الإمامة والقيادة

الدكتور أحمد عزّ الدين

الإمامة والقيادة

المؤلف:

الدكتور أحمد عزّ الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-021-8
الصفحات: ٢١٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

فما موقفنا من هذه الإنقلابات ومن يفعلها ، بشرط أن يكون موقفا متسقاً مع تاريخنا وإسلامنا ، لأننا إذا آمنا بما فعله معاوية ، ثم أدانت أجيالنا الإنقلابات العسكرية كطريق للوصول الى السلطة وأخذ القيادة ، وقعنا في تناقض يعطي من قام بالإنقلاب فرصة ليقول : والله أسوتي في ذلك معاوية ، وأنتم لستم بأعلم منه ولا تعتقدون بخطئة . فماذا نقول له ؟

ثالثاً : أننا لا نستطيع اعتبار طريقة معاوية شكلاً من أشكال الإسلام ، ثم في نفس الوقت نؤمن بعدم شرعية النظم التي تركبنا ، خصوصاً في الدول العربية ، لأن كل هذه النظم في حقيقة الأمر امتداد لنظام معاوية تستمد منه شرعيتها في الإستيلاء على قيادة الأمة ، وتقتدي به .

وقد يقول أحدنا : يا عزيزي إن عدم شرعيتها في أنها لا تطبق الإسلام ولا تحكم بما أنزل الله ، فأقول : قد فعلها النميري من قبل وضياء الحق ، فهل صارت نظمهما إسلامية ؟ وأين الإسلام الذي طبقوه ، ولماذا لم يستمر بعدهم .

١٢١
 &

إن هذه الجنينية في التفكير ـ التي تزعم أن الحاكم إذا شرع في تطبيق الإسلام ، وجب علينا أن ندعوه أمير المؤمنين بصرف النظر عن طريقة وصوله الى القيادة ـ لو تمسكنا بها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، لأن الشرعية شيء آخر ولها معايير مختلفة ، وهو ما قد أشير اليه في الباب القادم .

نحن إذن أمام معضلة وعلينا حلها : إما أن يكون أسلوب معاوية وأفعاله خطأ ، وبالتالي فالأنظمة التي تركبنا اليوم في العالم العربي والإسلامي خطأ وغير شرعية . وإما أن نعتقد صحة طريق معاوية ، ولا نستطيع أن نمس هذه الأنظمة بسوء ، وتكون كلها على صواب وشرعية ، وإياكم وأن تفتحوا فمكم بكلمة ضدها .

يقول معاوية لسفيان بن عوف الغامدي أحد قادته العسكريين ، وقد بعثه ليغير على المسلمين في العراق :

( إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم ، وتفرح كل من له هوى فينا منهم ، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر ، فاقتل كل من لقيته ممن ليس على رأيك ، وأخرب كل

١٢٢
 &

ما مررت به من القرى ، وأحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب ) (١)

هذا مثل من آلاف الأقوال والسياسات التي أثرت عن معاوية ، وحفظتها لنا كتب التاريخ ، فماذا لو اقتدى بها حكامنا ، أنغضب ونسب ونلعن ؟ وإذا قالوا : إن لنا في معاوية أسوة حسنة وقد سبقنا إليها ومعه أكثر الصحابة ، وما اعترض عليه أحد من كبارهم وهم أهل العقد والحل ، فماذا نقول لهم ؟

وإذا راق للبعض أن يقولوا إن الجيل الأول كانوا صحابة ، أما نحن فلسنا بصحابة . قلنا أفنزلت الشريعة سواء للكل وفي كل العصور ؟ أم استثني الصحابة من أحكامها ؟ أم أن لدينا شريعتين أحدهما للصحابة والجيل الأول والثانية للمسلمين من الدرجات الثانية والعاشرة أمثالنا ؟ فإن كان لدينا دليل على أن ما ينطبق علينا لا ينطبق على الصحابة فأين هو ، هاتوه ففيه حل جميع المعضلات .

___________________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الشافعي : ٢ / ٨٥ ـ ٨٦ .

١٢٣
 &

إن وصول معاوية إلى قيادة خير أمة لم يكن غير نتيجة منطقية لأزمة القيادة التي ألقى الأمة والدولة في دوامتها نفر من كبار الجيل الأول ، لاعتبارات آخر ما فيها مصلحة الدين والدولة ، فظلت مخالفاتهم تتعاظم يوماً بعد يوم حتى وجد المسلمون أنفسهم بين أنياب بني أمية ، ومنذ ذلك الحين ونحن نتوارث هذه السياسات ، يحكمنا بها الطواغيت ، فيركبوننا ويقضون علينا مآربهم ، ونستكين لهم بهذه السياسات ، لا فرق بين ماضينا وحاضرنا ، فما نراه اليوم ليس إلا صورة عصرية مما ارتكبه الأوائل ومارسه السلف ، وليس من سبيل الى إصلاح الحاضر إلا بالوقوف موقفاً محدداً من هذا الماضي ، ورفض ما خالف ومن خالف فيه أحكام الإسلام ، وهي واضحة جلية من أجل أن نعرف رأسنا من أرجلنا ، على الأقل قبل قليل من يوم القيامة .

لكن مصيبتنا السوداء أننا نعيش على فتات ماضينا ، نلوك حوادثه ، ونمضغ سيرة السلف دون أن نزيل عنها ما علق بها ، فيتحول كل هذا في دمائنا أفيوناً وبلادةً ، دون أن نحس ، لأن

١٢٤
 &

هذه الوقائع قد حولت الى معتقدات تقدم لنا ملفوفة في أوراق إسلامية ، حملت أسماء مشاهير ، وما طبعت إلا في مطابع السلطة .

هذه هي وقائع تاريخنا التي صاغ على أساسها فلاسفتنا ومفكرونا ما صبوه فينا من فكر سياسي . وليتهم تركوا لنا الخيار لنزن ما يقولونه وما يقوله المعارضون للسلطة ، بل شنوها حرباً شعواء على من عارض السلطان ، ورموهم بما ليس فيهم ، وكفروهم ، فإذا المسلم اليوم لا يطيق أن يسمع رأياً معارضاً ، ولا يرى بين المسلمين مسلماً إلا نفسه وفرقته ، ولا يرى الإسلام والعقيدة الصحيحة إلا في أقوال ابن فلان وابن فلان ، فاتسعت الشقة بين من يعارضون ( فكر السلطة ) ونظرياتها في الحكم والسياسة ، وبين الأغلبية العظمى التي تردد بلا وعي ( فكر السلطة ) وتريد في نفس الوقت أن تصل الى السلطة وتسقط الأنظمة وتبيد الطواغيت .

*       *

١٢٥
 &

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEEmamah-Qyadahimagesrafed.jpg

١٢٦
 &

فكرنا السياسي إسلامي أم سلطوي ؟

هذه الأحداث التي ذكرناها في الفصل السابق باختصار ، هي أهم جزء في تاريخنا السياسي ، ومن هنا فليس بمستغرب أن تكون هي الأعمدة التي قام عليها صرح ما لدينا من فكر سياسي ودستوري نسبناه للإسلام .

كما أن هذه الاحداث العظيمة كان لها أسوأ الاثر على كيان الأمة الواحدة ـ وهي خير أمة ـ لأنها قسمتها ثلاثة قطاعات :

قطاع استولى على السلطة ـ بهذه أو تلك من الطرق ـ على النحو الذي رأيناه ، وبالممارسات التي سجلتها لنا كتب الحديث والتاريخ . وقطاع آخر معه شيء آخر كان ينبغي سماعه ودراسته ولا زال . وهؤلاء حرموا حق التعبير عن أنفسهم في شكل كيان

١٢٧
 &

سياسي مستقل ، وحوصروا إعلامياً واقتصادياً ، ثم قتلوا وشردوا وذاقوا الأمرين ، فبقوا في زوايا التاريخ متمسكين بما عندهم ، ثابتين عليه معارضين لكل النظم ، شاعرين بأن الحق معهم لكنه سلب ، فكان ذلك سبب انهيار الدولة .

وقطاع ثالث رأى تنافس القطاع الأول ، واستئثاره على الآخرين ، فظل ينظر الى الكبار وأفعالهم وممارساتهم ، ويتأسف لها ولا يبدي رأياً ، وساعده على الإعتزال قوة شوكة الكبار من الفريق الأول ، وعدم اشراكهم له في شيء له فيه حق . وهؤلاء هم العامة من الناس .

وظل الوضع على هذا . نعم كان من هم في السلطة يشعرون بخطر المعارضين ، لكنهم لم يقاوموهم فكرة بفكرة ، إذ جعلتهم قوة الحكم والسلطان في غير حاجة لفكر متين ، فأسفر ذلك عن أمور :

الأول : أن الفكر السياسي عند أهل السنة بدأ متأخراً جداً إذا قورن بفكر شيعة أهل البيت الذين بقوا في المعارضة . ولما قرر علماؤنا أن يكتبوا في السياسة والدستور وجدوا أن هذا العلم قد

١٢٨
 &

تبلور واستوى ووضعت مصطلحاته ـ في غفلة منهم ـ على يد أنصار أهل البيت المعارضين ، فلما شمروا عن سواعدهم وسيقانهم ليخوضوا في هذا البحر ، وتكلموا فيه ، جاء كلامهم سطحياً وكتاباتهم غير مؤصلة .

الثاني : أن علم السياسة عندنا أهل السنة ، ما كان يملك نظرية سياسية واضحة قائمة برأسها يتخذها أساسا لما يريد أن يتكلم فيه ، ومن ثم جاءت كتابات من كتبوا فيه رد فعل لآراء المعارضين ، فبدت كأنها إجابات ـ مجرد إجابات ـ لرد أقوالهم ، وسد الخانات بأي شكل وأي كلام .

وأول من تكلموا في هذا العلم عندنا كالماوردي ، وأبي يعلى ، وابن العربي المالكي ، وابن خلدون ، والجويني ، وغيرهم ، عاشوا في حدود القرنين الرابع والخامس الهجري ، وكان الآخرون قد سبقوهم بأربعة قرون على الأقل هي نفس الفارق في النضج السياسي اليوم بين أتباع المدرستين .

الثالث : أن هؤلاء العلماءلم يحاولوا تأسيس نظرية مختلفة ، ولكن نحوا منحى خطيراً للغاية اذ أسسوا كتاباتهم على أربعة أسس :

١٢٩
 &

الأول : المصادقة على الأمر الواقع ، واعتبار أن نتائج الأحداث التي وقعت هي عين ما كان ينبغي أن يكون ، بل وهي الاسلام ونظريته السياسية .

الثاني : أنهم في تأييد ذلك فتشوا في القرآن والحديث عن نصوص فأولوها تارةً ولووا أعناقها تارة ليلائموا بينها وبين الأحداث ، بصرف النظر عن موقف الاسلام الحقيقي .

وهذه العملية التي مارسوها لأسلمة وقائع ونتائج ربما كانت غير إسلامية أجبرتهم على تفصيل حلل وأثواب من الأدلة الواهية ، فأدى ذلك الى أمرين ، الأول : إضفاء القداسة على أحداث التاريخ البشري الخاص بتلك الحقبة ، فاعتبرناه عبر أجيال طويلة جزءً من الدين له قداسته واحترامه بكل ما فيه ، ولو كان مخالفا للدين في بعض الأحيان . والثاني : أن كتاباتهم ـ أودعنا نقول ما قدموه من نظرية سياسية إسلامية ـ جاءت تبريرية تهيىء للحكام ـ كل الحكام صالحهم وفاسدهم ـ أدلة شرعية لتبرير أفعاله ، ولعل لافتة ( الاجتهاد ) التي لصقوها على أفعال الحكام جميعاً منذ وفاة

١٣٠
 &

الرسول عليه وآله الصلاة والسلام حتى العصر العباسي هي أوضح نموذج لهذه الأدلة التبريرية ، مع التغاضي عن موقف الاسلام الصحيح خلال كل هذه الممارسة .

وحملنا معنا هذا كله في أوردتنا وشرايينا ، وتناقلته خلايانا الوراثية عبر قرون وقرون ، فإذا بحكام اليوم يرتكبون الأخطاء ، فتوقع المعاهدات اللا إسلامية مثلاً ، أو تستدعي قوات الإحتلال من هنا وهناك ، ثم تجدنا نتساءل بين أنفسنا : وما حكم الاسلام في هذا ؟

وتجدهم ـ وهم أصلاً حكام وأنظمة غير شرعية ـ يلجؤون الى العلماء ـ إن صح تسميتهم بهذا ـ ويطلبون منهم التبريرات ، فإذا بمشايخنا يخرجون من بطون الكتب ما شاءوا ويفصلون للافعال غير الإسلامية أثواباً إسلامية ، مزينة بآيات من القرآن وأحاديث الرسول .

إنها عملية متصلة منذ قديم ، فكما فعلوا في الماضي يفعل أمثالهم في الحاضر . فإن قلتم إن أهل الحاضر يقلدون أسلافهم ، قلنا فمن كان قدوة الأسلاف ؟

١٣١
 &

إن المسألة معكوسة تماماً ليس فيها تقليد بل هي مدرسة فكرية ، واتجاه سياسي توارثناه ، لأن طبيعة الفكر السياسي عندنا تبريرية ، هدفها التعايش مع الواقع ومع كل الأنظمة أياً كان نوعها .

الثالث : أنهم فهموا الشرعية القانونية بمفهوم سقيم ـ وإن كان له مؤيدوه في العصر الحاضر ـ فاعتبروا التمكن هو الشرعية ، والقيادة المتمكنة هي القيادة الشرعية ، بصرف النظر عن طريق تمكنها ، وأسلوب وصولها . فإذا وصل رجل ما ـ أي رجل ـ الى مركز القيادة ، وتمكن من أعنة الحكم ، فهو حاكم شرعي وقيادة شرعية نتعامل معها على النحو الذي يأمر به الاسلام ، فيصبح واجبنا السمع والطاعة ، ويصبح أسلوب وصوله إسلامياً .

وهذا سفه فكري ، لأن الشرعية في جميع قوانين الأرض والسماء غير التمكن ، فالشرعية تقوم على مواصفات إن وجدت أصبح الشيء شرعياً ، وإن لم تتوافر هذه المواصفات فلا يصبح الشيء أو النظام شرعياً ، مهما بلغ حجم التأييد فيما بعد ، لأن وجود الشيء بالفعل لا يعني شرعيته .

١٣٢
 &

ولو سلمنا بوجهة نظر هؤلاء كان علينا الإعتراف بأن كل الأنظمة التي تركبنا اليوم شرعية لا غبار عليها ، لأنها متمكنة من السلطة ، وهذا رأي فاسد .

على أن ضمير الأمة ووجدانها الاجتماعي والديني ظل يرفض هذه النظرية ـ ولا زال ـ ومن هنا وجدنا في العصور الأولى من كان يعرف اصطلاحاً بـ ( الامام بالفعل ) و ( الامام بالحق ) فالأول هو الشخص المتمكن من السلطة فعلاً ولديه القوة ، والثاني هو الإمام الشرعي الذي كان ينبغي وجوده في السلطة ولم يحصل ، وعادة ما كان الناس يوالون الثاني ويلتفون حوله ويحترمونه ، رغم كونه لا حول له ولا قوة .

وأمثلة هذا في السير والتاريخ كثيرة لا داعي لذكرها هنا فإني أخشى الإطالة .

إن السلطة ـ أي سلطة ـ حقيقة واقعية ملموسة وموجودة أمام الناس بأشكال مختلفة ، لكن شرعيتها ليست في مجرد كونها كذلك أو في وجودها الفعلي في حيز الزمان والمكان ، بل في كونها

١٣٣
 &

جاءت بالطريق الشرعي وتمثل الإرادة العامة لأفراد المجتمع ، والعقل العام للمجتمع من حيث هو مجموعة أفراد ينتمون الى نظرية ما ، بشكل أو آخر .

وكان من نتائج الاقتصار على اعتبار الشرعية مرادفاً لمجرد الوجود مهما كانت طريقة تحقيق هذا الوجود ، أن وقع الإنفصام بين المجتمع وبين السلطة على مدى تاريخنا الإسلامي . ولا زلنا نرى هذا الإنفصام حقيقة شاخصة أمامنا ، لأن المذهب السياسي هو بعينه لم يتغير بعد ، ويعتمد ـ كما كان من قبل ـ على المعيار الصوري للشرعية لا المعيار الموضوعي لها . فهناك دساتير رسمية أقرتها وتقرها المجالس النيابية المختلفة المنتخبة ، وهناك هيئات تشريعية تسن القوانين وتضع القواعد ، وهناك أحزاب وصحف ومنابر ، لكن هذا كله غير مبني على المعيار الموضوعي للشرعية ، وهو ما يعتمد على أمرين ، أولهما : أن يكون هذا كله نابعاً من العقل العام والإرادة العامة للمجتمع ، فما أسهل تلفيق الدستاتير وطبخ القوانين وتزوير الإنتخابات والإستفتاءات .

١٣٤
 &

وثانيهما ـ وهو الأهم ـ أن تكون خلف هذا كله نظرية هي في ذاتها شرعية ، فإن كانت هناك نظرية شرعية ، أو قل مشروعة ، ثم اتخذت إجراءات شكلية لتسيير الأمور لا يتوفر فيها المعيار الموضوعي للشرعية ، أدَّى ذلك الى مهالك أقلها انفصام المجتمع وعقله ومزاجه العام عن السلطة الحاكمة ، فتصبح هي في واد والشعب في واد .

الرابع : أنهم وضعوا لأسلمة الأحداث والإجراءات التي رأيناها وإضفاء الشرعية عليها أساساً واهياً هو عدم اعتراض الناس أو من أسموهم اصطلاحاً بالجمهور . أي أن سكوت أفراد المجتمع على شيء يعنى شرعيته ، وهو أساس مختل ، لأن أسباب السكوت قد تكثر وتتنوع ، فربما سكت الناس بسبب الإنفصام بينهم وبين السلطة ، أو بحكم القوة ، أو بفعل الخوف ، أو ربما الجهل ، أو سلبية التعبير عن الرفض ، أو ربما غير ذلك ، وهذا كله يتشكل في هيئة سكوت .

فالسكوت إذن ليس دليلاً على الرضا أبداً .

١٣٥
 &

ثم اذا أخذنا بهذه القاعدة الآن كان علينا التسليم بشرعية كل النظم التي تركبنا ، لأن الناس أو على الأقل الأغلبية الساحقة ساكتة لا تتحرك ضدها . وأساس السكوت هذا تعتمد عليه هذه الأنظمة في إثبات شرعيتها للعالم الخارجي ، وكلنا يعرف أسباب السكوت ، لكنه يؤمن بعدم شرعيتها .

هذا النقد ليس تجنياً

هذا النقد المختصر لمذهب من كتبوا لنا في التاريخ والسياسة منذ القدم ، ونسبوا مقالاتهم للاسلام ليس تجنياً عليهم ، ولا من باب تحويل الحبة الى قبة ، بل هو بالفعل منهج مدون مطبق ، وفي سبيل إثباته أستعرض هنا شيئاً من آراء بعضهم فيما يخص موضوع الكتاب ـ أي القيادة أو ما أطلقوا عليه اصطلاح الإمامة والخلافة ـ وهو موضوع واحد فقط من موضوعات علم السياسة . فالقيادة عندهم ( تنعقد من وجهي أحدهما باختيار أهل الحل والعقد ، والثاني بعهد الإمام من قبل . فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم

١٣٦
 &

على مذاهب شتى . فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ، ليكون الرضا به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها ، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها .

وقالت طائفة أخرى : أقل ما تنعقد به الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين أحدهما أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثم تابعهم الناس فيها وهم : عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم .

والثاني : أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة .

وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ، ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين .

١٣٧
 &

قالت طائفة أخرى تنعقد بواحد . (١)

وأوضح امام الحرمين عبد الملك الجويني هذه النقطة فقال ( لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع بل تنعقد الإمامة وإن لم نجمع الأمة على عقدها . والدليل عليه أن الإمامة لما عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ، ولم يتأن لانتشار الأخبار الى من نأى من الصحابة في الأقطار ، ولم ينكر عليه منكر ، ولم يحمله على التريث حامل ، فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة ، لم يثبت عدد معدود ولا حد محدود ، فالوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد ) (٢)

وقال القرطبي في معرض تفسيره لقوله تعالى ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت . . . ودليلنا أن عمر عقد البيعة لأبي بكر ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك . . . قال الإمام أبو المعالي : من انعقدت له

___________________________

(١) الأحكام السلطانية للماوردي : ص ٥٠٤ .

(٢) الإرشاد للجويني : ص ٤٢٤ ، مصر ١٣٦٩ هـ .

١٣٨
 &

الإمامة بعقد واحد فقد لزمت ، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر ، قال : وهذا مجمع عليه (١) ( وكرر نفس الكلام القاضي عضد الدين الايجى ) . (٢)

( وأما انعقاد الامامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الاجماع على جوازه ، ووقع الإتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما . أحدهما : أن أبا بكر رضي الله عنه عهد بها الى عمر رضي الله عنه ، فأثبت المسلمون إمامته بعهده ، والثاني : أن عمر رضي الله عنه عهد بها الى أهل الشورى ، فقبلت الجماعة دخولهم فيها ، وهم أعيان العصر اعتقاداً بصحة العهد بها . . . والصحيح : أن بيعته منعقدة ، وأن الرضا بها غير معتبر ، لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة ، ولأن الإمام أحق بها ) (٣)

___________________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٢ ، مصر ١٣٨٧ هـ .

(٢) المواقف : ٨ / ٣٥١ ـ ٣٥٣ ، مصر ١٣٢٥

(٣) الماوردي : ص ٨ .

١٣٩
 &

( وان كان ولي العهد ولداً أو والداً فقد اختلف في جواز انفراده بعقد البيعة ) (١) وساق الماوردي ثلاثة آراء بعضها يجيز بلا شرط ، وبعضها يجيز بشرط ، والحاصل : أنه يجوز عقد الإمام البيعة لولده ووالده . ( فأما عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبه ، فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرده بها ) (٢) أي لا إشكال فيه .

( ولو عهد الخليفة الى اثنين أو أكثر ، ورتب الخلافة فيهم فقال : الخليفة بعدي فلان ، فإن مات فالخليفة بعد موته فلان فالخليفة بعده فلان ، جاز ، وكانت الخلافة منتقلة الى الثلاثة على ما رتبها . . . فقد عمل بذلك في الدولتين ( يقصد بني أمية وبني العباس ) من لم ينكر عليه أحد من علماء العصر ، هذا سليمان بن عبد الملك عهد الى عمر بن عبد العزيز ، ثم من بعده الى يزيد بن عبد الملك . . . وقد رتبها الرشيد رضي الله عنه ( كذا ) في

___________________________

(١) نفس المصدر ، نفس الصفحة .

(٢) نفس المصدر ، ص ٩ .

١٤٠