منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

وتبعيته وأداء الوظيفة الثابتة في العهدة ، وهو من العناوين المقربة المحسنة كما لا يخفى.

وعليه ، فالاحتياط والامتثال الإجمالي يكون في عرض الامتثال التفصيليّ بملاك الإطاعة والموافقة لا الانقياد.

وملخص الكلام : انه بعد الاحتياط والإتيان بالامتثال الاحتمالي اما ان يكون هناك أمر في الواقع أو لا يكون. فان كان أمر في الواقع فقد تحققت إطاعته بالفعل وقصدت موافقته كما عرفت. وان لم يكن امر فلا كلفة عليه.

فالاحتياط موجب للاطمئنان في مقام الامتثال وعدم بقاء العبد في الحيرة من هذه الجهة ، فيحكم العقل باجزائه كما يحكم باجزاء الامتثال الجزمي. فلاحظ.

يبقى الكلام في امر خارج عما نحن فيه ، لكن نذكره استطرادا لعدم وقوع البحث عنه مستقلا ، وهو التشريع.

ويقع الكلام في انه من صفات الفعل أو الفاعل. والثمرة انه لو كان من صفات الفعل كان مفسدا للعبادة لو تحقق فيها أو في بعض اجزائها. بخلاف ما إذا كان من صفات الفاعل ـ كما التزم به صاحب الكفاية (١) ـ فانه لا يسري قبحه إلى الفعل كي يفسده إذا كان عبادة.

والحق انه من صفات الفاعل لا الفعل ، وذلك لأن التشريع كما يعرف عبارة عن إدخال ما ليس في الدين في الدين. ولا يخفى ان الدّين لا يتقوم بالافعال الخارجية وانما يتقوم بالاحكام الكلية ، اما الفعل الخارجي الّذي يطرأ عليه الحكم فليس من الدّين ، بل الدين هو الأحكام الكلية الشرعية. وعليه فالإدخال في الدين انما يتصور بالنسبة إلى الأحكام بالبناء والالتزام بحكم مع عدم كونه ثابتا ، ونسبته إلى الشارع مع عدم تحقق ثبوته ، اما نفس موضوعه الخارجي

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٨١

المطابق له فليس يتصف بعنوان التشريع إذ لا ينطبق عليه تعريفه. فالتشريع صفة وعنوان للفعل النفسيّ أعني البناء والالتزام بان هذا حكم الله وليس من صفات الفعل المأتي به خارجا الّذي هو موضوع التشريع.

ويشهد لما ذكرنا : انهم استدلوا (١) على حرمة التشريع بالآية الكريمة : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (٢) ، مع ان الافتراء على الله انما يكون بنسبة امر له غير صادر منه ، وليس الافتراء يتحقق بالفعل الخارجي ، بل يتحقق بالكذب على الله اما قولا أو بناء والتزاما كما لا يخفى.

وبالجملة : التشريع مساوق للبدعة المتحققة بإثبات حكم في الشريعة غير ثابت عن الله ، وهو أجنبي عن موضوع الحكم المجهول ومتعلقه الخارجي. فكون التشريع من صفات النّفس والفاعل لا الفعل أمر ظاهر جدا ، فلاحظ وتدبر.

تذييل : هل يعتبر في صحة العبادة ومقربيتها وسقوط الأمر بها إضافتها إلى المولى من طريق الأمر الثابت المقصود امتثاله وإسقاطه ، أو لا يعتبر ذلك ، بل يكفي في سقوط الأمر وقوع العبادة بنحو قربي وبداع مقرب وان لم يكن بإضافته من طريق الأمر؟.

بيان ذلك : ان الأمر العبادي لا إشكال في سقوطه بالإتيان بمتعلقه بقصد امتثاله وإطاعته ، ولكنه هل يعتبر ذلك في سقوطه ، أو انه يكفي فيه الإتيان بمتعلقه مع ربطه بالمولى وإضافته إليه ولو لا من طريق هذا الأمر بل بطريق غيره؟. والكلام يقع في موردين :

المورد الأول : موارد التداخل ، كما إذا تعلق أمران بطبيعة واحدة ولم يكن

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) سورة يونس الآية : ٥٩.

٤٨٢

متعلق كل منهما قصديا يتوقف حصوله على القصد إليه ، وقيل بإمكان الإتيان بفرد واحد بداعي امتثال كلا الأمرين فيسقطان معا ويتحقق امتثالهما ، وذلك نظير ركعتي الغفيلة وركعتي النافلة ، فان الأمر قد تعلق بكل منهما ، لكنه حقق انه يجتزئ مع قصد الغفيلة والنافلة بركعتين فقط ولا يحتاج إلى أربع ركعات ، فيقال حينئذ : انه هل يكفي في سقوط الأمر بالنافلة الإتيان بركعتين بقصد الغفيلة بدون قصد امتثال امر النافلة بدعوى كفاية إضافة الفعل إلى المولى من طريق الأمر بالغفيلة في امتثال الأمر بالنافلة فتحتسب الركعتان غفيلة ونافلة ، أو لا يكفي في سقوطه إلاّ بقصد امتثال الأمر بالنافلة؟ ، فلا تحتسب الركعتان الا عن الغفيلة لقصدها بخصوصها. ولا يخفى ان الكلام يبتني على ان لا يكون عنوان النافلة من العناوين القصدية كعنوان التعظيم ، بل من العناوين الواقعية المتحققة بذات العمل ، فانه لو كان من العناوين القصدية لا يتحقق امتثال أمرها بدون قصدها لعدم تحقق متعلق الأمر ـ أعني النافلة ـ بدون قصده ، بخلاف ما لو كان من العناوين الواقعية ، فان المتعلق حاصل وان لم يقصد وانما الإشكال في تحقق الامتثال به بدون قصد امره ، كما انه يبتني على عدم استظهار إرادة فردين من الدليل لا فرد واحد ، وإلاّ لم يصح التداخل. فلاحظ.

المورد الثاني : موارد توهم الأمر والإتيان بالفعل بداعي الأمر المتوهم ، كما لو تخيل انقضاء الوقت فصلى بنية القضاء ثم تبين ان الوقت باق وانه لا أمر بالقضاء ، فهل تكفي صلاته بنية القضاء في سقوط الأمر بالأداء أو لا تكفي؟.

اما مورد تعدد الأمر والإتيان بالفعل بداعي امتثال أحد الأمرين فلا إشكال في كونه مسقطا للأمر الثاني غير المقصود امتثاله ، لأن الفعل المأتي به متوفر على جوانب العبادية ومحققاتها على أي بناء في تحقق العبادة ، سواء قلنا بكفاية تعنون المأتي به بعنوان حسن في العبادية والمقربية أو اعتبرنا إضافته إلى المولى. فانه مضافا إلى كونه متعنونا بعنوان حسن وهو عنوان تبعية المولى

٤٨٣

وإطاعته وموافقة أوامره مضاف إلى المولى ومرتبط به ، لأنه قد أتى به بداعي امتثال امره ، فهو مقرب وعبادة بلا كلام ، ولا يخفى ان الأمر العبادي ما يسقط بالإتيان بمتعلقه بنحو عبادي وقربي ، فيسقط الأمر الثاني غير المقصود ، إذ قد جيء بمتعلقه بنحو عبادي وقربي وان لم يربط بالمولى من طريقه ولا دليل على أكثر من ذلك.

واما مورد توهم الأمر ، فحيث ان الأمر المقصود امتثاله لا وجود له فلا يتعنون الفعل بعنوان موافقة الأمر ولا يكون الفعل في نفسه ذا عنوان حسن ولا يكون في البين سوى صفة الانقياد الحسنة ، فان قلنا بان الانقياد من صفات الفعل فيكون الفعل به حسنا ، اكتفي بالفعل في امتثال الأمر الموجود غير المقصود لوقوعه بنحو عبادي مقرب ، فيكون قد أتى بمتعلق الأمر بنحو عبادي. واما إذا قلنا ـ كما هو الحق على ما عرفت ـ بان الانقياد من صفات الفاعل لا الفعل لم يكن الفعل بنفسه عباديا ومقربا ، فلا يكفي في سقوط الأمر فلاحظ جيدا وتدبر.

هذا تمام الكلام في الواجب التعبدي والتوصلي بالمعنى الأول ـ أعني ما لا يسقط الأمر به إلا بالإتيان به بقصد القربة ويقابله التوصلي ـ.

ويقع الكلام فعلا في التعبدي بالمعنى الثاني ، وهو ما أشرنا إليه في صدر المبحث من : انه ما لا يسقط به الأمر إلا بالمباشرة وان يكون عن إرادة واختيار. وان لا يكون بفعل محرم. ويقابله التوصلي وهو ما يسقط به الأمر ولو لم يكن بالمباشرة ، أو عن إرادة واختيار. أو بفعل غير محرم. وموضوع الكلام هو ان مقتضى الأصل في الواجبات هل يقتضي المباشرة ، أو الإرادية أو عدم تحققه بفعل محرم أو لا؟ ، فيقع الكلام في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في ان مقتضى الأصل الأولي في الواجب هل هو المباشرة فلا يسقط الأمر بفعل الغير أو لا؟.

٤٨٤

وهذه الجهة لم تنقح في كلام الاعلام بالنحو اللازم ، وقد وقع الخلط في كلامهم بين ما يرتبط بها وما لا يرتبط ، ولا بد من تحقيق النيابة قبل التعرض لأصل الكلام في لزوم المباشرة وجواز الاستنابة. وتحقيق الحال في النيابة بنحو تعرف وجه الغموض الّذي سنشير إليه في كلمات بعض الاعلام : ان الكلام فيما يرتبط بالنيابة ..

تارة : يوقع في معنى النيابة وبيان حقيقة كون الشخص نائبا عن الآخر. فهل النيابة تنزيل الشخص النائب نفسه منزلة المنوب عنه فيكون وجودا تنزيليا للمنوب عنه؟ ، أو انها تنزيل النائب عمله منزلة عمل المنوب عنه؟. أو انها لا ترتبط بالتنزيل ، بل هي عبارة عن الإتيان بالعمل بداعي ترتب آثاره الوضعيّة والتكليفية في حق المنوب عنه كالإتيان بالصلاة بداعي ترتب سقوط الأمر المتعلق بالمنوب عنه أو ترتب حصول الثواب عليه للمنوب عنه أو نحو ذلك؟.

ولا يخفى ان تحقيق معنى النيابة واختيار أحد هذه المعاني لا يرتبط بما نحن فيه أصلا ، بل الكلام فيما نحن فيه من كون الأصل صحة النيابة في الفعل الواجب وعدمها جار على جميع هذه التقارير في معنى النيابة ، فلا يهمنا فعلا تحقيق ذلك فله محل آخر.

وأخرى : يوقع الكلام في ان ظاهر الدليل المتكفل للأمر بشيء هل تعلق الأمر بالفعل أعم من ان يوجده المكلف مباشرة وتسبيبا أو لا؟. وقبل إيضاح ذلك نشير إلى شيء وهو ان الأفعال التسبيبية الصادرة من غير المسبب على نحوين :

نحو ينسب إلى المسبب ، كما ينسب إلى الفاعل على حد سواء كالقتل ، فانه لو سبب شخص ان يقتل آخر شخصا ، فانه يقال عرفا أنه قتل ذلك الشخص كما يقال ذلك لمن باشر القتل. ومثل هذا على قسمين : الأول : ما يكون له ظهور ـ ولو بواسطة القرينة العامة ـ في إرادة الفعل التسبيبي كالبناء

٤٨٥

والخياطة ونحوهما ، فان إطلاقهما ظاهر في إرادة التسبيب لا المباشرة. والآخر : ما لا ظهور له في ذلك كالقتل فانه لا ينصرف إلى القتل التسبيبي.

ونحو لا ينسب إلى المسبب مهما ضعفت إرادة الفاعل وقويت إرادة المسبب كالأكل والمشي ، فانه لو سبب زيد ان يمشي عمرو أو يأكل بنحو أكيد وشديد بحيث كان عمرو مسلوب الإرادة تقريبا ، فلا يقال عن زيد انه مشى أو أكل ، بل ينسب الفعل إلى الفاعل فقط.

فالأفعال التسبيبية على نحوين : ما ينسب إلى المسبب كما ينسب إلى المباشر. وما لا ينسب إلى المسبب وهذا امر عرفي واضح. ولو لا خوف حصول التطويل لأشرنا إلى ضابط كل نحو من الأفعال.

وعلى كل فكل فعل يمكن ان يكلف به الشخص بنحو المباشرة وعلى ان يأتي به بنفسه ، ويمكن ان يكلف به أعم من المباشرة والتسبيب بان يكلف بإيجاد هذا الأمر في الخارج سواء بنفسه أو بتسبيبه لحصوله من الغير. فان إمكان صدور الفعل من الغير بتسبيبه بحيث يكون لتسبيبه جهة دخل في حصول الفعل ولولاه لما حصل ، يصحح تعلق الحكم بفعل الغير بلحاظ هذا المعنى.

فيقع الكلام في ان مقتضى الدليل الأولي هل هو تعلق الحكم بالفعل المباشري أو الأعم منه ومن الفعل التسبيبي؟. ويظهر مما ذكرنا ان ثبوت سقوط التكليف بالفعل التسبيبي الصادر من الغير مرجعه إلى كون الواجب أمرا تخييريا مرددا بين فعل الشخص مباشرة والفعل تسبيبا ، فيصير المورد من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأن الفعل التسبيبي إذا كان محصلا للغرض فلا وجه لتعيين الفعل المباشري على المكلف.

ولكن المحقق النائيني قدس‌سره نفي ذلك بوجهين :

الأول : ان الاستنابة إذا كانت طرفا للوجوب التخييري كان مقتضى ذلك سقوط الوجوب بمجرد الاستنابة ، وهو باطل جزما لعدم فراغ ذمة الولي

٤٨٦

بمجرد الاستنابة قطعا.

الثاني : ان الإجماع قام على جواز التبرع في كل ما تدخله النيابة ، ولا معنى لكون فعل الغير من أطراف الوجوب التخييري (١).

ويرد على الأول : ان طرق التخيير ليس هو الاستنابة ، بل فعل الغير الصادر بتسبيب المكلف ، فلا يسقط التكليف بمجرد الاستنابة.

ويرد على الثاني : ان فعل الغير تبرعا إذا كان مسقطا يكون من مصاديق سقوط الواجب بغيره ، وهو ليس ممتنعا ، بل قد التزم بسقوط وجوب الصلاة على الميت بفعل الصبي المميز. وذلك لا ينافي كون الفعل التسبيبي طرفا للوجوب التخييري.

ثم لا يخفى عليك ان محل الكلام في دوران الأمر بين المباشرة أو الأعم منها ومن التسبيب انما هو في غير القسم الأول من أقسام الأفعال التي أشرنا إليها مثل البناء ، لأن هذا القسم عرفت ان الظهور الأولي فيه ما يعم الفعل التسبيبي فلا شك فيه كما لا يتأتى في القسم الثالث إذ أضيفت المادة إلى المكلف مثل : « كل » و: « قم » لأن فعل الغير لا يسند بحال إلى المكلف فلا معنى للتخيير فيه إذا كان المطلوب أكل وقيام المكلف نفسه وانما يقع البحث في هذا القسم إذا لم يتعلق التكليف بالمادة المضافة إلى المكلف ، بل توجه التكليف إلى الشخص بإيجاد المادة بلا إضافتها إليه ، كما لو قال المولى : « أريد منك إيجاد أكل هذا الطعام » ، فانه كما يتحقق بالإيجاد المباشري يتحقق بالإيجاد التسبيبي كما يقع في القسم الثاني وهو ما ينسب إلى المكلف مع التسبيب لكن لا ظهور له أوليا في الأعم منه كالقتل. فمحل الشك هذان القسمان وقد عرفت رجوع الشك إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٨٧

ولا يخفى ان صحة التسبيب وإسقاطه الأمر ولو دل الدليل عليها لا يقتضي سقوط الأمر بفعل الغير تبرعا وبدون تسبيب ، بدعوى ان صحة السبب تكشف عن ان المصلحة تتحقق بمجرد حصول الفعل في الخارج من أي شخص كان.

وذلك لإمكان ان لا تتقوم المصلحة بنفس الفعل وذاته بل بالفعل المستند وجوده إلى هذا الشخص بنحو استناد ، اما بالمباشرة أو بالتسبيب. فإذا دل الدليل على إجزاء فعل الغير عن تسبيب فلا يلازم اجزاء فعل الغير لا عن تسبيب ، بل تبرعا لعدم استناده إلى المكلف ، وإمكان تقوم المصلحة بجهة استناد وجود الفعل إليه.

كما انه لا ملازمة بين صحة التسبيب وبين صحة النيابة في الفعل ، فإذا دل الدليل على إجزاء التسبيب فلا دلالة له على اجزاء الاستنابة ، وذلك لأن جواز التسبيب يقتضي إجزاء فعل الغير وسقوط الأمر به إذا وقع عن تسبيب إليه ، ومن الظاهر ان الغير لا يقصد بفعله النيابة عن المسبب ، بل يأتي بالفعل استقلالا فيسقط الأمر بمجرد ذلك. ومن المعلوم انه لا يكفي في باب النيابة مجرد إتيان الغير بالفعل ، بل لا بد من انضمام خصوصية قصد النيابة ـ بأي معنى فسرنا النيابة ـ إليه ، فإتيان الفعل لا يكفي في سقوط الأمر ـ في باب النيابة ـ ، بل يعتبر ان يكون الإتيان به مع القصد الخاصّ في سقوط الأمر. وعليه فباب النيابة غير باب تعلق الأمر بالفعل أعم من المباشري والتسبيبي.

وانما النيابة عبارة عن الإتيان بالفعل بقصد خاص ، فيقع الكلام في ان مقتضى الأصل الأولي والدليل المتكفل لثبوت الحكم للفعل هل هو عدم سقوطه إلا بفعل الشخص نفسه أو يسقط بفعل الغير مع القصد الخاصّ؟.

وليعلم انه إذا دل الدليل على صحة الاستنابة فلا ملازمة بينها وبين صحة مطلق النيابة ، فلا يدل على سقوط الأمر بفعل الغير بقصد النيابة تبرعا وبدون

٤٨٨

تسبيب ، وذلك لجواز ان يكون الغرض الحاصل بهذا الفعل لا يتقوم بذات الفعل مع القصد الخاصّ ، بل انما يحصل بالفعل الخاصّ المستند إلى المكلف بنحو استناد كالتسبيب ، فدلالة الدليل على صحة الاستنابة لا تلازم دلالته على صحة النيابة مطلقا ولو تبرعا لإمكان دخل جهة التسبيب في تحقق المصلحة وحصول الغرض ، فيكون الغرض حاصلا بفعل الشخص أو بفعل الغير الخاصّ عن تسبيب إليه دون غير ذلك.

ومن هنا يعلم ان باب النيابة يرجع إلى ان الغرض من الأمر يتحقق بالفعل الصادر عن الغير بقصد النيابة ، إما مطلقا ولو لم يكن عن تسبيب لو دل الدليل على صحة النيابة بقول مطلق. أو في خصوص ما إذا كان عن تسبيب لو دل الدليل على صحة الاستنابة فقط. ولكن النيابة في كلا الموردين لا يمكن إرجاعها إلى الوجوب التخييري.

اما المورد الأول : وهو ما كان الغرض يحصل بالفعل الصادر من الغير بقصد النيابة ولو لم يكن عن تسبيب ، فلان فعل الغير بهذه الخصوصية إذا كان وافيا بالملاك ومحصلا للغرض على نحو فعل الشخص نفسه وبحده بحيث لم يختلفا في شيء من ذلك كي يتحقق ملاك الوجوب التخييري بينه وبين فعل الشخص عن استنابة ، لزم ان يتوجه الأمر لذلك الغير بالفعل بالقصد الخاصّ لكونه محصلا للغرض ووافيا بالملاك ، فلا وجه لعدم تعلق الأمر به أيضا كما تعلق بنفس الشخص. ومن البديهي ان الأمر لا يتعلق بالغير بالإتيان بالفعل النيابي وهو مما يكشف عن ان الفعل النيابي وان كان محصلا للغرض ومسقطا للأمر لكنه بنحو لا يستلزم تعلق الأمر به وقاصر عن جعله أهلا للأمر ، اما لوجود المانع أو لقصور المقتضي نفسه. وعليه فكونه مسقطا للأمر ومحصلا للغرض لا يستلزم أهليته لتعلق الأمر ، وعليه فقيام الدليل على النيابة مطلقا لا تكشف عن كون الاستنابة أحد طرفي الوجوب التخييري وتعلق الأمر التخييري بالفعل والاستنابة ، بل

٤٨٩

غاية ما يدل عليه الدليل كفاية الاستنابة في حصول الغرض وسقوط الأمر ولا ملازمة بين ذلك وبين علّية الغرض الحاصل ، للأمر التخييري بها. وعليه فإرجاع النيابة إلى الوجوب التخييري لا وجه له ولا دليل عليه.

واما المورد الثاني : وهو ما إذا دل الدليل على صحة الاستنابة فقط لا مطلق النيابة ، فلأنه وان لم يستكشف كون الغرض بنحو غير مؤهل لتعلق الأمر ، إلاّ ان الالتزام بان فعل الغير التسبيبي متعلقا للأمر التخييري وكونه عدلا لفعل الشخص نفسه وفي عرضه ينافي قصد النيابة فيه. لأن النيابة كما عرفت عبارة عن تنزيل النائب نفسه أو عمله منزلة نفس المنوب عنه أو عمله. أو عبارة عن الإتيان بالفعل بداعي ترتب آثاره في حق المنوب عنه ، ولا يخفى ان قصد هذه المعاني يتوقف على ان يكون الأمر متعلقا بخصوص فعل الشخص كي ينزل عمل آخر منزلته أو شخص آخر منزلة المكلف أو الإتيان بعمل بداعي ترتب آثاره في حق غير الفاعل وهو المنوب عنه ، اما إذا كان الأمر متعلقا بنفس الفعل النيابي ، فلا معنى للإتيان به بهذه القصود لأن فعل المنوب عنه مأخوذ في موضوع الفعل النيابي الّذي يستلزم كونه واجبا ومتعلقا للأمر في حال النيابة ، بحيث يكون الداعي للنيابة إسقاط الأمر المتعلق به ، فيمتنع ان يكون الفعل النيابي عدلا له وفي عرضه ، إذ معنى ذلك انه لو جيء بالفعل النيابي كان فعل المنوب عنه غير واجب أصلا وهو خلف الفرض.

وبالجملة : النيابة في طول تعلق الأمر بفعل المنوب عنه ، فيمتنع ان تؤخذ عدلا له وفي عرضه كما هو شأن الواجب التخييري.

والمتحصل : انه لا يمكن إرجاع الاستنابة ـ والمقصود منها عمل الغير الخاصّ التسبيبي ـ إلى الواجب التخييري في كلا الموردين ، بل الدليل الدال على صحة النيابة أو الاستنابة انما يدل على ترتب الغرض على عمل الغير النيابي مطلقا أو مع التسبيب إليه.

٤٩٠

وعليه ، فمع الشك في صحة النيابة أو الاستنابة لا يرجع ذلك إلى الشك في التعيين والتخيير ، بل يرجع ذلك إلى ان الغرض الباعث للأمر هل يتحقق بالفعل النيابي مطلقا أو عن تسبيب ، فيسقط الأمر به أو لا يتحقق فلا يسقط الأمر به؟. ومن الواضح ان دليل الحكم لا نظر له إلى هذه الجهة كي تنفي بإطلاقه أو لا تنفي. ولا يرتبط مدلوله بالمشكوك بالمرة ، فالمرجع حينئذ هو الأصل العملي ، وهو يقتضي عدم صحة النيابة ، لأنه يشك بالفعل النيابي في سقوط الأمر لحصول الغرض وعدم سقوطه لعدم حصول غرضه ، فلا يجزم بحصول الامتثال بالفعل النيابي ، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم الإتيان بالعمل مباشرة لتحصيل العلم بالامتثال. فلاحظ.

هذا تحقيق الكلام في المقام فيما يرتبط بالنيابة والاستنابة.

وقد نهج المحقق النائيني قدس‌سره في تحقيقه نحوا آخر من البيان لا يخلو عن مؤاخذات. وهي : ـ مضافا إلى ما تعرض إليه من ذكر احتمالات النيابة وبناء المسألة عليها ، إذ قد عرفت ان تحقيق الكلام في النيابة ومقتضى الأصل فيها لا يختلف فيه الحال على جميع احتمالات النيابة ، فالكلام في معنى النيابة وتحقيقه له مجال آخر غير ما نحن بصدده من تحقيق ما يقتضيه الأصل في النيابة ـ في موارد متعددة من كلامه :

الأول : ما أفاده من امتناع إرجاع الاستنابة إلى تعلق التكليف بالعمل من المكلف ، أعم من المباشرة والتسبيب. بتقريب : ان عمل الغير لا يعد عملا تسبيبيا للمستنيب مع كون النائب ذا إرادة تامة مستقلة ، بل العمل عمل النائب والحال هذه ، وليس للمستنيب غير التسبيب وهو غير الواجب ، نعم انما يستند عمل الغير إلى المسبب فيما إذا لم يكن للمباشرة إرادة أصلا أو كانت له ولكن كانت ضعيفة جدا بحيث يعد العمل عملا للمسبب ، كعمل المجانين والصبيان

٤٩١

الّذي يكون عن تسبيب المكلف (١).

وتتضح المؤاخذة في هذا التقريب بما عرفت : من ان المناط في استناد العمل إلى الشخص المسبب ونسبته إليه ليس عدم توسط إرادة مستقلة من المباشر.

إذ هناك من الأفعال ما لا يصح استناده إلى المسبب وان لم يكن المباشر بذي إرادة أصلا ، أو كان ذا إرادة ضعيفة جدا بحيث تلحق بعدم الإرادة ، كالأكل والمشي ونحوهما من الأفعال والأسباب ، فانه لو سبب شخص ان يأكل مجنون لا يقال عن المسبب انه أكل كما هو واضح جدا.

كما ان هناك من الأفعال ما تصح نسبتها إلى المسبب كما تنسب إلى المباشر ، وان كان المباشر ذا إرادة تامة مستقلة ، كالإحراق والقتل ونحوهما من المسببات التوليدية.

فالمناط على الإسناد وعدمه ليس على توسط الإرادة وعدمها كما عرفت.

هذا مضافا إلى ان استناد وجود الفعل إلى تسبيب المسبب بحيث لو لا تسبيبه لم يحصل ، كاف في تعلق التكليف به وان لم ينسب الفعل إلى المكلف ولا يعد من أفعاله الاختيارية ، فيكلف العبد بإيجاد الفعل في الخارج بطريقه سواء كان بنفسه أو بإحداث الإرادة في نفس الغير المباشر فيأتي به بحيث لو لا تسبيبه لم يتحقق ، فان التكليف بمثل ذلك معقول لا محذور فيه وان لم يكن الفعل من افعال المكلف.

ويشهد لذلك صحة تعلق النذر بما لا يؤتى به مباشرة عادة ، بل بتوسط فعل الغير الإرادي ، ووجوب الوفاء به لاستتباعه التكليف ، كما لو نذر ان يبني مسجدا ، فان البناء لا يباشره المكلف المستنيب مع انه مكلف به.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٩٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٩٢

وبالجملة : التكليف لا يتقوم بنسبة الفعل المأمور به إلى المكلف ، بل يتقوم بتمكن المكلف من تحقيق هذا الفعل خارجا بتسبيبه اما بمال أو بغيره ، بحيث يستند وجوده خارجا إليه وان لم ينسب نفس الفعل إليه. فالتكليف بفعل الغير تسبيبا إليه جائز عقلا لتمكن المكلف من تحقيقه.

الثاني : ما أفاده قدس‌سره من عدم كون النيابة عبارة عن إيجاب العمل على المكلف ، أعم من بدنه الحقيقي أو التنزيلي ، بان ينزل النائب بدنه منزلة بدن المنوب عنه ، بتقريب : ان التنزيل المدعى مما لا يخطر ببال النائب والمستنيب أصلا (١).

وموضوع المؤاخذة في ذلك هو ما يظهر منه قدس‌سره من الالتزام بإمكان التكليف فيه بنحو التخيير على هذا المبنى وتأتيه لو لا فساده في نفسه ، باعتبار انه أمر على خلاف المرتكز العرفي في باب النيابة.

مع انه يمكن المناقشة فيه ، بان التكليف على هذا المبنى يتصور ثبوتا على نحوين :

الأول : ان يكون متعلقا بالوجود الحقيقي للمكلف وبالوجود التنزيلي له الّذي هو الوجود الحقيقي للنائب ، فيكون موضوعه كلا الشخصين على نحو الوجوب الكفائي.

ولا يخفى انه بهذا النحو خلاف فرض باب النيابة ورجوعها إلى التخيير في الواجب ، كما انه لا يلتزم به أحد حتى المحقق النائيني ، إذ ليس من يلتزم بان النيابة من باب الواجب الكفائي.

الثاني : ان يكون التكليف متعلقا بالشخص بوجوده الحقيقي ، لكن يطلب منه العمل أعم من الصادر عن وجوده الحقيقي أو وجوده التنزيلي فيرجع إلى

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٩٣

التخيير في الواجب.

ويرد عليه ما أورده قدس‌سره على التصوير الأول للنيابة من : ان فعل النائب الّذي هو وجود تنزيلي للمستنيب ليس فعلا اختياريا له كي يتعلق به تكليفه ، ومجرد التنزيل والادعاء لا يوجب اختياريته ، إذ لا يغير الواقع عما هو عليه فلاحظ.

الثالث : ما اختاره من ان النيابة عبارة عن تنزيل النائب عمله منزلة عمل المنوب عنه ، ثم إرجاعها إلى الوجوب التخييري.

فانه يرد عليه : بان فعل الغير إذا لم يكن اختياريا للمكلف ـ كما اختاره أولا ـ ، فتنزيل الغير عمله منزلة عمل المكلف المستنيب لا يصحح نسبة العمل إلى المنوب عنه ولا يوجب كونه عملا اختياريا له بعد فرض كون عمل الغير إراديا للغير ، إذ التنزيل لا يغير الواقع ولا يزيله عما هو عليه.

الرابع : ما ساقه لتحقيق المطلب بعد اختياره لمعنى النيابة بما عرفته من ان العمل الواجب على الولي فيه جهات ثلاثة :

الأولى : الوجوب التعييني من جهة المادة وهو نفس الصلاة مع قطع النّظر عن مصدره بمعنى ان المولى يريد أصل وجود الصلاة خارجا ولا تسقط بمجرد الاستنابة.

الثانية : التخيير من جهة المصدر ، بمعنى ان الولي مخير بين إصدارها بالمباشرة وبين الاستنابة.

الثالثة : الوجوب المشروط بعدم فعل الغير.

وبعد هذا أفاد انه مع الشك في سقوط الواجب بالاستنابة وعدمه ، فمرجع الشك إلى الشك في الوجوب التخييري من ناحية الإصدار. وهذا ينفى بظهور الخطاب في المباشرة ، لأن نفس توجه الخطاب إلى المكلف من دون تقييد يرفع الشك من هذه الجهة ، وادعى ان الظهور من هذه الجهة أقوى من ظهور

٤٩٤

الصيغة في التعيين من جهة المادة (١).

والمؤاخذة في هذا الكلام من جهات :

الأولى : سوقه مثال وجوب القضاء على الولي لمورد الاستنابة ، فان المثال أجنبي عن مقام الاستنابة ، بل يرتبط بمقام المباشرة والتسبيب.

وذلك : لأن قد عرفت ان النيابة عبارة عن الإتيان بالفعل الواجب على الغير بقصد خاص ، لا الإتيان به مطلقا بدون قصد النيابة كما هو الحال في باب التسبيب ، فالاستنابة عبارة عن تسبيب خاص وهو التسبيب للفعل بقصد الخصوصية ، لا تسبيب مطلق الّذي يكفي فيه الإتيان بمجرد الفعل الواجب على المسبب.

والّذي يجب على الولي هو الإتيان بالصلاة بقصد النيابة عن الميت ، فالواجب عليه هو الفعل النيابي ، فإذا جاء غير الولي بالصلاة عن الميت بدلا عن الولي بتسبيب الولي فانما يأتي بنفس ما وجب على الولي ـ أعني الفعل النيابي ـ بلا ان يقصد فيه النيابة عن الولي ، فهو في الحقيقة نائب عن الميت ، غاية الأمر انه قام بالفعل الواجب على الولي ، فإتيان الغير بالصلاة نائب عن الميت بدلا عن الولي ليس من باب النيابة عن الولي لعدم اعتبار قصد خصوصية النيابة عن الولي في الفعل ، بل من باب التسبيب بلحاظ ان الواجب على الولي الفعل النيابي أعم من المباشري والتسبيبي. وعليه فالشك في إجزاء إتيان الغير به عن تسبيب لا يرجع إلى الشك في صحة الاستنابة فيه وان الواجب هل هو خصوص الإتيان به مباشرة أو انه مخير بين المباشرة والاستنابة؟. بل يرجع إلى الشك في صحة التسبيب وان الواجب هل هو خصوص الفعل المباشري أو انه الأعم منه ومن الفعل التسبيبي؟. والدليل الدال على صحة إتيان غير الولي لا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٩٥

يدل على التخيير بين المباشرة والاستنابة ، بل يدل على التخيير بين المباشرة والتسبيب.

والخلاصة انه ليس المثال من أمثلة موارد الشك في الاستنابة ، بل من أمثلة موارد الشك في التسبيب ، إذ لا يعتبر في فعل الغير أكثر من الواجب على المسبب المكلف به. نعم لا بد على الغير من قصد النيابة عن الميت ، لكنه باعتبار كونها دخيلة فيما يجب على الولي فإيراد المثال للشك في الاستنابة غير سديد ، ولعل منشأ الاشتباه هو اعتبار قصد النيابة في فعل النائب والغفلة عن انه معتبر في فعل الولي نفسه أيضا.

الثانية : ما ذكره من اشتمال التكليف النيابي على التخيير من جهة الإصدار ، وان المطلوب هو المادة سواء كانت منه مباشرة أو من غيره بنحو الاستنابة.

فانه يرد عليه : ان التكليف اما ان يتعلق بكلا الشخصين ، بمعنى ان يكون كل من المستنيب والنائب موضوعا للتكليف. أو انه يتعلق بخصوص المستنيب لكنه مخير شرعا بين الإتيان به بنفسه أو بالاستنابة.

فالفرض الأول يرجع إلى الوجوب الكفائي ، وهو مضافا إلى عدم تناسبه ، مع التعبير بالتخيير مما لا يلتزم به أحد في باب النيابة ، إذ لا يلتزم بان الفعل يجب كفاية على النائب بالاستنابة. نعم هو يجب عليه بالوجوب الاستيجاري وهو غير الوجوب الكفائي.

والفرض الثاني يتنافى مع ما تقدم منه من ان فعل الغير الإرادي غير قابل لتعلق التكليف به لعدم كونه فعل الشخص ، فلا معنى ـ بناء على هذا ـ من توجه التكليف إليه بالإصدار ، اما بالإصدار مباشرة أو بالإصدار من الغير عن تسبيب واستنابة.

الثالثة : ما أفاده من ظهور اعتبار المباشرة من نفس توجه الخطاب إلى

٤٩٦

المكلف.

فانه غير سديد ، وذلك لأن توجه الخطاب إلى المكلف أمر يشترك فيه الوجوب التعييني والتخييري ، فان الخطاب في كل منهما متوجه إلى المكلف خاصة والتكليف متعلق به بخصوصه ، إلا أنه تارة : يكون محركا نحو امر واحد معين.

وأخرى : نحو امرين على سبيل التخيير ، فنفس توجه الخطاب إليه ـ على هذا ـ لا يدل على تعيين الفعل عليه مباشرة ونفي التخيير بعد فرض ان كلا الفعلين يسندان إليه وانه يمكن ان يكون مخيرا بين الإصدار بنفسه والإصدار بالواسطة ، لأن الخطاب في الواجب التخييري متوجه إلى المكلف أيضا. فغاية ما يظهر فيه توجيه الخطاب هو تعيين التكليف عليه ولزوم إتيانه بالفعل واما إتيانه بنحو المباشرة أو بنحوها ونحو التسبيب ، فهو خارج عن ظهور الخطاب. نعم توجيه الخطاب إليه ينافي الوجوب الكفائي لعدم توجه الخطاب إلى أحدهما خاصة فيه ، لكنه غير الفرض وليس بمفروض في المقام.

وبالجملة : فدعوى ظهور توجيه الخطاب في تعيين المباشرة غير وجيهة.

ودعوى : ظهور ذلك عرفا كما يشهد بذلك ملاحظة موارد استعمال الجملة الخبرية ، فإذا قيل : « صام زيد أو صلّى ». فانه لا إشكال في ظهورها في صدور الفعل منه مباشرة وبنفسه ، فكذلك الجملة الإنشائية ، فإذا قيل : « صم أو صلّ » كانت ظاهرة في طلب الصيام أو الصلاة منه بنفسه. فليس ما ذكر جزافا ، بل له شاهد عرفي لا ينكر.

مندفعة : بما تقدم من بيان اختلاف الأفعال وأنها على أقسام ، فالاستشهاد على ظهور اسناد الفعل في إرادة المباشرة ببعض الأمثلة على حكم مطلق الأفعال في غير محله ، فان الأمثلة المسوقة من قبيل ما لا ينسب إلى الشخص المسبب بالمرة مثل الأكل ، وهي لا تكون قرينة على غيرها مما عرفت نسبتها إلى المسبب كالقتل ، بل عرفت ظهور بعضها في إرادة الفعل التسبيبي كالبناء. هذا

٤٩٧

مع ما تقدم من ان الأفعال التي لا تنسب إلى المسبب داخلة في محل الكلام إذا تعلق الأمر بوجود الطبيعة من دون إضافة إلى المكلف ، كما لو قال : « يجب عليك إيجاد الصلاة أو الأكل ». فانه كما يصدق على الإيجاد المباشري يصدق على الإيجاد التسبيبي.

وبالجملة : الأمثلة المسوقة أمثلة لما هو خارج عن موضوع البحث فلا تصلح شاهدا عليه. فلاحظ.

وتندفع أيضا : بوجود الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية الطلبية باشتمال الجملة الخبرية على خصوصية تستدعي الظهور المذكور. وذلك لأن هيئة الفعل الماضي أو المضارع تدل على النسبة الصدورية والربط الخاصّ الصدوري بين الفاعل والفعل ، وهذا الربط يلازم صدور الفعل منه نظير هيئة الإضافة مثل : « صوم زيد » ، فان الإضافة تدل على ربط خاص ونسبة مخصوصة تلازم صدور الفعل من الفاعل. وليس كذلك الجملة الإنشائية الطلبية ، إذ غاية ما تدل عليه هي النسبة الطلبية بين الآمر والمأمور به والمأمور الملازمة للبعث نحو الفعل والتحريك نحوه. اما نسبة الفعل إلى المأمور الفاعل فلا تتكفله هيئة الطلب ، فلا دلالة لها إلا على توجه الخطاب للمكلف لأنه طرف النسبة ، اما كيفية الفعل والإصدار فهو أجنبي عن مفاد الكلام. فالفرق بين الموردين واضح.

وعليه ، فالدعوى بظهور خطاب الأمر في إرادة الفعل المباشري غير خالية عن الخدشة.

ويقع الكلام بعد ذلك في موضوعه ، وهو ان مقتضى الأصل في الواجبات هل يقتضي المباشرة أو انه لا يقتضيها فيسقط بفعل الغير عن تسبيب ، أو لا عن تسبيب بل عن تبرع من الغير؟ ، بلا نظر إلى النيابة ، بل الكلام في مسقطية إتيان الغير بنفس الفعل الواجب كأداء الدين وغسل الثوب ونحوه.

والبحث في مقامين :

٤٩٨

المقام الأول : في مقتضى الأصل اللفظي.

فنقول : انه ان تصورنا إمكان تعلق الحكم بفعل الغير التسبيبي بحيث يمكن التخيير شرعا بينه وبين الفعل المباشري ، بالتقريب الّذي قدمناه من استناد الوجود إلى المسبب وان لم ينسب إليه الفعل ، كان الشك في اعتبار المباشرة أو عدم اعتبارها من الشك في التعيين والتخيير ، لأنه يشك في تعلق التكليف بخصوص الفعل المباشري أو به وبالفعل التسبيبي بنحو التخيير بينهما ، وقد تقرر في محله ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ انه مع دوران الأمر بين التعيين والتخيير فالإطلاق يقتضي التعيين ونفي التخيير ، ولا كلام فيه.

وان لم نلتزم بإمكان التخيير بين فعل الشخص وفعل الغير التسبيبي ، كما لا يلتزم بإمكانه بينه وبين فعل الغير التبرعي فمرجع سقوط الوجوب عن الشخص بفعل الغير ـ على تقدير قيام الدليل عليه ـ ليس هو أخذه بنحو الواجب التخييري وكونه عدلا للوجوب ، بل إلى انه محقق لملاك الحكم ومحصل لغرضه فيسقط الأمر لحصول غرضه وتبعية وجوده للغرض كما لا يخفى. وعليه فمع إتيان الغير بالفعل يشك في سقوط التكليف بفعل الغير وارتفاعه ، ومقتضى إطلاق الدليل ، ثبوت التكليف مطلقا حتى في حال إتيان الغير بالفعل ، فالإطلاق يقتضي المباشرة. وعدم كفاية التسبيب أو التبرع من الغير.

والمقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي.

اما في المورد الأول ـ أعني ما كان الشك فيه من الشك في التعيين والتخيير ـ : فحيث انه من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فهو يتبع ما يختار في تلك المسألة من أصالة البراءة أو الاحتياط. والّذي ثبت بالتحقيق هو اختيار الاحتياط الّذي يقضي بالتعيين وعدم كفاية الفعل الآخر المشكوك.

وعلى كل ، فالجزم به هنا تابع لما يجزم به في تلك المسألة ، فان المورد من مصاديقها.

٤٩٩

واما المورد الثاني : فهل يتبع في الأصل مسألة التعيين والتخيير ، أو انه مجرى البراءة ولو كانت تلك المسألة مجرى الاحتياط؟ أو يجري فيه الاحتياط ولو كانت تلك المسألة مجرى البراءة؟. احتمالات ثلاثة. وتحقيق الكلام يقتضي بيان الفرق الموضوعي بين المسألتين ليتضح مقدار ارتباط إحداهما بالأخرى وعدم ارتباطهما.

فنقول : ان عمدة ما قيل في حقيقة الوجوب التخييري وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون وجوب كل من الفعلين مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، بحيث يكشف الإتيان بأحدهما عن عدم وجوب الآخر واقعا ومن أول الأمر.

الثاني : ان يكون متعلق الوجوب عنوان : « أحدهما » ، وهو جامع انتزاعي ينطبق على كل من الفعلين.

الثالث : ان يكون كل منهما متعلقا لوجوب خاص ومرتبة خاصة من الإرادة وسط بين الوجوب التعييني الّذي لا يجوز ترك متعلقه ولو إلى بدل ، والاستحباب الّذي يجوز ترك متعلقه مطلقا ولو لا إلى بدل.

تقتضي هذه المرتبة عدم جواز الترك إلا إلى بدل ، فهو يختلف عن الوجوب التعييني سنخا وهكذا عن الاستحباب.

وهذا اختيار صاحب الكفاية (١). الّذي أورد عليه : بأنه خروج عن محل الكلام في الوجوب التخييري (٢) ، إذ المقصود تعيين ذلك السنخ وتلك المرتبة ، وقد بينا في محله عدم تمامية الإيراد. وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله.

ولا يخفى ان ما نحن فيه يختلف موضوعا عن الوجوب التخييري بكل معانيه المتصورة الثلاثة ، إذ ليس متعلق الوجوب فيه هو عنوان أحدهما والجامع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٥٤ ـ الطبعة الأولى.

٥٠٠