منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

وان كان المراد جعل ما يكون داعيا فعلا بحيث لا بد من صدور الفعل بداعي امر المولى دون غيره من الدواعي.

ففيه :

أولا : ان يبتني على انحصار التقرب بقصد الأمر كما عليه صاحب الجواهر (١) وهو ممنوع كما تقدم.

وثانيا : انه يستلزم المحال ، وذلك لأن الملحوظ حال الأمر بالاستقلال هو نفس العمل ، اما إرادة المكلف للعمل فهي ملحوظة باللحاظ غير الاستقلالي الآلي ، فلو كان إرادة العبد العمل بداعي الأمر ملحوظة حال الأمر كان ذلك مستلزما للحاظ الإرادة بنحو الاستقلال وهو خلف فرض لحاظها آليا (٢).

والإنصاف : ان ما ذكره أخيرا من استلزام المحال ـ وهو عمدة الإيراد على المدعى ـ غير وارد ، فللمدعي ان يلتزم بالشق الثاني من شقي الترديد ، أعني كون الغرض هو المحركية والداعوية الفعلية لا الاقتضائية. بيان عدم وروده : انه بنفسه يرد على الشق الأول الّذي فرض التسليم به واختياره ، وهو كون الغرض هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا لو لم يكن هناك داع آخر ، فان ذلك يستلزم أيضا تعلق اللحاظ الاستقلالي بإرادة الفعل ولزوم صدورها عن داعي الأمر إذا لم يكن داع آخر.

وعليه ، فاما ان يلتزم بكفاية اللحاظ الآلي في ذلك فهو جار في الشق الثاني. واما ان لا يلتزم فيسري الإشكال إلى الشق الأول. فمحصل الإيراد عليه قدس‌سره هو النقض بالشق الأول. فتدبر.

ولعل هذا الوجه هو الّذي حدا بالسيد الخوئي إلى عدم ارتضاء إيراده ـ

__________________

(١) النجفي الشيخ محمد حسين. جواهر الكلام ٢ ـ ٨٧ ـ ٨٨ ـ الطبعة الثانية.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١١٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٦١

إذ لم يبين الوجه فيه ـ والإيراد على المدعى بوجهين :

أحدهما : انه لا دليل على لزوم تحصيل غرض المولى من الأمر ، بل الواجب عليه بحكم العقل الإتيان بما تعلق به التكليف وتحصيل الغرض في نفس المأمور به ، وهو ـ أي المأمور به ـ مطلق غير مقيد بداع من الدواعي. فلو فرض ان غرض المولى ما ذكر فلا يلزم تحصيله ، بل يكفي الإتيان بذات العمل المتعلقة للأمر.

والآخر : إنكار كون الغرض من الأمر جعل الداعي فعلا ، لأن الغرض ما يترتب على الشيء ترتب المعلول على علته ، ونحن نرى ان الإتيان بالفعل بداعي الأمر يتخلف كثيرا عن الأمر كما في موارد الكفر والعصيان ، فالغرض انما هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا وهو لا يتخلف عن الأمر أصلا (١).

أقول : ما أورده أولا ليس محل بحثه هنا ، بل له مجال آخر.

واما الوجه الثاني ، فهو غير تام ، بيان ذلك : ان الغرض قد يطلق ويراد منه ما يساوق العلة الغائية وهو المعنى الاصطلاحي للغرض والداعي ، وهو ما يترتب على نفس الفعل ترتب المعلول على علته. وقد يطلق ولا يراد منه هذا المعنى ، بل يراد منه معنى عرفي يساوق المقصود ، وقد يعبر عنه في الاصطلاح بالغرض ـ الأصلي أو الأقصى ، وهو بهذا المعنى قابل الانفكاك عن العمل وان عبر عنه بالغرض ، فيقال : غرضي من هذا العمل ومقصودي كذا ، مع عدم ترتبه عليه ، بل يمكن ان يترتب ويمكن ان لا يترتب ، كأكل الخبز بغرض الشبع وشرب شيء بقصد العافية من المرض والإتيان بالماء بغرض الوضوء ونحو ذلك. ولا يخفى انه يطلق على مثل ذلك الغرض مع تخلفه عن العمل أحيانا ، فقد يكون مراد المدعي من كون الداعوية الفعلية غرضا للأمر هذا المعنى من لفظ الغرض

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ١٨٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٦٢

لا المعنى الاصطلاحي كي يورد عليه بما ذكره.

وبالجملة : الإيراد المذكور يبتني على حمل لفظ الغرض على المعنى الاصطلاحي ، مع انه بلا ملزم ، فقد يكون المراد منه الغرض الأصلي والأقصى ، بل لا ملزم للتعبير بلفظ الغرض كي يتحقق هذا الالتباس ، بل نقول : ان النّظر والقصد الأصلي في الأمر هو جعل الداعوية الفعلية ، ولا يخفى صحة التعبير بذلك عرفا. فيرجع الإشكال إلى التعبير بلفظ الغرض ، وان هذا ـ أعني الداعوية الفعلية ـ لا تسمى غرضا ، وهو إشكال لفظي ، والمهم هو الالتزام بواقع الدعوى وما ذكر لا يصلح إيرادا عليها كما عرفت من كون الغرض الأصلي ممكن التخلف عن العمل ، بل مع الالتفات إلى هذه الجهة ـ أعني إمكان التخلف ـ يعبر عنه أيضا بالغرض الأصلي والمقصود بلا توقف ، ويجيب الفاعل عند سؤاله عن مقصوده في فعله ، بان غرضي كذا. فتدبر.

وعليه ، فالكلام مع المدعي يقع في ان الغرض الأصلي من الأمر هل هو جعل الداعي فعلا أو جعل ما يصلح للداعوية وما له اقتضاء الدعوة لا فعليتها؟.

والحق هو الثاني ، توضيح ذلك : انه قد تقرر في محله ان الأوامر تابعة للمصالح الموجودة في متعلقاتها ، فالغرض من الأمر غرض تبعي وطريقي للوصول إلى مصلحة المتعلق وليس له استقلالية في الغرض ولا انفراد به ، ومن الواضح ان المصلحة في المتعلق تارة : تتقوم بذات الفعل وتترتب عليه بأي نحو تحقق وبأي صورة حصل. وأخرى : لا تترتب عليه إلا إذا جيء به بنحو قربي عبادي ، فالأمر الّذي يتعلق بالنحو الأول لا يكون الغرض منه سوى جعل ما يقبل التحريك وما من شأنه الباعثية والداعوية لا أكثر ، إذ عرفت انه يتبع المصلحة في المتعلق ، فإذا فرض ان المصلحة تتحقق بتحقق الفعل بأي كيفية وبأي داع حصل ، لم يكن الداعي من الأمر سوى التحريك نحو العمل وجعل

٤٦٣

ما يمكن ان يكون داعيا إذا لم يكن داع آخر ، فإذا تحقق الفعل بداع آخر لا ينافي غرض الأمر لأنه يتبع الغرض من الفعل. وإذا لم يكن للعبد داع خارجي للفعل يكون الأمر صالحا للداعوية والمحركية.

وعليه ، فإذا فرض إمكان كون مصلحة المتعلق لا تقتضي سوى الأمر بهذا النحو ـ أعني بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا ـ ، فكيف يستظهر في الا وامر كونها بداعي جعل الداعي الفعلي؟.

الوجه الثاني : ـ ويمكن ان يكون تقريبا آخر للوجه الأول ـ ، وهو : ان الأمر لما كان بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا لزم ان يقتصر في تعلقه بمن لا يكون في نفسه داع خارجي غير الأمر للفعل ، فان من يكون في نفسه داع في نفسه لتحقق الفعل قبل الأمر يمتنع عقلا تعلق الأمر به وتوجه البعث نحوه للغويته بعد كونه منبعثا ، أو في مقام الانبعاث ، فلا معنى لأمره بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا بعد تحقق الداعي الفعلي للعمل عنده.

وعليه ، فالأمر انما يصح في مورد لا يكون للمكلف داع آخر غير الأمر ولم يكن المكلف في مقام الإتيان بالعمل بدون الأمر. والتقريب بهذا المقدار لا تثبت به التعبدية ، إذ غاية ما يثبت عدم صحة تعلق التكليف بمن له داع غير الأمر للفعل وانه انما يصح في المورد الّذي لا يكون للمكلف أي داع ومحرك نحو الفعل. وهذا لا يقتضي التعبدية كما لا يخفى ، فلا بد من تتميمه بان يقال : انه حيث يعلم بان التكاليف مطلقة ولا تختص بطائفة من المكلفين دون غيرهم ، بل تشمل الجميع ، وحيث ان شمولها للبعض ممتنع في ذاته لتحقق الدواعي النفسيّة للفعل عندهم ، فشمولها لهم يقتضي ان يكون مفاد الأمر هو الإتيان بالفعل لا عن هذه الدواعي ، بل بداعي الأمر فيرتفع عن اللغوية وتثبت به العبادية.

ويمكن الخدش فيه من وجهين :

أحدهما : ان تعلق الأمر بجميع المكلفين مسلم لا ينكر ، إلا انه لا يمتنع

٤٦٤

ان يختلف مفاده باختلاف المكلفين ، فيكون مفاده الداعوية الفعلية والبعث الفعلي بالنسبة إلى من لا داعي له نحو الفعل ، ويكون مفاده الداعوية الشأنية بالنسبة إلى من له داع آخر غير الأمر ، فيكون الأمر متعلقا به بداعي جعل الداعي على تقدير عدم الداعي الآخر أو عدم الانبعاث عنه. وهذا التعليق مصحح للأمر ولا تتوقف صحته ورفع لغويته على عدم الداعي الخارجي ، لأن الغرض انه جعل للداعوية بنحو التعليق. وصدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها. فلاحظ.

وبالجملة : لا مانع من الالتزام باختلاف نحو تعلق الأمر بالمكلفين أجمع إذ لا دليل على خلافه.

ثانيهما : انه سلمنا عدم إمكان توجه الأمر لمن له داع خارجي للفعل إلا بان يكون مفاده تجريد الفعل عن هذه الدواعي والإتيان به بداعي الأمر ـ كما هو مفاد التقريب المزبور ـ.

فلا نسلم اقتضاء ذلك لتعبدية الأمر ، وذلك لأن ارتفاع اللغوية لا يتوقف على تعلق الأمر بالفعل على ان يكون الأمر نفسه داعيا ، بل يكفي لزوم تحقق الفعل عن الأمر وكون الأمر منشأ لوجود الفعل خارجا دون غيره من الدواعي ، وهذا لا يلازم العبادية ، إذ يمكن ان يكون الإتيان بالفعل بتحريك الخوف من العقاب أو الرغبة في الثواب الّذي يقتضيه الأمر لا بتحريك نفس الأمر. وسيأتي ان هذا الداعي ليس من الدواعي المقربة ، مع صدور الفعل به عن الأمر ، إذ لو لا الأمر لما جاء به. أو يكون الإتيان به رياء ولتعريف الناس انه يمتثل الأمر ، فان هذا الداعي متفرع على وجود الأمر ، إذ موضوعه الأمر ، مع انه ليس من الدواعي المقربة بلا كلام.

وبالجملة : الدليل يقتضي لزوم صدور الفعل بمنشئية وجود الأمر بحيث لو لا وجود الأمر لا يتحقق الفعل خارجا ـ لارتفاع اللغوية بذلك ـ ، وصدور

٤٦٥

الفعل عن الأمر لا يلازم العبادية والتقرب كما عرفت.

الوجه الثالث : الآية الشريفة : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (١). وتقريب الاستدلال بها على المدعى : حصر الأوامر في الآية الكريمة في العبادية ، وحصر جهة الأمر والغاية منه في العبادة ، فيقتضي ان يكون الأصل هو العبادية ، إلا إذا قام دليل خاص على عدمه فيخصص الآية الشريفة.

ولكن الاستدلال بها غير مستقيم لوجهين :

الأول : ما قيل من ان الآية بملاحظة صدر السورة وذيلها واردة في الكفار وتفنيد ما زادوا في دينهم على عبادة الله ، وبيان انهم لم يأمروا بغير عبادة الله وترك الأوثان ، وان ما يدعونه من الدّين لم يأمرهم به الله. وبذلك تكون الآية بعيدة وأجنبية عن إثبات تعبدية الأوامر وكونها عبادية كما لا يخفى.

الثاني : انه لو سلم عدم اختصاص الآية بالكفار وعمومها لجميع المكلفين ، فهي لا تدل على حصر الأوامر بالعبادية ، بل انما تدل على حصر الأوامر العبادية بعبادة الله ، بمعنى ان الأوامر العبادية انما كانت ليعبدوا الله تعالى لا ان نفس الأوامر كانت لأجل تحقق العبادة منهم ، فهي لا تتكفل بيان عبادية الأوامر ، بل بيان جهة عبادة الله في الأوامر العبادية وهذا المعنى أجنبي عن المدعى.

وتوضيح ما ذكرناه : انه إذا قال القائل : « ما أمرت زيدا إلا لأجل تحصيل العافية التامة أو لأجل الذهاب إلى الطبيب الحاذق » ، فانه ظاهر في حصر الأوامر بالذهاب إلى الطبيب أو بتحصيل العافية في الأمر بالذهاب إلى الطبيب الحاذق دون غيره ، وبتحصيل العافية التامة لا الناقصة ، نعم لو قال : « ما أمرته إلا لأجل الذهاب إلى الطبيب » ، كان ظاهرا في حصر الأوامر في الذهاب إلى

__________________

(١) سورة البينة : الآية : ٥.

٤٦٦

الطبيب ، أو حصر أوامر الذهاب بالذهاب إلى الطبيب. فتأمل. وما نحن فيه من قبيل الأول ، فان الظاهر ان الغرض المسوق له الكلام هو بيان انحصار العبادة بعبادة الله ونفي عبادة غيره ، ولزوم الإخلاص في عبادته جلّ اسمه وعدم إشراك غيره فيها ، لا بيان أصل العبادة فتكون الآية ظاهرة في ان الأمر العبادي انما كان لأجل تحقق عبادة الله تعالى. فلا دلالة لها على ان مطلق الأوامر عبادية كما لا يخفى.

الوجه الرابع : الروايات كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « انما الأعمال بالنيات » (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لكل امرئ ما نوى » (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا عمل إلا بنية » (٣) ونحو ذلك مما يدل على توقف العمل على نية القربة إلا ما خرج بالدليل الخاصّ المخصص.

وقد ناقش الشيخ رحمه‌الله في دلالتها على المدعى بكلام مفصل حاصله : ان الكلام لو حمل على ظاهره من توقف تحقق العمل على نية القربة وقصد التقرب بحيث لا يتحقق عمل بدونها ، فهو كاذب قطعا ، لأن الأعمال تحصل بدون قصد القربة ، بل بدون نية أصلا ، لأنها أمور واقعية تحصل بأسبابها.

وان أريد منها نفي صحة العمل بدون نية القربة لا نفي أصل العمل لزم تخصيص الأكثر بنحو مستهجن جدا ، لأن الأعمال الشرعية العبادية قليلة جدا ونسبتها إلى غير العبادية منها نسبة متفاوتة جدا ، فلا معنى لهذا العموم وبهذا اللسان مع إرادة افراد قليلة منه لصحة الواجب التوصلي بدون نية القربة ، إذ لا يعتبر فيه قصد التقرب ، وانما المتوقف صحته على قصد التقرب هو الأفعال

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٤. الباب ٥ من مقدمة العبادات ـ الحديث ٧.

(٢) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٥. الباب ٥ من مقدمة العبادات ـ الحديث ١٠.

(٣) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٤. الباب ٥ من مقدمة العبادات ـ الحديث ٩.

٤٦٧

العبادية وهي قليلة كما عرفت.

وان أريد من مثل قوله : « لا عمل إلا بنية » ان نسبة الفعل إلى الفاعل وكون الفعل فعلا له انما تكون إذا صدر الفعل عن قصد واختيار وبدونه لا يكون العمل عملا اختياريا له ، فيكون المراد من النية ما يساوق القصد والاختيار لا نية القربة. ويكون المعنى : ان العمل الصادر عفوا وبلا إرادة لا يكون عملا للشخص ، بل الإسناد إلى الشخص يتقوم بالقصد ونية العمل ، فلا يقال لمن أكرم هاشميا مع عدم العلم بهاشميته أنه أكرم هاشميا بما هو هاشمي لعدم القصد إلى العنوان ان أريد ذلك فهو معنى متجه ، لكنه أجنبي عن المدعى ـ أعني إثبات كون الأصل في الأوامر العبادية كما لا يخفى ـ. مضافا إلى انه يدفعه ظاهر بعض الروايات التي تقتضي عدم إرادة هذا المعنى ، كقوله : « لا قول إلا بعمل ولا عمل إلاّ بنية ولا نية الا بإصابة سنة » (١) ، فان ظاهر السياق عدم إرادة نفي اختيارية العمل لعدم القصد لتحقق القول اختيارا بدون عمل ، بل الّذي يظهر من الروايات بملاحظة موارد تطبيقها في النصوص كما ورد في باب الجهاد من ان المجاهد ان كان قد جاهد لله فالعمل له تعالى ، وان جاهد لطلب المال والدنيا فله ما نوى (٢) ـ. وهو كونها ناظرة إلى بيان توقف ترتب الإثابة على نية كون العمل لله وان ظاهر نفس العمل لا يكفي في ترتب الأثر المرغوب ما لم يقصد من ورائه ذلك. فلا يعد العمل لله ما لم ينو الله ويقصد به التقرب إليه ، وان ما يحصله المرء هو ما نواه وقصد ، من خير أو شر. فلا ترتبط بالمرة بما نحن فيه من تعبدية الأوامر (٣).

وبهذه النتيجة أورد المحقق النائيني على الاستدلال بهذه الروايات مهملا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٣. الباب ٥ من مقدمة العبادات ـ الحديث ٢.

(٢) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٥. الباب ٥ من مقدمة العبادات ـ الحديث ١٠.

(٣) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٦٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٦٨

ما ذكره الشيخ مقدمة لها (١).

وبالجملة : الظاهر من الروايات الكثيرة هو ما أفاده الشيخ وتابعة غيره عليه من ان تقدير الثواب وتحصيله على نية التقرب فقط. لا توقف صحة العمل على نية القربة بحيث يترتب العقاب على تركها ، بل نتائج الأعمال وغاياتها تتبع النيات ولا تتحقق بدون النية بل تتبع النية.

وخلاصة ما تقدم : انه لا دليل تعبديا على كون الأصل في المأمور به ان يكون عباديا ، كما انه ـ بناء على عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق ـ لا يمكن التمسك بالإطلاق في إثبات التوصلية ونفي التعبدية. فلا دليل اجتهاديا على أحد الأمرين ، فتصل النوبة قهرا عند الشك في التعبدية والتوصلية إلى الأصل العملي من براءة أو اشتغال. فيقع الكلام فعلا في ..

المرحلة الثانية : وهي في مقتضى الأصل العملي بعد فرض عدم إمكان التمسك بالإطلاق لنفي التعبدية الّذي هو محور الكلام. وعدم قيام دليل على إثبات التعبدية.

فنقول : ذهب صاحب الكفاية إلى ان الأصل العملي في المقام هو الاشتغال ، فلا بد من الإتيان بقصد القربة تحصيلا للعلم بالفراغ ، وانه لا مجال لجريان البراءة ولو قلنا بها في مسألة الأقل والأكثر. فان الشك في ما نحن فيه يرجع إلى ان الوظيفة اللازمة هل هي الأقل أو الأكثر؟ لكنه لا يتأتى فيه حكم الأقل والأكثر (٢).

ووجه المحقق النائيني قدس‌سره كلامه بأنه ناظر إلى التفريق بين الأسباب والمسببات العادية ، والأسباب والمسببات الشرعية ، فان للشارع التصرف في الأسباب الشرعية وبيان حدّها ، فمع الشك فيها بين الأقل والأكثر

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١١٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٦٩

يرجع فيه إلى البراءة لأنها مجعولة شرعا. بخلاف الأسباب العادية ، فانه ليس للشارع التصرف فيها باعتبار ان تأثيرها في المسببات تكويني لا جعلي ، فإذا تردد السبب العادي بين ان يكون الأقل أو الأكثر لم يكن المورد مجرى البراءة لأن المرفوع بها ما يمكن جعله شرعا وليس السبب العادي بخصوصياته من مجعولات الشارع. وبما ان الشك فيما نحن فيه يرجع إلى الشك في دخل قصد القربة في الغرض لا في المأمور به لفرض عدم إمكان أخذه فيه ، فمرجع الشك في التعبدية إلى الشك في دخل قصد التقرب في الغرض ، ولا يخفى ان تأثيره في ترتب الغرض ـ لو كان ـ ليس بجعلي وانما تأثير تكويني ، فليس للشارع رفعه بالبراءة. فيكون مقتضى الأصل هو الاشتغال لا البراءة.

وأورد عليه بعد ذلك : بأنه فاسد مبنى وبناء.

اما المبنى ، فلعدم الفرق بين المسببات العادية والشرعية في كون الشك في ترتبها على أسبابها مجرى قاعدة الاحتياط ، ولذا يقرر الاحتياط عند الشك في تحقق الطهارة بفقدان بعض خصوصيات الوضوء وهو أمر مسلم.

واما البناء ، فببيان ان متعلقات التكاليف ليست نسبتها إلى الغرض نسبة السبب إلى المسبب ، وانما نسبتها إليه نسبة المعد للمعد له (١). وقد بين ذلك بنحو مفصل ليس تحقيقه محل بحثنا فعلا ، وانما ذكرنا ملخص كلامه ، فالإيراد الصحيح على الوجه المذكور ما ذكره من عدم الفرق بين الأسباب والمسببات الشرعية والعادية في كون الشك في المسببات مطلقا مورد الاحتياط ، فالتفريق بين ما نحن فيه ومسألة الأقل والأكثر بهذا الوجه واللحاظ غير سديد.

لكن الحق ان هذا المعنى ليس مراد صاحب الكفاية ، فانه غير ظاهر من العبارة أولا ، ولا يلتزم بجريان البراءة عند الشك في المسبب الشرعي ثانيا ، فلا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١١٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٧٠

يمكن ان يجعل وجه التفريق ما لا يلتزم به. فما ذكر في توجيه عبارته غير صحيح.

وقد حمل السيد الخوئي مراد الكفاية على معنى آخر محصله : انه ناظر إلى جهة الفرق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية الموجبة لعدم جريان الأولى في مسألة الأقل والأكثر وجريان الثانية ، وهي ان الشك في الأقل والأكثر يرجع إلى الشك في حصول غرض المولى بالأقل والبراءة العقلية لا توجب رفع هذا الشك ، فيلزم الإتيان بالأكثر تحصيلا للغرض اللازم تحصيله. بخلاف البراءة الشرعية فانها تقتضي إطلاق متعلق الأمر في مرحلة الظاهر الّذي يكشف عن حصول الغرض به.

وعليه ، فما نحن فيه حيث يشك في حصول الغرض بدون قصد القربة فلا تجري البراءة العقلية لعدم ارتفاع الشك بها ، كما انه لا مجال لجريان البراءة الشرعية ، لأن المرفوع بها ما يكون قابلا للوضع والجعل الشرعي ، فغيره كقصد القربة لا يكون من مواردها. فيتعين الاحتياط.

وأورد عليه : بان التفكيك بين البراءتين بهذا البيان غير صحيح ، لأنه إذا كان تحصيل غرض المولى لازما عقلا وان لم يقم عليه دليل شرعي ، فجريان البراءة الشرعية لا يجدي ، لأن البراءة انما تتكفل نفي المشكوك عن متعلق الأمر ، اما نفي دخالته في الغرض فهو أجنبي عن مفادها ، فيبقى الشك على حاله مع جريان البراءة الشرعية ، وليس للشارع نفي لزوم تحصيله بعد حكم العقل بلزومه. وإذا لم يكن تحصيل الغرض لازما إلا بالمقدار الّذي تقوم عليه حجة شرعية ، فجريان البراءة العقلية ممكن ومجد ، لنفي دخل المشكوك في المتعلق بها ، فيكون الغرض المتقوم به غير لازم التحصيل لعدم الحجة عليه شرعا وعقلا.

ودعوى : عدم إمكان جريان البراءة العقلية فيما نحن فيه ـ كالبراءة الشرعية ـ لفرض عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق فلا يكون موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لعدم إمكان البيان.

٤٧١

مندفعة : بان المحقق عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق ، وهذا لا يلازم عدم إمكان بيان عدم دخله في الغرض ولو بالجملة الخبرية ، فيمكن للمولى بيان ذلك بنحو الإخبار كما لا يخفى (١).

والإنصاف : ان ما حمل عليه كلام الكفاية خلاف ظاهر الكفاية جدا. مضافا إلى ان الّذي يخطر بالبال فعلا ان الوجه في نفي صاحب الكفاية إجراء البراءة العقلية في مسألة الأقل والأكثر ليس هو الشك في حصول الغرض بدون المشكوك ، فيلزم الإتيان به تحصيلا للغرض ، بل من باب العلم الإجمالي بان متعلق التكليف اما الأقل أو الأكثر وعدم انحلال هذا العلم الإجمالي المانع من جريان البراءة عقلا لعدم كون العقاب بلا بيان بعد وجود العلم الإجمالي. وهذا المعنى كما لا يخفى لا ينطبق على ما نحن فيه ، إذ لا علم إجماليا بل يعلم تفصيلا بعدم أخذ قصد القربة في المتعلق ، فالمسألة في الحقيقة يختلف موضوعا عن مسألة الأقل والأكثر ، لأن متعلق التكليف معلوم الحدّ ولا شك فيه. نعم الأمر يدور بين الأقل والأكثر في مقام الامتثال لا في متعلق التكليف.

والحاصل : ان إجراء أصالة الاشتغال ليس من باب كون المقام من قبيل المسببات التوليدية العبادية ولا من باب لزوم تحصيل الغرض ، بل من جهة أخرى وهي لزوم إطاعة امر المولى. بيان ذلك : انه بعد تعلق الأمر بذات العمل فقط دون قصد القربة ، يشك في ان الأمر هل يسقط بمجرد الإتيان بالفعل أو لا بد من ضم قصد القربة إليه؟. ومنشأ الشك هو الشك في حصول الغرض بدون قصد القربة ، فانه يوجب الشك في سقوط الأمر لأن الأمر معلول للغرض والمعلول تابع لعلته وجودا وعدما. فإذا تحقق الشك في سقوط الأمر لزم الاحتياط تحصيلا للعلم اليقيني بالامتثال والإطاعة ، فانه حكم عقلي مسلم من باب لزوم

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ١٩٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٧٢

إطاعة أمر المولى ، فما ذكره يبتني على أمرين : أحدهما : حكم العقل بوجوب إطاعة امر المولى المعلوم تفصيلا. والآخر : تبعية سقوط الأمر لحصول الغرض لأنه علة ثبوته. فمع الشك في حصول الغرض يشك في حصول الإطاعة فيحكم العقل بلزوم الاحتياط تحصيلا للإطاعة لا من باب لزوم تحصيل الغرض.

وبالجملة : حكم العقل بالاحتياط هنا بعين الملاك الّذي قربنا حكمه فيما تقدم بتحصيل غرض المولى.

ولا يخفى انه لو التزم بالبراءة العقلية في مسألة الأقل والأكثر بدعوى انحلال العلم الإجمالي ، فلا يلتزم بها هنا للعلم التفصيليّ بالمكلف به وعدم الشك في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وانما الشك في الأقل والأكثر بلحاظ مقام امتثال التكليف المعلوم المبين لا في متعلق التكليف كي يكون مجرى البراءة العقلية مع عدم البيان ، كما انه لا تجري البراءة الشرعية ، لأن موضوعها ما يكون قابلا للوضع والجعل شرعا دون ما لا يقبل ذلك كقصد القربة.

وبهذا البيان الظاهر من عبارة الكفاية يظهر انه لو التزم بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق التكليف ، فالأصل العملي هو الاشتغال بلا كلام للزوم العلم بالامتثال.

واما لو التزمنا بإمكان أخذ قصد القربة في متعلق التكليف ، فيكون كسائر الاجزاء والشرائط المشكوكة مجرى لأصالة البراءة فينفي أخذها في المتعلق بالبراءة كما هو الحال في سائر موارد الأقل والأكثر على ما يأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

فخلاصة الكلام في الأصل العملي : انه إذا التزمنا بعدم إمكان أخذ قصد التقرب في متعلق الأمر كان الأصل هو الاشتغال كما عليه صاحب الكفاية ، وإذا التزمنا بإمكان أخذه في متعلق التكليف كان الأصل هو البراءة. فالأصل يختلف باختلاف المبنيين فتدبر.

٤٧٣

الدواعي القربية

وبعد كل هذا لا بأس بصرف الكلام إلى تحقيق ما يتحقق به التقرب وما به قوام العبادة.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في هذا المقام ما حاصله : ان استحقاق المدح والثواب عقلا على شيء يتوقف على أمرين :

الأول : ان ينطبق عنوان حسن بالذات أو بالعرض عليه ، وإلاّ فمجرد المشي إلى السوق لا يمدح عليه العقلاء ما لم يتعنون بعنوان حسن ، حتى إذا جيء به بداعي الأمر لأن الداعي المذكور لا يوجب المدح ما لم يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن.

الثاني : ان يؤتى به مضافا إلى من يستحق من قبله الثواب والمدح ، فان الفعل بدون ارتباطه بالمولى نسبته إلى المولى وغيره على حد سواء. وارتباط الفعل بالمولى تارة : يكون بنفسه كتعظيم المولى. وأخرى : بواسطة الأمر كالصلاة فانها بنفسها لا يمكن ربطها بالمولى ، لأنها ليست من الأفعال المضافة إلى الغير نظير التعظيم.

وعليه ، فالإتيان بالفعل بداعي الأمر يكون موجبا لاستحقاق المدح ، لأنه بذلك يتعنون بما هو حسن في نفسه وهو الانقياد والإحسان مع ارتباطه بالمولى بقصد امره. اما الإتيان به بالدواعي القربية الأخرى كداعي أهلية المولى أو الشكر والتخضع أو المصلحة أو تحصيل الثواب والفرار من العقاب ، فلا يوجب مدحا ولا ثوابا. بيان ذلك :

اما داعي أهلية المولى ، فموضوعه العبادة الذاتيّة ، وهو ما كان حسنا في

٤٧٤

ذاته ، لأن ما لا يكون بذاته حسن لا يكون المولى أهلا له ، وإذا فرض ان مورده هو العبادة الذاتيّة وما هو حسن في ذاته فهو مرتبط ومضاف إلى المولى بذاته ـ لغرض كونه عبادة للمولى ـ ، فلا يكون هذا الداعي موجبا لربطه بالمولى ولا لحسنه ، بل هو في طول الداعي المقرب فيمكن ان يكون بنحو داعي الداعي.

ومثله الكلام في داعي الشكر والتخضع ونحوهما ، فان الإتيان بالفعل بهذه الدواعي يتوقف على كون الفعل بنفسه شكرا وتخضعا كي يؤتى به بهذا الداعي ، إذ لو لم يكن كذلك لا معنى لأن يؤتى به للشكر ، لأنه ليس شكرا ، ومع فرض كونه شكرا في نفسه أو تخضعا فيكون بنفسه ذا عنوان حسن ومرتبطا بالمولى أو منتهيا إلى ما يكون كذلك ، فلا يكون الداعي مقوما للتقرب بل هو في طوله.

واما داعي استحقاق الثواب أو الفرار من العقاب ، فهو أيضا في طول العبادية والتقرب ، لأن الفعل بنفسه لا يوجب الثواب ما لم يكن عباديا وذا عنوان حسن ومرتبطا بالمولى ، ومعه يكون داعي الثواب غير مقوم لاستحقاقه لفرض ان نفس الفعل مؤثر فيه لاجتماع كلا الجهتين فيه. وهكذا الفرار من العقاب ، فانه إذا لم يكن بنفسه موجبا لمنع العقاب لا يتجه الإتيان به بهذا القصد ، ولا يكون الفعل مانعا عن العقاب إلا بكونه حسنا ومرتبطا بالمولى.

واما داعي المصلحة ، فان قصدت المصلحة بما انها فائدة ونفع ، فلا إشكال في عدم كون الداعي مقربا ، إذ لا ارتباط للفعل بالمولى كما انه لا يكون حسنا بمجرد ترتب فائدة عليه. اما إذا قصد الإتيان به بداعي المصلحة بلحاظ انها داعية للمولى إلى الأمر لو لا المزاحمة بالأهم أو غفلته ومن باب رغبة المولى في تحققها ، فيكون مقربا لانطباق عنوان حسن عليه وهو الانقياد وارتباطه بالمولى ، بل الانقياد في هذا الحال أعظم منه في صورة وجود الأمر كما لا يخفى (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٢٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٧٥

هذا محصل كلامه قدس‌سره. ويقع الكلام في جهات ثلاث من كلامه :

الجهة الأولى : فيما أفاده من تقوم استحقاق المدح والثواب على الفعل باشتماله على أمرين العنوان الحسن وارتباطه بالمولى.

وتحقيق الحق فيها : ان الاستحقاق تارة : يراد منه ان يكون للمستحق على غيره حقا في عهدته له المطالبة به ويلزم الوفاء به ممن عليه الحق. كالحق الثابت بالمعاملة البيعية ونحوهما. وأخرى : يراد منه قابلية المستحق لما استحقه وشأنيته ولياقته ، بمعنى انه لو أعطي ذلك ، كان في محله لا ان له حقا لازما في عهدة غيره ، وبعبارة أخرى : يراد بالاستحقاق تارة : انه له حق لازم في العهدة. وأخرى : انه ذو لياقة للحق واستعداد. والمراد به فيما نحن فيه هو المعنى الثاني ، فالكلام في أن العبد بأي فعل يكون لائقا للمدح والثواب ، بحيث إذا مدحه العقلاء يكون المدح في محله ولا يكون ارتجاليا وبدون ما بإزاء ، لا المعنى الأول فانه ليس محل الكلام ، كما يصرح به المحقق الأصفهاني في بعض كلماته.

بملاحظة المعنى الثاني يمكن الجمع بين القول بان الثواب على العمل من باب الاستحقاق والقول بأنه من باب التفضل ، فيراد من الاستحقاق اللياقة للثواب لا لزومه وثبوته في عهدة المولى.

وعلى كل ، فالكلام في ما تتحقق به لياقة العبد للثواب والمدح ولا يخفى انه لا يلزم اشتمال الفعل المحقق لذلك على الأمرين ، بل كونه ذا عنوان حسن كاف في لياقته للمدح من العقلاء ، وذلك فان المكلف إذا جاء بما هو حسن عند العقلاء يكون بنفس هذا الفعل وان لم يربطه بأي جهة ذا لياقة للمدح ، بحيث إذا مدح وجوزي عليه كان ذلك عن لياقة ولا يكون كمن لم يفعل أصلا ، وبما ان الشارع سيد العقلاء ورئيسهم فالعبد يكون لائقا لمدحه الّذي هو الثواب ، وعليه فلا يلزم ان يكون الفعل الحسن مرتبطا بالمولى ، إذ لياقة الجزاء والمدح تتحقق بفعل الحسن سواء أضافه إلى المولى أو لم يضفه. نعم قد يكون الفعل

٤٧٦

بذاته لا يشتمل على عنوان حسن ، وانما يتقوم حسنه بإضافته إلى المولى بالإتيان به بداعي أمره أو بداعي محبوبيته للمولى ، فيستحق العبد الثواب بذلك لكنه غير لزوم إضافته إلى المولى في استحقاق الثواب ، بل من باب انه لا يكون حسنا ـ الّذي هو ملاك الاستحقاق ـ إلا بإضافته لتعنونه حينئذ بعنوان الخضوع والتخشع. ومن هنا يظهر ان البحث مع المحقق الأصفهاني علمي لا عملي ، لأن سائر العبادات الفعلية من صلاة ونحوها ليست بنفسها ذات عناوين حسنه ، بل يتقوم حسنها بإضافتها إلى المولى بالإتيان بها بداعي الأمر ، فاستحقاق الثواب عليها لا يكون إلا مع إضافتها إلى المولى لتقوم حسنها بذلك.

وجملة القول : ان استحقاق الثواب والمدح بمعنى لياقة العبد لهما ـ الّذي هو المقصود بالبحث ـ لا يتوقف إلا على الإتيان بفعل حسن. غاية الأمر ان الحسن قد يتوقف على إضافته للمولى ولكنه لا يعني تقوم الاستحقاق بالإضافة إلى المولى فلاحظ.

الجهة الثانية : فيما أفاده من ان قصد الخضوع والتعظيم ونحوهما يتوقف على ان يكون الفعل في نفسه قابلا لذلك كي يكون ذلك داعيا إليه ، إذ لا يصلح ما لا يكون مترتبا على نفس الفعل ان يكون داعيا إلى الفعل. فانه قد وقع الكلام بالنسبة إلى قصد التعظيم بالفعل مع ان التعظيم لا يتحقق إلا بالقصد وبدونه لا يعد الفعل تعظيما ، وجرى البحث في ان التعظيم هل هو من الأمور الاعتبارية أم انه من الأمور الواقعية؟ وتحقيق هذه الجهة بالنسبة إلى التعظيم ونحوه لا يهمنا فعلا وليس محله هنا ، بل له مجال آخر فنوكله إليه.

الجهة الثالثة : فيما قرره من ان الانقياد الناشئ عن الإتيان بالفعل لاحتمال الأمر أو لملاكه مع عدمه أعظم لدى العقلاء من الانقياد الناشئ عن الإتيان بالفعل للأمر في صورة وجوده. فان هذا الأمر وقع محل البحث في مسألة جواز الاحتياط والامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيليّ التي جزم

٤٧٧

فيها المحقق النائيني رحمه‌الله بعدم جوازه وعدم تحقق الإطاعة به ، لأن الإطاعة التفصيلية مقدمة على الإجمالية واكتفي بهذا المقدار من الدعوى والدليل الّذي هو دعوى محضة أيضا (١). وفي قباله جزم المحقق الأصفهاني رحمه‌الله بجواز الامتثال الإجمالي لأن الانقياد عن احتمال الأمر أعظم من الانقياد عن وجود الأمر.

ولم يحقق البحث بشكل يتضح به أحقية أحد الرأيين ، بل اكتفي سلبا وإيجابا بما يشبه الدعوى. فلا بد لنا من تحقيقه هنا. كما انه لا بد من معرفة موضوع النزاع وما يدور عليه النفي والإثبات واقعا وفي الحقيقة ، فنقول : الكلام ليس في حسن الانقياد فانه ليس من أحد ينكر حسن الانقياد ومقربيته. وانما الكلام في ان الانقياد هل هو من صفات الفاعل فقط والفعل على ما هو عليه في الواقع ، أو انه يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن ويستلزم طرو عنوان الحسن على الفعل المنقاد به؟. فإذا كان الانقياد من صفات الفاعل ولا يسري حسنه إلى الفعل لم يكن الفعل مقربا فلا يتحقق به الامتثال إلاّ إذا كان بذاته حسنا. وإذا كان حسنه يسرى إلى نفس الفعل ويكون الانقياد من عناوين الفعل لا من صفات الفاعل يكون نفس الفعل مقربا فيتحقق به الامتثال والإطاعة. ومثل هذا الكلام يجري بالنسبة إلى التجري ، فيقال ان التجري القبيح من صفات الفاعل أو انه من العناوين المنطبقة على الفعل فيكون نفس الفعل قبيحا؟. كما يجري نظيره في التشريع ، فيقال انه هل ينطبق على نفس الفعل فيكون الفعل محرما ولذا يفسد إذا كان عبادة ، أو لا ينطبق عليه بل هو من صفات الفعل فلا يكون الفعل بنفسه محرما.

وبالجملة : فيقع البحث في ان الانقياد من صفات الفاعل أو من صفات

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٦ ـ الطبعة الأولى.

٤٧٨

الفعل وعناوينه المتقومة به ، ولا بد من تحقيق هذه الجهة. ولا يخفى ان الشك في ذلك يقتضي بعدم جواز الانقياد في مقام الامتثال للشك في تحقق الامتثال به مع الشك في هذه الجهة. وعلى كل ..

فالحق : ان الانقياد من صفات الفاعل وموجب لحسن الفاعل لا الفعل ولا ينفك الفعل المنقاد به عن عنوانه المبغوض لو كان في نفسه كذلك. والسر في ذلك : انا نرى بالوجدان ان الفعل قد يكون مبغوضا فعلا مع تحقق الانقياد به ، فلو كان الانقياد من صفات الفعل لزم ان يكون الفعل حسنا ، وهو لا يجتمع مع المبغوضية الفعلية. ومن هنا يقال انه لو صلى في الدار المغصوبة جهلا ـ بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الحرمة ـ لم تصح صلاته لأنها مبغوضة في حال الإتيان بها ، مع أنه يؤتى بها بقصد الإطاعة ، فلا تكون مقربة.

وبالجملة : تحقق الانقياد بالفعل المذموم والمبغوض في نفسه بالفعل امر لا إشكال فيه ويشهد له ملاحظة الأمثلة العرفية الكثيرة ـ فلو ضربك شخص بداعي الاحترام لتخيل ان هذا مصداق الاحترام ، فان الضرب لا يخرج بمقارنته للداعي المذكور عن المبغوضية لديك ـ ولو كان حسن الانقياد يسري إلى الفعل كان الفعل المنقاد به ممدوحا ومرغوبا فيه لا مبغوضا. فالحق ان الانقياد من صفات الفاعل لا الفعل.

ومن هنا يكون الاحتياط من باب الانقياد غير مجز وليس بموجب للامتثال ، سواء كان الامتثال التفصيليّ ممكنا أو لم يكن ممكنا ، فلا يكون الاحتياط في عرض الامتثال التفصيليّ ، كما لا يكون في طوله أيضا لعدم كون الفعل به مقربا.

إلا ان يدعى : بان الاكتفاء به مع عدم التمكن من الامتثال التفصيليّ ، لإلزام العقل به بعد دوران الأمر بينه وبين الإتيان بالفعل بداع آخر غير موجب للحسن الفاعلي ولا الفعلي ، والإتيان بالفعل لا بأي داع لأنه أفضل الافراد ، إذ

٤٧٩

يرى العقل انه مع التمكن من الإتيان بالفعل المأمور به جزما فلا أقل من الإتيان بما يوجب الحسن الفاعلي والقرب من جهة الفاعل. فان الانقياد من جهة الحسن الفاعلي أعظم من الإطاعة ، لأنه يكشف عن زيادة قرب العبد من المولى وكونه في مقام العبودية بنحو أشد وآكد.

وبالجملة : الاكتفاء بالاحتياط مع عدم التمكن من الامتثال التفصيليّ لأجل انه أيسر الافراد المقربة ـ ولو فاعليا لا فعليا ـ وأفضلها.

ولكن التحقيق هو صحة الاحتياط مطلقا حتى مع التمكن من الامتثال التفصيليّ ، لكن لا بملاك الانقياد بل بملاك الإطاعة والموافقة. بيان ذلك : ان الأثر في كفاية الاحتياط في مقام الامتثال والثمرة إنما يظهر في مورد يكون الأمر المحتمل ثابتا في الواقع. فيقال : ان الامتثال الإجمالي هل يكفي في إطاعته وسقوطه أم لا؟. اما مع عدم وجوده واقعا فلا أثر للكلام في الاكتفاء بالاحتياط لعدم موضوع الاكتفاء وهو الأمر الواقعي.

وعليه ، فلما كان الاحتياط عبارة عن الإتيان بهذا الفعل بداعي موافقة الأمر الواقعي وامتثاله على تقدير وجوده واقعا ، فإذا فرض ان الأمر الواقعي موجود واقعا فقد تحقق الإتيان بالفعل بداعي موافقته ، لأن المفروض انه علق هذا المعنى وهو الإتيان بالفعل بداعي موافقة الأمر الواقعي على تقدير حاصل ، وهو وجود الأمر واقعا ، وإذا وجد المعلق عليه يحصل المعلق قهرا طبعا ، وقد علمت ان المعلق هو الفعل بداعي موافقة الأمر الموجود واقعا.

وبالجملة : المعتبر هو الإتيان بالفعل بداعي الموافقة ، وقد تحقق عن قصد واختيار لأنه قصد بنحو التعليق وفرض حصول المعلق عليه ، ـ وهذا نظير ما لو قصد تعظيم شخص إذا كان زيدا ، فظهر انه زيد فانه يقال انه عظم زيدا ، لأنه قصد تعظيمه وان لم يعلم بذلك ، لكنه قصد معلقا وقد ثبت المعلق عليه ـ. ولا يخفى ان الفعل بذلك يكون حسنا ومقربا لأنه يتعنون بعنوان موافقة الأمر

٤٨٠