منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الملازمة والارتباط بين اللفظ والمعنى ، وكونه عبارة عن التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللفظ.

وقد كان الثابت لدينا في الدورة السابقة هو معقولية كلا الوجهين ثبوتا وإثباتا ، وان ترجيح أحدهما لا بد فيه من مرجح.

إلاّ ان الّذي نراه فعلا بطلان القول بالتعهد.

وتوضيح ذلك : ان المراد من التعهد يتصور بأنحاء :

النحو الأول : ان يراد به التعهد ، والبناء على ذكر اللفظ بمجرد تصور المعنى والانتقال إليه. فمتعلق التعهد هو ذكر اللفظ.

وهذا المعنى لا يمكن الالتزام به ، إذ من البديهي الّذي لا إنكار فيه ان الإنسان إذا تصور بعض المعاني ولم يذكر اللفظ لم يعد مخالفا لتعهده وناقضا لبنائه ، إذ لا يرى الشخص ملزما بذكر ألفاظ جميع ما يتصوره من المعاني ولو بلغت من الكثرة إلى حد كبير ، كما لو قرأ الشخص كتابا طويلا في ليلة واحدة ، أو كانت من المعاني التي لا يستحسن التصريح بها.

النحو الثاني : ان يراد به التعهد والبناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى.

وهذا باطل لوجهين :

أحدهما : أن ذلك يستلزم ان يكون مدلول اللفظ هو نفس إرادة التفهيم لا المعنى ، وانما يكون المعنى من قيود المدلول لا نفسه ، بمعنى ان المدلول هو الحصة الخاصة من الإرادة ، وهي الإرادة المتعلقة بهذا المعنى ـ نظير ما إذا تعهد بالإشارة بالإصبع عند مجيء زيد ، فان مدلول الإشارة يكون نفس المجيء لا زيد ، بل زيد يكون من قيود المدلول ـ.

وهذا ـ أعني كون المدلول والموضوع له هو الإرادة ـ ينافي دعوى وضع اللفظ للمعنى ، كما هو محور الكلام كما انه مما لا يلتزم به القائل ، فانه يلتزم بان

٦١

اللفظ موضوع إلى المعنى ، غاية الأمر المعنى الّذي تعلقت به الإرادة دون غيره ، فالموضوع له بالتزامه هو الحصة الخاصة من المعنى ، وقد عرفت بان إرادة المعنى المزبور من التعهد تستلزم كون المعنى من قيود الموضوع له لا نفسه ، وان الموضوع له هو الحصة الخاصة ـ وهو الإرادة المعلقة بالمعنى ، لا الحصة الخاصة من المعنى ـ وهي المعنى المتعلق للإرادة ـ.

وثانيا : أنه من المتقرر امتناع وضع اللفظ للموجودات الخارجية بما هي كذلك ، بل لا بد من تعلقه بالمفهوم ، لأن المقصود منه تحقق انتقال المعنى الموضوع له بالانتقال إلى اللفظ ، والمعنى القابل للانتقال هو المفهوم دون الموجود ، إذ لا يقبل الموجود وجودا آخر ذهنيا كان أو خارجيا ، والانتقال عبارة عن الوجود الذهني. وعليه فلا يمكن دعوى كون الموضوع له هو إرادة المتكلم التفهيم ، لأنها من الأمور الخارجية الواقعية لا من المفاهيم ، فلا تقبل الوجود الذهني وهو الانتقال. فلاحظ.

النحو الثالث : ان يراد به التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه ، فيكون متعلق التعهد هو نفس التفهيم لا ذكر اللفظ ، فلا يرد عليه ما ورد علي سابقه ، إذ العلاقة مفروضة بين اللفظ ونفس المعنى لا بينه وبين إرادة تفهيمه كما لا يخفى.

ولعله لأجل التفصي عن ما ورد على سابقه غيّر القائل ـ هو السيد الخوئي ( دام ظله ) (١) ـ التعبير الأول السابق ، وعبّر بهذا التعبير أو بما يشاكله كالتعهد بإبراز المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه.

ولكنه مع هذا لا يسلم عن المحذور.

بيان ذلك : انه انما يصح في فرض لا ينحصر فيه المفهم للمعنى باللفظ

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٤٥ ـ الطبعة الأولى.

٦٢

الخاصّ ، بان كان هناك دال آخر عليه من لفظ أو غيره ، فيكون لهذا التعهد معنى معقول ، كما يقع التعهد باستعمال خصوص هذه الآلة في الضرب دون غيرها. أما مع انحصاره فيه بحيث لم يكن للمعنى مفهم أصلا غير هذا اللفظ الّذي يحتمل مفهميته بالتعهد ، كان هذا التعهد غير معقول ، وذلك لأنه يشترط في صحة التعهد معقولية متعلقه في ظرفه بحيث يصح ان يتعلق به البناء والتعهد ، ومع عدم ذلك لا يصح التعهد ، وما نحن فيه يرجع إلى هذا القبيل ، لأن المتعهد به اما ان يرجع إلى ذكر اللفظ ، وقد عرفت ما فيه. واما ان يرجع إلى مفهمية اللفظ وهي غير اختيارية. واما ان يرجع إلى نفس التفهيم ـ مطلقا ـ وهو لا معنى له ، إذ لا معنى لأن يقال : التعهد عند إرادة التفهيم بالتفهيم كما هو واضح ، فينحصر ان يراد التعهد بالتفهيم باللفظ الخاصّ.

ولا يخفى انه مع انحصار المفهم به لا مجال لهذا التعهد ، فان المفهمية ـ يعني مفهمية اللفظ ـ وان نشأت بواسطته ، إلاّ انه حيث كان المفهم منحصرا به كان التعهد بالتفهيم به عند إرادة التفهيم بلا وجه ولا محصل ، إذ لا مجال للتفهيم بغيره تعهد أو لم يتعهد ، فالتفهيم به قهري لا محيص عنه فلا معنى للتعهد به.

وبعبارة أخرى : يكون التعهد بذلك مما يلزم من وجوده عدمه ، لأنه بحدوثه كان اللفظ مفهما للمعنى ، وتحصل العلاقة بينه وبين المعنى ، ولما كان المفهم منحصرا باللفظ كان التعهد بقاء لغوا ، فيرتفع التعهد قبيل الاستعمال ، فيلزم من وجوده عدمه وهو محال.

هذا مضافا إلى ما يرد على هذا النحو من محذور الدور ، وتقريبه : ان التعهد يتوقف على مقدورية متعلقه وهو التفهيم ، إذ مع عدم مقدورية التفهيم يستحيل التعهد ، والقدرة على التفهيم بهذا اللفظ غير حاصلة قبل التعهد ، إذ المفروض ان قابلية اللفظ للدلالة على المعنى تكون بالوضع وهو التعهد على هذا القول ، فالقدرة على تفهيم المعنى باللفظ متوقفة على التعهد ، وقد عرفت

٦٣

انها مما يتوقف عليها التعهد فيلزم الدور.

وقد أجيب : بأنه يكفي في صحة التعهد القدرة على التفهيم في ظرف الحاجة والعمل وهو ظرف الاستعمال ، ولا يلزم حصولها في ظرف التعهد نفسه ، وهي حاصلة في ظرف الاستعمال ، إذ العلاقة بين اللفظ والمعنى تحصل بالتعهد قهرا ويكون اللفظ قابلا للدلالة على المعنى بواسطته فيحصل الشرط في ظرفه.

ولكن هذا الجواب انما يتم لو كان أخذ القدرة على التفهيم في ظرف العمل شرطا لصحة التعهد من باب رفع اللغوية ، إذ مع عدم القدرة يلغو التعهد.

واما لو كان الملاك ليس ذلك ، بل شيئا يرجع إلى نفس التعهد ، بمعنى ان قوام التعهد بذلك ، فتكون القدرة على التفهيم في ظرف الاستعمال شرطا مقوما للتعهد من قبيل الشرط المتأخر فلا يصح الجواب ، إذ القدرة وان كانت متأخرة زمانا عن التعهد إلاّ انها بمقتضى شرطيتها المتأخرة من اجزاء علة حصول التعهد ، فيستحيل ان تكون ناشئة عن التعهد لاستلزامه الدور.

وتحقيق هذا المعنى ليس محله هاهنا ، بل محله مبحث أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وانما ذكرناه هاهنا إشارة إلى تصور الخدشة في الجواب.

وعلى كل ، فلا نستطيع ان نقول بان ما ذكر من محذور الدور دليل على بطلان النحو المذكور للتعهد ، إذ لم يتضح لدينا أخذ القدرة من أي النحوين وبأي الملاكين ، كما انه لم يتضح لنا بذلك بطلان الدور ، فالفرض هو الإشارة إلى تصور محذور آخر في النحو المذكور ، فتدبر.

والّذي ينتج بطلان الالتزام بالتعهد بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة. ويجمعها كون متعلق التعهد جانب اللفظ من ذكره أو التفهيم به في فرض تصور المعنى أو قصد تفهيمه. يبقى هاهنا احتمالات ثلاثة للتعهد ، وذلك بعكس فرض التعهد وموضوع ثبوته في الأنحاء الثلاثة بجعله متعلقا له ومعروضا له ، وعكس متعلقه بجعله فرض ثبوته ، فيكون المراد بالتعهد هو التعهد بتصور

٦٤

المعنى عند ذكر اللفظ ، أو التعهد بقصد تفهيمه عند ذكره ، أو التعهد بقصد تفهيم المعنى عند تفهيمه باللفظ.

وسخافة المحتمل الأخير وركاكته لا تحتاج إلى بيان.

وأما الاحتمال الأول ، فيبطله ان بقاء التصور غالبا لا يكون من الأمور الاختيارية التي تقبل ان يتعلق بها التعهد ، ومعه يلزم ان يقيد التعهد المزبور بما إذا لم يكن قد سبق تصور المعنى على ذكر اللفظ واستمر إليه ، إذ لا معنى للتعهد به مع تحققه بغير اختياره ، بل تصور المعنى حدوثا قد لا يكون اختياريا فيما لم يكن لتصوره مبادئ ومعدات كي يكون تصوره اختياريا تهيئيا ، فلا معنى لأن يتعهد المتكلم بتصور المعنى عند ذكر اللفظ. هذا مضافا إلى ان المتكلم مع التفاته إلى التعهد لا بد وان يسبق تصوره المعنى قبل التكلم ومع عدم التفاته لا يحصل له تصور المعنى حتى بعد ذكر اللفظ. فهذا الاحتمال مما لا محصل له.

وأما الاحتمال الثاني ، فيدفعه ما أوردناه على الاحتمال الثاني من تلك المجموعة ، وهو كون التعهد عبارة عن البناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، من استلزامه كون طرف الملازمة والعلقة والدلالة هو إرادة التفهيم لا نفس المعنى ، وهو لا يلتزم به القائل مع انه خلاف الفرض ، كما انه غير صحيح في باب الوضع ، لأن الموضوع له لا بد وان يكون من المفاهيم القابلة للتصور والانتقال لا من الأمور الخارجية الموجودة لأنها لا تقبل الانتقال.

كما يرد عليه وعلى سابقه ، من احتمال انه تعهد تصور المعنى عند ذكر اللفظ ، بل وعلى الكل أن ما يترتب على الملازمة الوضعيّة والعلاقة بين اللفظ والمعنى هو تحقق انتقال المعنى عند ذكر اللفظ من دون اعتبار تحقق العلم بثبوت المعنى ، بل قد يكون مما يستحيل ثبوته ، فالفائدة المترقبة من عملية الوضع ليس إلا تصور المعنى والانتقال إليه عند ذكر اللفظ ، والتعهد بالمعنى المذكور يترتب عليه العلم بطرف الملازمة ، وذلك لأن الملازمة ان قررت بين فعلين وثبتت بنحو

٦٥

الجزم بينهما كان العلم بحصول أحدهما موجبا للعلم بحصول الآخر.

وحيث أن طرفي الملازمة في التعهد هو الفعلين ، وهما ذكر اللفظ وإرادة التفهيم أو تصور المعنى ، كان ذكر اللفظ موجبا لحصول العلم بالإرادة والتصور ـ والانتقال إليهما وان حصل إلاّ أنه باعتبار كونه من مقدمات العلم ـ.

وعليه ، فلا يمكن الالتزام بكون العملية الوضعيّة هي التعهد ، لأن أثر العملية الوضعيّة المترقب ترتبه بلحاظها يختلف عن أثر التعهد وما يترتب عليه. فلاحظ.

وبهذا البرهان الجلي يتضح بطلان القول ، بان حقيقة الوضع هي التعهد والقرار.

ويؤيد ذلك بعض الموارد العرفية.

فان تحقق الوضع من شخص أخرس لا يستطيع الكتابة ولا يأمل البقاء بنحو يتمكن به من الاستعمال مما لا ينكر عرفا ، لو كان مما يعتنى بوضعه كما لو كان قد وضع اسما لولده. مع أنه لا تعهد لديه بذكر اللفظ والتفهيم به عند قصد التفهيم.

كما انه قد يضع الوالد لولده اسما مباركا للتفاؤل وهو لا يقصد بذلك استعماله في مقام التفهيم ، بل يضع لفظا آخر لذلك. أو يضع اسما قبيحا لردع العين الحسودة وإطالة البقاء ولا يرضى بان يتأذى بهذا الاسم أصلا ، وقد يعاقب على استعماله لو كان من شأنه ذلك.

وبالجملة : قد يضع الوالد لولده اسما لا لغرض استعماله فيه ، فيعد وضعا لدى العرف مع عدم التعهد. فتدبر جيدا وتفهم.

ونتيجة بطلان ما ذكر من هذه الوجوه لحقيقة الوضع ، يتعين الالتزام بان حقيقة الوضع هي جعل العلقة واعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى ، فانه معنى معقول لا محذور في الالتزام به ثبوتا ولا إثباتا.

٦٦

وتوضيحه : أن عدم الانفكاك بين تصور شيئين والتلازم بين وجوديهما الذهنيين ، بحيث إذا انتقل إلى أحدهما ينتقل الآخر ، انما ينشأ من ارتباط خاص بين نفس الشيئين وعلاقة بينهما تسبب التلازم بينهما في الوجود الذهني أو الخارجي ، فمنشأ التلازم في الوجود الذهني هو وجود الرابطة بين الشيئين ، وعليه فكما تكون الرابطة والعلاقة ثابتة في نفس الأمر والواقع ، كسائر الملازمات المعهودة مثل الملازمة بين الحرارة والنار ، كذلك يمكن ان يكون الارتباط متحققا في عالم الاعتبار والفرض العقلائي ، فتنشأ الملازمة على أثر تحقق الربط في عالم الاعتبار.

وبعبارة أخصر وأوضح ، لما كان منشأ الملازمة هو نفس الارتباط بين الشيئين لم يفرق في تحققها بتحققه واقعا أو اعتبارا ، فحقيقة الوضع اعتبار الارتباط والعلقة بين اللفظ والمعنى ، فينشأ قهرا بهذا الاعتبار تلازم واقعي بين تصور اللفظ وتصور المعنى لمن يلتفت إلى وجود الربط الاعتباري.

وهذا المعنى لا يرد عليه أي محذور ، كما أنه يتناسب مع الأمر الحقيقي الّذي يكون منشأ التلازم في الوجود الذهني ـ أعني الربط ـ.

وقد مرّ استفادة هذا المعنى لحقيقة الوضع ـ من كلام المحقق العراقي ـ ، وهذا يؤيد الالتزام به خصوصا بملاحظة ان الاعتبار خفيف المئونة سهل التحقق لا يحتاج إلى كلفة.

نعم يبقى سؤال وهو : أن الاعتبار انما يكون بلحاظ الآثار الاعتبارية العقلائية ، وليس في مورد الوضع ما يكون أثرا عقلائيا اعتباريا لاعتبار الربط. والجواب : انه يكفي في رفع لغوية هذا الاعتبار ترتب الأثر التكويني للربط المرغوب وهو الانتقال عند الانتقال والملازمة الواقعية الناشئة به ، بل ترتبه هو الملحوظ في هذا الاعتبار دون غيره فلا لغو.

والّذي يتحصل بأيدينا : ان الوضع عبارة عن جعل الربط والملازمة

٦٧

والعلقة بين اللفظ والمعنى ، وينشأ من هذا الاعتبار مصداق حقيقي للملازمة كما هو واضح.

ومن هنا ظهر : ان الاختصاص والارتباط الحقيقي والواقعي من آثار ونتائج الوضع لا نفس الوضع ، كما يظهر من صاحب الكفاية ، حيث قال : « الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بينهما ، ناش من تخصيصه به تارة ، وكثرة استعماله فيه أخرى » (١).

نعم لو كان المراد من الاختصاص الاختصاص الاعتباري الّذي يكون متعلق الاعتبار ، أمكن أن يصحح جعله معنى الوضع ، بحمل كلامه على إرادة الوضع بمعنى اسم المصدر ، لا الوضع بمعنى المصدر ، فانه غير الاختصاص اعتبارا.

إلاّ ان ظاهر دعواه نشوء الاختصاص تارة من كثرة الاستعمال ينافي حمل الاختصاص على المعنى الاعتباري ، إذ لا اعتبار في الاستعمال أصلا بل الاختصاص الناشئ منه ، ليس إلاّ الاختصاص الواقعي الحقيقي فتدبر والأمر سهل.

* * *

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٦٨

« اللفظ والاستعمال »

هذا البحث لم يعنون في الأبحاث بعنوان مستقل ، وانما يشار إليه في ضمن الأبحاث الأخرى المتعلقة بالاستعمال.

والمقصود منه بيان حقيقة استعمال اللفظ في المعنى. والأقوال فيها متضاربة ـ فمنهم من يرى انه إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى باللفظ (١). ومنهم من يرى انه جعل اللفظ علامة للمعنى كغيره من العلامات (٢) ـ والمتعارف على الألسن في تحرير النزاع المذكور ، هو ان الاستعمال هل هو من قبيل جعل اللفظ علامة للمعنى كغيره من العلامات أو لا؟ وظاهر ان تحرير النزاع على هذا النحو لا يخلو عن شائبة المنع ، لافتراق وضع سائر العلامات عن وضع اللفظ والدلالة الوضعيّة فيهما من جهتين :

الأولى : أن الدلالة الوضعيّة الناشئة بالاستعمال دلالة تصورية ، إذ لا يترتب على ذكر اللفظ سوى تصور المعنى لا غير ، بخلاف دلالة العلامات ، فانها دلالة تصديقية لأن الانتقال منها إلى مدلولها انتقال تصديقي كما هو ظاهر.

الثانية : ان دلالتها ليست بالاستعمال ، فان واضع العلامة لم يقصد حال الوضع التفهيم والكشف عن المدلول بها ، وانما وضعها لينتقل بملاحظة وجودها إلى ذي العلامة ، فالانتقال المتأخر عن الوضع ليس من توابع استعمال ما بل من توابع نفس وجود العلامة والعلم بالوضع لهذه الجهة.

وبالجملة : فتحرير الكلام بهذا النحو غير وجيه ، بل لا بد من تحريره بنحو يكون جميع أطراف احتمالاته من نحو الاستعمال وقبيله.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٢٠٨ ـ الطبعة الأولى.

٦٩

وتحقيق المطلب : ان استعمال شيء للإراءة والكشف عن شيء آخر ..

تارة : يكون بنحو يكون المستعمل فانيا في المستعمل فيه ، بحيث لا يلتفت إليه أصلا مع الالتفات إلى المستعمل فيه ويكون في حال الاستعمال مغفولا عنه ، وذلك كالمرآة بالنسبة إلى الوجه المرتسم بها ، فانه مع استعمالها للكشف عنه يكون الملتفت إليه خصوص الوجه ، وأما نفس المرآة فهي مغفول عنها ولا يلتفت إليها أصلا ، فلا يلتفت في لونها وخصوصيتها في هذا الحال ، فلو التفت إليها كان المستعمل فيه ـ أعني الوجه ـ مغفولا عنه وغير ملتفت إليه.

وأخرى : يكون بنحو يكون المستعمل ملتفتا إليه مستقلا مع الالتفات إلى المستعمل فيه ، وذلك كالاستعمالات الكنائية التي يكون المستعمل فيها معنى ويراد منه لازمه أو ملزومه ، فان اللازم والملزوم في هذا الاستعمال ملحوظان مستقلا وملتفت إليهما معا ، ولذا يصح الحكم على كل منهما بحكم في آن واحد وتتعلق بهما الإرادة والقصد في حين واحد.

إذا عرفت هذا ، فهل سنخ استعمال اللفظ في المعنى كاستعمال المرآة في الوجه ، فيكون اللفظ حال الاستعمال فانيا في المعنى ولا يلتفت إليه أصلا؟ أو انه كاستعمال الملزوم وإرادة اللازم ، فيكون كل منهما متعلقا للحاظ مستقل والتفات كامل في نفسه؟ أو لا هذا ولا ذاك ، بل سنخ ثالث؟.

الحق هو الأخير.

أما انه ليس من قبيل استعمال المرآة ، فلأنه من البديهي انه يمكن الالتفات إلى اللفظ وخصوصياته حال الاستعمال ، ولذلك يختار الخطيب الألفاظ الرشيقة والعبارات الشيقة في مقام أداء المعاني ، كما انه قد يجري على طبق القواعد العربية المرسومة في باب الاستعمال التي يتوقف الجري عليها على نحو التفات إلى اللفظ ، كقواعد النحو والصرف والبلاغة.

وأما انه ليس من قبيل الاستعمالات الكنائية ، فلأنه من الظاهر أن اللفظ

٧٠

في حال الاستعمال لا يكون ملتفتا إليه بالاستقلال وملحوظا في نفسه ، لظهور عدم إمكان الحكم عليه بما انه لفظ في ذلك الحال ، ولو كان ملحوظا استقلالا لصح الحكم عليه بلا إشكال.

وبذلك يعلم أن اللفظ في حال الاستعمال يكون ملحوظا ، لكن باللحاظ الطريقي الآلي لا باللحاظ الاستقلالي النفسيّ ، فالاستعمال على هذا ليس إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى باللفظ ، ولا ذكر اللفظ مستقلا فينتقل منه إلى المعنى كالكنايات ، بل هو إيجاد اللفظ في الخارج بداعي حصول الانتقال إلى المعنى ، فهو منظور طريقا وعبرة للمعنى لا مستقلا ولا مغفولا عنه ، فليكن جميع هذا نصب عينيك لتنتفع به في مبحث جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

* * *

الجهة الثانية : في أقسام الوضع.

* * *

٧١

الوضع التعييني والتعيني

اشتهر بين الاعلام تقسيم الوضع إلى قسمين تعييني وتعيني. وعرف الأول بأنه : تخصيص اللفظ بالمعنى من قبل واضع معين. وعرف الثاني : بأنه الارتباط الخاصّ الحاصل بين اللفظ والمعنى الناشئ من كثرة الاستعمال.

ولكن الّذي يختلج في النّفس ان الوضع التعيني لا أساس له ، فانه لا يتصور له معنى معقول ، إذ لا وجه لأن يختص اللفظ بالدلالة على المعنى بكثرة الاستعمال ، مع ان الدلالة في هذه الاستعمالات الكثيرة لا ينفرد بها اللفظ ، بل يشترك معه القرينة. ولو كان لمثل هذا مثال ملموس وواقع ثابت لأمكن ان نقول بأن ملاكه شيء معقول لا تصل إليه أذهاننا إذ إنكار الواقع مكابرة ظاهرة ، إلاّ انه لم يتضح لدينا وجود لفظ كذلك ، يعني استعمل في معنى مع القرينة كثيرا بحيث صار دالا على المعنى بلا قرينة. فلا نستطيع الجزم بمعقولية الوضع التعيني بسهولة.

ثم انه قد ورد في تقريرات بحث السيد الخوئي ( حفظه الله ) ، ان التعهد ان كان ابتدائيا فالوضع تعييني ، وان كان منشؤه كثرة الاستعمال فالوضع تعيني (١).

ولم يعلم الوجه في الكلام الأخير ، لأن كثرة الاستعمال كما لا يخفى من الأمور التشكيكية الصادقة على عدد وأقل منه وأكثر. فان بلغت الكثرة بحد يتحقق به ارتباط بين اللفظ والمعنى وعلاقة بحيث إذا أطلق اللفظ ينتقل المعنى بواسطته إلى الذهن فلا ملاك للتعهد ، لأن الغرض به حاصل بدونه وهو قابلية اللفظ للتفهيم. وان لم تصل إلى ذلك الحد فلم يثبت مقدار ما يكون للتعهد ، كما

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٢

انه لم يعلم الوجه في كون الكثرة المزبورة منشئا للتعهد وجهة سببيتها له.

وعلى كل حال فالأمر سهل جدا.

تقسيم الوضع بلحاظ الملحوظ حاله

لا يخفى ان الوضع على جميع المباني فيه لا يخرج عن كونه حكما وعملية ترتبط بطرفين أحدهما اللفظ والآخر المعنى. وهذا يقتضي ان عملية الوضع تتوقف على ملاحظة كل من الطرفين والالتفات إليهما ، إذ الحكم والحمل لا يتحقق في عالم النّفس إلاّ بتحقق ما يحمل ويحكم عليه فيها. ويختلف الوضع عموما وخصوصا باختلاف المعنى الملحوظ حال الوضع فتتعدد اقسامه.

وهي في مرحلة التصور أربعة :

الأول : ان يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لذلك المعنى العام.

الثاني : ان يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ لذلك المعنى الخاصّ.

الثالث : ان يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لمصاديقه وافراده الجزئية.

الرابع : ان يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ للعام المنطبق عليه.

ويعبّر عن القسم الأول بالوضع العام والموضوع له عام. وعن الثاني بالوضع الخاصّ والموضوع له خاص. وعن الثالث بالوضع العام والموضوع له خاص. وعن الرابع بالوضع الخاصّ والموضوع له عام. هذا في مرحلة التصور.

اما في مرحلة الثبوت والإمكان ، فالقسمان الأولان مما لا إشكال في إمكان ثبوتهما إذ لا يتصور فيهما أي محذور ، فيمكن ان يلحظ الواضع معنى عاما أو خاصا ويضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الملحوظ العام أو الخاصّ بأي معنى من معاني الوضع ، فيعتبر الارتباط بينهما أو ينزل اللفظ منزلة المعنى أو يجعله على المعنى أو يتعهد بتفهيم المعنى به.

٧٣

وأما القسم الثالث : فقد يشكل في إمكانه بأنه حيث يعتبر لحاظ المعنى الموضوع له في الوضع كما عرفت ، فاما ان يكون الخاصّ الّذي يقصد وضع اللفظ بإزائه ملحوظا مع لحاظ العام أو غير ملحوظ أصلا. فعلى الثاني يمتنع الوضع له. وعلى الأول يلزم ان يكون الوضع خاصا للحاظ الخاصّ نفسه وهو خلف الفرض.

إلاّ انه يدفع : بان لا يعتبر في الوضع أو أي حكم الالتفات تفصيلا إلى المحكوم عليه ، بل يمكن الحكم عليه بواسطة عنوان عام مشير إليه بلا التفات إلى نفس المعنون بالمرة ، اما للجهل بجميع خصوصياته الموجبة لجزئيته ، أو لعدم إمكان الالتفات إليه ، كما لو كان الحكم على مصاديق العام وكانت بحد لا يمكن الالتفات إليها بخصوصياتها جميعا.

وعليه ، فيمكن الوضع للافراد بلا التفات إليها تفصيلا ، بل بواسطة العنوان العام المشير إليها ، فيلحظ طريقا إلى افراده ويوضع لها اللفظ بتوسيطه بلا ان يتعلق بها بخصوصياتها اللحاظ. ببيان : ان العام وجه للافراد وتصوره تصور لها بوجه ، وذلك كاف في صحة الوضع لها بلا لحاظها بخصوصياتها.

وبهذا التقريب بيّن إمكان القسم الثالث.

لكن الحق انه لا يدفع الإشكال هنا ، لأن الموضوع له الخاصّ ليس هو الفرد بوجوده الخارجي ولا بوجوده الذهني ، لأن المقصود من الوضع هو التفهيم وانتقال المعنى الموضوع له عند ذكر اللفظ وخطوره في ذهن السامع ووجوده فيه ، والوجود الخارجي يمتنع ان يكون معروضا للحاظ ، والوجود الذهني ، بمعنى انه يوجد هنا في الذهن لقيام البرهان على ان المقابل لا يقبل المقابل ، ومثله الوجود الذهني يمتنع ان يعرض عليه اللحاظ وان يوجد في الذهن ثانيا بوصف وجوده لقيام الدليل على ان المماثل لا يقبل المماثل ، وعليه فما يفرض وضع اللفظ له لا بد ان يكون هو المفاهيم الجزئية بلا وصف وجودها في الخارج أو في الذهن ، فانها

٧٤

تقبل الوجود وعروض اللحاظ عليها.

ولا يخفى ان العام لو سلم كونه وجها إجماليا لافراده ، فهو وجه لها بوجودها الخارجي أو الذهني ( وبعبارة أخرى : هو وجه لمصاديقه الخارجية والذهنية ) ، لأنه يتحد معها نحو اتحاد ، ولذا يصح حمله عليها بملاك الاتحاد في الوجود ، وليس هو وجها لافراده في مرحلة مفهوميتها ومعرّاة عن وجودها ، لأن المفاهيم في مرحلة مفهوميتها متباينة ، ولذلك لا يصح حمل المفهوم الكلي على المفهوم الجزئي لا بالحمل الأولي لتغيرهما ذاتا ـ وملاك الحمل الأولي الاتحاد في المفهوم ـ ، ولا بالحمل الشائع لكون الملاك فيه الاتحاد في الوجود ، والمفروض كون المفهوم ملحوظا معرّى عن الوجود وان الحمل بين المفهومين ، وإذا تبين عدم ثبوت الاتحاد بين مفهوم العام ومفهوم الفرد وتحقق المباينة بينهما ، امتنع ان يكون تصور العام تصورا لافراده بوجه كي يصح الوضع للافراد بتوسيط تصور العام ، إذ المباين لا يصلح لأن يكون وجها للمباين كي يكون تصوره تصورا له بوجه.

والجواب ان يقال : ان تحقق الوضع لا يتوقف على لحاظ الموضوع له حتى إجمالا ، بل يمكن الوضع لمعنى مع عدم لحاظه بالمرة أصلا ، وذلك بواسطة الإشارة إليه بأدوات الإشارة كأسماء الإشارة والموصولات وبعض الضمائر.

وعليه ، فلو ثبت عدم إمكان لحاظ الافراد وتصورها ، وعدم كفاية تصور العام في لحاظها وتصورها ولو إجمالا ، لمباينته لما يراد الوضع له وهو المفاهيم الجزئية ، أمكن الوضع لها بلا لحاظها أصلا ، بل بتوسيط الإشارة إليها ، ولا تمتنع الإشارة إلى غير الملحوظ والمتصور أصلا فيما لو لم يمكن تصوره ولحاظه كالأفراد ، لعدم تناهيها عرفا ، فيقال : « لفظ الإنسان موضوع لما هو من افراد الحيوان الناطق » فقد أشير إلى الافراد بالموصول ـ أعني : « ما » ـ ووضع اللفظ بواسطة الإشارة ومعونتها بلا لحاظها أصلا.

والحاصل : ان الوضع بحكم كونه حكما على الموضوع له لا يستدعي

٧٥

سوى تعيين الموضوع له وتشخيصه ، والتعيين كما يكون بواسطة إحضار نفس المعنى والحكم عليه مباشرة كذلك يكون بواسطة الإشارة إليه بمشير ما بلا حضوره بنفسه في الذهن كما لو لم يمكن حضوره.

والوضع إلى الافراد من هذا القبيل ، فانه يمكن وضع اللفظ لها بلا توسيط لحاظها ، لعدم إمكانه أحيانا ، ولا توسيط العام المتصور ، لعدم صلاحيته للإراءة والكشف ، بل بواسطة الإشارة الذهنية إليها ، بمعنى ان نشير إلى الافراد المندرجة تحت العام المتصور ونضع اللفظ بإزائها فيكون الوضع عاما باعتبار كون الملحوظ حال الوضع عاما وهو المفهوم العام دون غيره إذ لم تتصور الافراد ـ كما هو المفروض ـ والموضوع له خاصا ، لأن الوضع كان بإزاء المفاهيم الجزئية المندرجة تحت العام.

وقد صوّر المحقق العراقي قدس‌سره الإشكال في الوضع العام والموضوع له الخاصّ بنحو آخر ، تقريره : ان العام باعتبار انتزاعه عما به الاشتراك بين الافراد ، لا يصلح لأن يكون وجها لافراده بخصوصياتها ، ولا يكون تصوره تصورا للخاص بوجه ، لتقوم الافراد بالخصوصيات المفروض إغفالها وتجريد الافراد عنها في انتزاع المفهوم العام ، فهو لا يحكي إلاّ عن القدر المشترك والجامع بينها لا أكثر (١).

وقربه السيد الخوئي ( حفظه الله ) بنحو ثالث يشابه ما ذكرناه ، وبيانه ـ كما جاء في تقريرات درسه (٢) ـ : ان المفهوم في مرحلة مفهوميته لا يحكي إلاّ عن نفسه ، فيستحيل ان يحكي مفهوم ـ كليا كان أو جزئيا ـ عن مفهوم آخر ـ كليا كان أو جزئيا ـ ، فكما لا يعقل ان يحكي المفهوم الخاصّ بما هو خاص عن مفهوم آخر خاص أو عام ، فكذلك لا يعقل ان يحكي المفهوم العام بما هو عن مفهوم

__________________

(١) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٣٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٥٠ ـ الطبعة الأولى.

٧٦

خاص أو عام آخر ، بداهة ان لحاظ كل مفهوم وتصوره عين تصور شخصه وإراءته لا إراءة شيء آخر به ، فكيف يكون معرفة لغيره بوجه.

وقد أجاب العراقي عما ذكره من الإشكال : بأنه تام في بعض المفاهيم العامة دون بعض ، فان المفاهيم ـ على ما ذكره قدس‌سره (١) ـ ، منها ما يكون منتزعا عن خصوصية مشتركة بين الافراد ذاتية كانت ، كمفاهيم الجواهر والاعراض كالإنسان والبياض ، أو انتزاعية كبعض المفاهيم الانتزاعية كمفهوم الفوق والتحت ونحوهما. ومنها ما يكون منتزعا عن الافراد والخصوصيات المفردة كمفهوم الفرد ، والمصداق ، والشخص.

فالنحو الأول لا يصلح للحكاية عن افراده ولو إجمالا ، ولا يكون تصورا لها بوجه أصلا ، بل لا يكون حاكيا الا عن القدر الجامع بينها.

والنحو الثاني بخلافه ، فانه يصلح للحكاية الإجمالية عن الافراد والخصوصيات لأنها منشأ انتزاعه ومقوماته. فصحة الوضع العام والموضوع له الخاصّ تتصور في ما إذا كان المفهوم الملحوظ حال الوضع من النحو الثاني دون الأول ، لأن الثاني هو الصالح للحكاية عن الافراد اللازمة في عملية الوضع دون الأول.

وعليه ، فالالتزام بإمكان هذا النحو من الوضع هو المتعين بلحاظ وجود مثل النحو الثاني من المفاهيم.

وبعين مضمون هذا الجواب أجاب السيد الخوئي عن الإشكال الّذي قربه ، فقد جاء في تقريرات درسه بعد تقرير الإشكال : « ان المفهوم في الجملة بما هو سواء كان عاما أو خاصا وان كان لا يحكي في مقام اللحاظ الا عن نفسه ، إلاّ ان تصور بعض المفاهيم الكلية يوجب تصور افراده ومصاديقه. وتفصيل ذلك ... واما العناوين الكلية التي تنتزع من الافراد والخصوصيات الخارجية

__________________

(١) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٣٧ ـ ٣٩ ـ الطبعة الأولى.

٧٧

كمفهوم الشخص والفرد والمصداق ، فهي تحكي في مقام اللحاظ عن الافراد والمصاديق بوجه وعلى نحو الإجمال ، وتصورها في نفسها تصور لها بوجه وعنوان. وبتعبير آخر : ان مرآتيتها للافراد والأشخاص ذاتية لها فتصورها لا محالة تصور لها إجمالا بلا إعمال عناية في البين. فإذا تصورنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم الإنسان ـ مثلا ـ فقد تصورنا جميع افراده بوجه ، ومن ثم جاز الحكم عليها في القضية الحقيقية ، فلو لم يحك المفهوم عن افراده لاستحال الحكم عليها مطلقا مع ان الاستحالة واضحة البطلان » (١). والناظر في هذا الكلام لا يرى اختلافا بينه وبين ما أفاده المحقق العراقي الا في التعبير ، فجواباهما يرجعان إلى مطلب واحد ومفاد متحد.

ولكنه قاصر عن رفع المحذور المقرر ، وإثبات معقولية الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، ما لم ينضم إليه ما ذكرناه من الاستعانة في الوضع بالإشارة الذهنية إلى واقع الافراد والمصاديق.

وذلك : فان هذه المفاهيم المنتزعة عن الخصوصيات المنطبقة عليها ـ بتعبير ـ ، والكاشفة عنها كشفا ذاتيا ـ بتعبير آخر ـ ، مفاهيم عامة وضع بإزائها بعض الألفاظ الدالة عليها كلفظ الفرد والشخص ونحوهما.

ومن الواضح ، ان وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المفاهيم من الوضع العام والموضوع له العام ، لعموم الملحوظ والموضوع له.

ففيما نحن فيه ، لو لاحظ الواضع أحد هذه المفاهيم العامة ، ووضع اللفظ بإزاء الافراد بلا توسيط الإشارة الذهنية إليها بل اكتفي بلحاظ المفهوم وحده فقط ، فقال مثلا : « وضعت اللفظ الكذائي لفرد الإنسان » كان الموضوع له عاما لا خاصا ، إذ الوضع دائما يكون بإزاء الكلي والمفهوم العام لا نفس الافراد ، ويكون حال الوضع هاهنا حال وضع الألفاظ الخاصة بإزائها في كونه من الوضع

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٥٠ ـ الطبعة الأولى.

٧٨

العام والموضوع له العام ، إذ لا معين للوضع للافراد كي يصرف الوضع عن المفهوم إليها سرى الإشارة الذهنية ، والمفروض انتفاؤها ، ومجرد صلاحية المفهوم للانطباق والكشف عن افراده لا تكفي في صرف الوضع للافراد ما لم يوجد صارف بعين الافراد موضوعا له. وإلا لزم ان يكون وضع الألفاظ الخاصة بها ـ كلفظ الفرد ـ من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، لعدم انفكاك هذه الجهة عن هذه المفاهيم ، مع انه لا يلتزم بذلك أحد.

وعليه ، فلا بد في صرف الوضع للافراد وكونه بإزائها من الاستعانة بالإشارة إلى المفاهيم الجزئية ، إذ بدونها لا وجه لمعرفة كون الوضع لها ، بل الوضع يكون للمفهوم العام لو اكتفي بلحاظه في مقام الوضع ، إذ كل ما يتصور مما هو حاك عن الافراد يكون كليا والوضع بإزائه يستلزم عموم الموضوع له كما لا يخفى ، فيعود الإشكال والمحذور. والحاصل : ان تعين كون الافراد هي الموضوع له لا يكون بمجرد لحاظ الكلي وتصوره فوضع اللفظ بإزائه ولو بما انه كاشف عن الافراد يكون من الوضع العام والموضوع له العام ، فلا بد في تعيين كون الموضوع له الافراد من معين وهو الإشارة إليها بما يصلح للإشارة. وبذلك اتضح الاحتياج إلى توسيط الإشارة الذهنية في إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ. ومن هنا ظهر أيضا ما في كلام المحقق الخوئي ، من إمكان الحكم على الافراد في القضية الحقيقية باعتبار حكاية المفهوم الكلي عنها ، ولو لا الحكاية لاستحال الحكم عليها. فان الحكم على الافراد لا يتم إلاّ بتوسيط الإشارة الذهنية ، وهي امر ارتكازي للحاكم عند إرادة جعله الحكم على الافراد ، ولو لا الإشارة لما صح الحكم على الافراد بتوسيط المفهوم العام ، بل يكون الحكم على المفهوم بنفسه.

ونتيجة ما ذكرناه : ان الالتزام بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، من باب انّا نملك الإشارة الذهنية إلى المفاهيم الجزئية المندرجة تحت ما نتصوره من المفاهيم العامة.

٧٩

ومما ينبغي الالتفات إليه : ان الإشارة الذهنية لا بد من ارتباطها بالمفهوم العام المتصور ، وذلك بتوسيط مفهوم آخر يكون رابطا بينهما. فمثلا ، إذا تصورنا مفهوم الإنسان وأردنا الوضع لأفراده الجزئية نأتي بما يشير إليها ونربطه بمفهوم الإنسان بواسطة مفهوم آخر فنقول : « ما هو فرد للإنسان » أو « ما ينطبق عليه الإنسان » ونحوهما.

والسر فيه واضح : فان الإتيان بالإشارة بلا ربطها بالمفهوم العام المتصور وهو « الإنسان » ـ مثلا ـ يكون من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان في عدم الأثر والمناسبة ، ولا يصح الوضع بذلك أصلا لعدم تعين الموضوع له وانه افراد مفهوم معين فلا تتحقق به نتيجة الوضع وغرضه ، وهو حصول الانتقال إلى الموضوع له عند ذكر اللفظ للجهل به. مضافا إلى عدم كونه من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، لعدم ارتباط المفهوم العام المتصور بالموضوع له.

وبالجملة : فضرورة ربط الإشارة بالمفهوم العام المتصور بواسطة رابط ما امر لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فإنه من مقتضيات طبيعة الوضع وغرضه.

واما القسم الرابع : ـ وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العام ـ فالحق امتناعه وعدم إمكانه.

وذلك : لما عرفت في الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، من ان إمكانه كان بواسطة الاستعانة بالإشارة الذهنية إلى المفاهيم الجزئية ، ولا طريق لإمكانه غير هذا الطريق.

وهذا الطريق لا يتأتى في هذا القسم ، وذلك لأنه لو تصورنا مفهوما جزئيا كمفهوم « زيد » وأردنا الوضع لكلية المنطبق عليه بلا تصوره فلا بد لنا من الإشارة إليه ، وقد عرفت ضرورة ربط الإشارة بالمعنى المتصور ، وكل مفهوم نفرضه رابطا للإشارة بالمفهوم الجزئي المتصور يكون كليا وذلك كمفهوم « كلي » أو « منطبق » ، فنقول : « ما هو كلي زيد أو ما هو منطبق على زيد » ، ومن الواضح

٨٠