علي موسى الكعبي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-19-5
الصفحات: ١٦٦
على تأويل الآيات التي يدل ظاهرها على التشبيه والتجسيم.
سئل أمير المؤمنين عليهالسلام عن قوله عزّوجلّ : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (١) فقال عليهالسلام : « إن الله لا يوصف بالمجيء والذهاب والانتقال ، إنما يعني بذلك وجاء أمر ربك » (٢).
وسئل عليهالسلام عن قوله عزّوجلّ : ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) (٣) ، فقال عليهالسلام : « إن الله تعالى لا يُوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عن عباده ، ولكنّه يعني عن ثواب ربّهم محجوبين » (٤).
وعن محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أبا جعفر عليهالسلام فقلت : قوله عزّوجلّ : ( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (٥). فقال عليهالسلام : اليد في كلام العرب القوّة والنعمة ، قال الله : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ) (٦) ، وقال : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) (٧) ، أي بقوّة ، وقال : ( وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) (٨) أي قوّاهم ، ويقال : لفلان عندي أيادٍ كثيرة. أي فواضل وإحسان ، وله عندي يدٌ
______________
(١) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٢.
(٢) الاحتجاج ٢ : ١٩٣.
(٣) سورة المطففين : ٨٣ / ١٥.
(٤) الاحتجاج ٢ : ١٩٣.
(٥) سورة ص : ٣٨ / ٧٥.
(٦) سورة ص : ٣٨ / ١٧.
(٧) سورة الذاريات : ٥١ / ٤٧.
(٨) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.
بيضاء. أي نعمة » (١).
وقال الرضا عليهالسلام : في قول الله عزّوجلّ : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (٢) ، قال : « يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها » (٣).
وفي هذا السياق نفى أهل البيت عليهمالسلام في تفاسيرهم مقولات المشبهة الذين حاولوا الاستفادة من ظواهر بعض الآي وتطويعها لخدمة مقولاتهم الباطلة وأغراضهم السيئة ، وعمدوا إلى توجيه الناس إلى عدم الخوض في صفات الخالق جلّ وعلا بما لا يملكون كنهه وعمقه ، وأن يصفوه بما وصف به نفسه ، فانه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها.
عن المشرقي ، عن بعض أصحابنا ، قال : « كنت في مجلس أبي جعفر عليهالسلام إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له : جعلت فداك ، قول الله تبارك وتعالى : ( وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ ) (٤) ما ذلك الغضب ؟ فقال أبو جعفر عليهالسلام : هو العقاب ، يا عمرو إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق ، وإنّ الله تعالى لا يستفزّه شيء فيغيره » (٥).
سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن قول الله تبارك وتعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
______________
(١) التّوحيد : ١٥٣ / ١.
(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣.
(٣) التوحيد : ١١٦ / ١٩ ، الاحتجاج ٢ : ١٩١.
(٤) سورة طه : ٢٠ / ٨١.
(٥) الكافي ١ : ١١٠ / ٥.
وَجْهَهُ ) (١) فقال : « ما يقولون فيه ؟ قلت : يقولون : يهلك كل شيء إلّا وجه الله. فقال : سبحان الله ! لقد قالوا قولاً عظيماً ، إنّما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه » (٢).
وعن وهب بن وهب القرشي ، عن الإمام الصادق ، عن آبائه عليهمالسلام : « إنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّ عليهاالسلام يسألونه عن ( الصَّمَدُ ) فكتب إليهم : بسم الله الرَّحمٰن الرَّحيم ، أمّا بعد ، فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تجادلوا فيه بغير علم ، فقد سمعت جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النّار ، وإنَّ الله سبحانه فسّر الصمد ، فقال : ( اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ ) ثمّ فسّره ، فقال : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) » (٣).
فهو عليهالسلام هنا يحث على عدم الخوض بالتفسير بغير علم ، ويعتمد اسلوب تفسير القرآن بالقرآن لشرح كلمة الصمد.
٦ ـ في تفسير آيات الأحكام :
أشار أئمة أهل البيت عليهمالسلام في كثير من مواضع التفسير إلى تفاصيل بعض الأحكام وعلل بعض الشرائع ومعاني بعض الأخبار المتعلقة بالفقه ، بما يخالف ما درج عليه أهل الفقه في زمانهم ، محاولين وضع تلك الآيات في موردها الشرعي الصحيح المستند إلى الكتاب والسنة ومن
______________
(١) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨.
(٢) الكافي ١ : ١٤٣ / ١.
(٣) التّوحيد : ٩٠ / ٥ ، والآيات من سورة الإخلاص : ١١٢ / ٣ ـ ٤.
ذلك :
١ ـ عن أبي الربيع الشامي ، قال : « سئل أبو عبدالله عليهالسلام عن قول الله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) (١) فقال : ما يقول الناس ؟ فقيل له : الزاد والراحلة. فقال أبو عبدالله عليهالسلام : سئل أبو جعفر عليهالسلام عن هذا ؟ فقال : لقد هلك الناس إذاً ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت به عياله ، ويستغني به عن الناس ، ينطلق إليهم فيسألهم إياه ، ويحجّ به ، لقد هلكوا إذا.
فقيل له : فما السبيل ؟ قال : فقال : السعة في المال ، إذا كان يحجّ ببعضٍ ويُبقي بعضاً يقوت به عياله ، أليس الله قد فرض الزكاة ، فلم يجعلها إلّا على من يملك مائتي درهم » (٢) ؟
٢ ـ وعن الحلبي ، قال : « سألته عليهالسلام عن قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) (٣). قال : ... يعني سكر النوم ، يقول : وبكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم ، وليس كما يصف كثيرٌ من الناس ، يزعمون أنّ المؤمنين يسكرون من الشراب ، والمؤمن لا يشرب مُسكراً ولا يسكر » (٤).
٣ ـ وعن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : « قلت له : أرأيت قول
______________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.
(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٣١ / ٧٥٢ ، الكافي ٤ : ٢٦٧ / ٣ ، علل الشرائع : ٤٥٣ / ٣.
(٣) سورة النساء : ٤ / ٤٣.
(٤) تفسير العياشي ١ : ٣٩٩ ، بحار الأنوار ٨٤ : ٢٣١ / ٤.
الله عزّوجلّ : ( لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ ) (١) ، فقال : إنما لم يحل له النساء التي حرم الله عليه في هذه الآية ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ) (٢) ولو كان الأمر كما يقولون لكان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له هو ، لأنّ أحدكم يستبدل كلما أراد ، ولكن ليس الأمر كما يقولون : أحاديث آل محمد صلىاللهعليهوآله خلاف أحاديث الناس ، إنّ الله عزّوجلّ أحلّ لنبيه صلىاللهعليهوآله أن ينكح من النساء ما أراد إلّا ما حرم عليه في سورة النساء ، في هذه الآية » (٣).
٧ ـ في أسباب النزول :
لأهل البيت عليهمالسلام كلمتهم في علم أسباب النزول ، سيما في باب الآيات النازلة فيهم ، أو المبينة لحقوقهم في الإمامة والولاية والطاعة والمودة والصلاة عليهم ، وحقهم في الأنفال والخمس والفيء ، إلى غير ذلك من الآيات التي استعرضت فضلهم السامي ومكارمهم العالية ، وقد تجنى بعض المفسرين في هذا الباب كثيراً ، لمداراتهم أهواء أصحاب السلطة والصولجان ، ومجانبتهم المنطق السليم وما تواتر من الأثر الصحيح ، مما اضطرهم إلى الخوض في تفسيرات متهافتة وبعيدة عن صريح دلالة الآيات ، وترتب على هذا العمل الخطير عواقب وخيمة بعدت آل النبي صلىاللهعليهوآله عن موقعهم الذي أراده الله لهم ، وجعل الأمة تتطاول على حقوقهم التي رتّبها الله لهم ، والآثار في هذا الباب كثيرة اخترنا منها :
______________
(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٢.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٢٣.
(٣) الكافي ٥ : ٣٩١ / ٨.
١ ـ واحتجّ أئمة أهل البيت عليهمالسلام بقوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) على فرض مودتهم ووجوب محبتهم على كلِّ مؤمن ، روى إسماعيل بن عبدالخالق ، عن أبي عبدالله عليهالسلام ، قال : « سمعته عليهالسلام يقول لأبي جعفر الأحول : ما يقول أهل البصرة في هذه الآية ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) ؟ فقال : جعلت فداك ، انهم يقولون : إنّها لأقارب رسول الله صلىاللهعليهوآله. فقال : كذبوا إنّما نزلت فينا خاصة ، في أهل البيت ، في علي وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء » (٢).
٢ ـ وعن عبدالله بن عطاء ، قال : « قلت لأبي جعفر عليهالسلام : هذا ابن عبدالله بن سلام بن عمران يزعم أنَّ أباه الذي يقول الله : ( قُلْ كَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (٣) ؟ قال : كذب ، هو عليّ بن أبي طالب عليهالسلام » (٤).
٣ ـ وعن عمرو بن سعيد ، قال : « سألت أبا الحسن عليهالسلام عن قوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٥) ، قال : علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده » (٦).
______________
(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٣.
(٢) الكافي ٨ : ٧٩ / ٦٦ ، قرب الإسناد / الحميري : ١٢٨ / ٤٥٠.
(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٤٣.
(٤) تفسير العياشي ٢ : ٤٠١ / ٢٢٥٦ ، بصائر الدرجات : ٢٣٥ / ١٦.
(٥) سورة النساء : ٤ / ٥٩.
(٦) تفسير العياشي ١ : ٢٥٣ / ١٧٦.
جدير بالذكر إن ما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام في تصحيح أسباب النزول كما مر مثاله في الروايات الآنفة هو مأخوذ عن رسول الله صلىاللهعليهوآله لوجود أحاديث كثيرة في هذا الباب مسندة إلى النبي صلىاللهعليهوآله في خصوص توضيح سبب نزول الآيات المذكورة.
المبحث الثاني ـ الحديث
في رواية الحديث ودرايته
لم يدّخر الأئمّة عليهمالسلام وسعاً في سبيل إصلاح ثاني ركائز التشريع ومنابع الفكر الديني بعد كتاب الله تعالى ، فأكّدوا على ضرورة تدوينه ، وبيّنوا منهجاً واضحاً لتصحيحه وتفاصيل فقهه وعلله وطرق تحمّله وسماعه ، وأوضحوا أنّ فيه ناسخاً ومنسوخاً وخاصاً وعاماً ومحكماً ومتشابهاً ، ويتوجب ردّ المتشابه إلى المحكم منه.
عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : « قلت له : ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يتهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه ؟ قال : إنّ الحديت يُنسخ كما يُنسخ القرآن » (١).
وقال الإمام الرضا عليهالسلام : « إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ، ومحكماً كمحكم القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتبعوا متشابهها
______________
(١) الكافي ١ : ٦٤ / ٢.
دون محكمها فتضلوا » (١).
ويوجّه أمير المؤمنين عليهالسلام أصحابه إلى ضرورة معرفة أنواع الحديث ، وتحرّي الدقّة عن ظروف صدوره وحال رواته ، فيقسم الرواة بحسب صدقهم إلى أربعة : منافق يتعمد الكذب ، وآخر واهم لم يتعمد الكذب ، وثالث حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، ورابع صادق أتى بالحديث على وجهه.
عن سُليم بن قيس الهلالي ، قال : « قلت لأمير المؤمنين عليهالسلام : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله صلىاللهعليهوآله غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله صلىاللهعليهوآله أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلىاللهعليهوآله متعمدين ، ويفسّرون القرآن بآرائهم ؟
قال : فأقبل عليّ فقال : قد سألت فافهم الجواب ؛ إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعاماً وخاصاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً ، وقد كذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله على عهده حتى قام خطيباً فقال : أيها الناس ، قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار. ثمّ كذّب عليه من بعده.
______________
(١) عيون أخبار الرضا ١ : ٢٢٦ / ٣٩.
وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :
رجل منافق يظهر الايمان ، متصنّع بالإسلام ، متكلّف له ، ومتدلّس به ، غير متصفٍ به ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله متعمداً ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول الله صلىاللهعليهوآله ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ، ووصفهم بما وصفهم ، فقال عزّوجلّ : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (١) ثمّ بقوا بعده ، فتقرّبوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلّا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله صلىاللهعليهوآله شيئاً لم يحمله على وجهه ووهم فيه ، ولم يتعمّد كذباً ، فهو في يده ، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول : أنا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلىاللهعليهوآله شيئاً أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولم علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.
______________
(١) سورة المنافقون : ٦٣ / ٤.
وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولم ينسه ، بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ. فإنّ أمر النبي صلىاللهعليهوآله مثل القرآن ، ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول الله صلىاللهعليهوآله الكلام له وجهان : كلام عامّ ، وكلام خاصّ ، مثل القرآن ، وقال الله عزّوجلّ في كتابه : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدرِ ما عنى الله به ورسوله صلىاللهعليهوآله » (٢).
موارد من تصحيح الحديث :
على ضوء المنهج المتقدّم سمع أهل البيت عليهمالسلام مزيداً من الأحاديث المتداولة على ألسن الرواة والمحدثين ، فأشاروا إلى أوهام المحدّثين ، وأمروا أصحابهم بردّها أو تصحيحها على وفق روايتها الصحيحة ، وفيما يلي بعض موارد التصحيح ، وهي بمجموعها تشكّل أحد أهم الأدوات التي تؤهّل المحدّثين لفهم المراد من الحديث وبيان معناه وفقهه.
١ ـ بيان سبب صدور الحديث :
هناك أسباب دعت إلى صدور غالبية الأحاديث ، مثلما دعت أسباب أخرى إلى نزول آي الكتاب الكريم ، لأن الرسول المصطفى صلىاللهعليهوآله لا يتكلم
______________
(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٧.
(٢) الكافي ١ : ٦٢ / ١.
اعتباطاً بل حديثه موافق لمقتضى الحال ، وبدون الاحاطة بتلك الأسباب يبقى الحديث ناقصاً ولا يتوفر المحدث أو المتلقي على معرفته ، ومن هنا أشار أئمة أهل البيت عليهمالسلام إلى أسباب صدور بعض الأحاديث كي يجلوا عنها غبار الغموض والابهام.
عن أبان الأحمر ، قال : « سأل بعض أصحابنا أبا الحسن عليهالسلام عن الطاعون يقع في بلدة وأنا فيها ، أتحول عنها ؟ قال : نعم. قال : ففي القرية وأنا فيها ، أتحوّل عنها ؟ قال : نعم. قال : ففي الدار وأنا فيها ، أتحول عنها ؟ قال : نعم. قلت : إنا نتحدث أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف ؟ قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله انما قال هذا في قوم كانوا في الثغور في نحو العدو ، فيقع الطاعون ، فيخلّون أماكنهم ويفرون منها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله ذلك فيهم » (١).
٢ ـ بيان مواطن الحذف والتحريف :
تعرض الحديث لأسباب مختلفة وأغراض شتى إلى الحذف والاسقاط والتحريف ، وكان للأئمة الهداة عليهمالسلام دور واضح في الدلالة على هذه الظاهرة الخطيرة التي توجّه إلى أحد أهم مصادر التشريع.
عن الحسين بن خالد ، قال : « قلت للرضا عليهالسلام : يابن رسول الله ، إنّ قوماً يقولون : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إنّ الله خلق آدم على صورته ؟ فقال : قاتلهم الله ، لقد حذفوا أوّل الحديث ، إنّ رسول الله مرّ برجلين يتسابّان ، فسمع
______________
(١) معاني الأخبار : ٢٥٤ / ١.
أحدهما يقول لصاحبه : قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك. فقال له صلىاللهعليهوآله : يا عبدالله ، لا تقل هذا لأخيك ، فانّ الله عزّوجلّ خلق آدم على صورته » (١).
وعن إبراهيم بن أبي محمود ، قال : « قلت للرضا عليهالسلام : يابن رسول الله ، ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال : إنّ الله تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا ؟
فقال عليهالسلام : لعن الله المحرّفين للكلم عن مواضعه ، والله ما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله كذلك ، إنّما قال صلىاللهعليهوآله : إنّ الله تعالى ينزل ملكاً إلى السماء الدنيا كلّ ليلةٍ في الثلث الأخير ، وليلة الجمعة في أول الليل ، فيأمره فينادي : هل من سائلٍ فأُعطيه ، هل من تائبٍ فأتوب عليه ، هل من مستغفرٍ فأغفر له ؟ يا طالب الخير أقبل ، يا طالب الشرّ أقصر. فلا يزال ينادي بذلك حتى يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر عاد إلى محلّه من ملكوت السماء ؛ حدّثني بذلك أبي ، عن جدّي ، عن آبائه عليهمالسلام ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله » (٢).
٣ ـ بيان مواطن الكذب والوضع :
وأشار الأئمة عليهمالسلام إلى أحد أهم آفات الحديث الشريف ، وهي الكذب والافتراء والتدليس على جدهم الرسول المصطفى صلىاللهعليهوآله ، وعلى الأئمة المتقدمين ، وعلى رغم تحذير الرسول صلىاللهعليهوآله من الاقدام على هذا العمل الخطير وكون مرتكبه يتبوأ النار اذا كان متعمداً ، فقد سرت هذه
______________
(١) التوحيد : ١٥٢ / ١١.
(٢) التوحيد : ١٧٦ / ٧ ، عيون أخبار الرضا ١ : ١٢٦ / ٢١.
الظاهرة الخطيرة إلى تراث الحديث ، فكان لأهل البيت عليهمالسلام كلمتهم في هذا الصدد لتشخيص المفترين وردّ انتحال المبطلين وابطال تحريف الغالين والوضاعين.
عن مسعدة بن صدقة ، قال : « قيل لأبي عبدالله عليهالسلام : إنّ الناس يروون أنّ علياً عليهالسلام قال على منبر الكوفة : أيها الناس ، إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي ، فلا تبرءوا منّي.
فقال عليهالسلام : ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليهالسلام ! ثمّ قال : إنّما قال : إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ، ثمّ ستدعون إلى البراءة منّي وإنّي لعلى دين محمد صلىاللهعليهوآله ، ولم يقل : لا تبرءوا منّي » (١).
وعن عبيد بن زرارة ، قال : « قلت لأبي عبدالله عليهالسلام : إنّ الناس يروون أنّ علياً عليهالسلام كتب إلى عامله بالمدائن أن يشتري له جارية ، فاشتراها وبعث بها إليه ، وكتب إليه أنّ لها زوجاً ، فكتب إليه علي عليهالسلام أن يشتري بضعها فاشتراه ؟ فقال : كذبوا على علي عليهالسلام ، أعليّ يقول هذا ؟! » (٢).
وعن زرارة ، عن أبي عبدالله عليهالسلام : « إنّ أهل الكوفة قد نزل فيهم كذاب. أمّا المغيرة : فانّه يكذب على أبي ـ يعني أبا جعفر عليهالسلام ـ قال : حدّثه أنّ نساء آل محمد إذا حضن قضين الصلاة ، وكذب والله ، عليه لعنة الله ، ما كان من ذلك شيء ولا حدّثه.
______________
(١) الكافي ٢ : ٢١٩ / ١٠.
(٢) الكافي ٥ : ٤٨٣ / ٥.
وأمّا أبو الخطاب : فكذب عليّ ، وقال : إنّي أمرته أن لا يصلّي هو وأصحابه المغرب حتى يروا كوكب كذا يقال له : القنداني ، والله إنّ ذلك لكوكب ما أعرفه » (١).
وعن محمد بن زيد الطبري قال : « كنت قائماً على رأس الرضا عليهالسلام بخراسان وعنده عدّة من بني هاشم ، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي ، فقال : يا إسحاق ، بلغني أنّ الناس يقولون : إنا نزعم أنّ الناس عبيد لنا ، لا وقرابتي من رسول الله صلىاللهعليهوآله ما قلته قطّ ، ولا سمعته من آبائي قاله ، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله ، ولكني أقول : الناس عبيد لنا في الطاعة ، موالٍ لنا في الدين ، فليبلغ الشاهد الغائب » (٢).
وعن أبي ولاد الحنّاط ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « قلت له : جعلت فداك ، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيورٍ خضرٍ حول العرش ؟ فقال : لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طيرٍ ، ولكن في أبدانٍ كأبدانهم » (٣).
قاعدة تشخيص الكذب والوضع :
حذّر أئمة أهل البيت عليهمالسلام أصحابهم من دسّ الغلاة والكذابين والوضاعين في الحديث من أمثال أبي سمينة ، وأبي الخطاب محمد بن أبي زينب ، والمغيرة بن سعيد وغيرهم ، وأنكروا كتبهم وشخّصوا أخبارهم
______________
(١) رجال الكشي : ٢٢٨ / ٤٠٧.
(٢) الكافي ١ : ١٨٧ / ١٠ ، أمالي الشيخ المفيد : ٢٥٣.
(٣) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ١.
التي عرضت عليهم ، مؤكّدين قاعدة عامة حاكمة في قبول الحديث أو رده ، وهي عرض الحديث على القرآن والسنة ، أو وجود شاهد عليه من أحاديثهم المتقدّمة ، لأنّ كلام آخرهم مثل كلام أولهم ، وكلام أولهم مصدّق لكلام آخرهم ، كما أن مع كلّ قول لهم حقيقة ، وعليه نور ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان.
عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن : « إنّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر ، فقال له : يا أبا محمد ، ما أشدّك في الحديث ، وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا ! فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث ؟
فقال : حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبدالله عليهالسلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافق القرآن والسنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة ، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا صلىاللهعليهوآله ، فإنا إذا حدثنا قلنا : قال الله عزّوجلّ ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله.
قال يونس : وافيت العراق فوجدت بها قطعة
من أصحاب أبي جعفر عليهالسلام
، ووجدت أصحاب أبي عبدالله عليهالسلام
متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم ، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا عليهالسلام
، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبدالله عليهالسلام
، وقال لي : إنّ
أبا الخطاب كذّب على أبي عبدالله عليهالسلام ،
لعن الله أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي
عبدالله عليهالسلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول : قال فلان وفلان ، فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أولنا ، وكلام أولنا مصدّق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا : أنت أعلم وما جئت به ، فإن مع كلّ قول منا حقيقة ، وعليه نور ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان » (١).
تطبيقات لهذه القاعدة :
يقدم لنا الإمام أبو جعفر الجواد عليهالسلام تطبيقاً عملياً لهذه القاعدة ، من خلال مناظرته ليحيى بن أكثم بمحضر المأمون وجماعة من أركان دولته وخاصته ، حيث يدلي ابن أكثم بجملة أحاديث موضوعة في فضل أبي بكر وعمر ، فيردها الإمام عليهالسلام من خلال عرضها على الكتاب والسنة. قال يحيى : « ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي أن جبرئيل نزل على رسول الله صلىاللهعليهوآله وقال : يامحمد ، إنّ الله يقرؤك السلام ، ويقول لك : سل أبا بكر هل هو راضٍ عني ، فإنّي راضٍ عنه ؟
فقال عليهالسلام : ... يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلىاللهعليهوآله في حجة الوداع : قد كثُرت عليَّ الكذابة وستكثر ، فمن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله
______________
(١) رجال الكشي : ٢٢٤ / ٤٠١.
وسنتي فلا تأخذوا به.
وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (١) فالله عزَّوجلَّ خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سرّه ؟! هذا مستحيل في العقول.
فقال يحيى : قد روي أن النبي صلىاللهعليهوآله قال : لو لم أُبعث لبُعث عمر.
فقال عليهالسلام : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ ) (٢) فقد أخذ الله ميثاق النبيين ، فكيف يمكن أن يستبدل ميثاقه ؟ وكان الأنبياء لم يشركوا طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك ، وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله ؟! وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : نُبِّئتُ وآدم بين الروح والجسد.
قال يحيى : وقد روي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : ما احتبس الوحي عني قط إلّا ظننته قد نزل على آل الخطّاب.
فقال عليهالسلام : وهذا محال أيضاً ؛ لأنّه لا يجوز أن يشكّ النبي صلىاللهعليهوآله في نبوّته ، قال الله تعالى : ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ) (٣) ، فكيف يمكن أن تنتقل النبوّة ممن اصطفاه الله إلى من أشرك به ؟!.
قال يحيى : روي أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : لو نزل العذاب لما نجى منه إلّا
______________
(١) سورة ق : ٥٠ / ١٦.
(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٧.
(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٧٥.
عمر.
فقال عليهالسلام : وهذا محال أيضاً ، إنّ الله تعالى يقول : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (١) فأخبر سبحانه أنه لا يعذّب أحداً مادام فيهم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وما داموا يستغفرون الله تعالى » (٢).
٤ ـ تكذيب خبر أبي بكر في الاستحواذ على ميراث النبي صلىاللهعليهوآله :
لأهل البيت عليهمالسلام كلمة واحدة ، وهي أن الخبر الذي جاء به أبو بكر ونسبه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله واستحوذ به على فدك ، لا أصل له ولا واقع ، فهو محض افتراء ليس إلّا.
وقد ثبت عن الزهراء عليهاالسلام أنها ردّت ذلك الخبر مستندة إلى ظاهر الكتاب وصحيح السنة.
وفي هذا تقول عائشة : « إنّ الناس اختلفوا في ميراث رسول الله ، فما وجدوا عند أحدٍ من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة » (٣).
وإنما روى أبو بكر هذا الحديث لمّا أجمع على منع فاطمة الزهراء عليهاالسلام فدك ، وصرف عاملها منها ، فلاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمّةٍ من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فدخلت عليه وهو في حشدٍ من
______________
(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٣.
(٢) الاحتجاج / الطبرسي ٢ : ٢٤٥.
(٣) الصواعق المحرقة : ٣٤ ، كنز العمال ٧ : ٢٢٦.
المهاجرين والأنصار وغيرهم ، وكان مما قالت عليهاالسلام : « أيها المسلمون ، أأُغلب على إرثي ؟! يا ابن أبي قحافة ، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فرياً ، أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم ؟! إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (١) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليهالسلام إذ يقول : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢) ، وقال : ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ ) (٣) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ) (٤) ، وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٥).
وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي صلىاللهعليهوآله ؟! أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان ؟! أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟!
فجاء في جواب أبي بكر : إنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ». فلم تقبل الزهراء عليهاالسلام حديثه لأنّه يعارض كتاب الله صراحة.
______________
(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.
(٢) سورة مريم : ١٩ / ٥ و ٦.
(٣) سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.
(٤) سورة النساء : ٤ / ١١.
(٥) سورة البقرة : ٢ / ١٨٠.
على أن فدك رُدّت إلى بني فاطمة عليهاالسلام في أحقاب عدّة في زمان الدولتين الأموية والعباسية ، الأمر الذي يشير إلى عدم قناعة مَن ردّها إلى نصابها بذلك الحديث المكذوب.
٥ ـ بيان ما كان معلّقاً بشرط :
هناك بعض الأحاديث معلقة بشرط معين ، ولا تصح إلّا مع وجوده ، عن محمد بن موسى بن نصر الرازي ، عن أبيه ، قال : « سئل الرضا عليهالسلام عن قول النبي صلىاللهعليهوآله : أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم. وعن قوله صلىاللهعليهوآله : دعوا لي أصحابي. فقال عليهالسلام : هذا صحيح ، يريد من لم يغيّر بعده ولم يبدّل.
قيل : وكيف نعلم أنّهم قد غيّروا وبدّلوا ؟ قال : لما يروونه من أنّه صلىاللهعليهوآله قال : ليذادنّ رجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي ، كما تذاد غرائب الإبل عن الماء ، فأقول : يا ربّ أصحابي أصحابي ؛ فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : بعداً لهم وسحقاً ، أفترى هذا لمن لم يغيّر ولم يبدّل ؟ » (١).
٦ ـ بيان الخاصّ والعامّ والمفصّل والمجمل :
من الحديث ما هو مجمل لا يدل على المراد إلّا بتفصيله ، ومنه ما هو عام لا يعرف وجهه إلّا بتخصيصه ، ومنه ما فيه رخصة ، وقد ورد إلينا الكثير من الأخبار المروية عنهم عليهمالسلام في تفصيل المجمل وتخصيص العام ، وبيان ما فيه رخصة ، منها ما رواه حماد بن عثمان ، قال : « قلت لأبي
______________
(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٨٧ / ٣٣.