا ينفك عنه حقيقة.

إذا عرفت ذلك ، نقول : ان قيود الحكم في القضية الحقيقية المفروضة الوجود ـ والقدر المتيقن منها الأمور غير الاختيارية ـ هل هي راجعة إلى المتعلق فتكون من قيوده ويكون المتعلق هو الحصة المتقيدة بها وان لم يلزم تحصيلها ، أو انها لا ترجع إلى المتعلق؟.

والثمرة انه إذا كانت راجعة إلى المتعلق ومن قيوده كان فرض وجود الأمر المتأخر بمكان من الإمكان ، لأن مرجع ذلك إلى تقييد متعلق الحكم بالقيد وإضافته إليه بجعله الحصة المضافة إليه بنحو من أنحاء الإضافة. ومن الواضح ان كيفية التقييد والإضافة بيد الجاعل ، فيمكن ان يقيد المتعلق بالمتأخر بجعله الحصة المتعقبة بذلك الأمر كتقييده بالمقارن وجعله الحصة المقارنة له.

وهذا بخلاف ما إذا لم تكن راجعة إلى المتعلق ، فانه لا يمكن يؤخذ منها ما هو متأخر من الحكم قيدا له.

والتحقيق : انها لا ترجع إلى متعلق التكليف ، وذلك لوجوه :

الأول : الوجدان الشاهد على عدم رجوع بعض تلك القيود في بعض مواردها إلى متعلق الحكم نظير الحيازة أو البيع الّذي يكون سببا لملكية العين المحازة أو المباحة. فان من الظاهر ان متعلق الحكم ـ وهو الملكية ـ هو ذات العين كالأرض والكتاب من دون ان تتقيد في مقام طروء الحكم عليها بالحيازة والبيع ، مع ان كلا من الحيازة والبيع مأخوذ بنحو فرض الوجود ، إذ تحقق الملكية انما

١٢٢

يكون عند تحققهما ، فهما من قيود تحقق الملكية لكنهما لا يرجعان إلى المتعلق ، فان اعتبار الملكية موضوعه نفس العين بذاتها ، لا العين بقيد الحيازة أو البيع ، نعم لا يتحقق الاعتبار إلا عند تحقق الحيازة أو البيع ، لكنه لا يعنى رجوعه إلى المتعلق.

الثاني : ان تحقق الحكم تابع لتحقق ملاكه ودواعيه ، ومن الواضح أنه تابع لثبوت المصلحة في متعلقه ، والفعل بلحاظ المصلحة المترتبة عليه له مرحلتان : مرحلة اتصافه بالمصلحة بأن يكون ذا مصلحة ، ومرحلة فعلية مصلحته بمعنى مرحلة الترتب الفعلي للمصلحة عليه ، فمن القيود ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، وهذا النحو لا يكون واجب التحصيل. ومنها ما يكون دخيلا في فعلية مصلحة الفعل وترتبها عليه ، وهذا يكون لازم التحصيل. ومثاله في التكوينيات : شرب الدواء ، فانه قبل تحقق المرض لا يكون ذا مصلحة أصلا ، فالمرض دخيل في اتصاف الدواء بالمصلحة ، بمعين ان شربه يكون ذا مصلحة ، ولكن قد يشرب الدواء ولا تترتب عليه المصلحة وهي الشفاء ، لفقد بعض الشروط الدخيلة في ترتبها نظير الاعداد بالنحو الخاصّ من حرارة خاصة وكمّية خاصة وغيرهما ، فمثل الوضع على النار للحرارة يكون دخيلا في ترتب المصلحة على الدواء المشروب ولذا يكون لازم التحصيل.

وعليه ، فما يكون دخيلا في أصل الاتصاف بالمصلحة يكون دخيلا في تحقق الإرادة التي ينبعث عنها الحكم ، فتحقق الإرادة مترتب على تحققه ـ وان لم يكن بنفسه مؤثرا بالمباشرة لمعلولية الإرادة للصور الذهنية بلا تأثير للخارجيات ـ ، إذ بعد تحققه يتصور الآمر مصلحة الفعل فيبعث نحوه لحصول الشوق إليه عندئذ ، ومثل هذا لا يكون مأخوذا في متعلق الإرادة والحكم لفرض تحققه حين تعلق الإرادة بالفعل ، فلا يتجه إضافة ، المتعلق إليه. إذا تمّ هذا فاعلم : ان الشروط المأخوذة بنحو فرض الوجود كلها تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة ، فتكون سابقة على الإرادة والحكم فلا يتجه أخذها في متعلق الحكم.

١٢٣

الثالث : ان ارتباط قيود المتعلق به ينشأ من تقييد طبيعي المأمور به بوجود القيد الخاصّ ، بمعنى ان المأمور به يكون هو الحصة المضافة إلى وجود القيد الخاصّ بإضافة معينة خاصة ، وذلك يكون بتوسيط بين مفهوم المأمور به ومفهوم القيد بلحاظ المرآتية عن الواقع والنّظر إلى الخارج والحكاية عنه. وهذا المعنى غير ثابت في فرض الوجود ، فإن فرض الوجود مرجعه إلى فعل نفسي محصله الإتيان بهذا العمل حين وجود ذلك العمل ، فالارتباط الثابت بفرض الوجود ارتباط بين الواقعين والخارجين ، وليس ذلك بمعنى تقييد أحدهما بالآخر وإضافته إليه وكونه الحصة المتقيدة به ، بل بمعنى تحقق ذلك خارجا عند تحقق هذا ، وهذا ينافي البناء النفسيّ على ذلك. فسنخ الارتباط بينهما يختلف عن سنخ ارتباط المتعلق بقيوده ، فالارتباط بينهما ناشئ من الاتحاد في التحقق والمقارنة في الوجود بفرض الجاعل وبنائه على هذا العمل. والارتباط بين المتعلق وقيوده ناشئ من تقييده بها وإضافته إليها.

وعليه ، فلا مجال لرجوع الشروط المفروضة الوجود إلى قيود المتعلق ، فيقع الكلام بعد هذا في صحة كون مفروض الوجود متأخرا عن الحكم.

والتحقيق : انه ممنوع ، وذلك لأن فرض الوجود الّذي هو عبارة عن ربط مخصوص لا محصل له ولا معنى سوى الربط بنحو الترتب ، بمعنى كون وجود الحكم مترتبا على ما فرض وجوده فانه معنى فرض الوجود ومن المعلوم أنه لا يعقل ترتب وجود الحكم على وجود الشرط المتأخر عنه ، بل لا بد من مقارنته للحكم ، لأن الترتب لازم لمقارنة المترتب على المترتب عليه أو تأخره عنه زمانا ولا يعقل تقدمه عليه ، ومن هنا يتعين القول باستحالة الشرط المتأخر بالتقريب الّذي قرّره المحقق النائيني من لزوم الخلف منه.

ومن هذا البيان يظهر أن ما أفاده السيد الخوئي ( حفظه الله ) في مقام الإيراد على المحقق النائيني قدس‌سره : بان الفرض والربط بين الحكم

١٢٤

والشرط تابع لكيفية الجعل وفرض الجاعل ، فيمكن ان يفرض الارتباط بين الحكم والأمر المتأخر كما مرّ تفصيله. غير وجيه ، لأنك قد عرفت ان واقع الفرض والتقدير ترتيب وجود الحكم على وجود الشرط من قبل الجاعل ، فترتيبه على أمر متأخر غير معقول.

واما ما أفاده صاحب الكفاية من تصحيح الشرط المتأخر بإرجاع الشرط حقيقة إلى أمر مقارن ، وهو الوجود العلمي ، وان اختلف مطابقه الخارجي من جهة المقارنة والتقدم والتأخر. فقد عرفت الإيراد عليه من قبل المحقق النائيني من أنه خلط بين القضايا الخارجية التي يتبع الحكم فيها علم المولى وتشخيصه الموضوع والقضايا الحقيقية التي يؤخذ فيها الموضوع مفروض الوجود بلا دخل لعلم المولى وتصوره في البين.

واما ما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني في مقام الإيراد على صاحب الكفاية من : ان للبعث اعتبارين : اعتبار أنه فعل من افعال المولى ، واعتبار انه موجود حقيقي. وانه بالاعتبار الأخير يتأثر بالخارجيات. فقد عرفت انه لا يخلو عن غموض ، وغاية ما يمكن توضيحه به هو ما تقدم من المسلك الثاني في باب الاعتبار الّذي عرفت ظهوره من كلماته قدس‌سره ، من ان الاعتبار عبارة عن الفرض ، ولكنه يختلف عنه بأنه الفرض المتعنون بعنوان حسن أو المترتب عليه أثر عقلائي ـ على اختلاف تعبيراته ـ وبذلك يتأثر بالأمور الخارجية الموجبة للتعنون بالحسن ، فنفس الفعل وان كان من أفعال المولى إلا أن وجود الاعتبار والمعتبر حقيقة يرتبط بالتعنون بالحسن الّذي يتأثر بالأمور الخارجية.

ولكنك عرفت الخدشة في نفس المسلك منه قدس‌سره وأن الاعتبار ليس إلا البناء والقرار بداع عقلائي. كما يرد عليه : إن توقف الاعتبار على التعنون بالعنوان الحسن لا يخرجه عن حقيقته وهي الفرض الّذي هو فعل من افعال المولى المستلزم لامتناع تأثره بالخارجيات ، واختلاف الاعتبار واللحاظ في البعث

١٢٥

لا يستلزم تغيير حقيقته.

ثم ان المحقق العراقي قدس‌سره حاول تصحيح الشرط المتأخر في الشرعيات والتكوينيات ببيان : ان حقيقة الشرط ليس كما يقال من أنه المتمم لتأثير المقتضي كي يمتنع تأخره ، لاستحالة تأثير المعدوم في الموجود. وانما حقيقته هو كونه طرفا لإضافة المقتضي إليه فيتحدد بها ويتحصص بواسطتها ، فيكون بهذه الإضافة مؤثرا من دون أن يكون لنفس الشرط تأثير في وجود المعلول ، بل المؤثر ليس إلا المقتضي ، لكنه هو الحصة الخاصة منه ، فالمؤثر في الإحراق ليس هو مطلق النار ، بل الحصة الخاصة منها وهي النار المجاورة للشيء ، أو يكون طرفا لإضافة المعلول إليه ، فيكون بتلك الإضافة قابلا للانوجاد والتأثير ، فليس الشرط كما يدعى هو المتمم لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، بل هو طرف إضافة وتحديد بها تحصل الفاعلية للفاعل والقابلية للقابل ، ومن الواضح انه لا يمتنع ان يكون طرف الإضافة من الأمور المتأخرة بعد ان كانت الإضافة مقارنة ولم يكن للأمر المتأخر أي تأثير (١).

ولا يخفى ما فيه : لأنه إن أريد من الإضافة الخاصة التي بها يكون المعلول قابلا للانوجاد أو المقتضي قابلا للإيجاد الإضافة الاعتبارية اللحاظية ، لم يتجه الالتزام بتأثيرها في قابلية العلة أو المعلول ، فانها لا تعدو التصور والبناء ، فلا معنى لدخالتها في تأثيرها في قبول المعلول للانوجاد والعلة للإيجاد ، فانه من الواضح إن تأثير النار في الإحراق وقابلية الشيء للحرق لا يرتبط بعالم اللحاظ والإضافات بل هو مرتبط بعالم الخارج وناشئ عن الجهات الخارجية ، وهذا أمر لا يشك فيه أحد ، فدعوى تأثير نفس الإضافة في القابلية بحيث لا يكون المضاف قبل اللحاظ الخاصّ قابلا للتأثر أو التأثير لا ترجع إلى محصل.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٢٧٥ ـ الطبعة الأولى.

١٢٦

واما إذا أريد من الإضافة الإضافة الحقيقة المقولية التي لها تقرر واقعي ، فهي تتوقف على تحقق طرفيها فعلا ، والمفروض أنه بصدد تصحيح كون طرفها غير متحقق فعلا ، فلاحظ جيدا.

وملخص ما حرّرناه : هو امتناع الشرط المتأخر بناء على كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقة ، وما قيل في تصحيحه من الوجوه التي عرفتها لا تغني ولا تسمن من جوع. وعليه فلو ورد ما ظاهره شرطية الأمر المتأخر ، كما لو ورد ما يدل على حصول الملكية من حين العقد إذا أجاز المالك بعد حين ـ في عقد الفضولي ـ ، فلا بد من الالتزام بخلاف ظاهره بحمله على كون الشرط عنوانا انتزاعيا عن وجود الأمر المتأخر في زمانه ، كعنوان التعقب به ، فالمؤثر هو العقد المتعقب بالإجازة ، فالشرط هو عنوان التعقب وهو أمر مقارن دون طرف الإضافة أعني الإجازة. فلا يتحقق المحذور.

فعلى هذا يمكننا أن ندعي : بان الشرط المتأخر بمعنى ممتنع وبمعنى آخر معقول ، لكنه بالمعنى المعقول خلاف الظاهر ، لأن الظاهر من الدليل كون الشرط هو نفس الأمر المتأخر ، وقد عرفت ان معقوليته تكون بإرجاع الشرط إلى العنوان الانتزاعي.

وقد اشترط المحقق النائيني في الالتزام بأن الشرط هو العنوان الانتزاعي كعنوان التعقب امرين :

الأول : قيام الدليل على شرطية الأمر المتأخر بحيث لا يمكن توجيهه إلاّ بذلك.

الثاني : مساعدة العرف والعقل على كون الشرط هو العنوان الانتزاعي في خصوص المورد لا مطلقا لفرض تجويز العقل لذلك في نفسه (١).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٢٨ ـ الطبعة الأولى.

١٢٧

وقد استشكل المحقق الخوئي في الشرط الثاني : بأنه بعد فرض معقولية هذا المعنى ثبوتا وإمكان حمل الدليل الإثباتي عليه ـ بل انحصار محمله به ـ. فلا معنى لتقييد ذلك بمساعدة العرف والعقل ، إذ ليس للعرف والعقل مجال تشريع في قبال الشارع المقدس (١).

والظاهر ان هذا الاستشكال ناشئ عن عدم التدقيق في معرفة مراد المحقق النائيني قدس‌سره ، فان مراده ليس ان للعرف والعقل جهة تشريعية في قبال الشارع ، وانما نظره إلى أن هذا المعنى وان كان في نفسه معقولا لكن قد لا يساعد العقل في خصوص مورد لخصوصية فيه على كون الشرط هو المعنى الانتزاعي ، بان كان يرى عدم دخالة هذا المعنى في الحكم ، كأن يرى أن المؤثر في ملكية ـ لو كان غير العقد مؤثر ـ هو نفس الرضا دون عنوان التعقب. أو لا يساعد العرف عليه بحسب مرتكزاته بحيث لم يمكنه توجيه الدليل إلى الوجه العقلي المعقول وحمله عليه. ففي مثل هاتين الحالتين لا يحمل الدليل على ذلك المعنى الثبوتي ، لأنه مناف للفهم العرفي أو الإدراك العقلي كمنافاة ظاهره للحكم العقلي بامتناع الشرط المتأخر. فلا بد من طرحه وما أفاده هاهنا نظير لما يقال في باب الاستصحاب من ان المحكم في تعيين موضوع الحكم الوارد في الدليل هل هو العقل أو العرف أو المتبع لسان الدليل؟ ، فانه لا يعني ان العقل والعرف يحكم في قبال الشارع بتعيين الموضوع ، بل النّظر إلى أن العقل هل يحكم نظره في دخالة هذا الوصف ـ مثلا ـ في الموضوع الشرعي أو عدم دخالته بان كان يراه من الجهات التعليلية؟ ، أو انه هل يتبع العرف بحسب مرتكزاته وفهمه ، فما يراه موضوعا شرعيا للحكم الشرعي يؤخذ به أو لا؟. وبتعبير آخر : وظيفة العقل والعرف تعيين ما هو الموضوع عند الشارع بحسب القواعد المقررة لكل منهما

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣١٦ ـ الطبعة الأولى.

١٢٨

لا تعيين موضوع الحكم قبالا للشرع وحكمه به. فالاستشكال لا مجال له.

يبقى الكلام في شيء وان لم يكن مرتبطا بمحل كلامنا ، وهو ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره : من أن كل قيد أخذ في الخطاب ولم يكن لازم التحصيل لا بد أن يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود (١) ، وقد التزم بذلك وكرّر التنبيه عليه. فلا بد من معرفة مقدار وجاهة هذا المفاد.

والتحقيق انه غير وجيه.

وذلك لأن القيود التي تؤخذ في الخطاب على أنحاء ثلاثة :

الأول : قيود المتعلق.

الثاني : ما يكون مرتبطا بالحكم بنفسه ، كالزمان فان نسبته إلى الحكم نسبة الظرف إلى المظروف.

الثالث : ما لا يكون بنفسه وبلحاظه خاصة ارتباط مع الحكم أصلا.

ومن الواضح ان الّذي يحتاج إلى أخذه مفروض الوجود هو النحو الثالث الّذي لا ارتباط له بنفسه مع الحكم أصلا ، فمع لحاظ المولى كلا من الحكم والقيد لا يمكنه جعل الارتباط بينهما من دون توسط شيء آخر إلا بنحو فرض الوجود. وهذا بخلاف مثل الزمان فانّه يمكنه جعل الارتباط بينهما من دون توسط شيء آخر بدون فرض الوجود ، فيقول مثلا : « أوجبت التصدق في يوم الجمعة » ، لأن الزمان يكون مرتبطا بالشيء لو وجد فيه بلا توسط شيء ، بخلاف مجيء زيد بالنسبة إلى وجوب التصدق ، فانه لا ارتباط بينهما أصلا لو وجدا متقارنين إلا بالفرض والتقدير. نعم يمكن الربط بينهما بغير الفرض والتقدير إذا توسط بينهما شيء آخر كالزمان ، فانه يقال : « يجب التصدق في زمان مجيء زيد » ، لكنه خلاف الفرض ، إذ المفروض ان المولى لا يلحظ شيئا غير الحكم والقيد ، ومعه

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٢ ـ الطبعة الأولى.

١٢٩

لا يمكن الربط بينهما إلا بالفرض والتقدير ، وهو ـ أعني فرض الوجود ـ ليس شيئا آخر زائدا كالزمان ، بل هو فعل نفسي مرجعه إلى إيجاد أحد الشيئين مترتبا على وجود الآخر كما عرفت.

ومن هنا يتضح الحال في قيود المتعلق ، إذ بعد تقيد المتعلق بها وكونه الحصة الخاصة ، لا حاجة إلى ربطه بالحكم بأخذه مفروض الوجود لتحقق ارتباطه به بتوسط ارتباط الحكم بالمتعلق بلا احتياج إلى فرض وجوده. فتدبر.

هذا كله بالنسبة إلى ما يرجع إلى شرائط الحكم التكليفي أو الوضعي.

واما ما يرجع إلى شرائط المأمور به المتأخرة ، فالإشكال فيها من جهتين :

الجهة الأولى : ـ وهي تعمّ جميع موارد الشرط المتأخر للمأمور به ـ : ان الأثر المترتب على المأمور به والّذي بلحاظه يتعلق به الأمر ـ أعني المصلحة الواقعية ـ اما ان يكون مترتبا على المشروط قبل حصول الشرط. أو يكون مترتبا بعد حصول الشرط ، إذ المفروض تخلل العدم بين الشرط والمشروط ، فان كان مترتبا على المشروط قبل حصول الشرط لزم ان يؤثر المعدوم في الموجود ، لأن مقتضى شرطية المتأخر تأثيره فيه ، والفرض انه ـ أي الشرط المتأخر ـ معدوم عند حصول الأثر. وان ترتب بعد حصول الشرط كان المشروط حينئذ منعدما ، فيلزم أيضا تأثير المعدوم في الموجود. فعلى كلا التقديرين يلزم ما هو المحال من تأثير المعدوم في الموجود.

ورفع الإشكال من هذه الجهة بأحد وجهين :

الأول : ان يلتزم بترتب الأثر عند حصول الشرط مع عدم كون المشروط دخيلا في التأثير ، بل هو يكون من قبيل المعدّ للأثر ، بمعنى أنه يقرب المعلول من العلة ـ كما مر ـ وقد عرفت ان المعدّ يمكن أن يكون سابقا ، إذ لا يستلزم سبقه تأثير المعدوم في الموجود لعدم كونه من اجزاء المؤثر.

الثاني : ان يجاب بما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره ، وذلك بعد إنكار

١٣٠

تبعية الحكم للمصلحة الواقعية في متعلقه ، وانما هو تابع للحسن المتعنون به المأمور به ، فيقال حينئذ : بان الحسن يختلف بالوجوه والاعتبارات الناشئة من اختلاف الإضافات ، فالحسن ينشأ من إضافة خاصة ، وعليه فالدخيل في تحقق المأمور به هو نفس الإضافة إلى الأمر المتأخر أو غيره. وتسمية الأمر المتأخر شرطا ليس إلا بلحاظ كونه طرف الإضافة من دون ان يكون دخيلا في تحقق المأمور به. ومن الواضح أن الإضافة من الأمور المقارنة وان كان طرفها متأخرا. فشرط المأمور به في الحقيقة أمر مقارن وهو الإضافة الخاصة ، لأنها هي الموجبة لتعنون العمل بالحسن دون طرفها ، إذ وجود الأمر المتأخر لا يوجب تعنون المأمور به بالحسن ما لم يلحظ المأمور به مضافا إليه ومتقيدا به (١).

وقد بنى المحقق النائيني قدس‌سره ارتفاع الإشكال هاهنا على الالتزام بتعلق الأمر الضمني كالأجزاء ، ثم قرر هذا المعنى وهو : ان الأمر الضمني متعلق بالشرائط ، ومعه يرتفع الإشكال (٢).

ولكنا لم نعلم الربط بين تعلق الأمر الضمني بالشرط وارتفاع الإشكال ، لأن الإشكال إن كان من جهة ان تحقق المأمور به فعلا يتوقف على وجود الأمر المتأخر ، فيكفي في دفعه تعلق الأمر بنفس التقيد ولو لم يتعلق بنفس القيد ، لأنه ـ أي التقيد ـ مقارن للمأمور به. وان كان من جهة ترتب الأثر ، فلا بد من الإجابة عنه بما عرفت من الوجهين ، ولا يندفع بتعلق الأمر بالشرط ، لأنه متأخر وجودا عن المشروط ، فارتفاع الإشكال لا يرتبط بتعلق الأمر الضمني بالشرط أصلا.

الجهة الثانية : ـ وهي خاصة بمورد المثال الّذي يذكر لشرط المأمور به

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٢١ ـ الطبعة الأولى.

١٣١

المتأخر ويتصدون لتصحيحه ، وهي تقيد صحة صوم المستحاضة بغسل الليلة الآتية ـ فإن الإشكال فيه ليس من جهة تأخر الشرط عن المشروط ، كي يدفع بما عرفت ، بل الإشكال فيه من جهة ان من يلتزم باعتبار الغسل يلتزم به من باب أنه دخيل في تحقق الطهارة المعتبرة في الأعمال السابقة كالصوم ، فيقع الإشكال في صحة تأثير المتأخر في تحقق الشرط المتقدم الّذي هو الطهارة المفروض مقارنته للعمل ، إذ الطهارة اما أن تحدث في ظرف العمل ـ كما هو المفروض ـ أو بعده ، فان حدثت في ظرف العمل لزم تأثير المعدوم ـ وهو الغسل ـ في الموجود. وان لم تحدث في ظرف العمل ، بل حدثت في زمان الغسل لزم وقوع العمل بلا طهارة. فالعمدة في الإشكال في هذا المورد هو هذه الجهة ، ولكن الأعلام لم يتعرضوا لها ولا لحلها ، بل تابعوا صاحب الكفاية ، سوى المحقق النائيني فانه تعرض لبيان جهة الإشكال فيها فقط.

والوجه ان يقال : انه حيث يرجع الغسل إلى شرطية الحكم الوضعي وهو الطهارة ، فمن يلتزم بإمكان شرطية المتأخر للحكم الوضعي كصاحب الكفاية ينحل الإشكال هنا لديه. ومن لا يلتزم بإمكان ذلك كما هو المختار تبعا للمحقق النائيني يشكل الأمر في المورد ، فلو دل دليل قطعي على اعتبار الغسل في صحة العمل السابق لا بد من توجيهه : إما بان يلتزم بأن الشرط نفس الغسل لا بلحاظ تأثيره في الطهارة. أو يلتزم بان الشرط هو العنوان الانتزاعي المقارن للعمل كعنوان التعقب ، كما قد التزم بذلك في باب عقد الفضولي ، لكن الأمر هاهنا أشكل ، لأن ما يتعنون بعنوان التعقب في مورد العقد موجود وهو نفس العقد الّذي هو المقتضي للملكية.

اما ما نحن فيه فقد لا يوجد ذلك ، بل لا يكون المؤثر في الطهارة سوى الغسل المتأخر ، فليس هناك ما يتعنون بعنوان التعقب يكون هو المؤثر ، بل ليس لدينا سوى نفس العنوان ، والالتزام بتأثيره نفسه مشكل جدا. وذلك كما لو

١٣٢

استحاضت قبل الفجر بقليل ولم تغتسل إلا بعد الفجر ، إذ المعتبر هو الغسل للصلاة وهو لا يعتبر إلا حال الصلاة ولا يلزم ان يكون قبل الفجر ، فيمضي مقدار من الصوم قبل الغسل ، وليس غيره ما يؤثر في الطهارة كي يقال ان ذلك الشيء بعنوان تعقبه بالغسل مؤثر في الطهارة. فالتفت.

والغريب من السيد الخوئي إغفاله التعرض إلى هذه الجهة من الإشكال في المورد ، والاكتفاء بما جاء في الكفاية مع تنبيه المحقق النائيني على الإشكال كما عرفت.

وإلى هنا ينتهي الكلام فيما يرجع إلى شرائط المأمور به. ولا بأس بالتنبيه على أمر وهو : انه قد وقع في عبارات بعض الأعلام ـ كالسيد الخوئي والمحقق العراقي ـ في هذا المقام التعبير عن المأمور به : بأنه الحصة الخاصة (١) وهذا المعنى قد يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأن أساس الالتزام بها هو كون المأمور به نفس الأجزاء وذاتها ، فينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل. اما إذا لم يكن المأمور به نفس الأجزاء فقط ، بل كانت فيه جهة إضافية خارجة عن دائرة الأمر وهي عنوان الحصة الخاصة أشكل التمسك بالبراءة عند الشك في شرطية شيء أو جزئيته ، للشك في تحقق الحصة الخاصة بدون المشكوك. فليكن هذا على ذكر منك حتى نصل إلى محلّه ونرى ما هو الحق فيه.

هذا تمام الكلام في الشرط المتأخر. وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في ...

الأمر الثالث : والكلام فيه في تقسيمات الواجب ، وهي متعددة :

التقسيم الأول : انقسامه إلى المطلق والمشروط.

وقد ذكر صاحب الكفاية : انه قد عرف كل منهما بتعريفات أورد عليها

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣١٥ ـ الطبعة الأولى.

البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٢٧٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٣٣

بعدم الطرد والعكس ، ولكن الحق انه لا وجه للإيراد عليها بذلك ، لأنها تعريفات لفظية يقصد منها تقريب المعنى إلى الذهن ، لا تعريفات حقيقية يقصد منها بيان الحقيقة والماهية ، كي يورد عليها بأنها غير مطردة أو غير منعكسة.

ثم أفاد بعد ذلك : أن الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان ، فان الواجب قد يكون مطلقا بالإضافة إلى شيء ومشروطا بالإضافة إلى آخر ، إذ الإطلاق من جميع الجهات وبقول مطلق غير متحقق في واجب من الواجبات ، إذ كل واجب لا بد أن يكون وجوبه مشروطا بشرط ولا أقل من اشتراطه بالشرائط العامة من البلوغ والعقل. فعلى هذا يقال : إن كل واجب لوحظ بالإضافة إلى أمر ، فاما أن يكون وجوبه متقيدا به أو لا يكون ، فالأوّل هو الواجب المشروط. والثاني هو الواجب المطلق (١).

وقد وقع الكلام بين الاعلام في إمكان الواجب المشروط ، بمعنى إمكان رجوع القيد إلى الوجوب وتقييد الوجوب به ، بحيث لا يتحقق إلا بعد تحققه. والآراء فيه ثلاثة :

الأول : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري ـ على ما في التقريرات ـ من عدم إمكان رجوع القيد إلى الوجوب ، وانما هو راجع إلى الواجب والوجوب فعلي مطلق (٢).

الثاني : ما التزم به صاحب الكفاية خلافا لما نسب إلى الشيخ ، من إمكان رجوع القيد إلى الوجوب وتعليق تحققه على الشرط (٣).

الثالث : ما التزم به المحقق النائيني ، من ان القيد راجع إلى المادة المنتسبة ، وإليه ارجع كلام الشيخ لا إلى الأول ، مدعيا استحالة الأول لرجوعه إلى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٤٥ ـ ٤٦ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٣٤

الواجب المعلق وهو محال (١).

وقد استدل الشيخ على رأيه ، مع اعترافه بان مقتضى القواعد العربية رجوع القيد إلى الهيئة في الجملة الشرطية لا المادة بوجهين :

الأول : ان مفاد الهيئة معنى حرفي غير قابل للإطلاق والتقييد ، لأن التقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، والحرف موضوع للافراد الجزئية وهي غير قابلة للتقييد ، فيمتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة لعدم قابليته للتقييد.

الثاني : ـ وهو وجه وجداني ـ ان الإنسان إذا توجّه إلى شيء إما ان يتعلق به طلبه باعتبار اشتماله على المصلحة الداعية للأمر أو لا يتعلق به طلبه ، أما الفرض الثاني فهو خارج عن محل الكلام. وأما الفرض الأول ، فالمصلحة التي تترتب عليه إما أن تترتب عليه بقول مطلق بلا تعليق على شيء فيتعلق به طلبه على جميع تقاديره. وأما ان تكون تترتب عليه على تقدير خاص ، فيكون ذو المصلحة هو الفعل على ذلك التقدير ، فيتعلق الطلب والشوق بذلك الفعل على ذلك التقدير. فالشوق فعلي متعلق بما هو استقبالي ، لأن الآمر إذا علم بترتب المصلحة عليه في المستقبل يتعلق به شوقه فعلا ويطلبه في نفس الحين بلا تعليق. وهذا أمر وجداني يلتفت إليه كل أحد ويجده من نفسه.

بهذين الوجهين استدل الشيخ على ما ذهب إليه من عدم رجوع القيد إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة.

وقد تنكر صحة نسبة هذا الالتزام إلى الشيخ باعتبار ما يقرره في مكاسبه في مبحث جواز التعليق في العقود من : ان الوجه في بطلان التعليق هو قيام الإجماع على عدم صحته ، وبطلان العقد به ، مما يظهر منه انه لو لا الإجماع لكان مقتضى القواعد صحة التعليق في العقد ، مع ان هذا يتنافى مع الالتزام بعدم صحة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٢ ـ الطبعة الأولى.

١٣٥

تقييد مفاد الهيئة ، لأن الإنشاء مدلول الهيئة أيضا فكيف يصح تعليقه وتقييده ثبوتا (١).

وبالجملة : الالتزام بصحة نسبة الالتزام المذكور إلى الشيخ لازمه الالتزام بوقوع التهافت في كلماته ، وهو مما يجلّ عنه مثل الشيخ في مثل هذا المطلب الواضح.

والإنصاف : انه لا مناقضة بين الالتزام بعدم صحة رجوع القيد إلى الهيئة والالتزام بصحة التعليق في العقود ، وذلك لأن ما يدور البحث حول صحة تعليقه وعدمها ليس نفس الإنشاء ، وانما هو المنشأ كالتمليك. ومن الواضح أن المنشأ مدلول اسمي ، فالتمليك مدلول للمادة في قول المنشئ : « ملّكت » ، وهي من الأسماء الموضوعة للمفاهيم. وهكذا سائر المنشآت فانها مداليل المواد.

والمفاهيم الاسمية قابلة للتعليق والتقييد ثبوتا ، فلو لا الإجماع لصح أن يلتزم بصحة التعليق في العقود ، ولا ينافي ذلك التزامه بعدم صحة تقييد مفاد الهيئة لأنه معنى حرفي غير قابل للتقييد.

وقد تفصّى صاحب الكفاية عن الوجه الأول بما قرّره من : ان المعنى الحرفي لا يختلف عن المعنى الاسمي في كونه مفهوما عاما ، وان اختلف معه في كيفية الوضع ونحوه ، وعليه فكما ان المعنى الاسمي يقبل التقييد لقابليته للسعة والضيق كذلك المعنى الحرفي لاشتراكهما في المفهومية التي هي موضوع الإطلاق والتقييد (٢).

وتحقيق الكلام في المقام : ان عمدة الإشكال وأساسه امر مغفول عنه في عبارات الأعلام ، وان اعترف به المحقق النائيني في بعض كلماته وهو : ان الجملة

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب ـ ١٠٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٣٦

الشرطية تفيد تعليق الجزاء على الشرط ، وربط أحدهما بالآخر بنحو من أنحاء الربط ، سواء قلنا أنّ ذلك مفاد نفس الأداة كان ، أو قلنا بأن مفاد الأداة ليس إلاّ كون تاليها واقعا موقع الفرض والتقدير ، والتعليق يستفاد من « الفاء » أو « ثم » أو غيرهما من الأدوات الداخلة على الجزاء ، أو من نفس ترتيب الجزاء على الشرط والهيئة التركيبية الخاصة ـ فان تحقيق أحد الوجهين الذين ذهب إلى أولهما أهل الميزان وإلى ثانيهما أهل العربية ، وليس بمهم في المقام ـ ، إذ لا اختلاف بينهم في النتيجة ، فان القدر المسلم لدى الطرفين هو أن مفاد الجملة الشرطية تعليق الجزاء على الشرط ، اما سببه فهو محل الاختلاف.

ومن البديهي ان الربط الموجود في الجملة الشرطية انما هو ربط بين المفاهيم التركيبية ، أعني المفهوم التركيبي لجملة الشرط والمفهوم التركيبي لجملة الجزاء ، لا بين المفاهيم الإفرادية. فمفاد : « إذا جاء زيد يجيء عمرو » تعليق مجيء عمرو على مجيء زيد وترتيب نسبة مجيء عمرو على نسبة مجيء زيد ، وليس مفادها تعليق نفس المجيء في الجزاء على مجيء زيد ، إذ مرجع ذلك إلى الحكم الفعلي على عمرو بالمجيء الخاصّ وهو المترتب على مجيء زيد ، نظير : « عمرو جاء بالمجيء المترتب على مجيء زيد ».

وهذا امر لا يجده المخبر بالجملة الشرطية من نفسه ، فانه لا يعلم بمجيء زيد فكيف يحكم بثبوت المجيء المقدر عليه؟. كما أنه ليس مفادها الحكم بالمجيء على عمرو على تقدير مجيء زيد برجوع القيد إلى الموضوع لا الحكم ، لوضوح انه يصح إطلاق الجملة الشرطية مع التصريح بأخذ موضوع الجزاء بنحو مطلق بلا تقييده بشيء. فمن البديهي ان المخبر بالجملة الشرطية لا يجد في نفسه إلاّ أنه يخبر عن الربط بين المفهومين التركيبين ـ أعني مفهومي جملتي الشرط والجزاء ـ ، بحيث إذا سئل عن قصده لأجاب بذلك. ومن هنا يأتي الإشكال ، فإن المفاهيم التركيبية من المعاني الحرفية لأنها مداليل هيئات الجمل

١٣٧

أو الإضافة أو غيرهما. فيشكل تحقق الربط بين المفهومين التركيبيين لامتناع تحقق الربط بين المعاني الحرفية وتقييد أحدهما بالآخر على جميع المذاهب في المعنى الحرفي.

بيان ذلك : ان الآراء في وضع الحروف مختلفة ، وعمدتها أقوال عديدة :

الأول : ان الموضوع له الحرف هو الافراد الخاصة الخارجية أو الذهنية للمفاهيم العامة (١).

الثاني : ما ذهب إليه صاحب الكفاية من ان الحروف موضوعة للمفاهيم العامة كالأسماء ، ف : « من » ولفظ الابتداء موضوعان إلى مفهوم الابتداء (٢).

الثالث : ما ذهب إليه المحقق النائيني من ان الموضوع له الحرف هو النسبة الكلامية التي عرفت ان المراد منها هي النسبة الذهنية بين المفاهيم الاسمية ، لاحتياج المفاهيم الاسمية إلى رابط يربطها لعدم الارتباط بينها في أنفسها ، فشأن الحرف الربط بين المفاهيم الاسمية (٣).

الرابع : ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من ان المعنى الحرفي هو الوجود الرابط الّذي هو نوع رابع من أنواع الوجود (٤). وقد عرفت رجوع هذا الوجه إلى اختيار المحقق النائيني.

الخامس : ما ذهب إليه السيد الخوئي من أنّ الحروف موضوعة لتضييق المعاني الاسمية ، لأنها واسعة النطاق في الصدق فاحتيج إلى تفهيم الحصة الخاصة منه إلى وضع شيء فكان هو الحروف (٥). وقد تقدم انه لا محصل له إلا ان يرجع

__________________

(١) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية ـ ١٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٦ ـ الطبعة الأولى.

(٥) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٧٩ ـ الطبعة الأولى.

١٣٨

إلى اختيار العلمين النائيني والأصفهاني (١).

وعلى كل : فتقييد المعنى الحرفي وربطه. وبتعبير آخر ورود معنى حرفي على معنى حرفي آخر ممتنع على جميع هذه الأقوال الخمسة.

اما على القول الأول : فواضح ، لأن التقييد انما يطرأ على المفاهيم القابلة للسعة والضيق دون الأفراد التي لا تقبل السعة والضيق أصلا.

واما على القول الثاني : فلأنه وان كان المعنى الحرفي من سنخ المفاهيم التي تقبل السعة والضيق ، إلا أنه لا يمكن تقييده أيضا ، لأن صاحب الكفاية وان التزم بأن الموضوع له الحرف هو المفهوم العام ، لكنه أخذ في وضع الحرف كون المعنى ملحوظا آليا ، وبه افترق عن المعنى الاسمي. وبهذا القيد يمتنع تقييد المفاهيم الحرفية ، وذلك لأن لازم كون المعنى الحرفي ملحوظا آلة للغير كون الغير ملحوظا بالاستقلال.

وعليه ، فإذا كان الربط الثابت بين المعنيين الحرفيين ملحوظا آلة ـ لكونه معنى حرفيا ـ كان لازمه لحاظ ذيه وهو المعنى الحرفي المقيد استقلالا ، والمفروض انه معنى حرفي ملحوظ باللحاظ الآلي ، فيلزم ان يكون المعنى الحرفي ملحوظا في حين واحد بلحاظين ، وهو ممتنع كما يقرره صاحب الكفاية. ومن هنا يظهر ان ما أفاده في دفع إشكال الشيخ من كون المعنى الحرفي عاما غير مجد في ما نحن فيه ، إذ الإشكال يتأتى من ناحية أخرى لم يتعرض لدفعها في كلامه ، وهي استلزام التقييد اجتماع اللحاظين.

واما على القول الثالث : فلان الربط انما يكون بين المفاهيم الاسمية ، والمعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم ، بل هو من سنخ الوجود غير القابل للربط ، لأنه على ما تقدم من شئون الوجود وكيفية من كيفياته.

__________________

(١) راجع ١ ـ ١١٤ من هذا الكتاب.

١٣٩

واما على القول الرابع : فالأمر فيه كالأمر على الثالث ، فان التقييد انما يطرأ على المفاهيم دون ما هو من سنخ الوجود وهو الوجود الرابط ، الّذي هو كيفية من كيفيات وجود الشيء.

واما على القول الخامس : فلان القائل لا يدعي الوضع لمفهوم التضييق ، لأنه من المعاني الاسمية ، وانما يدعي الوضع لواقع التضييق وهو غير قابل للتقييد والربط ، لعدم كونه قابلا للسعة والضيق.

فتحصل ان تقييد أحد المفهومين التركيبيين وربط أحدهما بالآخر مما قام البرهان على استحالته ولا إشكال فيه ، كما ان مفاد الجملة الشرطية هو الربط بين المفاهيم التركيبية بالبداهة ، فكيف يجتمع الأمر البديهي الواضح مع الأمر البرهاني الثابت.

ولا يخفى ان ما أفاده الشيخ رحمه‌الله من رجوع القيد إلى المادة لا يجدي في رفع الإشكال ، لأن مرجعه إلى تحقق الربط بين المفاهيم الإفرادية الّذي قد عرفت انه خلاف الوجدان ، فان الشخص المخبر بالجملة الشرطية لا يرى من نفسه إلا أنه يخبر بالربط بين المعاني التركيبية ، وهذه البداهة وان لم تكن واضحة في الجملة الإنشائية ، ولا سبيل لنا إلى إنكاره بالبداهة والبرهان السابق على عدم كون المعلق هو المفهوم الأفرادي ، إلا أنه من المعلوم أن حال الجملة الشرطية في كلتا الصورتين واحد لا يختلف ، وقد ثبت ان الربط في الجملة الشرطية الخبرية بين المفاهيم التركيبية وجدانا بل برهانا ، فيثبت ذلك في الإنشائية أيضا.

كما انه لا يجدي في رفع الإشكال ما أفاده السيد الخوئي من : ان الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، فليس ثمة معنى حرفي يكون مدلولا للهيئة ، بل مدلولها فعل من افعال النّفس تبرزه (١).

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٢٣ ـ الطبعة الأولى.

١٤٠