الإمامة والقيادة

الدكتور أحمد عزّ الدين

الإمامة والقيادة

المؤلف:

الدكتور أحمد عزّ الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-021-8
الصفحات: ٢١٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

من ذلك وطاقتي ، لأن هذا يعجب عبد الرحمن . ثم قال لعثمان أن يقول نعم ، لأن ذلك سيجعله فيك أرغب .

ومع أنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية لأن شخصية الإمام علي ( ع ) لم تكن بهذا الضعف ، كما لم تكن شخصية انتهازية ترضى بسلوك أي وسيلة لتصل الى غايتها ، وتجلس في السلطة ، وهو الزاهد الذي كان يرى الدنيا بأسرها أهون من عفطة عنز ، إلا أن الرواية ، بافتراض صحتها ، تشير الى أن الأمر لم يخل من خداع .

وسواء كانت لعبة الشورى ، أم مشورة عمرو ، فالقرار الذي أصدره الإمام علي ( ع ) بشأن كل ما حدث في تولية عثمان أنه ( خدعة وأيما خدعة ) (١) أما معاوية فقال عن شورى عمر فيما بعد ( لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر الى ستة نفر ) (٢)

___________________________

(١) الطبري : ٣ / ٣٠٢ .

(٢) العقد الفريد : ٤ / ٢٨١ .

١٠١
 &

ولأنها كانت كذلك ولم تكن صافية بلا شوائب ، أدت الى ما نعرفه من حوادث ، وكما ندم أبو بكر ( رض ) على تقمصها ندم عبد الرحمن بن عوف على فعله حتى قال لعلي ( ع ) ( إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفي فإنه خالف ما أعطاني وروي كذلك أنه قال لبعض الصحابة في المرض الذي مات فيه ( عاجلوه قبل أن يطغى ملكه ) (١) وعاش عبد الرحمن بن عوف لم يكلم عثمان أبداً حتى مات (٢)

تلك هي بيعة عثمان أو الشكل الثالث من أشكال تعيين القيادة في جيل حمل الرسالة ، فاقتدينا به . فإن جاء أحد ممن نطأطيء لهم فيركبوننا كالمطايا ، وتأسى بهذه الأسوة وأتى من الأفعال ما تشابه وأفعال قدوتنا ، فكيف نوقفه عند حده ، وكيف نمنعه ، ما دامت هذه الممارسات تتحكم فينا ، لأننا قدسنا فاعليها وقدسناها معهم ، ولا يجوز لنا الاعتراض عليها أو عليهم .

___________________________

(١) الفتنة الكبرى : ص ١٧٢ .

(٢) العقد الفريد : ٤ / ٢٨٠ .

١٠٢
 &

٥ ـ معاوية والثورة المضادة

أدت سياسة عثمان ( رض ) التي ارتكزت على محاباة بني أمية ، وسوء توزيع الثروة في الدولة ، ورفع أسوأ الناس على رقاب المؤمنين ، وارتكاب المخالفات القانونية ، وتركيز السلطة في يد عائلة بعينها دون إعتبار للأهلية والكفاءة ـ كما هو مفصل في تاريخنا ـ الى تمرد عامة الشعب ، وتذمر كبار الصحابة ، حتى انتهى الأمر بمقتل الخليفة ، وسقوط الدولة الإسلامية الناشئة في دوامة صراع سياسي خطير . وأخذت الأخطاء التي بدأت قبل سنوات بدرجة واحدة ، تتسع على مر الأيام ، ويزداد انفراجها ، حتى وصلت الأمور الى تحول معاكس للخط الذي تأسست عليه الدولة .

ولأن الثورة على نظام الحكم ـ أي نظام ـ حرام لا تجوز في اعتقاد مؤرخينا الذين نشأوا وتربوا في ظل نظم غير شرعية ، كان لا بد من البحث عن تبرير خارج عن العقل والمنطق ـ كالعادة ـ لإقناعنا بأنه ما أسقط الدولة وأشاع الفتنة إلا العناصر الخارجية فهم لم يربطوا بين المسببات وأسبابها ، ولم يرجعوا المعلولات الى عللها ، ولم يفتشوا عن أسباب ثورة أهل مصر على عثمان ( رض )

١٠٣
 &

لأن هذا المنهج ـ رغم علميته وإسلاميته ـ سيؤدي الى تخطئة بعض الشخصيات التي يريدون من كل مسلم تقديسها مهما فعلت .

من أجل هذا اخترعوا شخصية خيالية لم توجد في التاريخ أصلاً إلا في أوهامهم ، وسموها عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء ، وأطلقوا لخيالهم العنان تحت تخدير العواطف ، فتخيلوا أنه لا بد وأن يكون يهودياً ، ونسبوا إليه كل الفساد ، ووضعوا على رأسه مسؤولية الثورة والتذمر . فتعيين الخليفة مجلس شوراه من أقربائه وممن لعنهم أو نفاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كمروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، وعبدالله بن عامر ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح ، مع وجود أجلة الصحابة ، ثم إطلاق يد العائلة المالكة وعلى رأسها هؤلاء في تغيير الدولة والتلاعب بشئونها ، وإشاعة الفوضي السياسية والقانونية وتعطيل أحكام الشرع ، ثم حماية الخليفة لهم . ووعده بإصلاح الأمور مرات ، واخلافه لهذا الوعد ، واصراره على صحة سياسته التي احتج عليها كل الصحابة إلا المستفيدين ، لم يكن من أسباب التذمر . كما أن تعيين الخليفة لمرتد أباح الرسول دمه في فتح مكة كعبد الله بن

١٠٤
 &

سعد بن أبي سرح والياً على مصر في وجود أجلاء كعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، وغيرهم ، ثم قيام هذا الوالي بتعطيل الشرع ونهب خزانة الدولة واضطهاد النصارى ، وإذلال الناس ، لم يكن سبباً كافياً لتذمر أهل مصر ، بل لا بد وأن يكون السبب وراء ذلك عبد الله بن سبأ اليهودي ، ولا بد وأن يكون الصحابة الذين ثاروا على فساد نظام الدولة من أتباع هذا اليهودي . تماماً كما تقول الأنظمة المعاصرة عمن ثار عليها ، لأن الثورة على النظم الفاسدة حرام وفتنة وإراقة دم .

ونظرية ابن سبأ التي ساقها مشايخنا في تبرير الكارثة ، يستحي منها كل طفل مسلم به مسكة من عقل ، لأنها تعني أن الخلافة الراشدة والدولة المحمدية كانت من الضعف بمكان بحيث أن يهودياً واحداً استطاع أن يقلبها بغير عناء .

كما أنها تعنى أن كبار الصحابة الذين لم يوافقوا على سياسة عثمان ، لم يكونوا يعرفون دينهم ، فانساقوا وراء مقولة يهودي ودمروا دولة الإسلام .

١٠٥
 &

ثم ليت مؤرخينا استطاعوا أن يثبتوا دور ابن سبأ في الأحداث ، لأنك تراهم يذكرون اسمه في البداية فقط ، ثم تجري الأحداث مجراها الطبيعي محكومة بقوانين العمران والسياسة المنطقية ووفق عللها الطبيعية من تنافس بين الصحابة ، وسوء إدارة الدولة ، وفساد الشورى ، وضغائن القبائل ، وما اليها .

ولأن العلة التي ذكرها المؤرخون ـ أي ابن سبأ ـ علة وهمية ، تراهم على غير يقين منها ، فمرة قالوا وراءها عبد الله بن سبأ ، ومرات قالوا أن عمرو بن العاص هو محركها ، لأنه كان يؤلب الناس على عثمان حتى رعاة الغنم المتفرقين في الصحراء ، ومرة يعلقون المسؤولية في عنق محمد بن أبي بكر ، وأخرى يضغونها على رأس مروان بن الحكم (١)

وكثير من المؤرخين يقولون أن الأسباب التي نقمها الناس على عثمان كثيرة وخطيرة ، وأنهم رأوا الإعراض عن ذكرها أفضل ، ولم يذكروا إلا ما سمحت به أنفسهم وجادت به وجهات نظرهم .

___________________________

(١) أنظر تفصيل ذلك على سبيل المثال في الطبري : ٣ / ٣٧٨ حتى ٣٩٨ .

١٠٦
 &

فنحن إذن لا نقرأ إلا ما سمحوا لنا بقراءته والإطلاع عليه ، لا ما وقع كله ، وما يدريك لعل فيما لم يذكروه مفاتيح معضلات كثيرة ، أو ربما فيه من الحقائق التاريخية ما يكشف كثيراً مما لم يزل عندنا طلاسم غير مفهومة ؟

إن أحداث المأساة السياسية التي وقعت في عهد عثمان ( رض ) لم يكن وراءها يهودي ولا نصراني ، بل كانت لها أسبابها وعللها السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية والنفسية والفكرية التي اجتمعت وسارت وفق قوانين التاريخ وسنة الله في خلقه .

ومن الأدلة على ذلك أن الصحابة لم يذكروا ابن سبأ قط ، بل منهم من تنبأ بما وقع من الأحداث الجليلة ، فانقلاب معاوية على الخليفة الشرعي وتأمره على الناس بالسيف تنبأ به كعب وغيره من الصحابة (١)

وإنعكاس حال الدولة استشفه علي ( ع ) (٢)

___________________________

(١) الطبري : ٣ / ٣٨١ .

(٢) الطبري : ٣ / ٤٥٦ .

١٠٧
 &

كما تنبأ به عثمان نفسه حين ثار عليه أهل مصر فقال ( والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة ) (١)

ذلك أن أحوال الدولة وخط سيرها كان واضحاً أمامهم جميعاً ، ومن ثم استطاعوا أن يروا المصير قبل وقوعه ، لأنه كان أمراً مفهوماً ، إذ كيف يتوقع ذو عقل السلامة لدولة يديرها مجلس شورى من الملاعين والمطرودين ؟

لقد كانت الدولة في عهد عثمان دخلت مرحلة وسطاً بين الخلافة والملك ، وكانت تسير بخطى واضحة في طريقها الى نظام سياسي غير الذي أراده لها مؤسسها ، وكانت هذه حقيقة سياسية يعرفها الكثير . أنظر الى مروان بن الحكم ـ مثلاً ـ وقد حاصر الناس عثمان فخرج عليهم ليقول لهم ( جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ؟ إرجعوا عنا ) (٢)

___________________________

(١) الطبري : ٣ / ٣٩٣ وانظر كذلك ٣ / ٤٢٥ .

(٢) الطبري : ٣ / ٣٧٩ .

١٠٨
 &

إن طريقة تفكير الصحابة ومن عاش خلال تلك الأحداث كانت مختلفة عن طريقة تفكيرنا التي ورثناها عن مشايخنا ومؤرخيناه ، ومن هنا لم يؤثر عن أحدهم أنه قال أن سياسة الدولة كانت مضبوطة وأن سبب الفساد كان هذا أو ذاك من اليهود أو النصارى .

وكيف كان من الممكن توقع غير ما آلت إليه الخلافة في الوقت الذي كان يعتبرها مروان بن الحكم ـ كما مر قبل سطور قليلة ـ ملكاً له وعائلته والخليفة حي بين الناس ؟

قتل الخليفة ، وأدرك الناس أن الدولة قد حلت بها كارثة ، فهرعوا الى الإمام علي ( ع ) يبايعونه وقالوا ( إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ) (١)

___________________________

(١) الطبري : ٣ / ٤٥٠ .

١٠٩
 &

وفي رواية أخرى أنه ( حين قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، فأتوا علياً فقالوا يا أبا حسن هلم نبايعك ، فقال : لا حاجة لي في أمركم أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا . فقالوا : والله ما نختار غيرك ، فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه مراراً ، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، وقد طال الأمر ، فقال لهم : إنكم قد اختلفتم اليَّ وأتيتم ، وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، وإلا فلا حاجة لي فيه . قالوا ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله . فجاء فصعد المنبر ، فاجتمع الناس إليه فقال : إني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم . ألا وإنه ليس لي أمر دونكم ، إلا أن مفاتيح مالكم معي ، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم ، رضيتم ؟ قالوا نعم ، قال أللهم اشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك (١)

وهذه الروايات ـ إن صحت ـ دلت على أمور :

___________________________

(١) نفس المصدر : ٣ / ٤٥٠ ـ ٤٥١ .

١١٠
 &

الأول : أن طريقة اختيار القيادة هذه المرة اختلفت عن المرات الثلاثة الماضية ، وهذه هي المرة الأولى التي ذهب الناس فيها مراراً يلحون على شخص أن يتولى قيادتهم ، دون أن يتم الأمر فلتة ، أو بالعهد دون مشورة ، أو بمجلس شورى منتقى .

الثاني : أن الإمام علي ( ع ) ظل يرفض هذا المنصب ، ربما لأنه كان يعلم أن الدولة قد سارت في طريق وعر ، وتغير حال الناس فيها ، وهو ما سيسبب له بالتأكيد مصاعب في إدارتها ورد الأمور الى مجراها الأصلي . وربما رفض مراراً ليثبت لكل ذي عينين أنه لم يختلس الأمر ، ولم يسارع اليه ، ولم يلفق له الطرق ويخترع الوسائل ، وإنما كان اختياره اختياراً حراً من قبل الناس الذين أصروا عليه ، فهي بيعة صافية رائقة لا يشوبها غبش .

الثالث : أن الإنحراف الذي سبب الكوارث الماضية كان في أساسه انحرافاً اقتصادياً مالياً بالدرجة الأولى ، وهو ما يظهر من عبارته ، ولو لم تكن لهذا الأمر علاقة بما جرى ما أفرده الإمام بالذكر في عهد البيعة الذي له منزلة الدستور .

١١١
 &

الرابع : أن السياسة الإقتصادية والمالية التي سيتبعها الإمام علي ـ أو القيادة الجديدة ـ ستقوم على المساواة وإحقاق الحق والإنصاف وعدم المحاباة والإلتزام الدقيق بالشرع . وأعتقد أن هذا الإحساس الذي لا بد وأن كل فرد آنذاك قد شعر به .

وتمت بيعة الإمام بعد أن كانت الدولة قد شهدت تغييرات هائلة في جميع جوانبها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والقانونية ، فغاصت في بحر تعالت أمواجه وهزت كيان الدولة هزاً عنيفاً .

وما أن تولى الأمر حتى بدأ يعيد عربة الدولة الى الخط الذي خرجت عنه ، فعزل العصابة التي استولت على مناصب الدولة العليا ، وولى مكانها أهل الصلاح والتقى ، وسوى بين الناس في الأنصبة ، وكانت بيعته فرصة عظيمة لإعادة الدولة من الطريق المنحرف الى الصراط المستقيم . غير أن السياسات الخاطئة ـ خصوصاً الإقتصادية ـ التي كانت الدولة قد سارت عليها ربع قرن بعد وفاة المؤسس ، أسفرت عن خلق خط سياسي معاد لأية

١١٢
 &

إصلاحات اقتصادية ، لا سيما وأن كبار أهل الأثر والنفود ـ أو أغلبهم ـ كانوا ممن استفادوا من هذه السياسة الإقتصادية ، وتغير وضعهم الإجتماعي وأصبحت لهم مكاسب ومصالح مشتركة يدافعون عنها ، ويرون الحفاظ عليها بأي ثمن .

ومن هنا كانت أزمة الإمام علي ( ع ) الحقيقية ، إذ تسلم السلطة والحمل ثقيل ، والمهمة صعبة ، أضف الى ذلك العناصر الأخرى كإزدهار بني أمية سياسياً ، وضعف أتباع خط الإمام علي ( ع ) نظراً لفقرهم وزهدهم ، واستفحال الضغائن القبلية ، والأحقاد الشخصية ، وتبني سياسة الإنتقام من الإمام الذي وتر بسيفه كل بيوتات الكفر التي تصدت للإسلام خلال الحروب الماضية .

تزعم حركة قلقلة الدولة فريقان :

الأول بزعامة معاوية وكان أقوى وأكبر كما كانت له مطامع قبلية معروفة ، وهو من البيت الذي ظل يحارب الإسلام ودعوته حتى فتحت عليه مكة واضطر للإسلام قبل أشهر قليلة من وفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام .

١١٣
 &

وهذا الفريق نجح في استقطاب الناس بالعطايا والوعود والهدايا ، واتخذ من دم عثمان حجة للثورة على الخليفة الشرعي ونشر الفوضى في الدولة الإسلامية .

والثاني بزعامة أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ، وهذا الفريق أقل وأضعف ، لكنه أيضا استتر بالمطالبة بدم عثمان دون وجه حق ، وكانت الدوافع مختلفة ، فأم المؤمنين عائشة كانت بنفسها تحرض الناس على قتال عثمان وتقول لهم صراحة : اقتلوه ، وترميه بالكفر (١)

وكذلك فعل طلحة وكان من أكبر المساعدين على قتله (٢)

ثم بايع هو والزبير الإمام في البداية ، ثم انقلبا عليه لما رفض طلبهما بتولي إمرة البصرة والكوفة ، وادعيا أنهما بايعا مكرهين . (٣)

___________________________

(١) الطبري : ٣ / ٤٧٧ .

(٢) الفخري لابن طباطبا ، ص ٦٠ قال وهذا تشهد به جميع التواريخ .

(٣) الطبري : ٣ / ٤٥١ ـ ٤٥٢ . وانظر تفصيل وقائع هذا الدور في جميع كتب التاريخ المعتبرة .

١١٤
 &

نعم ندمت عائشة على خروجها على الإمام علي كما ندم غيرها ، لكنهم ندموا بعد أن كان الخراب قد عم .

واضطر الإمام لأن يواجه ثلاث حروب طاحنة في أقل من خمسة أعوام هي مدة حكمه . فانهزم له الفريق الثاني في موقعة الجمل ، وأوشك الفريق الأول في صفين على الهزيمة ، فلجأ الى حيلة التحكيم ورفع المصاحف ، كما هو مشهور لدينا معروف ، وانتهى الأمر بالكذب والخداع .

وظهر الى الوجود من بعد فريق ثالث هم البغاة الخوارج ، الذين اضطر الإمام لقتالهم في النهروان .

وعاش الإمام ولا سلطان له على الشام مركز معاوية ، وأقام البغاة دولة داخل الدولة الى أن قتل الإمام على يد ابن ملجم المصري لعنه الله . ولأن الأمة لم تكن ترى أحداً من زعماء الفريقين المذكورين يستحق القيادة بايعوا الإمام الحسن بن علي عليه السلام ، فرأى أن يهادن قليلاً لتستتب الأمور ، وتهدأ العاصفة ، لكن نفراً من أتباعه ثاروا عليه ، وهجموا عليه وجرحوه ونهبوا متاعه ، فاضطر في النهاية للتفاوض مع معسكر

١١٥
 &

البغي ليحقن دماء أتباع أهل البيت ، الذين كادت السيوف الباغية أن تستأصلهم من جذورهم . وشرط له معاوية شروطاً لم يف بأي منها ، بعد أن تمكن من السلطة بحد السيف عام ٤١ هـ وهو ما قيل لنا عنه أنه عام الجماعة ، ولم يكن إلا عام الفرقة والاستسلام للبغي وإنقلاب خلافتنا ملكاً عضوضاً .

ثم دس معاوية للحسن السم وإنفرد بالأمر . . . وهذا كله مفصل في كتب التاريخ كلها فليرجع اليه من شاء ، وقد أعرضنا عن تفصيله لما يقتضيه المقام من الإختصار .

ركب معاوية السلطة ، ووقف بعدها ليعلن فصل الدين عن الدولة صراحة ، ويقول ( يا أهل الكوفة أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وأَلي رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم له كارهون . ألا إن كل دم أصيب في هذه مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين ) (١)

___________________________

(١) الكامل لابن الأثير : ٦ / ٢٢٠ ، مصر ، ١٣٥٦ هـ .

١١٦
 &

وهذا منه إعلان صريح بما يلي :

١ ـ أن العبادات قد فصلت عن القيادة والسياسة ، فالأولى لكم فيها اتباع الشرع وما قال الله وقال الرسول ، والثانية لي وأنا حر فيها .

٢ ـ أنه قاتل الناس ليتأمر عليهم ، ويأخذ القيادة بحد السيف .

٣ ـ أن الناس كارهون له في ذلك ، إذ لم يكن ما فعله يحظى بذرة رضا .

٤ ـ التخلص من كل العهود والمواثيق والشروط التي قطعها على نفسه مع الإمام الحسن ومع الأشخاص والقبائل ، وأن الدماء التي أريقت في سبيل وصوله الى السلطة ، والمعارك التي قتل فيها عشرات الألوف من المسلمين لا حساب عليها ولا قود ولا عقاب ، وعلى الأمة إذن أن تنسى ما كان ، وتبدأ صفحة جديدة من تاريخها ، الذي ستبدأ أحداثه وفق تصور جديد ، وسياسة مغايرة .

ثم قاد معاوية الثورة المضادة بمعنى الكلمة ، فأسس جهازاً لتشويه أهل الحق ، وآخر لتصفية المعارضين جسدياً ، واخترع

١١٧
 &

الأحاديث ، ولفق التفاسير ، وأنشأ الفرق الفكرية المعارضة ، ونشر بين المسلمين السكوت على الظلم والظالمين بل وتأييدهم ، وأن الأسلم لهم عند احتدام المعركة بين الحق والباطل الفرار الى رؤوس الجبال خشية الفتنة ، وأرهب الآمنين من الناس ، وصادر أموال المعارضين ظلماً وعدواناً ، وأغدق أموال الدولة على حزبه ومؤيديه ، وعطل الحدود وأوقف الشرع ، وابتدع في الدين على النحو المفصل في تاريخنا المقروء الذي يعرفه كل صبي .

غير أن خطورة ما فعله معاوية تكمن في أنه ما فعله باسم أية نظرية أخرى صراحةً بل باسم الإسلام ، فإذا الإسلام الذي قدمه للناس شيئاً آخر يعاكس تمام الإسلام المحمدي . فكان ثورة مضادة سارت في الإتجاه المعاكس كلية ، لكنها تحمل اسم الإسلام القديم .

وأخطر من هذا كله أن مشايخنا وعلماءنا ـ إن صح وصفهم بالعلماء ـ غلفوا هذا السم الزعاف بطبقة حلوة المنظر ، وقالوا لنا إنه لم يكن انقلاباً على الإسلام بأي معنى بل كان إجتهاداً ،

١١٨
 &

وأخذنا نحن من أيديهم هذا السم المدسوس ، واعتقدنا أنه الدواء الناجع الفعال الذي يشفى ما بنا ـ بل وما بالأجيال المسلمة الى يوم القيامة ـ من كل الأسقام ، واشتركنا معهم في هذه الجريمة ، وضللنا معهم أنفسنا وأبناءنا والأجيال التالية ، ولم نفكر لحظة في أن ما قاله مشايخنا ينبغي فحصه والتروي في قبوله ، وأن الأخطاء المخالفة للإسلام لا بد وأن نعترف بها ونتجنبها في كل مسيرة ، ليكون ما لدينا من إسلام صافياً رائقاً ، وتمادينا تحت تخدير العواطف فإذا بنا ليوم في مآزق وحفر عميقه حفرها لنا علماؤنا ، وقفزنا فيها بإرادتنا دون وعي ، ولا نستطيع اليوم أن نخرج منها .

والأغبى من هذا التصرف ، أننا نبصق في وجه كل من ألقى لنا حبلاً من عقل لنستمسك به ، ونخرج من هذه الحفر الى حيث الهواء النقي ، والفكر الإسلامي الحر ، الذي لا يقدس الأوراق ولا الأشخاص ، إلا ما ومن كان منها مقدساً يستحق التقديس حقاً .

هكذا رأينا كيف اختارت الأمة قيادة باختيارها الحر في النور ، كما حدث مع الإمام علي ( ع ) بعد أن كان الوقت المناسب قد

١١٩
 &

مضى ، وهو ما يعتبر شكلاً آخر من أشكال تعيين القيادة يختلف عما سبقه من أشكال .

ثم ما إن تولت القيادة الجديدة حتى بدأت الطوابير الخفية في العمل لإقصائها ، فرأينا شكلاً وأسلوباً آخر للقيادة هو ما فعله معاوية ، وهو ما يقودنا الى نتائج تستحق إمعان الفكر :

أولاً : إن بيعة علي ( ع ) إذا كانت هي الصواب أو الطريق الطبيعي لاختيار القيادة ، لأنها تمت برضا المسلمين ومشورتهم ، فما حكم ما فعله معاوية ؟ وإن كان ما فعله معاوية لا غبار عليه ، فكيف يمكن الدفاع عن بيعة علي ( ع ) ونحن أهل السنة نؤمن بخلافته الراشدة وبيعته السليمة ؟

ثانياً : أن الطريقة التي وصل بها معاوية الى الحكم وتصدر القيادة إن كانت صحيحة وفق الإسلام ـ ولا أعتقد بصحتها أبداً ـ فكيف يمكن إغلاق باب البغي والإنقلابات العسكرية ضد النظام الإسلامي ، إن شاء له الله أن يقوم هنا أو هناك ؟ لأن هذا يمكن أن يقع في أي وقت بعد اللحظة الأولى التي تتأسس فيها دولة إسلامية .

١٢٠