منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

كون هذه المفاهيم كلية. وعليه ، فلا يكون الوضع من الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، لأن المتصور حال الوضع كان معنى عاما والموضوع له أيضا كان عاما.

والحاصل : ان الملحوظ حال الوضع لا يكون خصوص المفهوم الجزئي ، بل ينضم إليه لحاظ مفهوم عام يتحقق به الربط ، وبذلك يكون الوضع عاما لا خاصا.

هذا ، ولا يخفى ان الالتزام بالامتناع في هذا القسم يبتني على تصحيح القسم الثالث بالإشارة الذهنية ، إذ لا يتأتى تصحيح هذا القسم بها كما عرفت.

واما لو كان تصحيح القسم الثالث من جهة ما قرروه من ان تصور العام تصور لافراده بوجه فيكتفي في الوضع لها بتصوره فقط ـ أمكن الالتزام بإمكان هذا القسم بنحو البيان المذكور في إفادة إمكان القسم الثالث ، وذلك لأن الخاصّ عبارة عن الطبيعي مع الخصوصيات ، فتصور الخاصّ تصور للطبيعي في ضمنه كما ان تصور مفهوم الدار تصور لأجزائه ضمنا من الغرفة والسطح وغيرهما. وعليه ، فيمكن وضع اللفظ للطبيعي المتصور في ضمن تصور الفرد ، كما أمكن الوضع للفرد المتصور بتصور الطبيعي.

وبالجملة : فبنحو البيان المذكور في تقريب إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ يقرب إمكان الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

وقد عرفت عدم قابلية التقريب المذكور للنهوض لإثبات إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، وان الوجه فيه ما ذكرناه ، وقد تحقق عدم تأتيه في الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

وبذلك : تثبت محالية هذا القسم من الوضع وامتناعه.

وقد ذكر : لبيان محاليته وامتناعه وجوه :

الوجه الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس‌سره : من انه لما كان تصور العام بنفسه ممكنا لم يحتج الوضع له الا إلى ملاحظته ، بخلاف الوضع

٨١

للافراد غير المتناهية فان لحاظ غير المتناهي غير معقول ، فلا بد من لحاظها بجامع يجمع شتاتها ويشمل متفرقاتها وهو الكلي المنطبق عليها ، فان لحاظها بالوجه لحاظها بوجه (١).

ولا يخفى ان للإشكال في ما أفاده قدس‌سره مجالا ، بيان ذلك : انه ان التزم بكفاية اللحاظ الإجمالي للافراد بلحاظ العام في الوضع لها بحيث يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا ، فالالتزام بكفاية اللحاظ الإجمالي للعام في ضمن الخاصّ في الوضع له بحيث يكون الوضع خاصا والموضوع له عاما متعين ولا محيص عنه ، لأن مبنى الأول على كفاية التصور الإجمالي للموضوع له في الوضع له وعدم تعين التصور التفصيليّ ، وهو يقتضي كفايته في النحو الثاني. وإمكان لحاظ العام تفصيلا لا يقتضي تعين لحاظه بعد فرض كفاية التصور الإجمالي.

والحاصل : لا وضوح للفرق بين النحوين بعد اتحادهما ملاكا.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق العراقي قدس‌سره ببيان : ان الخاصّ بما هو خاص لا يكون وجها للعام بنحو يكون تصوره تصورا للعام ولو بنحو الإجمال ، وذلك : لأن الخصوصية المقومة للخاص تناقض العموم وتنافيه ، إذ العموم لا يتحصل في معنى إلاّ بإلغاء الخصوصية ، ومعه كيف يمكن ان يكون الشيء مرآة ووجها لنقيضه (٢).

وما ذكره قدس‌سره لا يخلو عن غموض لوجوه :

الأول : ان إشكال المناقضة جارية في الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، إذ كما يستحيل ان يكون الخاصّ وجها للعام لأنه نقيضه والنقيض لا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٣٩ ـ الطبعة الأولى.

٨٢

يكون وجها لنقيضه ، كذلك يستحيل ان يكون العام وجها للخاص للمناقضة فانها من الطرفين ، فإيراد هذا المحذور في خصوص هذا القسم من الوضع بلا وجه لسريانه في القسمين ، فكيف لا يلتزم بمحالية الوضع العام والموضوع له الخاصّ بهذا الملاك؟!.

الثاني : ان دعوى المناقضة ممنوعة ، لأن لفظ العام لا يوضع للطبيعة بصفة العموم الملازم لإلغاء الخصوصية المقومة للخاص فيلزم التناقض ، بل يوضع لذات الطبيعة وصرفها بلا تقييدها بأي قيد. وعليه فلا يكون الخاصّ مناقضا للعام ، بل يكون متضمنا للعام لأخذه ـ أي العام ـ لا بشرط ، فلا ينافيه طرو الخصوصية عليه ، ويكون تصوره ـ أي الخاصّ ـ تصورا ضمنيا للعام ، لأنه أحد اجزائه.

الثالث : ان المناقضة حيث كانت بملاك تقوم العموم بإلغاء الخصوصية التي بها يكون الخاصّ خاصا ويتقوم الخاصّ ، لا تكون مطردة في جميع أنحاء العمومات ، لأن من العمومات ما يكون منتزعا عن الخصوصيات ـ كما عرفت ـ ، فيستحيل تقومها بإلغاء الخصوصية المخصصة والمفردة. فلا تناقض بين مثل هذا العام وبين الافراد.

وعليه ، فإذا كان المانع من مرآتية الخاصّ للعام هو المناقضة ، لم يجز المانع في مثل هذا القسم من العمومات فلا يستحيل ان يكون الفرد وجها للعام المزبور ، وبذلك يوضع له اللفظ بواسطة لحاظ فرده ، فيوضع لفظ « الفرد » لمفهوم الفرد بواسطة لحاظ الفرد الخارجي الّذي هو مصداق لمفهوم الفرد.

الثالث : ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه الله ) من ان مفهوم الخاصّ مهما كان لا يحكي بما هو خاص عن مفهوم عام أو خاص آخر ، فان تصور المفهوم بما هو لا يكون إلاّ تصورا لنفسه فيستحيل ان يكون تصورا لغيره بوجه ، بخلاف مفهوم العام كمفهوم الفرد والشخص وغيرهما فانه وجه للمصاديق ، ومن

٨٣

هنا التزم بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، واما الخاصّ فلما لم يكن كذلك فلا يمكن الوضع الخاصّ والموضوع له العام (١).

ولا يخفاك ان ما ذكره لا يختلف في المضمون عما نصّ عليه في الكفاية ، وان اختلف التعبير ، فقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره ان : « العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ افراده ومصاديقه بما هو كذلك فانه من وجوهها ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه. بخلاف الخاصّ فانه بما هو خاص لا يكون وجها للعام ولا لسائر الافراد فلا تكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها أصلا ولو بوجه » (٢).

وقد عرفت مما سبق الخدشة فيما ذكراه ، فان نفي مرآتية الخاصّ للعام بلا برهان ولا دليل ، وقد تقدم ان التصور الضمني لو التزم بكفايته في الوضع للافراد فالالتزام بكفايته في الوضع للعام متعين ، وقد عرفت ان تصور الخاصّ تصور ضمني للعام. فتدبر جيدا.

وقد التزم المحقق الرشتي قدس‌سره ، والمحقق الحائري اليزدي رحمه‌الله بإمكان الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

واستدل الأول على رأيه بما حاصله : ان الخاصّ إذا وضع لفظ له ، فتارة يوضع اللفظ بحذائه لنفسه ولأنه الموجود المعين. وأخرى يوضع بإزائه باعتبار اشتماله على خصوصية فيه ، فيسري الوضع إلى كل ما اشتمل على تلك الخصوصية ، بلحاظ ان الوضع قد لوحظ فيه تلك الخصوصية العامة السارية في الافراد الخاصة ، وضرب لذلك مثالا من أسماء الأدوية ، فان الاسم قد يوضع بإزاء دواء معين لكن باعتبار تأثيره الخاصّ وفائدته المخصوصة ، وبذلك يتعدى الاسم إلى كل ما كان له هذا الأثر من الأدوية وان اختلف عن الموضوع له في اجزائه

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٥١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٨٤

وخصوصياته. كما مثل له بالاحكام الشرعية المنصوصة العلة ، فان الحكم إذا رتب على شيء وعلل بعلة سارية نظير قولهم : « الخمر حرام لأنه مسكر » يسري شرعا إلى كل مسكر ولو لم يكن خمرا ، ولا يكون هناك فرق بين هذا وبين قوله : « كل مسكر حرام » الا كيفية البيان. والوضع كذلك ، فان الوضع التوقيفي كالحكم التوقيفي ، قد يكون ثابتا لموضوع لأنه ذلك الموضوع ، وقد يكون ثابتا له باعتبار مناط موجود فيه ، بل هو في النتيجة إثبات للحكم بإزاء ذلك الملاك والمناط (١).

وفيه : ان كلا من الوضع والحكم من الأمور الاختيارية للواضع والحاكم. وعليه ، فتمتنع سراية الوضع وتعديه إلى المناط والملاك مع تعيين اللفظ ووضعه بإزاء فرد خاص وبالأحرى تمتنع سرايته إلى فرد آخر وان شاركه في الأثر. نعم لو كان الوضع لا لخصوص الفرد المعين ، بل لكل ما اشترك معه في الفائدة والأثر المعين بحيث يكون الجامع هو التأثير في الأثر الخاصّ ، وكان الفرد الخاصّ واسطة لتصور الجامع ، سرى إلى جميع الافراد ، إلاّ انه لا يكون من الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، بل يكون الوضع عاما للحاظ العام حال الوضع ووضع اللفظ بإزائه.

ومثل الوضع الحكم الشرعي ، فان سراية الحكم في جميع موارد وجود العلة انما هو لأجل فهم العرف من التعليل بالإسكار ـ مثلا ـ ، ان الحكم في الحقيقة معلق على كلي المسكر لا خصوص الخمر ، وانما بين هذا الحكم في لسان الدليل بالنحو الخاصّ ـ أعني : بترتيبه على فرد معين وهو الخمر ـ مع بيان جهة الحكم التي يتضح بها ان الحكم على هذا الفرد لا خصوصية فيه ، بل من باب انه أحد مصاديق كلي المسكر المنطبق عليه وعلى غيره.

وبالجملة : ان الوضع والحكم بيد الواضع والحاكم وباختياره ، فان اعتبر

__________________

(١) الرشتي المحقق ميرزا حبيب الله. البدائع ـ ٤٠ ـ الطبعة الأولى.

٨٥

العلقة بين اللفظ وخصوص هذا المعنى ، استحال تعديه إلى غيره وكان الموضوع له كالوضع خاصا. وان اعتبرها بين اللفظ والعام المنطبق على هذا الفرد ، كان الوضع كالموضوع له عاما لكون الملحوظ عاما. وهكذا الحال في ترتيب الحكم على شيء فلاحظ وتدبر.

واستدل الثاني بما تقريبه : بأنا قد نرى شبحا من بعيد من دون ان نعلم بنوعه ولا بجنسه ولا بأي عنوان ينطبق عليه ، بل لا ينطبق عليه في علمنا فعلا سوى عنوان « الشبح » فإذا وضع اللفظ بإزاء العنوان الواقعي المنطبق على هذا الشبح الّذي لم نتصوره أصلا إلاّ بعنوان ما ينطبق على هذا الشبح ، كان من الوضع الخاصّ ، إذ الملحوظ حال الوضع هذا الموجود الخاصّ وهو الشبح والموضوع له عام لأنه الكلي المنطبق على الشبح (١).

وهذا حاصل ما أفاده رحمه‌الله. ولكنه لا يفي بالمقصود ، لأن الوضع للعام عند تصور الخاصّ يتوقف على الإشارة الذهنية إلى العام ليتعين الوضع بإزائه ، وقد عرفت احتياج الإشارة إلى رابطة يربطها بالمتصور والملحوظ حال الوضع ، فلا بد من رابط يربطها ـ فيما نحن فيه ـ بالخاص ، ولا يخفى ان الرابط لا يكون إلاّ مفهوما عاما كـ « ما ينطبق على هذا الشبح أو ما هو كليه ونحوهما » ، والمفهوم الرابط الّذي أتى به قدس‌سره في كلامه عام أيضا وهو « ما هو متحد مع هذا الشخص » ، وإذا كان الرابط مفهوما عاما كان الوضع عاما لكونه ملحوظا حال الوضع وهو من عناوين الكلي الموضوع له اللفظ. فتدبر.

واما مرحلة الوقوع والتحقق في الخارج : فقد ثبت بلا كلام وقوع الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، ومثل للأول بأسماء الأجناس ، وللثاني بالأعلام. ووقع الكلام في وقوع الوضع العام والموضوع

__________________

(١) الحائري المحقق الشيخ عبد الكريم. درر الفوائد ١ ـ ٥ ـ الطبعة الأولى.

٨٦

له الخاصّ ـ واما الوضع الخاصّ والموضوع له العام فلا معنى للبحث في وقوعه بعد ثبوت امتناعه واستحالته ـ ، وقد ادعى ان وضع الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

ولما كان تحقيق ذلك يتوقف على معرفة معاني الحروف وما هو الموضوع له فيها ، لا بد من نقل الكلام إلى تلك المرحلة ـ كما فعل الاعلام قدس‌سرهم ـ.

المعنى الحرفي

وقد اختلف فيها إلى مذاهب ثلاثة :

الأول : ان الموضوع له في الحروف عين الموضوع له في الأسماء ، وان الكل عام.

الثاني : ان الحروف لم توضع إلى أي معنى ، وان حالها حال علامات الإعراب.

الثالث : ان معاني الحروف تختلف ذاتا وحقيقة عن المعاني الاسمية.

أما المذهب الأول : فقد تبناه المحقق الخراسانيّ قدس‌سره ـ ونسب إلى المحقق الرضي قدس‌سره ـ فقال : « والتحقيق حسبما يؤدي إليه النّظر الدّقيق ان حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء » (١) ، وقد نفى اشتمال معاني الحروف على خصوصية توجب جزئية الموضوع له ، سواء كانت هي الوجود الخارجي أو الوجود الذهني المعبر عنه باللحاظ. اما الأول فلوضوح انه كثيرا ما يستعمل الحرف في معنى كلي كما إذ وقع في حيز الإنشاء والحكم ، نظير « سر من البصرة إلى الكوفة » ، فانه من الواضح تحقق الامتثال في الابتداء بأي نقطة من نقاط البصرة والانتهاء إلى أي نقطة من نقاط الكوفة ، كوضوح تحققه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٨٧

في السير بأي نحو كان مع عدم القرينة على التعيين. وهذا ظاهر في عموم الموضوع له الحرف ، وإلاّ لكان تحقق الامتثال متوقفا على ابتداء خاص وهو ما قصده الأمر ، ولا قائل به. واما الثاني فقد نفي أخذه في الموضوع له بوجوه : ـ وينبغي ان يعلم بان اللحاظ المتوهم أخذه هو اللحاظ الآلي كما نصّ عليه قدس‌سره ـ.

أحدها : ان الاستعمال يستدعي تصور المستعمل فيه ، فلو كان اللحاظ الآلي مقوما للمعنى لزم تعلق اللحاظ بالملحوظ وهو باطل ، ضرورة أن الموجود لا يقبل الوجود ثانيا.

ثانيها : ان اللحاظ لو كان مقوما للمعنى لزم عدم صدقه على الخارجيات ، إلاّ بالتجريد ، لأن المقيد بالوجود الذهني لا وجود له الا في الذهن وبدون التجريد يمتنع الامتثال الخارجي ، وهذا ـ أعني التجريد ـ يستلزم ان يكون استعمال الحروف بلحاظ الخارج ـ إخباريا كان أو إنشائيا ـ استعمالا مجازيا وهو خلاف الضرورة.

ثالثها : ان اللحاظ الآلي في الحروف كاللحاظ الاستقلالي في الأسماء. فكما ان الأخير لا يوجب جزئية الأسماء فكذلك الأول ، فان ادعى عدم أخذ الاستقلالي في معنى الاسم ، يقال : فليكن معنى الحرف كذلك مجردا عن اللحاظ الآلي ، إذ لم يتضح وجه التفريق بين المعنيين.

وبعد ما أفاد هذا أورد على نفسه : بان لازم اتحاد الحرف والاسم في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه في كونه عاما ، بحيث لا فرق ذاتيا بين لفظ « من » ولفظ « الابتداء » ، صحة استعمال أحدهما مكان الآخر ، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان ، وهو يقتضي بطلان الملزوم وثبوت الفرق الجوهري بينهما.

وأجاب عن هذا الإيراد بما نصه : « الفرق بينهما انما هو في اختصاص كل منهما بوضع ، حيث انه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، والحرف

٨٨

ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره كما مرت الإشارة إليه غير مرة ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضوع الآخر ، وان اتفقا فيما له الوضع. وقد عرفت بما لا مزيد عليه ان نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن ان يكون من خصوصياته ومقوماته » (١). ولم يتضح المقصود جليا من عبارته هذه ، وبيان الفرق المفرق بين الاسم والحرف في الوضع فوقع موضوع التفاسير والترديد بين احتمالات. وهي ثلاثة :

الأول : ما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني قدس‌سره من : إرجاع التقييد باللحاظ الآلي والاستقلالي إلى اشتراط الواضع ذلك في الاستعمال ، فشرط الواضع ان لا يستعمل لفظ الابتداء الا مع لحاظه استقلالا وان لا يستعمل لفظ : « من » في الابتداء الا مع لحاظه آلة (٢).

ومع تفسير كلام صاحب الكفاية (ره) بهذا التفسير يرد عليه :

أولا : ان الشرط المأخوذ في الحكم ، ومثله المأخوذ في الوضع ، اما ان يرجع إلى المتعلق والموضوع له بحيث يكون من قيودهما أولا.

فعلى الأول : يلزم تقييد متعلق الحكم به ، وتقييد الموضوع له فيما نحن فيه بحيث يكون مقوما له ، وهذا رجوع عما فرّ منه فانه هو الّذي كان بصدد نفيه وفي مقام الإيراد عليه.

وعلى الثاني : يرجع الشرط إلى تعدد المطلوب ، وكان متعلق الحكم مطلقا غير مقيد بالشرط ، بل يتعلق حكم آخر بالمقيد ، فيكون هناك حكمان ، أحدهما تعلق بذات الشيء ، والآخر تعلق به مقيدا. ولا يخفى ان الإتيان بالفعل بدون القيد ـ بعد فرض تعدد المطلوب ـ يكون امتثالا للحكم الأول. ومنه يظهر الحال

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٥ ـ الطبعة الأولى.

٨٩

في الوضع ، فان الشرط ان لم يرجع إلى الموضوع له كان المعنى الموضوع له في الحرف والاسم مطلق المعنى بلا قيد ولا شرط. وانما ثبت الاشتراط بالاستعمال الآلي في الحرف ، والاستقلالي في الاسم بنحو الاستقلال بلا دخل له في الموضوع له ، وذلك يقتضي صحة استعمال أحدهما موضع الآخر ، إذ الشرط المزبور لم يحدد ما يقتضيه وضع كل منهما بنفسه بعد ان كان خارجا عن دائرة الموضوع له والاعتبار الوضعي ، بل هو مستقل له اقتضاء مستقل عن الاقتضاء الوضعي.

وعليه ، فيرجع المحذور كما هو بلا اندفاع.

وثانيا : لو سلم ان هذا الشرط وان كان مأخوذا بنحو تعدد المطلوب إلاّ انه لازم الاتباع لجهة ما ، ككون الواضع هو الله ، وان ذلك ـ أعني الاشتراط ـ يرجع إلى إلزامه تعالى بالاستعمال بهذه الكيفية ، لو سلم ذلك فهو انما يقتضي في صورة المخالفة وعدم الالتزام بالشرط المزبور مخالفة حكم شرعي وعصيان تكليف إلهي ، لا انه يقتضي عدم صحة الاستعمال ان كان الموضوع له هو المعنى المطلق ، فان الشرط يرجع إلى الإلزام منه تعالى ـ كما عرفت ـ فمخالفته مخالفة إلزام لا أكثر.

الثاني : إرجاع القيد باللحاظ الآلي أو الاستقلالي إلى العلقة الوضعيّة. وتقريب ذلك : ان العلقة الوضعيّة المصححة للاستعمال الناشئة عن الاعتبار والوضع ، قد تكون ثابتة في مطلق الأحوال بين اللفظ والمعنى ، فيصح استعمال اللفظ في المعنى مطلقا وفي كل حال. وقد تكون ثابتة في حال معين فلا يصح استعمال اللفظ في المعنى الا في ذلك الحال دون غيره من الأحوال. فالفرق بين الأسماء والحروف ، ان الأسماء وضعت للمعاني ولكن قيدت العلقة الوضعيّة ـ بمعنى قيد حصولها ـ بين الاسم والمعنى في حال اللحاظ الاستقلالي ، فلا تحصل الا في هذا الحال ، فمع اللحاظ الآلي لا علقة بين الاسم والمعنى فلا يصح الاستعمال ، والحروف وضعت لمعانيها ولكن قيد حصول العلقة بينهما في حال

٩٠

اللحاظ الآلي ، فلا تحصل الا في هذا الحال ، فمع اللحاظ الاستقلالي لا علقة بين الحروف والمعنى فلا يصح الاستعمال. فالموضوع له في كل من الحروف والأسماء واحد إلاّ ان العلقة بينه وبين الحرف في حال ، وبينه وبين الاسم في حال آخر.

والعبارة بهذا التفسير لا تخلو عن خدشة أيضا ، وذلك لأن ما ذكر يقتضي ان يكون حدوث العلقة الوضعيّة وحصولها بين اللفظ والمعنى متوقفا على الاستعمال ، لوضوح كون المراد باللحاظ الآلي والاستقلالي اللحاظ في حال الاستعمال ، فيكون حدوث العلقة الوضعيّة بين لفظ الاسم ومعناه عند إرادة استعماله في المعنى ولحاظ المعنى مستقلا. ويكون حدوثها بين لفظ الحرف والمعنى عند إرادة استعماله في المعنى ولحاظه آلة ، ولازم ذلك انه لا وضع ـ علقة وضعية ـ بين اللفظ والمعنى قبل الاستعمال ، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان.

الثالث : ربط اللحاظ الآلي والاستقلالي بالموضوع له لكن لا بنحو التقييد وبيانه : ان يكون الموضوع له لفظ الحرف ولفظ الاسم واحد لا يختلف بحسب الذات ، ولكن يختلف الموضوع له لفظ الحرف عن الموضوع له لفظ الاسم ، في ان الموضوع له الحرف هو ذات المعنى ولكن في حال تعلق اللحاظ الآلي به ، والموضوع له الاسم هو ذات المعنى ولكن في حال تعلق اللحاظ الاستقلالي به ، فالموضوع له في كل منهما هو الذات ونفس الماهية بلا دخل للتخصص الخاصّ فيه وان كان طرف العلقة هو المتخصص لكن بذاته. فاللحاظ الآلي والاستقلالي خارج عن الموضوع له ولكنه لازم له لا ينفك عنه ، ونظيره ثابت في مثل حمل « نوع » على « الإنسان » ، فان الموضوع والمحمول عليه انما هو الماهية بنفسها بلا دخل للحاظ فيه مع ان اللحاظ لا ينفك عنه ، إذ حمل النوع على الإنسان أو غيره موطنه الذهن ، إذ لا يصح حمل النوع على الإنسان الخارجي ، ومعه لا ينفك المحمول عليه عن اللحاظ ، وظاهر ان ما يحمل عليه النوع هو نفس الماهية بلا تقييدها باللحاظ ، إذ الماهية المقيدة باللحاظ جزئي

٩١

ذهني لا نوع ، فكيف يصح حمل نوع عليها مقيدة باللحاظ؟!.

إذا ظهر ان الموضوع له في كل من الاسم والحرف واحد ذاتا ، وانما يختلف من حيث اللحاظ بالنحو الخاصّ الّذي صححناه ، يظهر عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ العلقة الوضعيّة إذا كانت بين الحرف والمعنى الملحوظ باللحاظ الآلي فلا علقة بينه وبين الملحوظ استقلالا ، فلا يصح الاستعمال. وهكذا الكلام في الاسم.

وهذا التفسير لكلام صاحب الكفاية أوجه من أخويه ، وان كان ارتباطه بالعبارة أبعد ، ولكنه غير صحيح في نفسه كأخويه ، بيان ذلك : ان حال الوضع بالنسبة إلى اللحاظ الآلي والاستقلالي يختلف عن حال حمل مثل نوع على الإنسان بالنسبة إلى اللحاظ ، فان المتحقق في الذهن في حال حمل النوع هو واقع اللحاظ لا مفهومه ، بخلاف المتحقق في حال الوضع فانه مفهوم اللحاظ الآلي أو الاستقلالي ، ولذلك يتعلق بهما واقع اللحاظ.

ثم ان هناك موردين يلازم فيهما شيء شيئا آخر ولا ينفك عنه ولا يكون دخيلا فيما رتب على ذلك الشيء الملزوم من أثر وما تعلق به من حكم.

أحدهما : ما تقدم من حمل مثل « نوع » على « الإنسان » المعبر عنه في الاصطلاح بـ « حمل المعقولات الثانوية » فان هذا الحمل بحكم كون موطنه الذهن وان الاتصاف المصحح للحمل وملاكه في الذهن لا الخارج ، كان المحمول عليه هو الحصة الملحوظة كما عرفت خروج اللحاظ عن دائرة المحمول عليه ، وإلاّ لكان جزئيا ذهنيا لا نوعا كليا.

ثانيهما : الماهيات الجزئية الخارجية ، فان كل ماهية خارجية مباينة لماهية خارجية أخرى ، فالحصة الموجودة بوجود عمر وغير الحصة الموجودة بوجود بكر ، وتحقق جزئيتها انما يكون بالوجود ، فإذا رتب أثر أو علق حكم على الماهية الجزئية الخاصة كان الحكم مترتبا عليها بلا دخل للوجود اللازم لها ـ إذ بدونه لا

٩٢

تخصص لها ـ في ترتبه مع عدم تعديه إلى غيرها من الحصص ، فإذا وضع لفظ زيد للحصة الخاصة كان الموضوع له هو ذات الحصة بلا تقيد بالوجود الملازم لها غير منفك عنها ، إذ قد عرفت ما في تقيد الموضوع له بالوجود. ولا يتعدى الوضع عن هذه الحصة إلى غيرها من الحصص.

ولا يخفى ان ما نحن فيه لا يشابه أحد الموردين.

أما عدم كونه من قبيل الماهيات الجزئية فلان الالتزام به ملازم للالتزام بخصوصية الموضوع له ، وان الموضوع له في الحرف هو الحصص والجزئيات ، وقد عرفت انه لا يلتزم به وينكر عليه.

واما عدم كونه من قبيل حمل المعقولات الثانوية ، فقد عرفت ان هناك فرقا موضوعيا ينتج عن ان اللحاظ المعتبر في الحمل انما هو واقع اللحاظ فلا يتصور فيه التقييد والإطلاق ، بخلاف اللحاظ الآلي والاستقلالي فيما نحن فيه ، فان المراد به مفهوم اللحاظ لا واقعه فكما يتصور الواضع حال الوضع مفهوم الموضوع له ، كذلك يتصور مفهوم اللحاظ الآلي أو الاستقلالي لو أراد جعل الارتباط بينهما ، وحينئذ يقال : انه مع ملاحظة كل من المفهومين ـ مفهوم الموضوع له ومفهوم اللحاظ ـ ، وبعد فرض إمكان انفكاكه عن الآخر ، فاما ان يقيد المعنى باللحاظ ، واما ان يضع اللفظ للمعنى مطلقا أو يهمل.

والثالث ، ممتنع لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. والثاني ، يلزم منه الترادف وصحة استعمال كل منهما موضع الآخر وهو ما بصدد التفصي عنه في كلامه. والأول ، ما نفاه وشدد النكير عليه فالالتزام به رجوع عما فرّ منه.

ثم انه قد أورد على صاحب الكفاية رحمه‌الله : بأنه إذا كان الموضوع له في كل من الحرف والاسم واحدا وانما الاختلاف من حيث اللحاظ ، فلازم ذلك حدوث علاقة بين معنى الاسم والحرف وثبوتها بنحو يصح استعمال كل منهما في معنى الآخر مجازا ، بل العلاقة الثابتة أقوى العلاقات ، إذ علقة الاتحاد الذاتي

٩٣

والماهوي بين المعنيين لا تفوقها العلقة الناشئة عن مناسبة ما بين معنيين يختلفان حقيقة وذاتا ، فإذا صححت هذه الاستعمال المجازي فتصحيح تلك العلاقة بين معنى الاسم والحرف للاستعمال المجازي لكل منهما في معنى الآخر أولى ، مع ان الوجدان قاض باستهجان استعمال الاسم موضع الحرف أو الحرف موضع الاسم ولو مجازا ، وعدم صحته.

ولكن هذا الإيراد لا يخلو عن مناقشة ، فان العلاقة المصححة للاستعمال المجازي إنما تكون إثباتا ونفيا بنظر العرف لا بالنظر الدقي العقلي ، لأن الاستعمالات عرفية فالحكم في تصحيحها بمصحح هو العرف. ومعنى الاسم وان كان في الحقيقة والدقة يتحد مع معنى الحرف إلاّ انه حيث كان عرفا وبالنظر العرفي مباينا لمعنى الحرف لم يصح استعمال أحدهما موضع الآخر مجازا ، وكان ذلك غلطا ومستهجنا لعدم العلاقة المصححة لتباينهما بنظره.

واما المذهب الثاني : فقد عرفت انه يتلخص في ان الحروف لم توضع إلى أي معنى ، بل هي علامات على حالات خاصة تعرض على مدخولاتها ، فهي على هذا كحركات الإعراب غير الموضوعة لأي معنى ، وانما كانت علامات لبعض حالات الاسم والفعل.

وقد نفي هذا المذهب بمنع ما ذكر في المقيس ـ أعني الحروف ـ وفي المقيس عليه ـ أعني حركات الإعراب ـ. أما منعه في الحروف ، فلأن هناك معان خارجة عن مدلول الأسماء وتفهم عند انضمام الحرف إلى الاسم ، وبعبارة أخرى : انه بضم الحرف إلى الاسم يفهم معنى وخصوصية ما خارجة عن مدلول الاسم ولا تفهم بذكر الاسم وحده ، فيتعين ان يكون الدال عليها هو الحرف ، إذ ليس في الكلام غيره مما يمكن القول بكونه دالا على المعنى.

واما منعه في حركات الإعراب ، فلنفس الوجه ، فانه يستفاد من حركات الإعراب معان وخصوصيات خارجة عن أصل مدلول الاسم. ولذلك يتغير

٩٤

المعنى بتغيرها وتبدلها وذلك ظاهر جدا.

واما المذهب الثالث ففيه أقوال :

القول الأول : ما اختاره المحقق النائيني (١) رحمه‌الله ، وبيان ما أفاده قدس‌سره : انه كما ان للعرض الخارجي في مقام قيامه رابط يربط بموضوعه ونسبة ما بينه وبين موضوعه ، كذلك المفاهيم في مرحلة التصور والوجود الذهني لا بد في قيام بعضها ببعض ذهنا من تحقق الربط بينها ، ولا يخفى ان الرابط بين الموجودات الخارجية والمفاهيم خارج عن حقيقة الموجود الخارجي والمفهوم ، فالربط بين زيد والقيام في الخارج ليست حقيقته من سنخ حقيقة زيد والقيام ، فليس له ماهية وتقرر يعرض عليه الوجود كزيد والقيام ، وإلاّ لاحتاج في وجوده إلى رابط يربطه بغيره لعدم صلاحيته للربط حينئذ بل حقيقته لا تخرج عن حد الوجود ، ومن سنخ الوجود. فالنسبة والربط بين زيد والقيام من خصوصيات وجوديهما. وهكذا الربط بين مفهومي زيد والقيام في الذهن فانه ليس من سنخ المفاهيم التي يتعلق بها التصور واللحاظ ، وإلاّ لاحتاج إلى رابط يربطه بغيره ، إذ يكون حينئذ كغيره من المفاهيم فلا يصلح للربط ، وانما هو من سنخ اللحاظ والتصور ومن خصوصيات لحاظ المفهومين.

وبالجملة : كما ان النسبة الخارجية ـ أعني النسبة بين الموجودين خارجا ـ لا تخرج عن حد الوجود وليس لها ماهية يعرض عليها الوجود ، كذلك النسبة الذهنية ـ أعني النسبة بين المفهومين ذهنا ـ لا تخرج عن حد اللحاظ وليس لها مفهوم يتعلق به اللحاظ والتصور ، فصح حينئذ ان يعبر عن النسبة الذهنية بالنسبة الكلامية بلحاظ انها النسبة بين المفهومين المدلولين للكلام وانه لا واقع لها إلاّ الكلام ، حيث انه لا تقرر لها في نفسها ولا وجود لها قبل وجود المفهومين.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٦ ـ الطبعة الأولى.

٩٥

فالذي وضع له الحرف هو النسبة الكلامية ، أعني النسبة بين المفهومين في الذهن والربط الحاصل بينهما ، وبذلك يختلف المعنى الحرفي جوهرا وحقيقة عن المعنى الاسمي ، فان المعنى الاسمي عبارة عن مفهوم له تقرر في وعائه الخاصّ يتعلق به اللحاظ ويعرض عليه التصور ، بخلاف المعنى الحر في فانه من سنخ اللحاظ والتصور لا مفهوم يتعلق به اللحاظ.

وبعبارة أخرى : الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي كالفرق بين الربط الخارجي والموجودات الخارجية. فكما انه لا ماهية للربط الخارجي يعرض عليها الوجود ، بل هو من سنخ الوجود ، كذلك لا مفهوم للنسبة الذهنية والربط الذهني يتعلق به التصور ، بل هو من سنخ التصور.

وبهذا يعلم ان المعنى الحرفي له أركان ثلاثة يختلف بها عن المعنى الاسمي :

الركن الأول : ان المعاني الحرفية إيجادية بخلاف المعاني الاسمية فانها إخطارية.

والوجه فيه : ان المعنى الحرفي كما عرفت هو الربط الذهني بين المفهومين ، وقد عرفت ان الربط الذهني ليس شيئا غير الوجود الذهني ومن أنواعه. وعليه ، فهو غير قابل للانتقال والخطور في الذهن ، بل هو يتحقق في الذهن ويوجد ، بخلاف المعنى الاسمي فان له مفهوما يتعلق به اللحاظ والتصور وله تقرر في وعائه المناسب له. وعليه فهو قابل للخطور في الذهن وتعلق التصور به.

وبهذا البيان يتضح ان سنخ دلالة الحروف على المعاني ليس سنخ دلالة سائر الألفاظ على معانيها ، وبعبارة أخرى : ليس سنخ الدلالة الوضعيّة وهي الدلالة التصورية ، لعدم قابلية المعنى الحرفي للتصور والانتقال ، بل نفس المعنى الحرفي يتحقق بذكر الحرف ويوجد في ذهن السامع ، فإذا قيل : « زيد في الدار »

٩٦

تحقق اللحاظ الخاصّ في الذهن عند السامع.

وعليه ، فكون المعنى الحرفي إيجاديا يصح ان يكون بلحاظ انه من سنخ الوجود غير القابل للخطور والتصور ، وان يكون بلحاظ انه بذكر الحرف يوجد المعنى ويحدث في ذهن السامع ، لا انه ـ أي الحرف ـ يوجب تصور معنى ومفهوم ما والانتقال إليه كغيره من الألفاظ. فهي إيجادية بالنسبة إلى المتكلم بالمعنى الأول وبالنسبة إلى السامع بالمعنى الثاني.

ودلالة الحرف على المعنى في ذهن المتكلم لا تكون من باب دلالة المفهوم على مصداقه والعنوان على معنونه ، بل من باب حكاية الفرد عن الفرد المماثل الآخر ، وهكذا دلالته على النسبة الخارجية والربط الخارجي.

الركن الثاني : ان المعاني الحرفية لا واقع لها بما هي معان حرفية في غير التراكيب الكلامية ، بمعنى انه لا مفهوم لها متقرر في وعائه يتعلق به الوجود الذهني ، بخلاف المعاني الاسمية فانها مفاهيم لها تقرر في عالم المفهومية ، وقد اتضح ذلك ببيان إيجادية الحروف ، فان ذلك لازم كونها إيجادية ومن سنخ الوجود ، فانه لا واقع لها حينئذ غير واقع الوجود ، وليست المعاني الاسمية كذلك ، بل واقعها غير واقع الوجود ، ولذا لا تنعدم بانعدام التصور واللحاظ.

الركن الثالث : ان المعنى الحرفي مغفول عنه وغير ملتفت إليه بخلاف المعنى الاسمي.

ووجهه : ان المعنى الحرفي بعد ان كان من سنخ اللحاظ والتصور وكيفية من كيفياته ولم يكن من المفاهيم المتقررة كان غير قابل لتعلق اللحاظ الاستقلالي به والالتفات إليه ، لأن اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلا ومغفول عنه والالتفات إليه ، لأن اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلا ومغفول عنه والالتفات لنفس الملحوظ ، فما يكون من سنخ اللحاظ ومن كيفياته كالنسبة والربط لم يكن قابلا للالتفات كما هو ظاهر جدا.

٩٧

وقد ذكر المحقق النائيني للمعنى الحرفي ركنا رابعا (١) لا يتعلق لنا بذكره غرض ، ولذلك أرجأناه إلى محله في مبحث الخبر والإنشاء. فانتظر.

وقد ناقش السيد الخوئي ( حفظه الله ) في الأركان الثلاثة. فناقش في الركن الثاني ، أعني انها لا واقع لها الا في التراكيب الكلامية.

وقد حمل السيد الخوئي ( حفظه الله ) كلام المحقق النائيني رحمه‌الله على ان الحرف موضوع لإيجاد الربط بين الكلمات التي تتألف منها الجملة ، وان الربط لا يحصل بدون الحرف ويكون الحرف سببا لحدوثه ، ولذلك كان معنى الحرف لا واقع له الا في ضمن التراكيب الكلامية ، لأنه الربط بين اجزاء الكلام. فاستشكل عليه : بان هذا مما لا إشكال فيه وان الألفاظ لا تكون مرتبطة بعضها ببعض الا بواسطة الحرف ، إلاّ ان ذلك باعتبار دلالة الحرف على معنى بذلك المعنى يكون الحرف موجدا للربط ، ونحن في مقام تشخيص ذلك المعنى والكشف عن حقيقته ، فالربط بين الكلمات الّذي هو إيجادي ولا واقع له إلاّ في ضمن التراكيب الكلامية أمر مسبب عن معنى الحرف لا انه هو معنى الحرف.

ثم ذكر بعد ذلك أن المعنى الحرفي سنخ مفهوم ، إلاّ انه غير مستقل يخطر في الذهن بتبع غيره ، وهذا وان لم يوجب كونه إخطاريا ـ بلحاظ ان الإخطاري ما كان يخطر في الذهن استقلالا وبنفسها ـ إلاّ انه ليس إيجاديا لكونه ذا تقرر في وعائه قبل ذكر الحرف فليس الحرف موجدا له فلا وجه لفرض كونه إيجاديا باعتبار انه لو لم يكن إيجاديا لكان إخطاريا لتصور الواسطة وان لا يكون المعنى إخطاريا ولا إيجاديا. كما انه يظهر ان ما ذكره من ان المعنى الحرفي لا واقع له في غير التراكيب الكلامية غير سديدة.

هذا ما ذكره السيد الخوئي في مقام مناقشته للركنين الأولين ـ كما يستفاد

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢١ ـ الطبعة الأولى.

٩٨

من تقريرات الفياض ـ (١).

ولكن المناقشة فيه واضحة بعد ما عرفت من توجيه كلام المحقق النائيني ، فان المحقق النائيني لم يذهب إلى ان معنى الحرف هو الربط بين الكلمات ـ كما تخيله السيد الخوئي ـ كي يرد عليه ما ذكر ، بل ذهب إلى ان معنى الحرف هو النسبة والربط بين المفهومين ولما كان هذا من سنخ الوجود كان المعنى الحرفي إيجاديا لا يقبل الخطور أصلا ، كما انه لا يكون له واقع في غير التراكيب الكلامية ، بمعنى انه لا تقرر له في وعاء ما يتعلق به التصور ، بل هو موجود بوجود المفهومين ، وبهذا الاعتبار صح التعبير بأنه لا واقع له في غير التراكيب الكلامية ، بلحاظ المحكي بالكلام وهو المفهوم ، لا بلحاظ نفس الكلام كما توهم ، ولعل هذا التعبير وما يماثله كالتعبير بالنسبة الكلامية هو الّذي أوهم السيد الخوئي بما تقدم منه. ولكن مراده قدس‌سره غير ما ذكر والتعبير المزبور اصطلاحي يمكن ان يكون بلحاظ المحكي بالكلام من المفاهيم ، إذ واقع النسبة والربط في وجود المفاهيم لأنه كيفية وجودها ، لا بلحاظ نفس الكلام واللفظ.

وبالجملة : لا وجه لما ذكره بعد ملاحظة ما بيناه من مراد المحقق النائيني.

ثم إنه ( حفظه الله ) ناقش في الركن الثالث ـ أعني كون المعنى الحرفي مغفولا عنه ـ بأنه خلاف الوجدان لأن المعاني الحرفية كثيرا ما يكون اللحاظ الاستقلالي والقصد الأولي متعلقين بإفادتها ويكون ذكر الاسم مقدمة لإفادة تلك الخصوصية والتحصص. فتقول في جواب من سألك عن كيفية ركوب زيد مع العلم بأصل تحققه : انه ركب على الدّابّة أو مع الأمير ونحو ذلك.

ولكن الإشكال فيما ذكره بعد تقرير لزوم الآلية للمعنى الحرفي بما تقدم

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٦٨ ـ الطبعة الأولى.

٩٩

لا يحتاج إلى بيان.

واما الاستشهاد بالمثال المذكور فلا وجه له ، لأنه مع العلم بأصل الركوب يعلم جزما بتحقق نسبة ما بينه وبين شيء آخر من زمان أو مكان أو وسيلة أو صاحب ونحو ذلك ، فالسؤال في الحقيقة عن طرف النسبة الآخر المجهول لا عن النسبة كي يكون الجواب ناظرا إلى بيانها المقتضي لتعلق اللحاظ الاستقلالي ، فلا يصلح المثال للاستشهاد على ما ادعاه.

نعم هناك مثال آخر اقرب للاستشهاد مما ذكره ، وهو ما إذا رأينا شخصا في طريق بين البصرة والكوفة ولم نعلم انه آت من البصرة أم ذاهب إليها؟ فنسأله : « أمن البصرة أم إليها » فان السؤال هاهنا يتعين ان يكون عن النسبة بين السير والبصرة وانها النسبة الابتدائية أو الانتهائية لا عن أحد الطرفين للعلم بهما والمجهول هو النسبة كما هو ظاهر. ولكن هذا المثال قابل للمناقشة كسابقه لوجهين :

الأول : ما هو المقرر في علم العربية من تعلق الجار بعامل مقدر ، فالسؤال عنه لا عن النسبة.

الثاني : إنه بعد ان عرفت ان النسبة من المعاني الآلية المغفول عنها حال الاستعمال ـ والمعنى الحرفي انما كان كذلك باعتبار انه النسبة والربط ـ سواء كان الحرف موضوعا لها أو لم يكن ـ وهو أمر لا كلام فيه ـ ، امتنع أن يتعلق بها الالتفات واللحاظ الاستقلالي ، فلا بد من حمل ما ظاهره تعلق الالتفات بالنسبة ـ كالمثال لو سلم ذلك ـ على غير ظاهره مما يتلاءم مع ما يقتضيه حال النسبة والربط.

وبالجملة : فالإيراد المذكور على الالتزام بآلية النسبة والغفلة عنها الّذي هو أمر لازم لواقع النسبة ولا ينكره أحد حتى من لا يقول بوضع الحرف لها ، ولا يكون إيرادا على الالتزام بوضع الحرف للنسبة ، لأن السؤال في المثال

١٠٠