الإمامة والقيادة

الدكتور أحمد عزّ الدين

الإمامة والقيادة

المؤلف:

الدكتور أحمد عزّ الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-021-8
الصفحات: ٢١٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

القيادة في ضوء ممارسات الجيل الأول

تعتبر فترة الخلافة الراشدة عندنا أهل السنة الفترة الذهبية للإسلام بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام ، ومن ثم نولي وجوهنا شطرها ، ونتخذها نموذجاً وقدوة .

والذي لا شك فيه هنا أن تلك الفترة كانت بالفعل كذلك ، ومنزلتها في الفكر السياسي عند المسلمين جميعاً لا تنكر ، إذ أن وقائعها بحلوها ومرها هي التي صاغت الفكر السياسي عند كل الفرق الإسلامية بلا استثناء .

لكننا ـ حتى الآن ـ لم ننظر الى أحداث تلك الفترة نظرة تحليل موضوعية ، بل قدسناها ، وبنينا على أساسها معتقدات ، بصرف النظر عن موقف الإسلام ـ دخلت في صلب فكرنا السياسي

٤١
 &

الديني ، وشكلت أغلب ما لدينا من بضاعة في هذه السوق ، بل ليس بمبالغة أن نقول : إن ما لدينا اليوم أصداء لما وقع آنذاك ، رسخت في عقولنا الباطنة ، وغلبت على بؤرات شعورنا ، رغم بقائها في هوامشه .

ونحن من هذه العقائد على قسمين : قسم مطلع يقرؤها ويدرسها كنموذج أمثل ، فهو يعتقدها عن وعي ، ويذب عنها بربع أو ثلث علم . وقسم آخر يستمع دون تفحص ، ويردد بلا وعي . وكلا الفريقين عاطفي في موقفه وتصرفه وشعوره توجهه قداسة غير حقيقية لحوادث الجيل الأول بعد وفاة المؤسس الأعظم .

على أننا إذا كبحنا جماح العاطفة ـ قليلاً ـ وقلنا هلم نبحث الموضوع بطريقة الباحثين عن الحق ، انتهينا الى نتائج تخالف ـ دون ريب ـ تلك التي انتهينا إليها ونحن نتحدث تحت تخدير العاطفة .

ولئن كان الإسلام يذم الموقف الأول من القضايا الهامة ، ويحض على تبني الموقف الثاني ـ خصوصاً في قضايا سير الأوائل ، وقوانين الحضارة والعمران والسياسة والإجتماع ـ ويخاطبنا مئات

٤٢
 &

المرات ( أَفَلَا تَعْقِلُونَ ... ) ( فَلَا تُنظِرُونِ ... ) ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ... ) الى آخر ما نحفظه جميعاً من كتاب الله ، إلا أن الإتجاه السائد يتجه إلى غير هذا . ومع ذلك ، فهناك قليل ممن يريدون أن يسبحوا ضد هذا التيار ، استجابة للنداء القرآني الموجه الذي يضيىء لنا لجج البحر الذي تعالت أمواجه ، وصارت ظلمات بعضها فوق بعض . ورجائي من الكثرة أن تصبر علينا ونحن نسبح سباحة الباحثين عن الحقيقة حتى نتم شوطنا ، فإن أعجبتهم سباحتنا فلينزلوا معنا إلى البحر ليصدوا التيار ، وإن لم تعجبهم فليتركونا في حرية علَّنا نخرج لهم بلؤلؤة تنفعهم ، أو درة تضيىء لهم ولو بشعاع ، وليضعوها في متحفهم الى وقت قد يعم فيه الظلام فيبحثون فيه عن بصيص ضوء ، ويذكروننا حينئذ .

تعالوا إذن نستعرض أكبر الوقائع التاريخية التي سجلها لنا تاريخ العهد الذهبي في موضوع القيادة ، ونعيد قراءتها ، بعيداً عن العواطف ، قراءة مجردة ، وننظر ما تؤدي اليه من نتائج .

٤٣
 &

١ ـ بيعة أبي بكر ( رض )

توفي رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ، وانشغل بتغسيله وتجهيزه ودفنه بعض أهله كعلي بن أبي طالب ، وعمه العباس وولديه ، وبعض مواليه . وفي أثناء ذلك ، انشغل قسم آخر من الصحابة بحسم مشكلة القيادة على نحو رواه عمر بن الخطاب ( رض ) فقال : ( فلا يغرن أمراء أن يقول أن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ، وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة ، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها ، واجتمع المهاجرون الى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا الى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم ، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا نريد إخواننا من الأنصار ، قالا فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم ، فقلنا والله لنأتينهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة

٤٤
 &

وإذا بين أظهرهم رجل مزمل قلت من هذا ؟ قالوا سعد بن عبادة ، فقلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم فحمد الله وقال : أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا ، وقد دفت إلينا من قومكم دافة . فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعض الحد ، وكان هو أوقر مني وأحلم ، فلما أردت أن أتكلم قال : على رسلك ، فكرهت أن أعصيه ، فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه ، وقال : أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهل ، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لحيٍّ من قريش ، وهم أوسط داراً ونسباً ، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا

٤٥
 &

أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، فارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط فلما أشفقت الإختلاف قلت لأبي بكر : أبسط يدك أبايعك ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه المهاجرون والأنصار ، ثم نزونا على سعد حتى قال قائلهم قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت قتل الله سعداً . وإنا والله لم نجد أمراً أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد ) (١)

وقد روى المؤرخون قالوا :

( اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، وتركوا جنازة رسول الله يغسله أهله ، فقالوا نولي هذا الأمر بعد محمد سعد بن عبادة ، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض . . . فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر سابقة الأنصار في الدين ، وفضيلتهم في الإسلام ، وإعزازهم للنبي وأصحابه ، وجهادهم لأعدائه حتى استقامت

___________________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧ ، مصر ، ١٩٣٩ . صحيح البخاري : كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى من الزنا .

٤٦
 &

العرب ، وتوفي الرسول وهو عنهم راض ( أي سعد ) استبدوا بهذا الأمر دون الناس ، فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي ، وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت ، نوليك هذا الأمر ) (١)

سمع أبو بكر وعمر ( رض ) بذلك فأسرعا الى السقيفة ، وتكلم أبو بكر ( رض ) فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر سابقة المهاجرين في التصديق بالرسول دون جميع العرب ، وقال ( فهم أول من عبد الله في الأرض ، وآمن بالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم ) ثم ذكر فضيلة الأنصار وقال : ( فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ، ولا نقضي دونكم الأمور .

فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار أملكوا عليكم أمركم ، فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ، ولن يجتريء مجتريء على خلافكم ، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ، وينتقض عليكم أمركم ، فإن أبى هؤلاء ما سمعتم ، فمنا أمير ومنهم أمير .

___________________________

(١) الطبري : ٢ / ٤٥٦ .

٤٧
 &

فقال عمر : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن . . . والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم ، وولي أمرهم منهم ، ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مدلٍ بباطل ، أو متجانفٍ لإثم ، أو متورط في هلكة ؟

فقام الحباب بن المنذر وقال : يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الأمور ، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة .

قال عمر : إذن يقتلك الله . قال بل إياك يقتل .

فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار إنكم إن كنتم أول من ناصر وآزر ، فلا تكونوا أول من بدل وغير .

٤٨
 &

فقام بشير بن سعد أبو نعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين ، وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا ، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا ، فإن الله ولي النعمة علينا بذلك ، ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أحق به . . .

ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد ، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة ، لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم ) (١)

وفي رواية أخرى :

___________________________

(١) الطبري : ٢ / ٤٥٦ ـ ٤٥٨ . السيرة النبوية لابن هشام : ٤ / ٣٣٧ ـ ٣٣٩ ، القاهرة ١٩٣٧ .

٤٩
 &

( فقال أبو بكر هذا عمر وهذا أبوعبيدة فأيهما شئتم فبايعوا ، فقالا : والله لا نتولى هذا الأمر عليك . . . وقام عبد الرحمن بن عوف وتكلم فقال : يا معشر الأنصار إنكم وان كنتم على فضل ، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي ، وقام المنذر بن الأرقم فقال : ما ندفع فضل من ذكرت ، وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد ، يعني علي بن أبي طالب ) (١)

ولما كثر اللغط ، واشتد الإختلاف قال عمر لأبي بكر ( رض ) أبسط يدك أبايعك ، وتمت البيعة .

وفي رواية أن عمر ( رض ) قال مهدداً الناس إذا أخرجوا القيادة عن قريش ( والله ما يخالفنا أحد إلا قتلناه ) (٢)

ورفض سعد بن عبادة بيعة أبي بكر وقال حين أرسلوا اليه ليبايع ( أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل ، وأخضب

___________________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠٣ ، النجف ( العراق ) ١٣٥٨ هـ والموفقيات للزبير بن بكار : ص ٥٧٩ ، نقلاً عن معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري : ١ / ١١٧ ، ايران ١٤٠٦ هـ .

(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ٤ / ٣٣٨ .

٥٠
 &

سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ، فلا أفعل وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الأنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي ) فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ، ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم (١) وبقي كذلك حتى توفى أبو بكر وولي عمر . وقيل إن عمر أرسل اليه رجلاً في خلافة أبي بكر يدعوه الى البيعة فإن أبي فليقاتله ، فلما أبي سعد البيعة رماه بسهم فقتله . (٢)

وأما من رفضوا بيعة أبي بكر فتحصنوا في بيت السيدة فاطمة الزهراء وكانوا جماعة من بني هاشم ، وجمع من المهاجرين والأنصار بزعامة الإمام علي ( ع ) والعباس بن عبد المطلب ، وسلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي ذر الغفاري ، وأبي بن كعب ، وغيرهم ، رضي الله عنهم .

___________________________

(١) الطبري : ٢ / ٤٥٩ .

(٢) أنساب الأشراف للبلاذري : ١ / ٥٨٩ ، مصر ١٩٥٩ م ، العقد الفريد لابن عبد ربه : ٤ / ٢٦٠ ، مصر ١٩٤٤ م .

٥١
 &

وقد روت هذه الواقعة كتب السير والتاريخ والصحاح والمسانيد ، ومنهم من صرح بما جرى فيها ومنهم من تعامى عنها . وممن صرح ببعض ما جرى البلاذري فقال ( بعث أبو بكر عمر بن الخطاب الى علي رضي الله عنهم حين قعد عن بيعته وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلما جرى بينهما كلام فقال ( أي علي ) أحلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غداً ) (١)

وذكر المؤرخون أن أبا بكر أرسل جماعة ، منهم عبد الرحمن بن عوف ، وخالد بن الوليد ، برئاسة عمر بن الخطاب ( رض ) ليخرجوهم من بيت فاطمة ، وقال لهم ان أبوا فقاتلوهم ، فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة فقالت : يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟ قال نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة (٢) واقتحموا دار سيدة نساء العالمين بنت

___________________________

(١) أنساب الأشراف : ١ / ٥٨٧ .

(٢) العقد الفريد : ٤ / ٢٦٠ ، تاريخ أبي الفدا : ١ / ١٥٦ ، مصر ١٣٢٥ هـ ، الطبري : ٢ / ٤٤٣ ، أنساب الأشراف : ١ / ٥٨٦ ، الرياض النضرة للمحب الطبري : ١ / ٢١٨ ، مصر ١٩٥٣ م . تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠٥ وفيه أن عمر صارع علياً بسيفه فصرعه وكسر سيفه .

٥٢
 &

رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام لملاحقة المعارضين وقتالهم وتحريقهم بالنار حتى يبايعوا أبا بكر قسراً !

وبقي علي وبنو هاشم لم يبايعوا أبا بكر ستة أشهر حتى توفيت السيدة فاطمة عليها سلام الله غاضبة على الشيخين ، وانصرف الناس عن علي ( ع ) فضرع الى مبايعة أبي بكر .

هذا ما هو مسطور في تراثنا عن أول أزمة سياسية ودستورية واجهتها الدولة الوليدة يوم وفاة مؤسسها . فلو صحت هذه الروايات ، وربطنا بين ماضينا وحاضرنا ، استطعنا أن نرى بصماتها مطبوعة واضحة في حياة المسلمين عامة ، لأنها شكلت ـ وما زالت ـ خلفية الشعور لدى جميع المسلمين .

وإذا نظرنا الى هذه الأزمة الدستورية بعين السابحين ضد التيار ، الباحثين عن منهج سياسي في الإسلام ، رأينا فيها ما لا يراه أرباب العواطف الموجهة . فأول ما نراه فيها أن بيعة أبي بكر ( رض ) لم تتم في ظروف عادية بل تمت دون أن يعلم بها الناس جميعاً ، أو على الأقل جميع أكابر الصحابة ، أو حتى زعماء الإتجاهات السياسية الموجودة في المجتمع كلهم ، فقد اجتمع في

٥٣
 &

السقيفة نفر من الأنصار ليبت في أمر القيادة في غياب الآخرين ، ثم لحق بهم نفر من المهاجرين لينافسوهم ويمنعوا القوة السياسية الأولى من الإنفراد بالقيادة . ولم يعلم بالأمر أكبر وأهم قوة سياسية ودينية آنذاك وهي بنو هاشم وآل بيت القائد المؤسس ، بعد أن انتهز هذا النفر القليل من المهاجرين والأنصار انشغالهم بتغسيل وتكفين الرسول القائد ، وتم ما تم دون إعلام الناس ، وبغير انتظار لتهدأ مشاعر الأمة ، وقد حلت بها كارثة غياب رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ، القائد الذي لا يملأ فراغه أحد .

فالسياق العام الذي تمت فيه هذه البيعة التي حددت القيادة بعد رسول الله لم يكن طبيعياً ، ولا يمكن أن تستريح له أنفس الناس باحثين وغير باحثين .

ثم إن القوم لم يتفقوا على مرشح بعينه في السقيفة ( فكثر القول حتى كاد يكون بينهم في السقيفة حرب ، وتوعد بعضهم بعضاً ، فوثب عمر فأخذ بيد أبي بكر ) (١) بل إن في رواية عمر نفسه ما يدل على أن بيعة أبي بكر ( رض ) تمت في ظروف غير

___________________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام : ٤ / ٣٣٨ ، الرياض النضرة : ١ / ٢١٤

٥٤
 &

طبيعية ، وبطريقة غير طبيعية ، وذلك حين قال ( فارتفعت الأصوات وكثر اللغط ) أي أنه ـ كما رأينا ـ بعد عرض مرشح الأنصار للأسباب التي اعتقد على أساسها استحقاق حزبه بالقيادة ، ثم عرض أبي بكر ( رض ) لأحقية المهاجرين بها ، ولم تسفر هذه المداولات عن اتفاق الموجودين وهم نفر قليل من الأمة على شخص يتصدى للقيادة ، بل ارتفعت الأصوات تتنازع ، فانتهز عمر ( رض ) هذا الفرصة وحسم الأمر بالطريقة التي تحسم بها الصفقات والمزادات في الأسواق ، وهو ما أكسبته المهنة إياه ، إذ كلنا يعرف أنه ( رض ) كان سمساراً يعقد الصفقات في الأسواق ، ومال معه المؤيدون لأبي بكر ، ووجد الآخرون أنفسهم في مأزق ، فبايع منهم من بايع ورفض من رفض . ولذلك اعتبرها عمر ( رض ) نفسه فلتة غير أن الله وقى شرها (١) كما اعتبرها الضحاك بن خليفة ( فلتة كفلتات الجاهلية ) (٢)

___________________________

(١) الطبري : ٢ / ٤٤٦ .

(٢) نفس المصدر : ٢ / ٤٥٩ .

٥٥
 &

ولما رأى أبو بكر ( رض ) نفسه أنه لا إجماع على أحد من الموجودين ، عرض تقسيم السلطة بينهم وبين الأنصار فقال ( نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ولا نقضي دونكم الأمور ) (١) وهو ما رفضته الأنصار ، ورأت المشاركة المتساوية في الحكم ( منا أمير ومنكم أمير ) .

ولأن السياق الذي تمت فيه البيعة ، والطريقة التي حسمت بها القيادة لم تكن مقنعة ، ندم أبو بكر ( رض ) على تقمصها حين حضرته الوفاة اقتضاء لطبيعة النفس البشرية ، وتمنى لو سأل رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام عمن ينبغي أن تؤول له القيادة بعد وفاته (٢) فإن صحت هذه الرواية فهي دليل على أنه هو نفسه كان في شك من أحقيته بالقيادة بعد رسول الله عليه وآله أفضل الصلاة والسلام .

___________________________

(١) نفس المصدر : ٢ / ٤٥٨ .

(٢) نفس المصدر : ٢ / ٦١٩ ـ ٦٢٠ .

٥٦
 &

ثانياً : إن الذين اجتمعوا في السقيفة ـ إن صحت روايات المؤرخين ـ لم يضعوا الإسلام ولا نظرية الدولة وفكرها ، ولا حتى مصلحة الأمة العامة هدفاً أمامهم وهم يحسمون قضية القيادة ، بل قدم كل منهم نفسه على أنه ( مهاجر ) و ( أنصار ) ثم وصل الأمر ببعضهم أن طالب بطرد المهاجرين من المدينة ، مثلهم مثل زعماء الجاهلية قديماً وحديثاً . فمن نابوا عن قريش تحدثوا باسمها وبمنزلتها في الإسلام ، ومن مثلوا الأنصار سلكوا نفس السبيل ، ثم برزت في السقيفة الأحقاد القبلية القديمة التي كان من المفروض أنها دفنت تحت الأقدام في ظل الإسلام وتعاليمه ، وإذا بالأوس تنضم الى قريش نكاية في الخزرج وزعيمها ، لأنها خافت أن تؤول القيادة اليها فتسبقها في الفضل .

ثالثاً : إن رأي الأمة أو الجمهور لم يستطلع أصلاً في مسألة تعيين القيادة ، وإنما قرر مصير الأمة كلها نفر قليل ـ مائة أو أقل أو أكثر قليلاً بقدر ما تتسع السقيفة ـ تزعم النقاش منهم خمسة أفراد فقط ، وقرروا مستقبل الشعب والدولة .

٥٧
 &

وقد يصرخ أحدنا غاضباً ويقول : يا أخي ، لقد كانوا أهل عقد وحل ، فأقول : ألم يكن في الناس غيرهم أهل عقد وحل ؟ فلماذا لم ينتظروا إخوانهم ليشاركوهم الرأي ؟ ثم كونهم أهل عقد وحل ليس عليه دليل من كتاب أو سنة ، لأن هذا الإصطلاح من نحت مشايخنا ومؤرخينا الذين كتبوا في هذا الموضوع بعد قرون لتبرير هذه الوقائع ، والأولى بنا أن نعيد النظر في هذه التحديدات والآراء السلطانية الموروثة التي نرددها بلا وعي .

والخلاصة أن السلوك الذي سلكته القدوة في السقيفة من تجاهل لرأي الناس لأنهم رعاع وغوغاء ، كما وصفهم بذلك عبد الرحمن بن عوف (١) وعدم اعتبار رأيهم ، والإكتفاء برأي النخبة في حسم القضايا المصيرية ، وعدم إعطاء كل فرد حقه في التعبير عن رأيه بحرية . . كل هذا ورثناه وتشربته أنسجة مجتمعاتنا سداتها ولحمتها ، وانسكب في أصلابنا جيلاً بعد جيل ، فإذا بكل أمورنا تقررها طغمات تدبر أنظمة ، أو نخبات تقود أحزاباً

___________________________

(١) الطبري : ٢ / ٤٤٥ . ابن هشام : ٤ / ٣٣٦ .

٥٨
 &

ومنظمات ، دون أخذ بما يجيش في نفوس القاعدة العريضة التي يقوم عليها بناء المجتمع .

إن ما حدث في السقيفة ـ إذا نظرنا إليه بعين الخائضين في السياسة وأردنا تقديمه إلى الناس في القرن العشرين ـ لا يمكن اعتباره إجراءً سليماً يتفق ومباديء الإسلام السياسية ، لأنه لم يعط صوتاً لكل مواطن بل أعطى صوتاً لكل قبيلة حضرت ، دون معاملة بقية القبائل والقوى السياسية الأخرى بنفس المعاملة ، ومن ثم تجاهل القطاع الأعرض من الشعب ، وحرمهم حقهم في المشاركة في اتخاذ القرار واختيار القيادة .

رابعاً : إذا أخذنا بشروط الأهلية التي ذكرها كل من أبي بكر وعمر ( رض ) لمن ينبغي أن يكون في منصب القيادة بعد رسول الله عليه وآله السلام ، وجدنا أنها لم تكن تنطبق على أي منهما قدر انطباقها على آل البيت ، فلقد قال أبو بكر ( رض ) ( وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لحي من قريش وهم أوسط داراً ونسباً ) (١) وقال ( أول من عبد الله في الأرض وهم أولياؤه

___________________________

(١) الطبري : ٢ / ٤٤٦ . ابن هشام : ٤ / ٣٣٩ .

٥٩
 &

وعشيرته (١) وقال عمر ( رض ) ( العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ، ووليُّ أمورهم منهم ، ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مدلٍ بباطلٍ أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة ؟ ) (٢)

فإن كانت هذه شروط الأهلية كان الأولى بالقيادة بعد محمد آل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام ، إذ لم يكن في العرب أوسط منهم داراً ونسباً ، وكانوا هم أولياء النبي وعشيرته ، وفيهم النبوة والقيادة ، وبيتهم مهبط الوحي ومحف الملائكة .

ثم إن مقالة عمر ( رض ) بذاتها تثبت أن من نازع من هم بهذه المواصفات منصب القيادة فهو ( مدل بباطل ومتجانفٍ لإثم ومتورط في هلكة ) أفلا ندرك ما في هذه العبارة من معان ؟

إن مرشح الأنصار لم يكن بالشخصية التي يجمع عليها المسلمون آنذاك ، كما لم تكن شروط الأهلية المذكورة متوفرة في

___________________________

(١) الطبري ، نفس الموضع .

(٢) نفس المصدر : ٢ / ٤٥٧ .

٦٠