معالم الإصلاح عند أهل البيت عليهم السلام

علي موسى الكعبي

معالم الإصلاح عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-19-5
الصفحات: ١٦٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



الفصل الرابع

معالم الاصلاح السياسي

يمكن قراءة دور الأئمّة عليهم‌السلام في تصحيح المشهد السياسي بعد رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاثة مباحث رئيسية :

المبحث الأول

حكومة الإمام علي عليه‌السلام

على الرغم من مرارة تجربة الحكومة التي تصدّى لها أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد البيعة بسبب انشغاله بالقتال على التأويل ، فقد أثبتت تلك التجربة فرادتها بما أحدثته من تحولات ثورية للعودة بالمجتمع إلى روح التجربة المحمدية الأولى ، وتطبيق نظرية الإسلام الحقيقي في العدل ، وسنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله في تساوي البشر في الحقوق ، مما أسهم في تغيير الواقع الطبقي والثورة ضد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ويمكن أن نتلمّس ذلك بما يلي :

١ ـ الإصلاح السياسي :

ومن أبرز معالمه :

١ ـ عمل عليه‌السلام على عزل ولاة عثمان وعماله عن الأقاليم من أمثال

١٢١

الوليد بن عقبة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن عامر ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وغيرهم ممّن عاثوا في الأرض فساداً ، وساموا العباد ظلماً وعدواناً ، فأبعدوهم عن معالم الإسلام وسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعيين بدائل لهم من ذوي السابقة والاستقامة والعدل والقرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنه يرى أن الرعية لا تصلح إلّا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية.

من خطبة له عليه‌السلام ، قال : « فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه ، وأدى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على إذلالها السنن ، فصلح بذلك الزمان ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الأعداء » (١).

٢ ـ مراقبة العمال والولاة وتوجيههم أو محاسبتهم إذا اقتضت الضرورة ذلك ، وله عليه‌السلام في هذا الخصوص مكاتبات ووصايا كثيرة إلى اُمراء الأجناد وغيرهم مبثوثة في ( نهج البلاغة ).

قال ابن عبد البرّ : « ولا يخص بالولايات إلّا أهل الديانات والأمانات. وإذا بلغه عن أحدهم جناية كتب إليه : قد جاءكم موعظة من ربكم ، فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا

______________

(١) نهج البلاغة : ٣٣٣ ـ الخطبة ٢١٦.

١٢٢

تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ، وما أنا عليكم بحفيظ. إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى نبعث إليك من يتسلمه منك. ـ ثم يرفع طرفه إلى السماء فيقول ـ : اللهمّ إنك تعلم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك » (١).

وكان عليه‌السلام يعتبر الولاية أمانة في عنق الوالي عليه صيانتها ، وليست أداة للاستغلال وتحقيق المآرب الشخصية ، فمن كتاب له عليه‌السلام إلى الأشعث ابن قيس عامله على أذربيجان : « إنّ الملك ليس لك بطعمة ، ولكنه في عنقك أمانة... » (٢).

٣ ـ تدوين نظام اداري للدولة الإسلامية بهدف الإصلاح الشامل لكل مرافق الحياة ، يتمثل ذلك في عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى مالك الأشتر ، وعهده إلى محمد بن أبي بكر ، وهما إضاءة مشرقة وصفحة فذّة من صفحات تراثنا الفكري الوضّاء ، لأنهما يشتملان على برنامج الدولة الإسلامية في نظامها الإداري والقضائي والسياسي والتكافل الاجتماعي والعمراني ، ويعكسان الفكر الاجتماعي الثوري المتقدم لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجملة وصاياه التي ترسم العلاقة بين الجهاز الحاكم وسائر الطبقات الاجتماعية التي ذكرها فيه بالتفصيل.

ومن عهده عليه‌السلام للأشتر النخعي لما ولّاه على مصر وأعمالها ، قال :

______________

(١) الاستيعاب ٣ : ٤٨.

(٢) نهج البلاغة : ٣٦٦ ـ الكتاب ٥.

١٢٣

« واعلم أنّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلّا ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض ؛ فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة ، وكلّاً قد سمّى الله سهمه ، ووضع على حدة فريضته في كتابه أو سنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله عهداً منه عندنا محفوظاً » (١).

٢ ـ الإصلاح الديني :

ويمكن أن نتأمله فيما يلي :

أ ـ العمل بكتاب الله وإحياء السنّة :

عمل أمير المؤمنين عليه‌السلام على إقامة معالم الدين وإظهار الإصلاح وإقامة الحدود على ضوء الكتاب الكريم وهدي السنّة المباركة.

قال عليه‌السلام : « اللهمّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتُقام المعطّلة من حدودك... » (٢).

ومن خطبة له عليه‌السلام قال : « إنه ليس على الإمام إلّا ما حمل من أمر ربه ؛ الإبلاغ في الموعظة ، والاجتهاد في النصيحة ، والإحياء للسنة ، وإقامة

______________

(١) نهج البلاغة : ٤٣١ ـ الكتاب ٥٢.

(٢) نهج البلاغة : ١٨٩ ـ الخطبة ١٣١.

١٢٤

الحدود على مستحقيها ، وإصدار السُّهمان على أهلها » (١).

ومن خطبة له عليه‌السلام قال : « اقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدى ، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن ، وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث ، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور ، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص » (٢).

وكان كل شي في علي عليه‌السلام يذكّر الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنه نسخة ناطقة بسنته ومكارم أخلاقه ، فحينما يصلي بهم في البصرة يذكرهم بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الأمر الذي يصوّر التبديل والإهمال الذي طرأ على كل معالم الدين ومنها الصلاة.

عن أبي موسى الأشعري قال : « لقد ذكّرنا علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ونحن بالبصرة صلاةً كنا نصليها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إما نسيناها ، وإما تركناها عمداً ؛ يكبر كلما ركع ، وكلما رفع ، وكلما سجد » (٣).

وعن مطرف بن عبد الله ، قال : « صليت خلف علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنا وعمران بن حصين ، فكان إذا سجد كبر ، وإذا رفع رأسه كبر ، وإذا نهض من الركعتين كبر ، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال : قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو قال : لقد صلى بنا صلاة محمد عليه

______________

(١) نهج البلاغة : ١٥٢ ـ الخطبة ١٠٦.

(٢) نهج البلاغة : ١٦٣ ـ الخطبة ١١٠.

(٣) مسند أحمد ٤ : ٣٩٢ و ٤٠٠ و ٤١١ و ٤١٥.

١٢٥

الصلاة والسلام » (١).

وحينما نشر علي عليه‌السلام رايته لقتال الناكثين في البصرة ، ذكّرهم براية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التي طالما حفّت بها الملائكة المسوّمون ، يقول قيس بن سعد بن عبادة (٢) :

هذا اللواءُ الذي كنّا نَحِفُّ به

مع النبيّ وجِبْرِيلٌ لنا مَدَدُ (٣)

ولا يخفى ما في ذلك من دفع معنوي باتجاه الجهاد تحت راية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي في يد وصيه وخليفته من بعده.

ب ـ الوقوف بوجه البدع والمحدثات :

حثّ أمير المؤمنين عليه‌السلام الناس على إماتة البدع ومحدثات الأمور لأنها ليست من الدين ، فمن كلام له عليه‌السلام : « وما أحدثت بدعة إلّا ترك بها سنّة ، فاتقوا البدع ، والزموا المهيع ، إنّ عوازم الاُمور أفضلها ، وإنّ محدثاتها شرارها » (٤).

______________

(١) صحيح البخاري ١ : ٣١٢ / ١٧٤ ـ كتاب الصلاة ـ باب اتمام التكبير في السجود.

(٢) صحابي جليل ، من ذوي الدهاء في الحرب ، ومن ذوي النَّجدة والجُود ، كان شريف قومه غير مُدافع ، ومن بيت سيادتهم ، وكان يحمل راية الأنصار مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصَحِب عليّا عليه‌السلام في خلافته ، فولّاه مصر سنة ٣٦ ـ ٣٧ ه‍ ، وشاركه في حروبه ، وتُوفّي نحو سنة ٦٠ ه‍ بعد أن صَحِب الحسن عليه‌السلام. تهذيب التهذيب ٨ : ٣٩٥ ، الأعلام للزِرِكلي ٥ : ٢٠٦.

(٣) أُسد الغابة ٤ : ٢١٦ ، الغدير ٢ : ٧٨.

(٤) نهج البلاغة : ٢٠٢ ـ الخطبة ١٤٥.

١٢٦

وحارب عليه‌السلام الكثير من البدع التي شاعت خلال عهد الخلفاء الذين سبقوه كالكهانة والتنجيم والتصوف وقصص المساجد والاسرائيليات وغيرها. فمن كلام له عليه‌السلام قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج ، فقال له : « يا أمير المؤمنين ، إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم.

فقال عليه‌السلام : أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء ، وتخوّف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضرّ ؟! فمن صدّق بهذا فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الإعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه. وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه ، لأنك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع ، وأمن الضرّ ـ ثم أقبل عليه‌السلام على الناس فقال ـ : أيها الناس ، إيّاكم وتعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو بحر ، فإنها تدعو إلى الكهانة ، والمنجم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار. سيروا على اسم الله » (١).

وقد استطاع عليه‌السلام أن يصحح كثيراً من الانحرافات ، ويتدارك مزيداً من الإفراطات ، وأن يعيدها إلى صورتها الاُولى ، وتمهّل في بعضها بسبب ما وصفه من المداحض التي حالت دون ما يريد منتطراً استعادة وعي الاُمّة واستثارة الطاعة فيها ، « إذ لا رأي لمن لا يُطاع » كما يقول عليه‌السلام (٢).

______________

(١) نهج البلاغة : ١٠٠ ـ الخطبة ٧٩.

(٢) نهج البلاغة : ٧١ ـ الخطبة ٢٧.

١٢٧

قال عليه‌السلام : « لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيّرت أشياء.

يقول محمد عبده : المداحض : المزالق ، يريد بها الفتن التي ثارت عليه ، ويقول إنه لو ثبتت قدماه في الأمر ، وتفرّغ ، لغيّر أشياء من عادات الناس وأفكارهم التي تبعد عن الشرع الصحيح » (١).

ويقول ابن أبي الحديد : « لسنا نشكّ أنه كان يذهب في الأحكام الشرعية والقضايا إلى أشياء يخالف فيها أقوال الصحابة ، نحو قطعه يد السارق من رؤوس الأصابع ، وبيعه أُمهات الأولاد ، وغير ذلك ، وإنما كان يمنعه من تغير أحكام من تقدّمه اشتغاله بحرب البغاة والخوارج ، وإلى ذلك يشير بالمداحض التي كان يؤمل استواء قدميه منها ، ولهذا قال لقضاته : اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة ، فلفظة ( حتى ) هاهنا مؤذنة بأنه فسح لهم في اتباع عادتهم في القضايا والأحكام التي يعهدونها إلى أن يصير للناس جماعة... » (٢).

وكان من جملة البدع التي تصدّى لها علي عليه‌السلام صلاة التراويح التي ظهرت في أيام عمر وبقيت إلى خلافته عليه‌السلام ، ولكن حالت المداحض التي ذكرها دون ما يريد.

جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد عن السيد المرتضى : « أن عمر خرج في شهر رمضان ليلاً فرأى المصابيح في المسجد ، فقال : ما هذا ؟

______________

(١) نهج البلاغة / شرح محمد عبده ٣ : ٢١٩ ـ الحكمة ٢٧٢.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ١٦١.

١٢٨

فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع ! فقال : بدعة فنعمت البدعة ! فاعترف ـ كما ترى ـ بأنها بدعة ، وقد شهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن كلّ بدعة ضلالة.

وقد روي أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لما اجتمعوا إليه بالكوفة ، فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرفهم أن ذلك خلاف السنة ، فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن عليه‌السلام ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة ، فلمّا رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا : واعمراه ! » (١).

٣ ـ الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي :

ويمكن ملاحظته في اتجاهين :

أولاً ـ إلغاء مظاهر الاستئثار :

وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام موقفاً حاسماً تجاه القطائع التي جعلها عثمان ملكاً لأوليائه وأعوانه وولاته الاُمويين ، فبنوا القصور ، واتخذوا الدور ، وانصرفوا إلى الترف والدعة واللهو ، فاشتروا الجواري والقيان ، وارتكبوا المحرمات ، وتحوّلت أموال المسلمين إلى طعمة لقلّه قليلة من المتنفّذين الذين أطلق عثمان العنان لهم في الاستئثار بحقوق الناس ، ولقد حذّر أمير المؤمنين عليه‌السلام عثمان من هذا الواقع قبل مقتله.

روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس أنه عليه‌السلام قال

______________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٢٨٣.

١٢٩

لعثمان : « وانظر هل بقي من عمرك إلّا كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى ! ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم ! والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل واعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون ، ثمّ افترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجترئ عليك الناس ، فلا تعزل أحداً منهم ! » (١).

وقد أعلن أمير المؤمنين عليه‌السلام سياسته المالية القائمة على عدم الأثرة قبل البيعة ، وشدّد على أن يكون ذلك شرطاً أساسياً فيها ، وكأنه يعلم أن تلك السياسة ستكون سبباً من أسباب نكث البيعة من قبل الطبقة المتنفّذة من قريش.

قال عليه‌السلام : « إنكم قد اختلفتم إلي ، وأتيتم وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، وإلّا فلا حاجة لي فيه. قالوا : ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله ، فجاء فصعد المنبر ، فاجتمع الناس إليه ، فقال : اني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلّا أن أكون عليكم ، ألا وأنه ليس لي أمر دونكم إلّا أن مفاتيح مالكم معي ، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم ، رضيتم ؟ قالوا : نعم. قال : اللهم اشهد عليهم ، ثم بايعهم على ذلك » (٢).

والأمر الآخر في هذا السياق هو قراره بردّ قطائع عثمان إلى

______________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٥.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٢٨ ـ حوادث سنة ٣٥.

١٣٠

المسلمين في اليوم الثاني من البيعة.

روى الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح ، عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه : « أن علياً عليه‌السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة ، فقال : ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته وقد تزوج به النساء ، وفرق في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق » (١).

قال الكلبي : « فبلغ ذلك عمرو بن العاص ، وكان بأيلة من أرض الشام ، أتاها حيث وثب الناس على عثمان ، فنزلها فكتب إلى معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع ، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها » (٢).

وخلال حكومته عليه‌السلام لم يكن يستأثر بشيء من الفيء ، ولا يخصّ به حميماً ولا قريباً (٣) ، وكان يقول عليه‌السلام : « والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً ، وأجرّ في الأغلال مصفّداً ، أحبُّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، وغاصباً لشيء من الحطام. وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ، ويطول في الثرى حلولها ؟!

______________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٦٩.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٧٠.

(٣) الاستيعاب ٣ : ٤٨.

١٣١

والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من برّكم صاعاً ، ورأيت صبيانه شعث الشعور ، غبر الألوان من فقرهم ، كأنما سوّدت وجوههم بالعظلم ، وعاودني مؤكّداً ، وكرّر عليّ القول مردداً ، فأصغيت إليه سمعي ، فظنّ أني أبيعه ديني ، وأتبع قياده مفارقاً طريقي ، فأحميت له حديدةً ، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها ، وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له : ثكلتك الثواكل ياعقيل ، أتئن من حديدةٍ أحماها إنسانها للعبه ، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ، أتئنّ من الأذى ، ولا أئنّ من لظى ؟! » (١).

وكان عليه‌السلام شديداً في مراقبة عمّاله ومحاسبتهم إذا بدر منهم أيّ مظهر من مظاهر الاستئثار بحقوق المسلمين ، وحريصاً على تطبيق هذه السياسة إلى آخر المدى. فمن كتاب له عليه‌السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني ـ وهو عامله على أردشير خرّه ـ : « بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك ، وأغضبت إمامك ؛ أنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم ، وأريقت عليه دماؤهم ، فيمن اعتامك من أعراب قومك. فوالذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، لئن كان ذلك حقاً لتجدنّ بك علي هواناً ، ولتخفنّ عندي ميزاناً. فلا تستهن بحقّ ربك ، ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الأخسرين أعمالاً. ألا وإن حقّ من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء ، يردون عندي عليه ويصدرون عنه » (٢).

______________

(١) نهج البلاغة : ٣٤٦ الخطبة ٢٢٤.

(٢) نهج البلاغة : ٤١٥ الكتاب ٤٣.

١٣٢

ثانياً ـ المساواة :

كان علي عليه‌السلام رائد العدالة ومثلها الأعلى ، وقد حرص على تطبيقها بكلّ ما أُوتي من قوّة ، باعتباره قاعدة أساسية تضمن التكافل بين أبناء الدين الواحد ، وتقضي على أسباب الفقر. قال عليه‌السلام : « إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلّا بما متّع به غني ، والله تعالى سائلهم عن ذلك » (١).

من هنا انتصف للمستضعفين من أصحاب الثراء والسلطان ، وكان ديدنه توزيع ما يرد بيت المال على المسلمين في حينه ، بحيث لا يختزن فيه شيئاً حتى الرغيف والخيط والإبرة ، وكان يرشّه بعد أن يفرغه ويصلي فيه ركعتين ، ومضى في هذا السبيل إلى آخر الشوط.

كان نظام العطاء في حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم على أساس التسوية بين المسلمين كافة ، ولا فرق فيه بين المولى والسيد ولا الأسود والأبيض ، ولما ولي عمر بن الخطاب ألغى نظام التسوية في توزيع العطاء ، وحدّد معايير فضّل فيها بعض الناس على بعض ، منها : السابقة والهجرة والنسب وغيرها ، ففضّل السابقين على غيرهم ، وفضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين ، وفضّل المهاجرين كافة على الأنصار كافة ، وفضّل العرب على العجم ، وفضّل الصريح على المولى (٢). وبقي نظام العطاء على هذا المنوال في زمان عثمان لكنه فضّل بني أمية على

______________

(١) نهج البلاغة : ٥٣٣ ـ الحكمة ٣٢٨.

(٢) راجع : شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١١١.

١٣٣

غيرهم ، وكان ولاته يأخذون لأنفسهم ما يشاؤون بلا حساب ودون رقيب ، فصار النظام الطبقي نظاماً بشعاً أدّى إلى تداعيات وخيمة ، منها نشوء طبقة مترفة تستأثر برؤوس الأموال على حساب الأكثرية المسحوقة ، فوصلت ثروات بعض كبار المسلمين بالملايين في الوقت الذي يعيش الغالبية الحرمان والكفاف. وكان ذلك أحد الأسباب الأساسية التي جعل الناس يثورون على عثمان.

وحينما ولي أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أعلن قراره القاضي بالمساواة التامة بين الناس في العطاء ، من أجل إشاعة العدل في توزيع الثروة وإلغاء كافة أسباب التمايز بين الناس ، فكان قرار انتزاع قطائع بني اُمية وقرار التسوية من أول القرارات التي اتخذها علي عليه‌السلام في اليوم التالي من البيعة وطبّقه عملياً في اليوم الثالث ، وتحمل مزيداً من العناء في هذا السبيل.

قال عليه‌السلام في خطبته في اليوم التالي للبيعة : « ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار ، وفجّروا الأنهار ، وركبوا الخيول الفارهة ، واتخذوا الوصائف الروقة ، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً ، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون ، فينقمون ذلك ، ويستنكرون ويقولون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا !

ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته ، فإن الفضل النير غداً عند الله ، وثوابه وأجره على الله ، وأيما رجل استجاب لله وللرسول ، فصدّق ملّتنا ،

١٣٤

ودخل في ديننا ، واستقبل قبلتنا ، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده.

فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يقسم بينكم بالسوية ، لا فضل فيه لأحد على أحد ، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء ، وأفضل الثواب ، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً ، وما عند الله خير للأبرار. وإذا كان غداً ـ إن شاء الله ـ فاغدوا علينا ، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم ، ولا يتخلفنّ أحد منكم ، عربي ولا عجمي ، كان من أهل العطاء أو لم يكن ، إلّا حضر ، إذا كان مسلماً حراً. أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم.

قال ابن أبي الحديد : قال شيخنا أبو جعفر : وكان هذا أول ما أنكروه من كلامه عليه‌السلام ، وأورثهم الضغن عليه ، وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية.

فلما كان من الغد ، غدا وغدا الناس لقبض المال ، فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه : ابدأ بالمهاجرين فنادهم ، وأعطِ كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير ، ثم ثنِّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ، ومن يحضر من الناس كلهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك.

فقال سهل بن حنيف : ياأمير المؤمنين ، هذا غلامي بالأمس ، وقد أعتقته اليوم. فقال : نعطيه كما نعطيك ، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير ، ولم يفضّل أحداً على أحد ، وتخلّف عن هذا القسم يومئذٍ طلحة ، والزبير ، وعبد الله بن عمر ، وسعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم ، ورجال من قريش وغيرها » (١).

______________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٣٧.

١٣٥

وكان من نتائج هذا الإجراء أن أخذ بعض من بايعه يتسلل من المدينة ليلتحق بمعاوية هرباً من العدل ، وطفق طلحة والزبير وغيرهما يعلنون الاحتجاج ويظهرون الخلاف على سياسة علي عليه‌السلام القاضية بتطبيق نظام التسوية ، فقام أبو الهيثم وعمار وأبو أيوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم ، فدخلوا على علي عليه‌السلام ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، انظر في أمرك ، وعاتب قومك ، هذا الحي من قريش ، فإنهم قد نقضوا عهدك ، وأخلفوا وعدك ، وقد دعونا في السرّ إلى رفضك ، هداك الله لرشدك ! وذاك لأنهم كرهوا الاُسوة ، وفقدوا الأثرة ، ولما آسيت بينهم وبين الأعاجم أنكروا واستشاروا عدوّك وعظّموه ، وأظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة وتألفاً لأهل الضلالة. فرأيك !

فخرج علي عليه‌السلام فدخل المسجد ، وصعد المنبر مرتدياً بطاق ، مؤتزراً ببرد قطري ، متقلداً سيفاً ، متوكئاً على قوس ، فقال : أنا أبو الحسن ـ وكان يقولها إذا غضب ـ ثم قال : ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تمنونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خُلقتم له ، فلا تغرنّكم فقد حذرتموها ، واستتموا نعم الله عليكم بالصبر لأنفسكم على طاعة الله ، والذلّ لحكمه جلّ ثناؤه ، فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة ، وقد فرغ الله من قسمته ، فهو مال الله ، وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتاب الله به أقررنا ، وله أسلمنا ، وعهد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أظهرنا ، فمن لم يرضَ به فليتولّ كيف شاء ، فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا

١٣٦

وحشة عليه » (١).

وهكذا يريد علي عليه‌السلام أن يغرس في نفوسهم التطلّع إلى أجر الآخرة ، وينزع عنها حبّ الدنيا وزخرفها ، ولكن النفوس أبت العدل لما طال بها المقام على نظام الاستئثار على حساب الملايين الجائعة.

ولم يثنِ علي عليه‌السلام أي شيء عن تطبيق برنامجه الإصلاحي الثوري ، لقد كان موقفاً أصيلاً تمسّك به إلى آخر الشوط ، مما جعل بعض الأطراف تتصدّى لمحاربته ، لأنها رأت أنه يهدّد مكانتها الاجتماعية ، ويلغي امتيازاتها الطبقية ، فنقضوا بيعته ، وفارقوا طاعته ، وشهروا السيوف في وجه الحق والعدل والمساواة التي ينشدها علي عليه‌السلام ، أعلنوا الحرب تحت ستار الطلب بدم عثمان في حين كانوا أول الناس تأليباً عليه ، وشمّر علي عليه‌السلام عن ساعد الحرب ، فكان قتال الناكثين والقاسطين والمارقين في الجمل وصفين والنهروان ، كما أخبره سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٤ ـ في مجال الحرب :

١ ـ لم يكن علي عليه‌السلام في جهاده إلّا طالباً للاصلاح ، متفانياً من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود ، وإظهار معالم الحقّ.

كتب علي عليه‌السلام إلى عماله ، يستحثّهم على حرب القاسطين في الشام ، فكتب إلى مخنف بن سليم : « سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو. أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحقّ رغبة عنه ، وهبّ في نعاس

______________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٠.

١٣٧

العمى والضلال اختياراً له ، فريضة على العارفين.

إنّ الله يرضى عمن أرضاه ، ويسخط على من عصاه. وإنا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا الحدود ، وأماتوا الحق ، وأظهروا في الأرض الفساد ، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا وليّ لله أعْظَمَ أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه ، فقد أصرّوا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف. وقديماً ما صدّوا عن الحقّ ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين.

فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلك تلقى هذا العدو المحلّ ، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتجامع الحقّ وتباين الباطل ، فإنّه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد... وكتب عبد الله بن أبي رافع سنة سبع وثلاثين » (١).

٢ ـ مراسلات أمير المؤمنين عليه‌السلام مع أعدائه الذين حاربوه واحتجاجاته عليهم ووصاياه إلى جنده ، تكشف عن حلمه وصفحه وحرصه على حقن دماء المسلمين ، وأنه تقيّل سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سيرته الحربية مع أعدائه ، بدافع إصلاح سنن الجهاد التي اندثرت بتمادي السنين.

قال ابن أبي الحديد : « وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه

______________

(١) وقعة صفين : ١٠٤.

١٣٨

أولاده بالسيوف ، وشتموه ولعنوه ، فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يتبع مولٍ ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن. ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبى ذراريهم ، ولا غنم شيئاً من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل ، ولكنّه أبى إلّا الصفح والعفو ، وتقيّل سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد ، والإساءة لم تنسَ » (١).

وعن عبد الله بن جندب ، عن أبيه : أن علياً عليه‌السلام كان يأمرنا في كلّ موطن لقينا معه عدوه ، فيقول : « لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم ، فهي حجة أخرى لكم عليهم ، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ، ولا تدخلوا داراً إلّا بإذن ، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلّا ما وجدتم في عسكرهم ، ولا تهيجوا امرأة ، وإن شتمن أعراضكم ، وتناولن أُمراءكم وصلحاءكم » (٢). وقد صارت سيرته الحربية مع أهل القبلة أحكاماً عند جميع فقهاء المسلمين وما كانت تعرف لولاه عليه‌السلام.

ولم يكن عليه‌السلام يستعمل في حربه إلّا ما وافق الكتاب والسنة ، ولا يميل إلى استعمال المكيدة والبطش كما هو شأن أعدائه.

______________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٢٥ ـ ٢٦.

١٣٩

قال أبو عثمان الجاحظ : « وربما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل والفهم والتمييز ـ وهو من العامة ، ويظن أنه من الخاصة ـ يزعم أن معاوية كان أبعد غوراً ، وأصحّ فكراً ، وأجود رويةً ، وأبعد غايةً ، وأدقّ مسلكاً ، وليس الأمر كذلك ، وسأرمي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه ، والمكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله.

كان علي عليه‌السلام لا يستعمل في حربه إلّا ما وافق الكتاب والسنة ، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنة ، كما يستعمل الكتاب والسنة ، ويستعمل جميع المكايد ، حلالها وحرامها ، ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى ، وخاقان إذا لاقى رتبيل.

وعلي عليه‌السلام يقول : لا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم ، ولا تتبعوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تفتحوا باباً مغلقاً ، هذه سيرته في ذي الكلاع ، وفي أبي الأعور السلمي ، وفي عمرو بن العاص ، وحبيب بن مسلمة ، وفي جميع الرؤساء ، كسيرته في الحاشية والحشو والأتباع والسفلة.

وأصحاب الحروب ، إن قدروا على البيات بيّتوا ، وإن قدروا على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا ، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة ، وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ، ولم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق ، وإن أمكن الهدم لم يتكلفوا الحصار ، ولم يدعوا أن نصبوا المجانيق والعرادات والنقب والتسريب والدبابات والكمين ، ولم يدعوا دسّ السموم ، ولا التضريب بين الناس

١٤٠