معالم الإصلاح عند أهل البيت عليهم السلام

علي موسى الكعبي

معالم الإصلاح عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-19-5
الصفحات: ١٦٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

« ... الإمامة تحتاج إلى من يأكل الخشن ويلبس الخشن ويركب ويعود المريض ويشيع الجنائز ، فقال عليه‌السلام : كان يوسف بن يعقوب نبياً فلبس أقبية الديباج المزركشة بالذهب ، والقباطي المنسوجة بالذهب ، وجلس على متكآت آل فرعون ، وحكم وأمر ونهى ، وإنما يراد من الإمام قسط وعدل ، إذا قال صدق ، وإذا حكم عدل ، وإذا وعد أنجز ، إن الله لم يحرّم ملبوساً ولا مطعوماً ، وتلا قوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) » (١).

ونهى الإمام الهادي عليه‌السلام أصحابه وسائر المسلمين عن التواصل مع الصوفية والاختلاط بهم ، لأن زهدهم لم يكن حقيقياً وإنما لاراحة أبدانهم ، وأن تهجدهم في الليل لم يكن نسكاً وإخلاصاً في طاعة الله تعالى ، وإنما هو وسيلة لصيد أموال الناس وإغوائهم ، وأن أورادهم ليست عبادة خالصة لله بل هي رقص وغناء ، وأن أتباعهم هم الحمقى والسفهاء (٢).

واستفحلت حركة الزندقة في العصر العباسي ، وتعددت مقولاتهم ، فمنهم من يقول بالتناسخ وقدم الدهر ، ومنهم من يقول بالثنوية ، وإذا كان الحاكم قد أفرط في استعمال القوة ضد هذا التيار المدمر ، فان أهل البيت عليهم‌السلام قد أمعنوا النظر في اتباع المنطق العقلي معهم واستعمال لغة

______________

(١) الفصول المهمة : ٢٥١ ، والآية من سورة الأعراف : ٧ / ٣٢.

(٢) راجع : حديقة الشيعة / الأردبيلي : ٦٠٣ ، الاثنا عشرية / الحر العاملي : ٢٩.

٨١

الحوار ، واطلاعهم على مساحات واسعة من اضاءات الفكر الإسلامي.

فقد جاء في سيرة الإمام الرضا عليه‌السلام أنه دخل رجل من الزنادقة عليه وعنده جماعة ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : « أرأيت إن كان القول قولكم ، وليس هو كما تقولون ، ألسنا واياكم شرع سواء ، ولا يضرّنا ما صلينا وزكينا وأقررنا ؟ فسكت ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : وإن يكن القول قولنا ، وهو قولنا ، وكما نقول ، ألستم قد هلكتم ونجونا ؟

قال : رحمك الله فأوجدني كيف هو ؟ وأين هو ؟ قال عليه‌السلام : ويلك ، إن الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أيّن الأين ولا أين ، وكيّف الكيف وكان ولا كيف ، فلا يعرف بكيفوفية ، ولا بأينونية ، ولا يدرك بحاسة ولا يُقاس بشيء.

قال الرجل : فإذن انه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس !

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ويلك إذا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنّا انه ربنا ، وأنه شيء بخلاف الأشياء.

قال الرجل : فأخبرني متى كان ؟! قال أبو الحسن عليه‌السلام : أخبرني متى لم يكن ، فأخبرك متى كان ؟!.

قال الرجل : فما الدليل عليه ؟ قال أبو الحسن عليه‌السلام : اني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة اليه ، علمت أن لهذا البنيان بانياً ، فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس

٨٢

والقمر والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات ، علمت أن لهذا مقدّراً ومنشأً.

قال الرجل : فلم احتجب ؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إنّ الحجاب على الخلق ، لكثرة ذنوبهم ، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار.

قال : فلم لا تدركه حاسة الأبصار ؟ قال عليه‌السلام : للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثم هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل.

قال : فحده لي ؟ قال عليه‌السلام : لا حدّ له ، قال : ولم ؟ قال عليه‌السلام : لأن كل محدود متناه إلى حدّ ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، واذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزيء ولا متوهَّم.. » (١).

١٠ ـ تصحيح مفاهيم في الإمامة :

لقد بيّن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ الإمامة منصب الهي ، ولاتكون بالشورى والاختيار ، بل تخضع للإرادة الربانية ، وهو تعالى يجتبي من عباده ما يشاء لهذا المنصب الخطير ، والإمام يشترك مع النبي باعتبارهما حجة على الناس ، ويفترق عنه بالوحي فهو لا يوحى اليه ، وأن الأرض لا تخلو من حجة منذ خلق الله تعالى آدم ، وأن الأئمة من آل البيت هم ورثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولاده وأفضل من خلف بعده في أمته ، وأنهم أولي الأمر الذين

______________

(١) عيون أخبار الرضا ١ : ١٢٠ / ٢٨.

٨٣

فرض الله طاعتهم على خلقه باعتبارهم قادة الرسالة المعصومين ، وأن ولاء جميع الخلائق يجب أن يكون لهم ، وأن لهم حقوقاً جعلها الله لهم واجبة في أعناق من يدينون لهم بالولاء منها الولاية والخمس والمودة والطاعة والصلاة عليهم ، وأن منهم القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله ، وله غيبة يطول أمدها ، يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون ، حتى يظهر ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. وقد تصدّى الأئمة عليهم‌السلام لبيان هذا الأصل العقائدي ، ودافعوا عن الاُسس التي تقوم عليها الإمامة وعن أهم قواعدها ، مصرّحين بحقّهم بالخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتمالئ الاُمّة على استلاب هذا الحقّ منهم ، وذلك في نصوص واحتجاجات عديدة يصعب حصرها ، ولذا اقتصرنا على بعض ما جاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو على ثلاثة أقسام :

الأول : بيان حقهم عليهم‌السلام في الخلافة :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا يقاس بآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الاُمّة أحدٌ ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفئ الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله ، ونقل إلى منتقله » (١).

وقال عليه‌السلام : « انظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم ، واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى. فإن لبدوا فالبدوا ، وإن

______________

(١) نهج البلاغة : ٤٧ ـ الخطبة ٢.

٨٤

نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا » (١).

وقال عليه‌السلام : « أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم. بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى. إنّ الأئمّة من قريش غُرِسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (٢).

وقام أمير المؤمنين عليه‌السلام في أيام خلافته ، فناشد الناس بالرحبة قائلاً : « أنشد الله من سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خمّ : من كنت مولاه فعلي مولاه ؛ لمّا قام فشهد. فقام اثنا عشر بدرياً ، فقالوا : نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خمّ : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجي أمهاتهم ؟ فقلنا : بلى ، يا رسول الله. قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » (٣).

الثاني : بيان استلاب حقّهم عليهم‌السلام :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فوالله مازلت مدفوعاً عن حقّي ، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يوم الناس هذا » (٤).

ومن خطبة له عليه‌السلام : « اللهمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم ،

______________

(١) نهج البلاغة : ١٤٣ ـ الخطبة ٩٧.

(٢) نهج البلاغة : ٢٠١ ـ الخطبة ١٤٤.

(٣) مسند أحمد ١ : ٨٨ و ١١٨ ، فضائل الصحابة / لأحمد بن حنبل ٢ : ٥٨٥ / ٩٩١ و ٩٩٢ ، أسد الغابة ٢ : ٢٣٣ ، الاصابة ٤ : ١٨٢ ترجمة عبدالرحمن بن مدلج.

(٤) نهج البلاغة : ٥٣ ـ الخطبة ٦.

٨٥

فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ؛ ثمّ قالوا : ألا أنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تتركه » (١).

ومن خطبة له عليه‌السلام لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقّ به ؟ فقال : « يا أخا بني أسد ، أنّك لقلق الوضين ، ترسل في غير سدد ، ولك بعدُ ذمامة الصهر وحقّ المسألة ، وقد استعلمت فاعلم ؛ أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً ، والأشدّون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نوطاً ، فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم الله ، والمعود إليه القيامة. ودع عنك نهباً صيح في حجراته » (٢).

ومن خطبة له عليه‌السلام ، وهي المعروفة بالشقشقية : « أما والله لقد تقمّصها فلان ، وإنه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير. فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ! فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً.

حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلانٍ بعده. ثمّ تمثّل عليه‌السلام بقول

______________

(١) نهج البلاغة : ٢٤٦ ـ الخطبة ١٧٢.

(٢) نهج البلاغة : ٢٣١ ـ الخطبة ١٦٢.

٨٦

الأعشى :

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجباً ! بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ! لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض.

فصبرت ، على طول المدة ، وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ! فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أُقرن إلى هذه النظائر ! لكنّي أسففت إذ أسفّوا ، وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه. وقام معه بنو أبيه ، يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته.

فما راعنى إلّا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون علي من كلّ جانب ، فلمّا نهضت بالأمر ، نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) بلى والله ، لقد سمعوها ووعوها ،

______________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٨٣.

٨٧

ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها... » (١).

الثالث : الردّ على مدّعيات أصحاب الشورى :

ردّ أمير المؤمنين عليه‌السلام على ذرائع أهل الشورى التي تمسّكوا بها لنيل الخلافة ، كالاختيار ورضا الجماعة والصحبة وغيرها ، حيث قال : « واعجباً أن تكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالصحابة والقرابة.

قال الرضي رحمه‌الله : وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو :

فإن كنتَ بالشورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ

وإن كنتَ بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقربُ » (٢)

قال ابن أبي الحديد : حديثه عليه‌السلام في النثر والنظم المذكورين مع أبي بكر وعمر ، أمّا النثر فإلى عمر توجيهه ؛ لأنّ أبا بكر لمّا قال لعمر : « امدد يدك ، قال له عمر : أنت صاحب رسول الله في المواطن كلّها ، شدّتها ورخائها ، فامدد أنت يدك ، فقال علي عليه‌السلام : إذا احتججت لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن كلّها ، فهلا سلّمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك وزاد عليه بالقرابة !

وأمّا النظم فموجّه إلى أبي بكر ، لأنّ أبا بكر حاجّ الأنصار في السقيفة ، فقال : نحن عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيضته التي تفقّأت عنه ، فلمّا بويع احتجّ على الناس بالبيعة ، وأنّها صدرت عن أهل الحلّ والعقد. فقال

______________

(١) نهج البلاغة : ٤٨ ـ الخطبة ٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٤١٦.

٨٨

علي عليه‌السلام : أمّا احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن قومه ، فغيرك أقرب نسباً منك إليه ، وأمّا احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة بك ، فقد كان قوم من جملة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد ، فكيف يثبت ! » (١).

وأمّا الاحتجاج بحديث صلاة أبي بكر بالناس عند مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ذكر ابن أبي الحديد خلاصة كلام شيخه أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني ، ولم يكن يتشيع ، وكان شديداً في الاعتزال ، وقد ذكر في كلامه ما روي عن علي عليه‌السلام أنّ عائشة أمرت بلالاً مولى أبيها أن يأمره ليصلّي بالناس ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما ورد في الخبر ـ قال : ليصلّ بهم أحدهم. ولم يعيّن ، وكانت صلاة الصبح ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في آخر رمقٍ يتهادى بين علي عليه‌السلام والفضل بن العباس ، حتى قام في المحراب ، ثمّ دخل فمات ارتفاع الضحى ، فجعلوا يوم صلاته حجّة في صرف الأمر إليه ، وقالوا : أيكم يطيب نفساً أن يتقدّم قدمين قدّمهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة ! ولم يحملوا خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الصلاة لصرفه عنها ، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن ، فبُويع على هذه النكتة التي اتّهمها علي عليه‌السلام على أنّها ابتدأت منها.

وكان علي عليه‌السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيراً ، ويقول : « إنّه لم يقل صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنكن لصويحبات يوسف ؛ إلّا إنكاراً لهذه الحال ، وغضباً منها ، لأنها

______________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٤١٦.

٨٩

وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما ، وأنّه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب » (١).

موارد من التصحيح :

أُثيرت العديد من الشبهات في الساحة الإسلامية حول موضوع الإمامة ، يحركها هوى الحكام على طول الطريق ، لإحساسهم بعدم شرعية سلطانهم ، الأمر الذي يدفع الحكام سواء كانوا أمويين أم عباسيين إلى تصفية الإمام الذي يعاصرهم غيرة وحسداً ، لاعتقادهم القاصر بامتلاك الشرعية بهذا الفعل الشنيع ، بل ودفع المأمون إلى إعطاء الإمام الرضا عليه‌السلام ولاية العهد ، لإضفاء تلك الشرعية على سلطانه ، وعلى امتداد الزمن تُثار الشبهات حول إمامة أهل البيت عليهم‌السلام تحت ستار كثيف من الزيف ، بحرب إعلامية مفتوحة يدير دفتها أصحاب السلطة والصولجان بالأموال والمرتزقة ، أو أقطاب الفرق الضالة المناوئة ، وقد رصدنا من تلك الإثارات قولهم : لماذا لم يسمّ علياً وأهل بيته في كتاب الله عزّوجلّ ؟ ولماذا ينتسب أهل البيت عليهم‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقال لهم : يابني رسول الله ، وإنما ينسب المرء إلى أبيه ؟ وكيف يقولون انهم ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنبي لم يعقب ، وإنما العقب للذكر لا للاُنثى ؟ وقولهم : إن علياً عليه‌السلام قتل أهل النهروان وهو لهم ظالم ، وقد أجاب أهل البيت عليهم‌السلام عن أمثال هذه الإثارات بحجج واضحة ، ففندوها وعملوا على وضعها في مسارها

______________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ : ١٩٧ ، بحار ٢٨ : ١٥٩.

٩٠

الصحيح.

عن أبي بصير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) فقال : نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم‌السلام.

فقلت له : إن الناس يقولون : فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته عليهم‌السلام في كتاب الله عزّ وجلّ ؟ قال : فقال : قولوا لهم : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً ، حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي فسّر ذلك لهم ، ونزلت عليه الزكاة ولم يسمّ لهم من كل أربعين درهماً درهم ، حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي فسّر ذلك لهم ، ونزل الحجّ فلم يقل لهم : طوفوا اُسبوعاً حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي فسّر ذلك لهم ، ونزلت ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) في علي والحسن والحسين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام : من كنت مولاه فعلي مولاه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اُوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي ، فإنّي سألت الله عزّوجلّ أن لا يفرّق بينهما حتى يوردهما على الحوض ، فأعطاني ذلك. وقال : لا تعلموهم فهم أعلم منكم. وقال : إنّهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة.

فلو سكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يبيّن من أهل بيته ، لادّعاها آل فلان وآل فلان ، لكنّ الله عزّوجلّ أنزله في كتابه تصديقاً لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ

______________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

٩١

لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم‌السلام ، فأدخلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الكساء في بيت أم سلمة ، ثمّ قال : اللهم إنّ لكلّ نبي أهلاً وثقلاً ، وهؤلاء أهل بيتي وثقلي ، فقالت أمّ سلمة : ألست من أهلك ؟ فقال : إنك إلى خير (٢) ، ولكن هؤلاء أهلي وثقلي ، فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عليّ أولى الناس بالناس ، لكثرة ما بلّغ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإقامته للناس وأخذه بيده... » (٣).

وعن هاني بن محمد بن محمود ، عن أبيه ، رفعه إلى موسى بن جعفر عليها‌السلام أنه قال : « دخلت على الرشيد فقال لي : لِمَ جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون لكم : يا بني رسول الله ، وأنتم بنو علي ، وإنما يُنسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنما هي وعاء ، والنبي جدكم من قبل اُمكم ؟

______________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٢) أخرج الترمذي وغيره عن أُم سلمة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جلّل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ، وقال : اللهمّ أهل بيتي وحامتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالت أُمّ سلمة : وأنا معهم يارسول الله ؟ فقال : إنّكِ إلىٰ خير. سنن الترمذي ٥ : ٣٥١ / ٣٢٠٥ و ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٧ و ٦٦٩ / ٣٨٧١. وروي حديث الكساء في مسند أحمد ٤ : ١٠٧ و ٦ : ٢٩٢ و ٣٠٤. ومصابيح السُنّة ٤ : ١٨٣. ومستدرك الحاكم ٢ : ٤١٦ و ٣ : ١٤٨ وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ، وتفسير الطبري ٢٢ : ٦ و ٧. وتاريخ بغداد ٩ : ١٢٦ و ١٠ : ٢٧٨. وأُسد الغابة ٢ : ١٢ و ٤ : ٢٩. والمعجم الكبير / الطبراني ٩ : ٢٥ / ٨٢٩٥ ، ٢٣ : ٢٤٩ و ٢٨١ و ٣٢٧ و ٣٣٣ و ٣٣٤ و ٣٣٧ و ٣٩٦.

(٣) الكافي ١ : ٢٨٦ / ١.

٩٢

فقلت : يا أمير المؤمنين ، لو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نشر فخطب إليك كريمتك ، هل كنت تجيبه ؟ فقال : سبحان الله ! ولِمَ لا اُجيبه ؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقلت : لكنه عليه‌السلام لا يخطب إليّ ولا اُزوجه. فقال : ولِمَ ؟ فقلت : لأنّه ولدني ولم يلدك. فقال : أحسنت ياموسى.

ثم قال : كيف قلتم إنا ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنبي لم يعقب ، وإنما العقب للذكر لا للاُنثى ، أنتم ولد البنت ، ولا يكون لها عقب ؟

فقلت : أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلّا ما أعفيتني عن هذه المسألة. فقال : لا أو تخبرني بحجتكم فيه ياولد علي ، وأنت ياموسى يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا أُنهي إليّ ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه ، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله تعالى ، وأنتم تدّعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلّا وتأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عزّوجلّ : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت : تأذن لي في الجواب ؟ فقال : هات ! فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ ) (٢) من أبو عيسى ياأمير المؤمنين ؟ فقال : ليس لعيسى أب.

______________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٨٤ ـ ٨٥.

٩٣

فقلت : إنما ألحقناه بذراري الأنبياء : من طريق مريم عليها‌السلام ، وكذلك أُلحقنا بذراري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل أُمنا فاطمة عليها‌السلام.

أزيدك ياأمير المؤمنين ؟ قال : هات ! قلت : قول الله عزّوجلّ : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) ولم يدّع أحد أنه أدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلّا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فكان تأويل قوله عزّوجلّ : ( أَبْنَاءَنَا ) الحسن والحسين ( وَنِسَاءَنَا ) فاطمة ( وَأَنفُسَنَا ) علي بن أبي طالب » (٢).

وعن عيسى بن عبد الله العلوي قال : « حدثني الأسيدي ومحمد بن مبشر أن عبد الله بن نافع الأزرق كان يقول : لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم ، لرحلت إليه.

فقيل له : ولا ولده ؟ فقال : أفي ولده عالم ؟ فقيل له : هذا أول جهلك ، وهم يخلون من عالم ؟! قال : فمن عالمهم اليوم ؟ قيل : محمد بن علي بن الحسين بن علي عليهم‌السلام.

قال : فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة ، فاستأذن

______________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ : ٨٣.

٩٤

على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقيل له : هذا عبد الله بن نافع ، فقال : وما يصنع بي وهو يبرأ منّي ومن أبي طرفي النهار ؟ فقال له أبو بصير الكوفي : جعلت فداك ، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن علياً عليه‌السلام قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : أتراه جاءني مناظراً ؟ قال : نعم ، قال : ياغلام ، اخرج فحطّ رحله وقل له : إذا كان الغد فأتنا.

قال : فلمّا أصبح عبد الله بن نافع غدا في صناديد أصحابه ، وبعث أبو جعفر عليه‌السلام إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار ، فجمعهم ثمّ خرج إلى الناس في ثوبين ممغّرين ، وأقبل على الناس كأنه فلقة قمر. فقال : الحمد لله محيّث الحيث ، ومكيّف الكيف ، ومؤيّن الأين ، الحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض... وأشهد أن لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته ، واختصنا بولايته. يامعشر أبناء المهاجرين والأنصار ، من كانت عنده منقبة في علي بن أبي طالب عليه‌السلام فليقم وليتحدث. قال : فقام الناس فسردوا تلك المناقب.

فقال عبد الله : أنا أروى لهذه المناقب من هؤلاء ، وإنما أحدث عليّ الكفر بعد تحكيمه الحكمين ـ حتى انتهوا في المناقب إلى حديث خيبر ـ : لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، كراراً غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ما تقول في

٩٥

هذا الحديث فقال : هو حقّ لا شكّ فيه ، ولكن أحدث الكفر بعدُ.

فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : ثكلتك أُمك أخبرني عن الله عزّوجلّ أحبّ علي ابن أبي طالب يوم أحبّه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ؟ قال ابن نافع : أعد عليّ. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : أخبرني عن الله جلّ ذكره أحبّ علي بن أبي طالب يوم أحبّه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ؟ قال : إن قلت : لا ، كفرت. قال : فقال : قد علم. قال : فأحبّه الله على أن يعمل بطاعته ، أو على أن يعمل بمعصيته ؟ فقال : على أن يعمل بطاعته. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : فقم مخصوماً ، فقام وهو يقول : ( حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (١) الله أعلم حيث يجعل رسالته » (٢).

ومن الشبهات المثارة في هذا الاتجاه ، اتهام أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بادعاء علم الغيب ، والتهمة غالباً ما تكون من قبل الحكام أو المرتبطين بهم ، الأمر الذي أنكره أهل البيت عليهم‌السلام بشدة ، فحينما أقدم المنصور الإمام الصادق عليه‌السلام إلى الكوفة بعد مقتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ، وصار بين يديه قال له المنصور : « أنت الذي تعلم الغيب ؟ فقال عليه‌السلام : لا يعلم الغيب إلّا الله » (٣).

وقال يحيى بن عبد الله بن الحسن لأبي الحسن عليه‌السلام : « جعلت فداك ، انهم يزعمون أنك تعلم الغيب ؟ فقال عليه‌السلام : سبحان الله ! ضع يدك على رأسي ،

______________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.

(٢) الكافي ٨ : ٣٤٩ / ٥٤٨.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٣٢.

٩٦

فوالله ما بقيت شعرة فيه ولا في جسدي إلّا قامت. ـ ثم قال : ـ لا والله ما هي إلّا وراثة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١).

١١ ـ الإسلام والإيمان :

اتفقت كلمة أهل البيت عليهم‌السلام على أن الإسلام غير الإيمان ، وأن كل مؤمن فهو مسلم وليس كل مسلم مؤمناً ، وأن الفرق بين هذين المعنيين في الدين كما كان في اللسان ، وأجمعت المعتزلة وكثير من الخوارج والزيدية على خلاف ذلك ، وزعموا أن كل مسلم مؤمن ، وأنه لا فرق بين الإسلام والإيمان في الدين (٢).

وقد ردّ أهل البيت عليهم‌السلام على جميع المقولات التي تساوي بين المسلم والمؤمن للتقليل من شأن العمل بالفرائض ، مؤكدين أن الإيمان ليس كلاماً وحسب ، بل هو عقد بالقلب وعمل بالجوارح.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قد يكون الرجل مسلماً ولا يكون مؤمناً ، ولا يكون مؤمناً حتى يكون مسلماً ، والإيمان إقرار باللسان ، وعقد بالقلب ، وعمل بالجوارح » (٣).

وعن أبي الصباح الكناني ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : من شهد أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مؤمناً ؟ قال : فأين فرائض الله ؟

______________

(١) أمالي المفيد : ٢٣ / ٥.

(٢) أوائل المقالات / المفيد : ٤٨ / ١٤.

(٣) خصائص الأئمة / الشريف الرضي : ١٠٠.

٩٧

قال : وسمعته يقول : كان علي عليه‌السلام يقول : لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام.

قال : وقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إن عندنا قوماً يقولون : إذا شهد أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو مؤمن ، قال : فلِمَ يضربون الحدود ، ولِمَ تقطع أيديهم ؟! وما خلق الله عزّوجلّ خلقاً أكرم على الله عزّوجلّ من المؤمن ؛ لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين ، وإنّ جوار الله للمؤمنين ، وإنّ الجنة للمؤمنين ، وإنّ الحور العين للمؤمنين ، ثم قال : فما بال من جحد الفرائض كان كافراً ؟ » (١).

١٢ ـ تصحيح عقائد الفرق والردّ عليها :

عاصر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام فترة السجال العقائدي في غضون القرن الأول والثاني والثالث من الهجرة ، الذي صاحبه نشوء مختلف الفرق الإسلامية ، كالخوارج والمعتزلة والواقفة والمرجئة والجبرية والمفوّضة والأشاعرة وغيرهم ، وكان لهم عليهم‌السلام ولأصحابهم مناظرات وكلمات مسهبة مع أصحاب تلك الفرق بهدف تصحيح المسار ، منها كلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام في إبطال مقولة الخوارج : لا حكم إلّا لله ، قال عليه‌السلام : « كلمة حقّ يُراد باطل ؟؟. نعم إنه لا حكم إلّا لله ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلّا لله ، وإنه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العدو ، وتأمن به

______________

(١) الكافي ٢ : ٣٣ / ٢.

٩٨

السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي ، حتى يستريح به برّ ، ويستراح من فاجر » (١).

وتعد المرجئة من الفرق التي نشأت في أحشاء السلطة ، والإرجاء هو التأخير ، وهم يؤخّرون العمل عن الإيمان ، ويقولون إنّ الإيمان معرفة بالقلب وتصديق باللسان ، ولا يضرّ معه ذنب ، كما أنّهم أرجأوا الحكم في مرتكب الكبيرة إلى الله تعالى ، ورجوا الثواب لأهل المعاصي ، لقولهم : لا تضرّ مع الإيمان معصية (٢).

وروّج الطغاة الأمويون البغاة لفكرة الارجاء ، سيما معاوية بن أبي سفيان وأصحابه ، ليبرّروا عبثهم بأحكام الدين ، وتعطيل كتاب الله وسنّة نبيّه ، واستباحة حرمات المؤمنين واستبدادهم بحقوقهم ، وهم مع كلّ ذلك مؤمنون لا يضرّ بإيمانهم شيء ، ولا ينقص في إيمانهم عمل !!

ومن هنا وقف الأئمة عليهم‌السلام بوجه هذا الفكر الهدام بكل حزم وصلابة.

ومن ردود الإمام الصادق عليه‌السلام على المرجئة : « عن ابن أبي نجران ، عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت. فقال : هؤلاء قوم يترجحون في الأماني ، كذبوا ، ليسوا براجين ، إن من رجا شيئاً طلبه ، ومن خاف من شيء هرب منه » (٣).

______________

(١) نهج البلاغة ١ : ٩١ / خ ٤٠ ـ تحقيق محمد عبده.

(٢) راجع : الملل والنحل ١ : ١٢٥.

(٣) الكافي ٢ : ٦٨ / ٦.

٩٩

وعن محمد بن حفص بن خارجة قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ، وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والإيمان ، وقال : إنهم يحتجون علينا ويقولون : كما أن الكافر عندنا هو الكافر عند الله ، فكذلك نجد المؤمن إذا أقرّ بإيمانه أنه عند الله مؤمن.

فقال عليه‌السلام : سبحان الله ! وكيف يستوي هذان ، والكفر إقرار من العبد ، فلا يكلّف بعد إقراره ببينة ، والإيمان دعوى لا يجوز إلّا ببينة ، وبينته عمله ونيته ، فإذا اتفقا فالعبد عند الله مؤمن ، والكفر موجود بكلّ جهة من هذه الجهات الثلاث ؛ من نية أو قول أو عمل ، والأحكام تجري على القول والعمل ، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالإيمان ، ويجري عليه أحكام المؤمنين ، وهو عند الله كافر ! وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله » (١).

وللإمام الرضا عليه‌السلام مناظرات وأحاديث كثيرة في الرد على الواقفة ، وهم الذين وقفوا على الإمام الكاظم عليه‌السلام بسبب بعض النوازع المادية ، حيث تجمعت لديهم أموال طائلة من الحقوق المالية في وقتٍ كان فيه الإمام عليه‌السلام في سجن الرشيد ، فطمعوا فيها وادعوا بعد شهادة الإمام عليه‌السلام أنه حيّ لم يمت ، وأصبح الوقف فيما بعد تياراً فكرياً يتبناه بعض من لم تترسخ لديه مبادئ العقيدة الحقة ، فيقف عند بعض الأئمة عليهم‌السلام ، وكان الواقفة من أشد الناس عناداً للحق ، ورغم ذلك استطاع الإمام الرضا عليه‌السلام

______________

(١) الكافي ٢ : ٣٩ / ٨.

١٠٠