منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الانتزاعي ، بل متعلقه نفس الفعل بعنوانه الخاصّ.

كما انه ليس الفعل متعلقا لسنخ وجوب لا يمنع من الترك إلى بدل ، إذ لا عدل له ولا بدل كما هو الفرض. وسيجيء تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

كما ان وجوبه ليس مشروطا بعدم فعل الآخر فانه وان أمكن تصور ذلك ثبوتا بان يكون وجوب الفعل على الشخص مشروطا بعدم فعل الغير له بحيث لو فعله الغير كشف عن عدم تعلق الوجوب بالشخص أصلا ومن أول الأمر ، لكنه مجرد تصور وخلاف الفرض ، فان المفروض كون فعل الغير له شأنية إسقاط التكليف عن الشخص لا بيان عدم وجوده ، فلا بد من فرض ثبوت التكليف على الشخص ثم يسقط بفعل الغير.

كما انه لا يلتزم بذلك أحد في مورد الثابت ، فلا يلتزم أحد بان قيام شخص بوفاء دين الآخر كاشف عن عدم توجه التكليف للآخر في الواقع ، إذ من البديهي تعلق التكليف به قبل وفاء الغير كما لا يخفى ، وعليه فالالتزام بالبراءة في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير على المسالك الثلاثة ..

بتقريبها على المسلك الأول بأنه مع الإتيان بالفعل الآخر يشك في أصل ثبوت الوجوب ، فهو شك في التكليف وهو مجرى البراءة.

وبتقريبها على المسلك الثاني بان التكليف متعلق بالجامع والخصوصية مشكوكة ، فهو القدر المتيقن وان نوقش فيه بأن تعلق التكليف بالجامع غير متيقن والتردد في تعلق الأمر بهذه الخصوصية أو بالجامع فلا تجري البراءة.

وبتقريبها على المسلك الثالث بان البراءة كما تجري في مورد الشك في زيادة التكليف تجري أيضا في مورد الشك في كيفيته ونحوه. وعلى كل فالالتزام بالبراءة هناك لا يستلزم الالتزام بالبراءة هنا ، لاختلاف الموردين موضوعا ، ولعدم جريان كل تقريب من هذه التقريبات هنا كما لا يخفى. فيرجع الشك هاهنا إلى الشك في سقوط التكليف بفعل الغير وارتفاعه به وهو مجرى الاستصحاب أو

٥٠١

الاشتغال لا البراءة ، إذ ليس الشك في أصل التكليف ، وبهذا التزم المحقق النائيني (١). وبعكسه تماما التزم المحقق العراقي فذهب إلى كون المورد مجرى البراءة وان التزم بالاحتياط في مورد الشك في التعيين والتخيير. وذلك ببيان : ان منشأ القول بالاحتياط في مقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو وجود العلم الإجمالي باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة ـ مثلا ـ مطلقا ولو مع صلاة الجمعة ، واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر ، ونتيجة هذا العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به الفراغ اليقيني وهو صلاة الظهر. وهذا العلم الإجمالي غير موجود فيما نحن فيه ، لأنه يعلم تفصيلا بأنه مخاطب بهذا الفعل لعدم كون الفعل الآخر ـ أعني فعل الغير ـ عدلا له ، لأنه ليس مقدورا له. وحيث انه يعلم بأنه مخاطب بالفعل في حال ترك الغير له ويشك في وجوبه عليه في حال إتيان الغير به فله ان يجري البراءة في حال إتيان الغير به ولا يلزمه الإتيان بالفعل لأصالة البراءة من وجوبه عليه (٢).

ويقع الكلام معه في نقطتين :

إحداهما : في تقريبه جريان الاحتياط في مسألة الشك في التعيين والتخيير بوجود العلم الإجمالي ، فانه غير وجيه ، وذلك : لأن طرف العلم الإجمالي ليس هو أصل وجوب صلاة الظهر للعلم التفصيليّ بوجوبها اما تخييرا أو تعيينا ، وانما طرفه هو إطلاق وجوب صلاة الظهر كما بيّنه قدس‌سره وشموله لصورة الإتيان بصلاة الجمعة ، فانه يعلم إجمالا اما بوجوب صلاة الظهر مطلقا أو وجوب صلاة الجمعة عند ترك الظهر ، فطرفا العلم الإجمالي في الحقيقة هما وجوب الجمعة عند ترك الظهر ووجوب الظهر عند الإتيان بالجمعة ، وهذا العلم الإجمالي غير مجد

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٩٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٢٤٨ ـ الطبعة الأولى.

٥٠٢

في الالتزام بصلاة الظهر. وذلك لأنه اما ان يلاحظ فيه ظرف فعلية المعلوم وهو حال الإتيان بصلاة الجمعة أو يلاحظ فيه ظرفه بمعنى انه يلحظ قبل الإتيان بإحدى الصلاتين ، فالمكلف يعلم فعلا بوجوب الجمعة أو الظهر على تقدير الإتيان بالجمعة ، فان لوحظ فيه ظرف فعلية المعلوم ـ أعني ظرف الإتيان بالجمعة بحيث يكون الظهر فعلي الوجوب ـ لو كان الوجوب تعيينيا ـ لا تقديري الوجوب ، كما كان قبل الإتيان به ـ ان لوحظ في هذا الظرف ـ فهو غير منجز لأن أحد أطرافه خرج عن محل الابتلاء للإتيان به ، فلا يكون العلم الإجمالي الحاصل بعد الإتيان بصلاة الجمعة بوجوبها أو وجوب الظهر منجزا ، لأن أحد طرفيه لا بعث نحوه ولا تكليف فعليا بالنسبة إليه. وان لوحظ فيه ظرفه وقبل الإتيان بصلاة الجمعة ، فهو أيضا غير منجز ، لأن تنجيز العلم الإجمالي انما يتكلم فيه ويحقق في المورد الّذي يمكن ان تكون له مخالفة قطعية ، اما الّذي ليس له مخالفة قطعية فلا يكون منجزا ، والعلم الإجمالي المذكور لا مخالفة قطعية فيه ، لأنه ان جاء بصلاة الجمعة فترك الظهر يكون مخالفة احتمالية لأنه قد جاء بأحد طرفي العلم الإجمالي ، وان لم يأت بصلاة الجمعة ، يكون قد خالف أحد الطرفين وهو وجوب صلاة الجمعة ، اما الطرف الآخر فلا مخالفة فيه فعلا وهو وجوب صلاة الظهر لأنه معلق على الإتيان بصلاة الجمعة ، والمفروض انه لم يأت بها.

وبالجملة : حيث ان التكليف في أحد الطرفين معلق على الإتيان بالطرف الآخر فلا تمكن فيه المخالفة القطعية أصلا ، لأنه اما ان يأت بالطرف المعلق عليه الطرف الآخر أولا؟ فان جاء به فقد وافق أحد الطرفين وان لم يأت لم يكن الطرف الآخر فعليا كي يخالف. فما ذكره من العلم الإجمالي وان كان شكلا لا بأس به لكنه مخدوش عند التدبر.

ثانيهما : ما ذكره من جريان البراءة فيما نحن فيه لرجوع الشك إلى الشك في التكليف ، وقد عرفت الخدشة فيه ، فانه مع إتيان الغير بالفعل وان شك

٥٠٣

في تعلق التكليف ، لكنه شك في ارتفاع التكليف لا شك في أصل ثبوت التكليف من أول الأمر ، لأن وظيفة فعل الغير إسقاط التكليف لا نفيه من أول الأمر واقعا ، والشك في ارتفاع التكليف يكون مجرى الاستصحاب الموجب للزوم المباشرة كما لا يخفى فتدبر.

المقام الثاني : في أن الأصل هل يقتضي عدم سقوط الواجب بما لا يكون عن إرادة واختيار أو لا؟. وقد قرب وجه اعتبار كون الفعل عن إرادة واختيار تارة : بان مادة الأفعال منصرفة إلى الفعل الإرادي ، فإذا قيل : « الأكل » انصرف إلى الآكل الاختياري. وأخرى : بان هيئة الأفعال منصرفة إلى ذلك ، ولا يخفى فساد الوجهين : فان المادة موضوعة إلى نفس الطبيعة المهملة غير الملحوظ فيها أي قيد. ولذا نرى صدق الفعل على غير الإرادي فيقال : « فعل كذا » وان صدر منه بلا إرادة ، فدعوى الانصراف جزافية.

كما ان الهيئة موضوعة للربط والنسبة الخاصة القائمة بين المادة والطرف الآخر لا غير بلا تقييد ولا انصراف إلى خصوص ما كانت المادة اختيارية.

وبالجملة : فدعوى الانصراف في المادة أو الهيئة بلا وجه.

والمهم في تقريب اعتبار صدور الفعل عن إرادة وجهان أفادهما المحقق النائيني :

الأول : ان الغرض من الأمر إنما هو جعل الداعي للمكلف إلى الفعل والمحرك له نحو الفعل ، ولا يخفى ان هذا انما يتصور في الأفعال الإرادية التي تصدر عن اختيار ، دون الأفعال غير الإرادية إذ لا معنى لجعل الداعي إليها ، فوظيفة الأمر تقضي بتعلقه بالفعل الإرادي دون غيره.

الثاني : ما دل على اعتبار الإرادة والقدرة على متعلق التكليف في صحة التكليف وتوجهه ، فلا يتعلق التكليف بالفعل غير الاختياري بحكم العقل.

فهذان الوجهان يقضيان بان الأصل الأولي هو اعتبار صدور الفعل عن

٥٠٤

اختيار في سقوط التكليف ، لأنه هو متعلق التكليف دون غيره ، فإسقاط غيره يحتاج إلى دليل خاص (١).

ولا يخفى ان الإيراد على الوجهين : بان حقيقة الأمر ليس جعل الداعي والمحرك وانما هو جعل الفعل في عهدة المكلف فيكون نظير اشتغال الذّمّة فلا مانع من تعلقه بغير الاختياري من الأفعال ، إذ لا يمتنع اشتغال الذّمّة بغير الاختياري وغير المقدور.

وبعدم اعتبار الاختيارية والقدرة في صحة التكليف (٢).

غير وجيه لأنه إيراد مبنائي.

فاللازم تحقيق صحة ما أفاده بعد الجري على مبناه من كون الأمر بداعي جعل الداعي ، واعتبار القدرة في متعلق الأمر في صحة التكليف.

وقد أورد عليه بعد الجري على ما ذكره بما قرره في مبحث التزاحم (٣) من : انه يمكن الالتزام بصحة الواجب المهم مع عدم الالتزام بالأمر به بنحو الترتب ، وذلك باعتبار احتوائه على ملاك الحكم ، وان لم يتعلق به الأمر والحكم بواسطة المزاحمة لما هو الأهم. وبيّن انه يمكن التوصل لمعرفة وجود الملاك مع عدم الأمر بالتمسك بإطلاق المادة ، فانها بإطلاقها من هذه الناحية تقتضي ثبوت الملاك ولو مع انتفاء الأمر بالمزاحمة ـ وتحقيق ذلك وتوضيحه وبيان صحة ما أورد عليه وسقمه في محله إن شاء الله تعالى والمقصود الإشارة ـ.

وجه الإيراد هو : ان يقال بأنه وان حكم العقل باعتبار القدرة في الواجب ونفي الأمر عن غير المقدور ، إلا انه يمكن التمسك بإطلاق المادة في إثبات وجود الملاك في غير الاختياري وان لم يتعلق به الحكم. فان الإطلاق المذكور في جهة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٠١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٠١ ـ في التعليقة ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٦٤ ـ الطبعة الأولى.

٥٠٥

لا تنافي التقييد لأنه في جهة أخرى ، فان الإطلاق من ناحية الملاك والتقييد في ناحية الأمر ، ولا منافاة ـ كما قرره بنفسه قدس‌سره ـ ، وإذا ثبت بالإطلاق ثبوت الملاك في غير الاختياري كان الإتيان به مسقطا للتكليف وان لم يكن متعلقا للحكم ، لتحصيله الملاك ومع حصول الغرض يسقط الأمر.

وعليه ، فمقتضى إطلاق المادة سقوط الوجوب بغير الاختياري والإرادي (١).

والتحقيق : انه ذكر في فرض المزاحمة وانتفاء الحكم لاستكشاف بقاء الملاك ووجوده طريقان :

أحدهما : ما عرفت من إطلاق المادة.

ثانيهما : التمسك بالدلالة الالتزامية ، وذلك ببيان ان دليل الحكم يتكفل بالدلالة المطابقية ثبوت الحكم للمتعلق ، وبالدلالة الالتزامية ثبوت الملاك في المتعلق ـ لملازمة ثبوت الحكم لثبوت الملاك لأنه معلول للملاك ـ فإذا اقتضى دليل نفي الدلالة المطابقية عن الحجية لم يستلزم ذلك نفي الدلالة الالتزامية عنها أيضا ، لأنها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية. فالمزاحمة انما تقضي ارتفاع الدلالة المطابقة عن حجيتها في ثبوت الحكم فتبقى دلالة الدليل الالتزامية على ثبوت الملاك على حالها من الحجية.

ولا يخفى انه مع الالتزام بصحة التمسك بإطلاق المادة ، كان الإيراد على المحقق النائيني متوجها وتعين الالتزام بنتيجته وهو كون الأصل سقوط الوجوب مع عدم صدور الفعل عن اختيار. ولكننا بينا في محله كما سيأتي إن شاء الله تعالى عدم صحة هذه الدعوى.

واما الطريق الثاني فهو كبرويا وجيه لكنه لا يتأتى فيما نحن فيه.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٠١ ـ الطبعة الأولى.

٥٠٦

وذلك لأنه انما يجري فيما كان ارتفاع الحكم بدليل منفصل بحيث لا يتصرف في ظهور الكلام ، بل يقتضي نفي حجيته فقط. اما فيما إذا كان الدليل متصلا أو كالمتصل بحيث أوجب التصرف في ظهور الكلام ورفع أصل الدلالة المطابقية لا خصوص حجيتها ، فلا يتأتى ما ذكر لأنه بانتفاء الدلالة المطابقية تنتفي الدلالة الالتزامية لتبعيتها لها في الوجود كما لا يخفى.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وذلك لأن حكم العقل باعتبار الاختيارية والقدرة في متعلق التكليف امر ظاهر عرفا لا يحتاج إلى نظر ، بل هو ارتكازي في النفوس فيكون من قبيل القرينة المتصلة. وعليه فلا يكون ظهور للكلام في الإطلاق من أول الأمر ، بل ينعقد للفظ ظهور في خصوص الفعل الاختياري. فلا دلالة التزامية على ثبوت الملاك في غيره لانتفاء الدلالة المطابقية وجودا.

فالذي يتحصل بعد عدم الطريق لإحراز الملاك في الفعل غير الاختياري هو عدم سقوط التكليف بغير الإرادي ، لأنه متعلق بالفعل الاختياري ، فمع الشك في سقوطه بما لا يكون عن إرادة واختيار يرجع إلى قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب لو التزم بجريانه هنا لحكومته على قاعدة الاشتغال.

هذا إذا لم يكن إطلاق ، وإلاّ كان هو المحكم ، وهو يقتضي عدم سقوط التكليف بالفعل غير الإرادي ، لأن مقتضى الإطلاق ثبوت التكليف مطلقا أتى بفعل غير إرادي أو لم يؤت فلاحظ.

المقام الثالث : في ان مقتضى الأصل في الوجوب هل هو عدم سقوطه بالفرد المحرم أو لا؟.

ومن الكلام في المقام الثاني اتضح الكلام في هذا المقام ، فانهما بملاك واحد ، وذلك : لأنه بعد فرض ان الفرد محرم يمتنع تعلق الوجوب به فلا يكون من افراد الواجب ففرض تحريمه مساوق لفرض عدم فرديته للواجب. وعليه

٥٠٧

فيرجع الشك فيه إلى الشك في إسقاط غير الواجب للوجوب ، ومعه يتمسك بالإطلاق في إثبات بقائه لو كان وبدونه تجري قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب لو التزم بجريانه في المقام.

ومن هنا يظهر انه لا حاجة إلى التفصيل في هذا المقام بين ما إذا كانت نسبة الدليل الدال على التحريم إلى دليل الوجوب نسبة الخاصّ إلى العام ، أو ما إذا كانت نسبته نسبة العموم من وجه ـ كما جاء في تقريرات المحقق النائيني (١) ـ وتحقيق الكلام على كلا التقديرين ، وذلك لما عرفت انه بفرض كونه فردا محرما يمتنع تعلق الوجوب به ، سواء كانت النسبة بين الدليل العموم المطلق أو العموم من وجه. والالتزام بجواز اجتماع الأمر والنهي يرجع في الحقيقة إلى الالتزام بان متعلق الأمر غير متعلق النهي ، فالمأمور به ليس محرما ، بل المحرم غيره فلا يكون من الإتيان بالفرد المحرم للمأمور به. فالتفت. فالكلام في هذا المقام لا يحتاج إلى أكثر مما ذكرنا فتدبر.

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه ان الأصل الأولي ـ في بعض المقامات ـ والعملي يقتضي عدم سقوط التكليف إلا بالفعل المباشري الاختياري المحلل فاعلم والله ولي التوفيق. هذا تمام الكلام في التعبدي والتوصلي.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٠٢ ـ الطبعة الأولى.

٥٠٨

فصل

إطلاق الصيغة وتعيينية الوجوب ونفسيته وعينيته

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره وتابعة غيره : ان إطلاق صيغة الأمر يقتضي ان يكون الوجوب تعيينيا نفسيا عينيا (١).

وهذا الأمر قد يكون مثارا للبحث في ان كلا من التعيينية والنفسيّة والعينية خصوصية في الوجوب كخصوصية التخيير والغيرية والكفائية وكل من الوجوب التعييني والنفسيّ والعيني فرد خاص كالوجوب التخييري والغيري والكفائي ، فكيف يكون مقتضى الإطلاق إرادة هذه الخصوصية دون تلك وتعيين هذا الفرد دون ذاك؟. فان كلا منها فرد يقابل الآخر ، وليس الوجوب العيني النفسيّ التعييني هو نفس طبيعة الوجوب بحيث تطرأ عليها الغيرية والكفائية كما لا يخفى.

وحل هذا الإشكال واضح : فان التعيينية والنفسيّة والعينية وان كان كل منها خصوصية طارئة على الوجوب ، إلا انها سنخ خصوصية تتلاءم مع نحو من

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥٠٩

أنحاء الإطلاق في الوجوب وتلازمه ، فإذا ثبت ذلك الإطلاق ثبت هذا الفرد الخاصّ بالملازمة ، فحيث ان خصوصية العينية تلازم ثبوت الوجوب مطلقا سواء أتى به آخر أو لم يأت به كان إثبات إطلاق الوجوب في حال إتيان الغير بالمتعلق وعدم إتيانه ملازما لثبوت خصوصية العينية وكون الوجوب عينيا ، كما ان خصوصية التعيينية ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة الإتيان بشيء آخر وعدمه ، وخصوصية النفسيّة ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه ، وخصوصية النفسيّة ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه فمع التمسك بالإطلاق في إحدى هذه الجهات تثبت الخصوصية الملازمة له فلاحظ.

ولا بد من التعرض لأمر ، وهو : ما قد يورد على صاحب الكفاية من وجود التهافت في كلماته ، وذلك ببيان : انه قرب في هذا المقام التمسك بإطلاق الصيغة في نفي الغيرية والكفائية والتخيير كما أنه صحح ـ في مبحث الواجب المشروط (١) ـ رجوع القيد إلى الهيئة منكرا على الشيخ ما ذهب إليه من عدم إمكانه ، لأن معنى الهيئة معنى حرفي وهو غير قابل للتقييد (٢).

ولكنه ذكر في مبحث مفهوم الشرط عدم إمكان التمسك بإطلاق هيئة الشرط لإثبات المفهوم وانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، لأن الهيئة من الحروف غير القابلة للإطلاق والتقييد (٣).

فكان هذا الكلام موردا للإشكال النقضي عليه من جلّ من علق على الكفاية أو كلهم. ومطالبته بالفرق بين هيئة الأمر وهيئة الشرط (٤).

ولكن الّذي يبدو بعد التأمل إمكان الدفاع عن صاحب الكفاية ونفي ما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٥ ـ ٩٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٤٥ ـ ٥٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٢٢ ـ الطبعة الأولى.

٥١٠

يدعى ما التهافت في كلامه.

وتوضيح ذلك : ان الإطلاق كما يتقوم بعموم المعنى كذلك يتقوم بتعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الّذي يراد إفادة إطلاقه. وذلك لأن من قوام الإطلاق كون المتكلم في مقام البيان ، وهذه المقدمة تقتضي توجه المتكلم نحو الجهة التي يقصد إطلاقها ، وذلك يستلزم تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى.

وعليه ، فصاحب الكفاية وان التزم بان الموضوع له الحرف كالموضوع له الاسم في كونه عاما ، لكنه التزم في الوقت نفسه بامتياز الاسم عن الحرف بان الأول ملحوظ استقلالا والثاني ملحوظ آلة ، وعليه فالمعنى الحرفي لا يمكن التمسك بإطلاقه لأنه ملحوظ آليا ، وقد عرفت استلزام الإطلاق للحاظ الاستقلالي ، فمن هنا يظهر الوجه في كلامه في مبحث مفهوم الشرط ، وان عدم صحة التمسك بإطلاق هيئة الشرط من جهة كون المعنى ملحوظا آليا لا من جهة خصوص المعنى.

واما ما ذكره في مبحث الواجب المشروط ، فهو لا يرجع إلى التمسك بإطلاق الهيئة ، بل يرجع إلى قابلية معنى الهيئة للتقييد لعمومه.

واما البحث في اعتبار اللحاظ الاستقلالي في التقييد والكلام في قابلية المعنى الحرفي لأن يكون مقيدا مع عدم قابليته للإطلاق ـ باعتبار عدم تمامية مقدمات الحكمة ـ فهو موكول إلى محله في مبحث الواجب المشروط ويتضح هناك إن شاء الله تعالى.

وعلى كل ، فلو كان هناك إشكال في قابليته للتقييد فهو على الجميع ، ولا اختصاص له بصاحب الكفاية ، لالتزام الكل به. والمهم دفع التهافت في كلام صاحب الكفاية.

واما ما أفاده في هذا المبحث ، فالإيراد عليه انما يتم لو كان مراده قدس‌سره التمسك بإطلاق الهيئة ، لأنها معنى حرفي لا يلحظ استقلاليا ، ولكنه لم يعلم

٥١١

منه ذلك فيمكن ان يكون نظره إلى التمسك بإطلاق المادة ـ أعني الواجب ـ ، فيكون المراد التمسك بإطلاق الواجب وان الواجب هو الفعل مطلقا جاء به شخص آخر أو لا ، جيء بشيء آخر أو لا ، وجب شيء آخر أولا. ولا إشكال في التمسك بإطلاق المادة لأنها ليست من المعاني الحرفية الملحوظة آلة ، ويمكن استظهار هذا المعنى من بعض كلماته في مفهوم الشرط فراجع. اما ما ذكره هنا فلا صراحة فيه في كون التمسك بإطلاق الهيئة فلاحظ وتدبر.

٥١٢

فصل

الأمر عقيب الحظر أو توهمه

قد عرفت ظهور الأمر في الوجوب ـ اما ظهورا وضعيا أو إطلاقيا ـ إلا ان تقوم قرينة على خلافه.

وعليه ، فهل ورود الأمر بفعل عقيب تحريمه أو تخيل تحريمه واحتماله قرينة على عدم إرادة الوجوب وإرادة غيره أو لا؟. وبتعبير آخر : الكلام في تعيين ما يظهر فيه الأمر الوارد عقيب الحظر أو توهمه.

فقيل : انه ظاهر في الوجوب. وقيل : انه ظاهر في الإباحة. وقيل : انه ظاهر في الحكم السابق على التحريم من وجوب أو إباحة أو غيرهما ، ان علق الأمر على زوال علة النهي. وقيل : غير ذلك.

وقد ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى إجمالها وعدم ظهورها في شيء مما ادعي إلا بقرينة خاصة (١).

ولكن التحقيق : ان الصيغة ظاهرة في رفع التحريم والترخيص في العمل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥١٣

وتجويزه لا أكثر ، كما يظهر من ملاحظة استعمالات العرف ، فليست هي مجملة ليست ظاهرة في شيء أصلا كما ذهب إليه صاحب الكفاية. فتدبر.

٥١٤

فصل

المرة والتكرار

موضوع البحث هو تشخيص دلالة الأمر على المرة أو التكرار ، بمعنى انه يبحث في ان الأمر هل يدل على طلب الفعل مرة واحدة ، أو طلبه مكررا ، أو لا يدل على شيء منهما؟. والحق هو الأخير لظهور الأمر في طلب إيجاد الطبيعة لا أكثر.

وقد أسهب صاحب الكفاية في هذا البحث بما لا يغني ولا يسمن من جوع لا علميا ولا عمليا (١).

نعم يتعرض بمناسبة البحث المذكور إلى جهتين :

إحداهما عملية وهي : البحث عن جواز تبديل الامتثال بفرد آخر غير المأتي به أولا ، وقد أشار إليها صاحب الكفاية في أواخر كلماته لمناسبة ، وأوكل تحقيقها إلى مبحث الاجزاء.

وسيأتي البحث فيها هناك لعدم ارتباطها بالمبحث المذكور موضوعا.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥١٥

وثانيتهما علمية وهي : بيان جهة الفرق بين الأمر والنهي المقتضية لاقتضاء النهي التكرار والدوام دون الأمر حيث يكتفي في امتثاله بالمرة. وقد حققها صاحب الكفاية في أول مبحث النواهي (١). وتعرض إليها المحقق العراقي قدس‌سره في هذا المبحث ، ولعله لخلو المبحث المزبور عن جهة علمية عملية (٢).

وعلى كل فالتعرض إلى هذه الجهة في مبحث النواهي أنسب.

ومنه يظهر انه لا طائل في تطويل الكلام في هذا البحث.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٢٥٥ ـ الطبعة الأولى.

٥١٦

فصل

الفور والتراخي

وموضوع البحث هو معرفة ان الأمر هل يدل على فورية المأمور به ، أو لا يدل عليها بل يدل على جواز التأخير والتراخي فيه؟. وهذا المبحث كسابقه في وضوحه وخلوه عن جهة علمية. ولكن ينبغي التعرض لجهات ثلاث في كلام الكفاية (١).

الأولى : ما ذكره من عدم دلالة الأمر على التراخي ولا على الفورية ثم ذكره ان مقتضى إطلاق الصيغة هو جواز التراخي.

وهذا الكلام منه لا يخلو من مسامحة.

بيان ذلك : ان البحث تارة : يقع في ان الأمر هل يقتضي لزوم الفورية أو لزوم التراخي؟. وأخرى : يقع في ان الأمر هل يقتضي لزوم الفورية أو لا يقتضي لزومها بل يقتضي جاز التراخي؟. فطرفا الترديد تارة : يكونان هما لزوم الفور ولزوم التراخي. وأخرى ، يكونان لزوم الفور وعدم لزومه وجواز التراخي. ومن

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥١٧

الظاهر ان موضوع البحث هو الجهة الثانية لا الأولى ، إذ لا وجه لتوهم دلالة الأمر على لزوم التراخي وعدم جواز الفورية. ولا يخفى انه مع الحكم بعدم دلالة الأمر على لزوم الفورية ولا على جواز التراخي ـ كما ذكره صاحب الكفاية أولا ـ ، لا معنى لدعوى دلالة إطلاق الأمر على جواز التراخي ـ كما ذكره ثانيا ـ فانه لا يخلو عن ركاكة واضحة (١).

نعم لو كان موضوع البحث هو الجهة الأولى كان ما ذكر صحيحا ، إذ عدم دلالة الأمر بوجه من الوجوه على لزوم التراخي لا يتنافى مع دلالته بالإطلاق على جوازه. لكن قد عرفت ان البحث في الجهة الثانية.

الثانية : ما ذكره في مقام الإيراد على الاستدلال بآية المسارعة والاستباق على لزوم الفورية ـ بعد ان ذكر ظهور الأمر في الإرشاد إلى حسن المسارعة والاستباق لا الإلزام المولوي ـ بدعواه بعد التنزل عن ذلك بعدم كون الأمر إلزاميا ، بل هو استحبابي باعتبار انه لو كانت المسارعة والاستباق واجبين كان الأنسب بيان ذلك بذكر لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة رأسا.

فان ما ذكره قد يكون مثار الإشكال بان هذا سار في جميع الأوامر الوجوبية ، لأن المقصود فيها بيان لزوم الفعل ، فاللازم على ما ذكره بيان الوجوب ببيان لازمه وهو لا يلتزم به. وإلاّ فما الفرق بين المقام وبين غيره.

والجواب عنه ـ كما قرر ـ : ان حسن المسارعة والاستباق إلى الخيرات حيث انه من الأمور المرتكزة في أذهان العرف بنحو الاستحباب وعدم اللزوم ، كان الكلام المتضمن للأمر بهما محمولا عندهم على ما هو مرتكز في أذهانهم لاستظهارهم جري الأمر على ما يرونه إلا ان تقوم قرينة خاصة معينة صارفة للكلام عما هو المرتكز ، وليس في المقام قرينة دالة على إرادة الوجوب سوى بيان

__________________

(١) يمكن ان يكون النّظر في موضع الكلام هو الظهور الوضعي للأمر في الفور وعدم ظهوره ، لا مطلق الظهور. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

٥١٨

لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة.

الثالثة : ما أفاده أخيرا من انه على القول بلزوم الفورية لو عصى المكلف وأخر المأمور به فهل يجب عليه الإتيان بالعمل فورا ففورا أو لا يجب؟. فقد أفاد قدس‌سره بان لزوم الإتيان به ثانيا فورا ففورا وعدم لزومه يبتني على دلالة الصيغة على أخذ الفورية بنحو وحدة المطلوب أو تعدده فلا يجب على الأول ويجب على الثاني.

وقد أنهى الكلام بهذا المقدار تقريبا.

ولتوضيح الحال نقول : انه لا بد من الكلام في جهتين طوليتين :

إحداهما : انه بناء على لزوم الفورية لو عصى وأخر ، فهل يجب الإتيان بذات العمل أو لا يجب؟. فان قيل بان الفورية مأخوذة بنحو وحدة المطلوب بحيث يكون العمل الفوري مطلوبا واحدا. لا يجب الإتيان بذات العمل لو أخّر لفوات المأمور به بالعصيان. وان قيل بأنها مأخوذة بنحو تعدد المطلوب بحيث يتعلق طلب بذات العمل وطلب آخر بالإتيان به فورا. كان التأخير عصيانا للطلب الآخر دون الطلب المتعلق بذات العمل ، فيلزم الإتيان بالعمل لبقاء طلبه لعدم عصيانه.

ثانيتهما : انه بناء على كون الفورية مأخوذة بنحو تعدد المطلوب ولزوم الإتيان بالعمل ، فهل يلزم الإتيان به فورا أيضا أو لا؟. ولا يخفى ان الفورية الثانية والثالثة وهكذا ، لا يقتضيها أخذ الفورية في متعلق الأمر بنحو تعدد المطلوب ، إذ ما يقتضيه تعدد المطلوب ليس إلا لزوم الإتيان بالعمل كما عرفت ، اما انه يلزم ان يؤتى به فورا ففورا فهو يحتاج إلى دليل آخر خاص.

وبالجملة : الإتيان بالمأمور به فورا ففورا بعد التأخير أولا لا يرتبط بالالتزام بأخذ الفورية بنحو تعدد المطلوب كما لا يخفى. فما جاء في الكفاية من بناء ذلك على الالتزام بتعدد المطلوب لا يعلم له وجه.

٥١٩
٥٢٠