علي موسى الكعبي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-19-5
الصفحات: ١٦٦
مقدمة المركز
الحمد لله ربّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على نبيّه الأمين محمّد المصطفى وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.
إنّ حفظ معالم الدين وصيانة أغراضه وحفظ مقاصده وتحقيق أهدافه إنّما هو في واقعه لخدمة الإنسان والارتقاء به إلى درجات الكمال. وبهذا يبنى المجتمع الإسلامي الأمثل.
ومن غير شكّ إنّ هذا لا يناط للقراءات المتعدّدة ولو توفّر أصحابها على بعض الكفاءات العلمية والقدرات العقلية في تحليل مفاهيم الشريعة ، ولا للاجتهادات القائمة على أسس استنباطية لم تحظَ بإمضاء الشريعة وتأييدها ، ولو كان أهلها على قدر عالٍ من النظر والاستنباط ، إذ لا يُؤْمَن عليها من ضغط العوامل الذاتية والخارجية ـ سياسية كانت أو اجتماعية ـ من أن توجّه عملية الاستنباط باتّجاه يبتعد عن روح الشريعة ومضمونها ، ويتقاطع مع أهداف الدين وجوهره سواء كان ذلك على صعيد أحكامه أو مفاهيمه أو معارفه.
وليست الشريعة الإسلامية ـ كشريعة ذات أحكام ومفاهيم ومعارف ـ بمصونة في ذاتها من التعرض لتحريف المبطلين ولاجتهادات الخاطئين ، تلك الظاهرة التي لازمت الفكر البشري على الدوام ووقعت في الأديان السّابقة.
ومن هنا تتجلى الأهمية الخاصّة ، والضرورة الأكيدة لوجود أئمّة المسلمين الذين جعلهم الرسول صلىاللهعليهوآله عِدلاً للكتاب العزيز وقرنهم به ، وأمر الناس باتّباع أقوالهم والتمسّك بهم وركوب سفينتهم مع تصريحه صلىاللهعليهوآله بأنّهم إثنا عشر كنقباء بني إسرائيل ، وإن الأرض لا تخلو منهم طرفة عين ، وأنّ كلّ من مات ولم يعرف إمام زمانه منهم مات ميتة جاهلية.
وهل هم إلّا أهل بيته الذين اصطفاهم الله وطهّرهم بمحكم كتابه ؟
إنّ معرفة الأئمّة عليهمالسلام
لا شكّ تقودنا إلى العلم بسخافة الآراء والاستنباطات الظنّية والاجتهادات المعاصرة لهم والتي زخر بها التراث الإسلامي ، ولا زال الكثير
الكثير منها متَّبعاً إلى اليوم ، ذلك لأنّ مهمّة إصلاح المجتمع كانت واحدة من أهم مهمّات الأئمّة الطاهرين من أهل بيت النبوّة الذين أُوتوا علماً وفهماً واستيعاباً للشريعة ، بأصولها وفروعها .. وعلى الرغم من الظروف القاسية التي عاشها كلّ واحد منهم عليهمالسلام ، حيث الضغط السياسي المطبق ، والسعي السلطوي الحثيث لفرض طوق من الحصار الاجتماعي والثقافي من حولهم ، إلّا أنّهم أولوا هذه المهمّة ما تستحقّه من العناية على الدوام ، وكانت مهمّة صعبة ، عديدة المداخل ، حيث تزايد عدد المشتغلين بعلوم الشريعة ، وتعدّدت مدارسهم واتّجاهاتهم ، ونشطت ـ إلى جانب ذلك ـ حركة التدوين في شتى العلوم والمعارف ، وتبلور العديد من المذاهب الكلامية ، وربّما سبقتها ظهوراً ، فتميّزت مذاهب : الارجاء ، والجبر ، والاعتزال ، والتفويض ، وظهرت مذاهب فقهية منسوبة إلى أصحابها من الفقهاء ، لاسيّما في المدينة والعراق ومصر كما انفتقت في ذلك العهد المبكّر نسبياً جملة من الحركات الغالية التي نسبت إليهم عليهمالسلام صفات من صفات الإلٰه جلّ وعلا ، إضافة إلى فرق أخرى انشقّت عن مدرسة أهل البيت نفسها ؛ كالفطحية ، والإسماعيلية ، والواقفة ، وغيرها.
فالفضاء الفكري الذي ساد في عصور الأئمّة عليهمالسلام مزدحم إذن بأنماط مختلفة من الرؤوس والأفكار والاجتهادات.. وفي جميع هذه الميادين لابدّ أن تكون لأئمّة أهل البيت عليهمالسلام كلمتهم ، وإرشادهم ، وإضاءتهم ، وتقويمهم وتقييمهم ، إتماماً لهدف الإمامة وغايتها ، ولمهمّة الهداية وأبعادها.
وهذه الدراسة الوجيزة تسلّط الضوء على بعض جوانب ومصاديق هذا الجهد الكبير ، الذي تتطلّب الإحاطة به سبرا واستقصاءً تفصيليين لتاريخ علوم الشريعة وما يتّصل بها ، منذ البداية الأولى ، مع تغطية سائر مراحل النموّ والتطوّر.. راجين أن يكون هذا الإسهام الذي يقدّمه مركزنا للقارئ خطوة على الطريق. والله من وراء القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
مركز الرسالة
المُقدَّمةُ
الحمد لله ربّ العالمين ، وسلامه على عباده المصطفين محمد وآله الهداة الميامين.
إنّ أهل البيت عليهمالسلام هم معدن النبوة ، وأعلام الهدى ، وأهل البلاغة والفصاحة ، وحديثهم هو قبسٌ من نور الكلام الإلهيّ ، وإضاءةٌ من هدي المنطق النبويّ ، وشعلةٌ وضّاءة في سبيل هداية الاُمّة ، تتعدّد مسارات إشعاعها لتشمل مختلف نواحي الروح والفكر والعقيدة ، وتغطّي جوانب الحياة كافة.
ولقد بذل أئمة أهل البيت عليهمالسلام جهوداً حثيثة في
سبيل تصحيح مسارات مختلف جوانب الانحراف والتحريف الطارئة في حياة الاُمّة ، وإصلاح ما فسد من أُمور المسلمين بعد رحيل جدّهم المصطفى صلىاللهعليهوآله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، فوقفوا بوجه التيارات المنحرفة والمقولات الباطلة والبدع والضلالات التي استفحلت في عصر الأمويين والعباسيين ،
وسعوا جاهدين لوضعها في نصابها الصحيح ، ودافعوا عن معالم الدين الحنيف ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، إلى قيام يوم الدين.
ويتمثل المسار الانحرافي بالتيارات الفكرية المناهضة للعقيدة الإسلامية ، كالغلو والإلحاد والزندقة ، أما المسار التحريفي فيتمثل بجملة تيارات فكرية تحسب نفسها على الإسلام كالمجسمة والمشبهة والمجبرة والمفوضة والمرجئة وغيرهم ممن يحرفون الكلم عن مواضعه عن عمد أو غير عمد.
وكان من تداعيات انتشار أمثال هذه الفرق والتيارات الفكرية أن تعرض جانب كبير من قيم وتعاليم الإسلام الأخلاقية والسياسية والفكرية والروحية لهزة عنيفة أطاحت بالكثيرين ، ووجدت قيم الجاهلية لها مرتعاً خصباً في ظل السلطات المنحرفة منذ رحيل الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله وامتدت تأثيراتها في مساحات واسعة من جسم الأمة.
وفي ظل هكذا واقع وجد أهل البيت عليهمالسلام أنفسهم أمام مسؤولية رسالية وتاريخية عظمى ، بما يمتلكون من عمق علمي وأفضلية ومحبة في الوسط الإسلامي ، تؤهلهم لحفظ القرآن العظيم والشريعة المطهرة وتنقية المعارف الإسلامية من تلك الشوائب ، وصيانة الفكر الإسلامي من الشبهات التي علقت به ، وإحداث نقلة نوعية على صعيد الفكر والروح.
فإذا انتزعت من العترة المعصومة
المرجعية السياسية في ممارسة السلطة ، فإنّ مرجعيتهم الفكرية الربانية قد تجاوزت أُطر الحظر
والحصار ، فبسطت بظلالها على مفاصل اجتماعية واسعة ، وقد تطرُق أحياناً أبواب السلطان ، أو تنفذ في قلب البلاط ، وذلك عن طريق تربية النُّخبة الصالحة الرشيدة ، التي تبنّت حمل راية الهداية ، فكانت أساساً لمدرسة فكرية تتحمّل عبء نشر مبادئ الإسلام الأصيل ، وبقيت لتعاليمها الإسلامية الراقية مدلولها الحيّ العملي على طول الزمان ما دام هناك مسلم بحاجة إلى فهم الإسلام والتعرّف على شريعته وأحكامه ومفاهيمه وقيمه.
وتجدر الإشارة إلى أن أساليب التصحيح والإصلاح التي مارسها الأئمة من أهل البيت تختلف بحسب الظروف والتحديات المحيطة بهم عليهمالسلام ، كالعوامل السياسية المتغيرة ودرجة وعي الأُمة ، فقد يكون الإصلاح مرّة بالإشارة الصريحة إلى الانحراف ، واُخرى بالإشارة الضمنية ، أو بالاكتفاء ببيان طريقة التصحيح والإصلاح والتأكيد عليها ، لترسيخها في ذهن الأُمّة وضميرها.
وعلى رغم التفاوت بينهم عليهمالسلام في اختيار الأُسلوب المناسب ، فإنّ المنهج المتّبع في الإصلاح والتصحيح واحدٌ لا اختلاف فيه ، لأنّه مستمدّ من معين معصوم واحد ، وقد اتّسم بالشمولية بحيث يستوعب مختلف الجوانب الفكرية والعقدية ، وينطلق من تشخيص دقيق للظروف الموضوعية التي تمر بها الحالة الإسلامية على كل المستويات.
ومع اعترافنا بتشعّب هذا الموضوع ، وتعدّد
جوانب البحث فيه ، فإنّنا
سنحاول التوفّر على دراسة بعض معالم التصحيح ومحطّاته الرئيسية ضمن فصول سبعة ، ونسوق بعض الأمثلة المناسبة ، لتكون بمثابة إثارات لمن يريد التعمّق في دراسة مواطن الانحراف وأسبابه ، ومعالم التصحيح وآثاره في حياة الأُمّة إلى يومنا هذا ، ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو من وراء القصد.
الفصل الأوّل
معالم التصحيح في التفسير والحديث
المبحث الأول
في تفسير القرآن الكريم وتوضيح مفاهيمه
يعدّ حديث أهل البيت عليهمالسلام من أهم مصادر تفسير آيات الكتاب الكريم ، وبيان أبعاد معانيه ، وتصاريف أغراضه ومراميه ، وقد أثبتت الدلائل والوقائع أنهم عليهمالسلام الأقدر على تفسير الكتاب وإدراك مضامينه وفهم دقائقه ، قال تعالى : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ) (١).
ذلك لأن القرآن نزل في بيوتهم ، ولأنهم أعدال القرآن الذين قرن رسول الله صلىاللهعليهوآله بينهم وبينه ، وذكر أنهما لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوض ، وورد عنهم عليهمالسلام ما يدل على إحاطتهم بتفسير كتاب الله ومعرفة أسباب نزوله وناسخه ومنسوخه وسائر علومه ، وإنما تعلموا ذلك من جدهم رسول الله صلىاللهعليهوآله.
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « والله ما نزلت آية إلَّا وقد علمت فيما نزلت ،
______________
(١) سورة النساء : ٤ / ٨٣.
وأين نزلت ، وعلى من نزلت ، إنَّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً طلقاً سؤولاً » (١).
وقال عليهالسلام : « ما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ، ولا سماء ولا أرض ، ولا دنيا ولا آخرة ، ولا جنّة ولا نار ، ولا سهل ولا جبل ، ولا ضياء ولا ظلمة ، إلَّا أقرأنيها وأملاها عليّ ، فكتبتها بيدي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ، وأين نزلت ، وفيم نزلت إلى يوم القيامة » (٢).
وقال الإمام محمد بن علي الباقر عليهالسلام : « إن رسول الله صلىاللهعليهوآله أفضل الراسخين في العلم ، فقد علم جميع ما أنزل الله عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه إياه ، وأوصياؤه من بعده يعلّمونه كلّه » (٣).
وعن أبي عبد الله عليهالسلام : « إنّا أهل بيت لم يزل الله يبعث منّا من يعلم كتابه من أوّله إلى آخره » (٤).
ومن تتبع التفسير الأثري الوارد عن أهل البيت عليهمالسلام يجد أن لهم منهجاً في التفسير يختلف تماماً عن مناهج المفسرين ، ويتجلّى ذلك بكل وضوح بتفسيرهم للآيات الموهمة لتجسيم الخالق والمنافية لعصمة
______________
(١) كنز العمال ١٣ : ١٢٨ / ٣٦٤٠٤.
(٢) تحف العقول : ١٩٦.
(٣) تفسير القمي ١ : ٩٦ ، تفسير العياشي ١ : ١٦٤ / ٦.
(٤) مختصر بصائر الدرجات : ٥٩.
الأنبياء ، ففسّروا تلك الآيات بتنزيه الخالق عن التجسيم والوصف والرؤية ، وتنزيه الأنبياء عن المعاصي ، ونبذ كلّ ما عدا ذلك مما يسيء إلى عقيدة التوحيد والنبوة والمعاد ، ولا يليق بساحة الكتاب وجلال معانيه ، كالعقائد المنحرفة والآراء المضلّلة التي كانت تفرض نفسها على الواقع الإسلامي بين حين وآخر ، مثل التشبيه والتجسيم والتعطيل والجبر والتفويض وغيرها. وقد أكّدوا في جميع الموارد على ضرورة الرجوع إلى الرسول صلىاللهعليهوآله في فهم كلام الله عزّوجلّ ، سواء في المسائل الاعتقادية أو العملية أو غيرها ولذلك جهدوا في الوقوف بوجه التفسير الذي يستند إلى الرأي الخالي من العلم والحجة القاطعة والبرهان الساطع ، أو التفسير الذي يؤخذ من الرجال.
عن زيد الشحام قال : « دخل قتادة على أبي جعفر عليهالسلام ، فقال : يا قتادة ، أنت فقيه أهل البصرة ؟ قال : هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر عليهالسلام : بلغني أنك تفسر القرآن ؟ فقال له قتادة : نعم. فقال له أبو جعفر عليهالسلام : بعلم تفسره أم بجهل ؟ قال : لا ، بعلم. فقال له أبو جعفر عليهالسلام : فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت... ويحك يا قتادة ، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت... ويحك يا قتادة ، إنما يعرف القرآن من خوطب به » (١).
وعن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليهالسلام ، قال : « من فَسّر القرآن برأيه ، إن
______________
(١) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٤.
أصاب لم يُؤجر ، وإن أخطأ فهو أبعد من السّماء » (١).
وفيما يلي إشارة سريعة إلى بعض معالم التصحيح الواردة عنهم عليهمالسلام ضمن هذا الإطار.
١ ـ في تفسير القرآن الكريم :
على أساس اتجاهات الوعي المتقدمة فسّر أهل البيت عليهمالسلام آيات الكتاب الكريم ، فتركوا تراثاً تفسيرياً ضخماً يشتمل على آلاف الروايات والأخبار التي تدخل في باب التفسير ، جمعها السيد هاشم البحراني المتوفى سنة ( ١١٠٧ ه ) في كتابه ( البرهان في تفسير القرآن ) ، والشيخ عبد علي بن جمعة العروسي المتوفى سنة ( ١١١٢ ه ) في تفسيره ( نور الثقلين ) ، فضلاً عن تفاسير الأثر المتقدمة الواصلة إلينا مثل تفسير فرات الكوفي ، والعياشي ، وعلي بن إبراهيم القمي ، وجميعها تقتصر على حديثهم الوارد في هذا الشأن. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
١ ـ عن أبي الأسود الدؤلي ، قال : « رُفع إلى عمر امرأة ولدت لستّة أشهر ، فسأل عنها أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقال عليّ عليهالسلام : لا رجم عليها ، ألا ترى أنّه تعالى يقول : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) (٢) ، وقال : ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) (٣) ، وكان الحمل هاهنا ستة أشهر. فتركها عمر ، قال : ثمّ بلغنا انّها
______________
(١) تفسير العياشي ١ : ٩٦ / ٦٧ ، بحار الأنوار ٩٢ : ١١٠ / ١٣.
(٢) سورة الأحقاف : ٤٦ / ١٥.
(٣) سورة لقمان : ٣١ / ١٤.
ولدت آخر لستة أشهر » (١).
٢ ـ وروي أنّ رجلاً دخل مسجد الرَّسول صلىاللهعليهوآله ، فإذا رجل يُحدِّث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : « فسألته عن الشاهد والمشهود ، فقال : نعم ، أمّا الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة. فجزته إلى آخر يُحدِّث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله فسألته عن ذلك. فقال : أمّا الشاهد فيوم الجمعة ، وأمّا المشهود فيوم النحر. فجزتهما إلى غُلام كأنَّ وجهه الدينار ، وهو يُحدِّث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقلت : أخبرني عن شاهدٍ ومشهودٍ. فقال : نعم ، أمّا الشاهد فمحمّد صلىاللهعليهوآله ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أمَا سمعت الله سبحانه يقول : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) (٢) ؟ وقال : ( ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (٣).
فسألت عن الأوّل ، فقالوا : ابن عبّاس ، وسألت عن الثاني فقالوا : ابن عمر ، وسألت عن الثالث فقالوا : الحسن بن عليّ عليهاالسلام » (٤).
٣ ـ وروي عن زرارة ومحمّد بن مسلم : أنّهما قالا : « قلنا لأبي جعفر عليهالسلام : ما تقول في الصّلاة في السفر كيف هي ، وكم هي ؟
فقال : إنّ الله عزّوجلّ يقول : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ) (٥) ، فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في
______________
(١) الدّر المنثور ٧ : ٤٤١.
(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٥.
(٣) سورة هود : ١١ / ١٠٣.
(٤) مجمع البيان ١٠ : ٧٠٨.
(٥) سورة النِّساء : ٤ / ١٠١.
الحضر.
قالا : قلنا : إنما قال الله عزّوجلّ : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟
فقال : أوَ ليس قد قال الله عزّوجلّ في الصّفا والمروة : ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (١) ؟ ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ؟ لأنّ الله عزّوجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي صلىاللهعليهوآله وذكره الله تعالى في كتابه » (٢).
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة الأخرى والتي يمكن الوقوف عليها بمراجعة ما ذكرناه من كتب التفسير الروائي.
٢ ـ التصدي للمزاعم الباطلة حول القرآن الكريم :
تصدّى أهل البيت عليهمالسلام لكثير من المقولات الباطلة حول كتاب الله ، منها ما قيل بأنّه على سبعة أحرف ، وأنّ المعوذتين ليستا منه ، والبسملة ليست من الفاتحة ، وغير ذلك.
عن الفضيل بن يسار قال : « قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ؟ فقال : كذبوا أعداء الله ، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد » (٣).
وعن أبي عبدالله الصادق عليهالسلام أنه سئل عن المعوذتين ، أهما من
______________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٥٨.
(٢) نور الثقلين ١ : ٥٤١ / ٥٢٧ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٦.
(٣) الكافي ٢ : ٦٣٠ / ١٣.
القرآن ؟ فقال عليهالسلام : « نعم هما من القرآن. فقال الرجل : إنهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود ، ولافي مصحفه. فقال أبوعبدالله عليهالسلام : أخطأ ابن مسعود ، هما من القرآن. قال الرجل : فأقرأ بهما يابن رسول الله في المكتوبة ؟ قال : نعم ، وهل ترى ما معنى المعوذتين ، وفي أي شيء نزلتا ؟ .. » (١).
وقيل لأمير الموءمنين عليهالسلام : يا أمير الموءمنين ، أخبرنا عن ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) أهي من فاتحة الكتاب ؟ فقال : « نعم ، كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يقرأها ويعُدّها منها ، ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني » (٢).
وشدد أهل البيت عليهمالسلام على ضرورة توحيد القراءة حفظاً للكتاب الكريم من الاختلاف ، عن سفيان بن السمط ، قال : « سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن تنزيل القرآن ، فقال : اقرءوا كما عُلّمتم.. » (٣).
وعن سالم بن سلمة ، قال : « قرأ رجل على أبي عبد الله عليهالسلام حروفاً من القرآن ليس على ما يقرأ الناس ، فقال عليهالسلام : كفّ عن هذه القراءة ، اقرأ كما يقرأ الناس » (٤).
٣ ـ تصحيح مزاعم المفسرين :
ثمة مفاهيم تشغل مساحة واسعة من التفسير ، وتتعلق بموضوعات مختلفة ، ويأتي على رأسها مسائل الاعتقاد ، وهي في حقيقتها طارئة
______________
(١) بحار الأنوار ٦٣ : ٢٤ / ١٨.
(٢) عيون أخبار الرّضا ١ : ٣٠٠ / ٥٩ ، أمالي الصدوق : ٢٤٠ / ٢٥٤.
(٣) الكافي ٢ : ٦٣١ / ١٥.
(٤) الكافي ٢ : ٦٣٣ / ٢٣.
على ساحة التفسير وقدسه ، ولا تمثل التفسير الذي يريده الله ورسوله صلىاللهعليهوآله ، ومن يدقق في أسبابها يجدها تتعلق بالهوى والرأي والزعم الذي لا يغني عن الحق شيئاً ، أو بسبب الاعتماد على أسباب النزول والأخبار غير الموثقة ، أو الإسرائيليات في بعض جوانبها ، وقد استطاع آل البيت عليهمالسلام أن يشيروا إليها ويضعوها على سكة التفسير الصحيح ، ومن الأمثلة على ذلك :
١ ـ عن محمد بن عطية ، قال : « جاء رجل إلى أبي جعفر عليهالسلام من أهل الشام من علمائهم ، فقال له : يا أبا جعفر ، قول الله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) (١) ؟ فقال له أبو جعفر عليهالسلام : فلعلك تزعم أنهما كانتا رتقاً ملتزقتين ملتصقتين ففتقت إحداهما من الاُخرى ؟ فقال : نعم ، فقال أبو جعفر عليهالسلام : استغفر ربك ، فإنّ قول الله عزّوجلّ : ( كَانَتَا رَتْقًا ) يقول : كانت السماء رتقاً لا تُنزِل المطر ، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبِت الحبّ ، فلمّا خلق الله تبارك وتعالى الخلق وبثّ فيها من كلّ دابة ، فتق السماء بالمطر ، والأرض بنبات الحبّ ، فقال الشامي : أشهد أنك من ولد الأنبياء ، وأنّ علمك علمهم » (٢).
٢ ـ وروى علي بن إبراهيم بالإسناد عن حماد ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : « ما يقول الناس في هذه الآية ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) ؟ قلتُ :
______________
(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٠.
(٢) الكافي ٨ : ٩٥ / ٦٧.
يقولون إنّها في القيامة. قال عليهالسلام : ليس كما يقولون ، إنّ ذلك في الرجعة ، أيحشر الله في القيامة من كلِّ أُمّة فوجاً ويدع الباقين ؟ إنّما آية القيامة قوله : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) » (١).
٤ ـ مسألة خلق القرآن :
ابتدعت هذه المقولة إبّان الحكم العباسي ، وبالتحديد في زمان المأمون ، الذي فرضها بالقوة ، وامتحن القضاة والمحدثين بها ، وقيل : إنّه أثارها بسبب تبنيه مذهب الاعتزال ، وقيل : للقضاء على خصومه ، حيث قتل خلقاً كثيراً من جرائها ، وفتك بوحشية وقسوة بكل من عارضها أو أبدى حياداً حولها ، وانتشرت بسببها المزيد من الأحقاد والأضغان بين المسلمين.
وكان جواب الأئمّة عليهمالسلام المعاصرين لتلك المحنة واضحاً ، يقوم على اعتبار الجدال في القرآن بدعة ، مع التفريق بين كلام الله تعالى وبين علمه ، فكلامه تعالى محدث وليس بقديم ، قال تعالى : ( مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ ) (٢) ، وأما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة ، وهو من الصفات التي هي عين ذاته.
روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، قال : «كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا إلى بعض
______________
(١) تفسير القمي ١ : ٢٤ ، مختصر بصائر الدرجات / الحسن بن سليمان : ٤١ ، والآية من سورة الكهف : ١٨ / ٤٧.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢.
شيعته ببغداد : بسم الله الرحمن الرحيم ، عصمنا الله وإياك من الفتنة ، فإن يفعل فأعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلّا الله عزّوجلّ ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين ، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون » (١).
ونرى بعض امتدادات هذه المسألة إلى زمان الإمام العسكري عليهالسلام ، فقد روي عن أبي هاشم الجعفري أنه قال : « فكّرت في نفسي ، فقلت : أشتهي أن أعلم ما يقول أبو محمد عليهالسلام في القرآن ؟ فبدأني وقال : الله خالق كلّ شيء ، وما سواه فهو مخلوق » (٢).
٥ ـ منهجهم في تفسير آيات الصفات :
ذكرنا أن لأهل البيت عليهمالسلام منهجاً واضحاً في تفسير القرآن ، يرتكز على جملة أُسس ، منها تجريد الذات الإلهية عن كل صفات الممكن ، ذلك لأن البعض جمَد على ظواهر الكتاب والسنة ، فوجه إساءة إلى التوحيد الذي يعتبر حجر الزاوية في عقيدتنا الإسلامية ، فتصور أن لله عرشاً يجلس عليه ، وبالإمكان النظر إليه ، وأن له جوارح كجوارح الإنسان ، وما إلى ذلك من مزاعم لا تستقيم مع العقل السليم ، من هنا عمل آل البيت عليهمالسلام
______________
(١) التوحيد / الصدوق : ٢٢٤ / ٤.
(٢) الثاقب في المناقب : ٥٦٨ / ٥١١ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٨٦ / ٦.