معالم الإصلاح عند أهل البيت عليهم السلام

علي موسى الكعبي

معالم الإصلاح عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-19-5
الصفحات: ١٦٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المشبّهون الله تبارك وتعالى بخلقه ، المفترون على الله ، واعلم ـ رحمك الله ـ أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله عزّوجلّ ، فانْفِ عن الله البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه ، هو الله الثابت الموجود ، تعالى الله عمّا يصفه الواصفون ، ولا تَعْدُ القرآن فتضِلَّ بعد البيان » (١).

فلقد أراد عليه‌السلام أن يقول للسائل أن لا يستغرق في الجدل الكلامي عندما يتحدث عن الله سبحانه ، وطلب إليه أن يقرأ كتاب الله اذا أراد معرفة خالقه ، وإلا فهو الضلال المبين.

وعن سهل بن زياد ، قال : « كتب إلى أبي محمد عليه‌السلام : قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد ، فمنهم من يقول هو جسم ، ومنهم من يقول هو صورة ، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه ، فعلت متطولاً.

فوقّع بخطّه عليه‌السلام : سألت عن التوحيد ، وهذا منكم معزول ، الله واحد أحد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، خالق وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم ، ويصور ما يشاء وليس بصورة ، جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أن يكون له شبه ، هو لا غيره ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير » (٢).

ولأجل تعميق هذه المبادئ في النفوس ، أمروا شيعتهم بمقاطعة

______________

(١) التّوحيد : ١٠٢ / ١٥ ، الكافي ١ : ١٠٠ / ١.

(٢) الكافي ١ : ١٠٣ / ١٠.

٦١

المجسمة ، وعدم الصلاة خلفهم ، وأن لا يعطوهم شيئاً من الزكاة (١).

٣ ـ إبطال الرؤية :

يذهب أهل الحديث من العامة إلى إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة ، ويرون أنّ الله تعالى يظهر للناس يوم القيامة كما يظهر البدر في ليلة تمامه ، واعتمدوا في ذلك على ظواهر جملة من الروايات والآيات (٢). ولتصحيح هذا الاتجاه بيّن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام استحالة رؤية الله تعالى ؛ لأنّها تُفضي إلى القول بالتشبيه ، مفسّرين الروايات والآيات التي استدلّ بها أهل الحديث على القول بإمكانية الرؤية بمعانٍ مناسبة لفهم الآيات والروايات.

عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ذاكرت أبا عبدالله عليه‌السلام فيما يروون من الرؤية فقال : الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملأوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب » (٣).

وعن أبي هاشم الجعفري ، قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ( لَّا تُدْرِكُهُ

______________

(١) راجع : أمالي المفيد : ١١٢ / ٣ ، من لا يحضره الفقيه / الصدوق ١ : ٣٧٩ ، التوحيد / الصدوق : ١٠١ / ١١.

(٢) راجع : الإبانة / الأشعري : ٢١ ، شرح التجريد / القوشجي : ٣٣٤.

(٣) الكافي ١ : ٩٨ / ٧.

٦٢

الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (١). فقال عليه‌السلام : يا أبا هاشم ، أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند ، والبلدان التي لم تدخلها ، ولا تدركها ببصرك ، وأوهام القلوب لا تدركه ، فكيف أبصار العيون ؟! » (٢).

وعن أحمد بن إسحاق ، قال : «كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس ؟ فكتب : لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية ، وكان في ذلك الاشتباه ، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه ، وكان في ذلك التشبيه ، لأن الأسباب لابد من اتصالها بالمسببات » (٣).

وعن يعقوب بن إسحاق ، قال : « كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام أسأله : كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه ؟ فوقّع عليه‌السلام : يا أبا يوسف ، جل سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يُرى.

قال : وسألته : هل رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربه ؟ فوقّع عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ » (٤).

______________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

(٢) الكافي ١ : ٩٩ / ١١.

(٣) التوحيد : ١٠٩ / ٧ ، أصول الكافي ١ : ٩٧ / ٤.

(٤) اُصول الكافي ١ : ٩٥ / ١ ، التوحيد : ١٠٨ / ٢.

٦٣

٤ ـ علمه تعالى :

من المسائل التي كثر الجدل عنها فيما يتعلق بعلمه سبحانه ، هي مسألة علمه بالأشياء قبل خلقها أو بعد ذلك ، وهل يجوز ظهور الأمر له تعالى بعد أن كان خافياً عليه ، وقد أجاب أهل البيت عليهم‌السلام بأنّ الله تعالى عالم بمصير الأشياء كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها ، وعلمه هذا أزلي قديم لا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ، ولا العلم بعد الجهل ، ومن ذلك ما رواه جعفر بن محمد بن حمزة ، قال : « كتبت إلى الرجل عليه‌السلام أسأله : أن مواليك اختلفوا في العلم ، فقال بعضهم : لم يزل الله عالماً قبل فعل الأشياء ، وقال بعضهم : لا نقول : لم يزل الله عالماً ؛ لأن معنى يعلم يفعل ، فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئاً ، فإن رأيت ـ جعلني الله فداك ـ أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه ؟ فكتب عليه‌السلام بخطه : لم يزل الله عالماً تبارك وتعالى ذكره » (١).

وعن أيوب بن نوح : « أنه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأله عن الله عزّوجلّ ، أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها ، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عندما خلق ، وما كوّن عندما كوّن ؟ فوقع بخطه : لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء » (٢).

______________

(١) الكافي ١ : ١٠٧ / ٥.

(٢) الكافي ١ : ١٠٧ / ٣ ، التوحيد : ١٤٥ / ١٣.

٦٤

ومن موارد التصحيح في هذا الاتجاه ما رواه الكاهلي ، قال : « كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام في دعاء : الحمد لله منتهى علمه. فكتب إلي : لا تقولن منتهى علمه ، ولكن قل منتهى رضاه » (١). فعلم الله ليس له نهاية ولا تحدّه حدود.

البداء :

مما تقدم تبين أن علمه تعالى محيط بكل شيء ، فلا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض ، وهو سبحانه عالم بمصير الأشياء كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها ، وعالم بالجزئيات كعلمه بالكليات ، وعلمه بالمعدوم كعلمه بالموجود ، وعلمه هذا أزلي قديم لا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ولا العلم بعد الجهل ، قال تعالىٰ : ( إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ) (٢).

وعلى هذا الأساس نفى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام البَداء بمعنى ظهور الشيء بعد خفائه ، لما يترتب عليه من نسبة الجهل إلى الله ، وهو عين الكفر ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

روى ابن سنان عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنّ الله يقدم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، وعنده أم الكتاب. وقال عليه‌السلام : لكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ، وليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في

______________

(١) الكافي ١ : ١٠٧ / ٤ ، التوحيد : ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٥.

٦٥

علمه ، إن الله لا يبدو له من جهل » (١).

وقال عليه‌السلام : «من زعم أن الله عزّوجلّ يبدو له في شيء لم يعلمه أمس ، فأبرءوا منه » (٢).

فمعنى البداء الوارد عنهم عليهم‌السلام هو ظهور أمر لنا منه تعالى لم يكن مرتقبا ، يعد مساوقا لتغيير القضاء ، وهو يتعلق بالتكوينيات ، كالنسخ المتعلق بالتشريعات ، ويكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بلوح المحو والإثبات.

عن الفضيل ، قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة ، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله ، يقدم فيها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت منها ما يشاء ، لم يطلع على ذلك أحداً ـ يعني الموقوفة ـ فأمّا ما جاءت به الرسل ، فهي كائنة ، لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته » (٣).

فالقول بجواز البداء في الأمر الموقوف لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، لأنه تعالى في عالم التكوين يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء ، لقوله تعالى : ( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٤) ، وقوله تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي

______________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٢١٨ / ٧١

(٢) بحار الأنوار ٤ : ١١١ / ٣٠.

(٣) تفسير العيّاشي ٢ : ٢١٧ / ٦٥.

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ٣٩.

٦٦

شَأْنٍ ) (١). وأحاديثهم عليهم‌السلام جاءت بهذا المنطق الإلهي ، ولا يخالفه إلّا منطق اليهود المعبّر عنه بقوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢).

قال اليهود : إنّ الله لما خلق الأشياء وقدّر التقادير ، تمّ الأمر وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتّمه من القضاء ، فلا نسخ ولا استجابة لدعاء ، لأنّ الأمر مفروغ منه (٣).

وما يهمنا في هذا الصدد هو التصحيح الذي قدمه أهل البيت عليهم‌السلام على طريق البداء ، ومن أبرز الشواهد عليه مناظرة الإمام الرضا عليه‌السلام مع سليمان المروزي متكلم خُراسان ، وكان المروزي ينكر البداء بالمعنى الذي قدمناه ، قال عليه‌السلام : « وما أنكرت من البداءِ يا سليمان ، والله عزَّوجلَّ يقول : ( أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) (٤) ، ويقول عزَّوجلَّ : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (٥) ، ويقول : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٦) ، ويقول عزَّوجلَّ : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ) (٧) ، ويقول : ( بَدَأَ

______________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٩.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

(٣) تفسير الميزان ٢ : ٣٢.

(٤) سورة مريم : ١٩ / ٦٧.

(٥) سورة الروم : ٣٠ / ٢٧.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ١١٧.

(٧) سورة فاطر : ٣٥ / ١.

٦٧

خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ) (١) ، ويقول عزَّوجلَّ : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (٢) ، ويقول عزَّوجلَّ : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ) (٣) ؟!

قال سليمان : هل رويت فيه شيئا عن آبائك ؟ قال عليه‌السلام : نعم ، رويت عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إن لله عزَّوجلَّ علمين : علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلّا هو ، ومن ذلك يكون البداء ، وعلما علَّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيه يعلمونه.

قال سليمان : أحب أن تنزعه لي من كتاب الله عزَّوجلَّ. قال عليه‌السلام : قول الله عزَّوجلَّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) (٤) أراد هلاكهم ثمَّ بدا لله ، أي عن علم ، فقال : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٥).

قال سليمان : زدني جعلت فداك ـ فواصل الإمام عليه‌السلام في إيراد الأدلة على جواز البداء حتى أذعن سليمان المروزي ـ فقال للمأمون : يا أمير المؤمنين ، لا اُنكرُ بعد يومي هذا البَداء ولا اُكذِّب به إن شاء الله » (٦).

______________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ٧.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٠٦.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ١١.

(٤) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٤.

(٥) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٥.

(٦) التوحيد : ٤٤١ ـ ٤٤٥ / ١.

٦٨

٥ ـ الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين :

الجبر هو الاعتقاد بنسبة أفعال العباد إلى الله تعالى ، ويقول المجبرة : ليس لنا صنع ، أي لسنا مخيرين في أفعالنا التي نفعلها ، بل إننا مجبورون بإرادته ومشيئته تعالى ، وإنما تنسب الأفعال إلينا على سبيل التجوّز ، لأننا محالّها ، وهذا يفضي إلى القول بأنه تعالى يحاسبهم على أفعال أجبرهم عليها ، ومن هنا نسبوا الظلم إلى الخالق ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، ويتبنى هذا الرأي الأشاعرة ، غير أنهم أضافوا ( الكسب ) إلى الإنسان ، لذا عُرفوا بالجبرية المتوسطة. والمفوضة يعتقدون أن الله سبحانه لا صنع له ولا دخل في أفعال العباد ، سوى أنه خلقهم وأقدرهم ، ثم فوض أمر أفعالهم إلى سلطانهم وإرادتهم ، ولا دخل لأي إرادة أو سلطان عليهم ، فأخرجوا الله تعالى عن سلطانه ، وأشركوا معه غيره في الخلق ، ويتبنى هذا الرأي المعتزلة. ويذهب أهل البيت عليهم‌السلام مذهباً وسطاً بين الجبر والتفويض لا يتّصل بالجبر ولا بالتفويض ، وهو الأمر بين الأمرين ، أو المنزلة بين منزلتين ، فأفعالنا هي تحت مقدورنا واختيارنا ، وهي مقدّرة لله تعالى.

عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبدالله الصّادق عليه‌السلام ، قال : « لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين. قال : قلت : وما أمر بين أمرين ؟ قال : مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينتهِ ، فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته ، أنت الذي أمرته بالمعصية » (١).

______________

(١) التّوحيد : ٣٦٢ / ٨.

٦٩

وعن الباقر والصّادق عليها‌السلام قالا : « إنّ الله عزّوجلّ أرحم بخلقه من أن يُجبِر خلقه على الذنوب ثمّ يُعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون » (١).

وروي عن الإمام الرضا عليه‌السلام لأصحابه كلاماً جامعاً في هذا الخصوص ، قال عليه‌السلام : « ألا أعطيكم في هذه أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسرتموه ؟ قالوا : إن رأيت ذلك. فقال عليه‌السلام : إنّ الله عزَّوجلَّ لم يطع بإكراه ، ولم يعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بالطاعة لم يكن الله عنها صاداً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، فإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيها ـ ثم قال عليه‌السلام : ـ من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه » (٢).

وروي عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أنه سئل عن أفعال العباد ، فقيل له : « هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه‌السلام : لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها ، وقد قال سبحانه : ( أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (٣) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم » (٤).

وللإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام رسالة بعثها إلى أهل الأهواز ، هي

______________

(١) التّوحيد : ٣٦٠ / ٣.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٨٢.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٣.

(٤) تصحيح الاعتقاد : ٢٩.

٧٠

أطول وأهم ما ورد في هذا الموضوع ، باعتباره من المسائل التي اُثيرت بقوة في ذلك الوقت ، بحيث كانت سبباً للاختلاف بين أصحابه عليه‌السلام إلى حدّ الفرقة والتقاطع والعداوة ، فوضع الإمام عليه‌السلام النقاط على الحروف في هذه المسألة الحساسة ، مستدلاً على المنزلة بين المنزلتين من آي الكتاب الكريم والحديث الشريف (١).

٦ ـ الهداية والضلالة والسعادة والشقاوة :

على ضوء ما تقدم من نسبة الأفعال اختلفت الفرق في تحديد جهة صدور الهداية والضلال ، والطاعة والمعصية ، والسعادة والشقاوة ، فذهب بعض المفسرين والمحدّثين إلى أنّ الله تعالى هو مصدر ذلك كله ، والعبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ، فإذا أراد الله هداه ، وإذا أراد أضله ، وذهب آخرون إلى العكس من هذا التصور ، فتصدّى أهل البيت عليهم‌السلام لهذين الاتجاهين مبينين أنّ كلّ هداية هي من الله تعالى ، وكلّ ضلالة هي من العبد نفسه ، وأن كليهما يجريان على الإنسان باختياره وقراره.

عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال : « سألته عن معنى لا حول ولا قوّة إلّا بالله. فقال : معناه لا حول لنا عن معصية الله إلّا بعون الله ، ولا قوّة لنا على طاعة الله إلّا بتوفيق الله عزّوجلّ » (٢).

وعن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : « سألت أبا عبد الله جعفر بن

______________

(١) تحف العقول / الحراني : ٤٥٨.

(٢) التّوحيد : ٢٤٢ / ٣ ، الاحتجاج : ٤١٢.

٧١

محمّد عليها‌السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ) (١). فقال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى يُضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته ، ويهدي أهل الإيمان والعمل الصالح إلى جنّته ، كما قال عزّوجلّ : ( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ ) (٢) ، وقال عزّوجلّ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) » (٣).

وعن حمدان بن سليمان النيسابوري ، « قال : سألت عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام بنيسابور عن قول الله عزّوجلّ : ( فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) (٤). قال : من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنّته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله ، والثقة به ، والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتّى يطمئن إليه ، ومن يرد أن يضلّه عن جنّته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا ، يجعل صدره ضيقاً حرجاً حتّى يشكّ في كفره ، ويضطرب من اعتقاده قلبه ، حتّى يصير كأنما يصعد في السّماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون » (٥).

٧ ـ تنزيه الأنبياء عن المعاصي :

ذهب أهل البيت عليهم‌السلام إلى القول بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام جميعاً من

______________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٧.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٧.

(٣) التّوحيد : ٢٤١ / ١. والآية من سورة يونس : ١٠ / ٩.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٥.

(٥) التّوحيد : ٢٤٢ / ٤.

٧٢

المعاصي كبيرها وصغيرها قبل النبوّة وبعدها ، وذهب الحشوية والأشاعرة إلى جواز فعل الكبائر قبل النبوّة ، ومنهم من ذهب إلى جوازها في حال النبوّة سوى الكفر والكذب فيما يتعلّق بتبليغ الشريعة ، ويستدلون على ذلك بظواهر بعض الآيات القرآنية ، وجوّز المعتزلة صغائر الذنوب على الأنبياء.

وقدم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بياناً شافياً لجميع الآيات التي يظهر منها نسبة الخطأ أو المعصية للأنبياء عليهم‌السلام ، وأماطوا الستار عن المعاني الحقيقية لتلك الآيات.

ومن ذلك ما رواه الحسن الصيقل ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنا قد روينا عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول يوسف عليه‌السلام : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (١) ، فقال : والله ما سرقوا وما كذب ، وقال إبراهيم عليه‌السلام : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) (٢) ، فقال : والله ما فعلوا وما كذب.

قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما عندكم فيها يا صيقل ؟ قال : فقلت : ما عندنا فيها إلّا التسليم ، قال : فقال : إن الله أحبّ اثنين ، وأبغض اثنين : أحبّ الخطر فيما بين الصفّين ، وأحبّ الكذب في الاصلاح ، وأبغض الخطر في الطرقات ، وأبغض الكذب في غير الاصلاح ، إن إبراهيم عليه‌السلام إنما قال : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا ) إرادة الاصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون ، وقال

______________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٧٠.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٣.

٧٣

يوسف عليه‌السلام إرادة الاصلاح » (١).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام ، قال : « ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم عليه‌السلام ، فقلت : فكيف ذاك ؟ قال : إنما قال إبراهيم عليه‌السلام : ( فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) إن نطقوا فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً ، فما نطقوا وما كذب إبراهيم عليه‌السلام.

فقلت : قوله عزّوجلّ في يوسف عليه‌السلام : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) قال : إنهم سرقوا يوسف من أبيه ، ألا ترى أنه قال لهم حين قال : ( مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ) (٢) ، ولم يقل : سرقتم صواع الملك ؟ إنما عنى سرقتم يوسف من أبيه » (٣).

وهذا الحديث وغيره (٤) يستبطن ردّاً على ما روي من طرق العامة بما لا يتناسب مع شخصية الأنبياء عليهم‌السلام ، عن أبي هريرة قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات : قوله حين دعي إلى آلهتهم إني سقيم ، وقوله : فعله كبيرهم هذا ، وقوله لسارة : انها أختي... » (٥).

وقد حكم الفخر الرازي في التفسير الكبير بكذب حديث البخاري

______________

(١) الكافي ٢ : ٣٤١ / ١٧.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٧١ ـ ٧٢.

(٣) معاني الأخبار : ٢١٠ / ١.

(٤) راجع : الكافي ٨ : ١٠٠ / ٧٠ ، مجمع البيان ٨ : ٧٠٢.

(٥) راجع : صحيح البخاري ٤ : ٢٨٠ / ١٦١ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٤٠ / ١٥٤ ، مسند أحمد ٢ : ٤٠٣.

٧٤

عن أبي هريرة ، فقال ما هذا لفظه :

« قلت لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل ؛ لأنّ نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه‌السلام لا تجوز ، وقال ذلك الرجل : فكيف يحكم بكذب الرواة العدول ؟ فقلت : لمّا وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه‌السلام ، كان من المعلوم بالضرورة أنّ نسبته إلى الراوي أولى » (١).

وللامام عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام حديث طويل رواه عليّ بن محمّد ابن الجهم ، وأجاب فيه الإمام عليه‌السلام عن كثير من الآيات التي توهم ما يعارض العصمة ، قال عليّ بن محمّد بن الجهم : «حضرت مجلس المأمون وعنده الرّضا عليّ بن موسى عليها‌السلام ، فقال له المأمون : يا بن رسول الله ، أليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون ؟ فقال : بلى ، وذكر حديثاً طويلاً ، ومنه : قال المأمون : فأخبرني عن قول الله تعالى : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ؟ (٢).

فقال الرضا عليه‌السلام : لقد همَّت به ، ولولا أن رأى برهان ربِّه لهمَّ بها كما همّت به ، لكنّه كان معصوماً ، والمعصوم لا يهمّ بذنبٍ ولا يأتيه. ولقد حدَّثني أبي ، عن أبيه الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : همّت بأن تفعل ، وهمَّ بأن لا يفعل. فقال المأمون : لله درّك ، يا أبا الحسن » (٣).

______________

(١) التفسير الكبير / الفخر الرازي ١٦ : ١٤٨.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.

(٣) عيون أخبار الرضا ١ : ٢٠١ / ١.

٧٥

٨ ـ التصدّي لحركة الغلو والنصب :

الغلوّ : مجاوزة الحدّ المعقول في العقائد الدينية والواجبات الشرعية. والغالي في أهل البيت عليهم‌السلام من يقول فيهم عليهم‌السلام ما لا يقولون في أنفسهم ، كالقول بأُلوهية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ، وبكونهم شركاء لله سبحانه في الربوبية ، وأن الله تعالى حلّ فيهم أو اتحد بهم ، وانهم يعلمون الغيب ، والقول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات والعبادات ، والقول بأنّ الله فوّض إليهم أمر العباد بالتفويض المطلق ، والقول بأن الأئمة عليهم‌السلام أنبياء ، والقول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض ، والقول بأنهم لم يُقتلوا ولم يموتوا بل شبّه لهم ، والقول بتفضيل الأئمة عليهم‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكارم الأخلاق ، إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة التي رفضها الأئمة عليهم‌السلام وشيعتهم الإمامية جملة وتفصيلاً ، وذهب بعض الغلاة إلى ادعاء البابية أو الإمامة أو النبوة.

وفرق الغلاة كثيرة ، منهم : العليائية والمخمسة والغرابية والبزيعية والبيانية والخطابية والشعيرية والمغيرية والمنصورية ، وغيرهم من فرق الضلال المنقرضة ، التي نشأت لأسباب عديدة ، منها سياسية تهدف إلى طلب الرئاسة والزعامة ، أو الحطّ من مكانة الأشخاص الذين يغالون فيهم والتقليل من شأنهم ، ومنها المصالح الشخصية الهادفة إلى احتواء أموال الناس وأكلها بالباطل ، ومنها النزوات الشاذة التي جعلت أصحابها يتمردون على شرعة الله سبحانه ، فأباحوا المحرمات واستخفوا

٧٦

بالعبادات ، ومهما كان السبب فان حركة الغلو من المعاول الهدامة التي تشكل خطورة بالغة على الفكر الإسلامي ، وهي ظاهرة طارئة نشأت بدعم موجّه من قبل أعداء الإسلام الذين ما انفكوا يتربصون به الدوائر ، ليسلبوا مبادئه من نفوس أبنائه ، ويشوّهوا مفاهيمه ومعتقداته.

لذلك اتخذ الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وشيعتهم مواقف شديدة من الغلو والغلاة ، لقطع الطريق أمام هذا المدّ الفكري الهدّام ، وسد جميع المنافذ أمام الغلاة ، ومحاربتهم بكلّ ما بوسعهم من عناصر القوة والامكان ، للحيلولة دون انتشار أفكارهم الهدامة ، فبينوا أن الغلو كفر وشرك وخروج عن الإسلام ، وتبرءوا من الغلاة ولعنوهم ، وحذّروا شيعتهم منهم ، وكشفوا عن تمويهاتهم وافتراءاتهم ، وردّوا على أباطيلهم ، لتصحيح المسار الإسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف واتجاهات ، والحفاظ على الخط الرسالي الأصيل.

قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام في حديث الأربعمائة : « إياكم والغلو فينا ، قولوا : عبيد مربوبون ، وقولوا في فضلنا ما شئتم ، من أحبنا فليعمل بعملنا ، وليستعن بالورع » (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا ، لعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا ، وإليه مآبنا ومعادنا ، وبيده نواصينا » (٢).

______________

(١) الخصال : ٦١٤ / ١٠.

(٢) رجال الكشي : ٣٠٢ / ٥٤٢.

٧٧

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام وقد سئل عن الغلاة : « .. من جالسهم أو خالطهم ، أو آكلهم أو شاربهم ، أو واصلهم ، أو زوّجهم أو تزوج منهم ، أو آمنهم أو ائتمنهم على أمانة ، أو صدق حديثهم ، أو أعانهم بشطر كلمة ، خرج من ولاية الله عزّوجلّ وولاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وولايتنا أهل البيت » (١).

وإلى جانب الغلو في النبي والأئمة عليهم‌السلام فان هناك خطاً مناقضاً لخطّ الغلو ، وهو خطّ النصب والعدوان لأهل البيت عليهم‌السلام ، والانتقاص من مكانتهم الحقّة عند الله تعالى ، ودورهم في تبليغ الرسالة والحفاظ عليها ، والبعض من الناصبة قد يصل إلى حدّ التكفير لكلِّ من يتولى أهل البيت عليهم‌السلام ويقول بامامتهم ، ويدين بحبّهم ، ويقتدي بهم كقادة رساليين انتجبهم الله تعالى لتبليغ دينه وإتمام رسالته.

وقد بيّن أهل البيت عليهم‌السلام أن كلاً من الغلو والنصب هو من نتاج أعدائهم ، وأن الغالي والناصب هالكان ، وأن أفضل المواقف هو الموقف الوسط بين الافراط والتفريط.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « سيهلك فيَّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ ، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط فالزموه » (٢).

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام : « نحن آل محمد النمط الأوسط الذي لا يدركنا

______________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٢١٩ / ٤.

(٢) نهج البلاغة : ١٨٤ ـ الخطبة ١٢٧.

٧٨

الغالي ولا يسبقنا التالي » (١).

٩ ـ التصدّي لأهل البدع والشبهات :

هناك الكثير من الأخبار التي تدلّ على أن أهل البيت عليه‌السلام كانوا يتابعون بدقة ما يجري على الساحة الفكرية ، ويتحركون على كل الاتجاهات المضادة والأفكار المنحرفة والشبهات التي تنطلق هنا وهناك في مواجهة الفكر الإسلامي الأصيل ، فيتصدّون لها بالحجة البالغة والاسلوب العلمي والجدل الموضوعي.

مثال ذلك ما نقله ابن شهرآشوب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل : أن الكندي ، كان فيلسوف العراق في زمانه ، أخذ في تأليف تناقض القرآن ، وشغل نفسه بذلك ، وتفرّد به في منزله ، فسلّط الإمام العسكري عليه‌السلام عليه أحد طلابه بكلامٍ قاله له ، مما جعله يتوب ويحرق أوراقه.

وملخص الفكرة التي أبداها الإمام عليه‌السلام للتلميذ ، هي احتمال أن يكون المراد بالآيات القرآنية غير المعاني التي فهمها وذهب إليها ، باعتبار أن اللغة العربية مرنة متحركة ، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنه الحقيقة وهو من المجاز ، وقد يفهم أن المراد هو المعنى اللغوي والمقصود هو المعنى الكنائي.

وطلب الإمام عليه‌السلام من تلميذ الكندي أن يتلطّف في مؤانسة استاذه

______________

(١) الكافي ١ : ١٠١ / ٣.

٧٩

قبل إلقاء الاحتمال ، ووصفه عليه‌السلام بقوله : إنّه رجل يفهم إذا سمع. فصار التلميذ إلى الكندي ، وألقى إليه ذلك الاحتمال ، فتفكر في نفسه ، ورأى أن ذلك محتمل في اللغة ، وسائغ في النظر.

فقال : أقسمت عليك إلّا أخبرتني من أين لك هذا؟ فقال : إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال : كلا ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا ، ولا من بلغ هذه المنزلة ، فعرّفني من أين لك هذا ؟ فقال : أمرني به أبو محمد. فقال : الآن جئت به ، وما كان ليخرج مثل هذا إلّا من ذلك البيت. ثم إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألفه (١).

ومن المفاهيم المغلوطة التي أسهم أهل البيت عليهم‌السلام في فضحها وتعريتها ، وتوجيهها في المسار الصحيح ، هو سلوك المتصوفة في الزهد واظهار التقشف والانقطاع عن الحياة.

قال العلاء بن زياد الحارثي لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد ، قال : وماله ؟ قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : عليَّ به. فلما جاء قال : يا عديّ نفسه ، لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك » (٢).

ودخل على علي بن موسى الرضا قوم من الصوفية فقالوا :

______________

(١) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٤٥٧.

(٢) نهج البلاغة : ٣٢٤ ـ الخطبة ٢٠٩.

٨٠