منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الوضع

٤١
٤٢

الوضع

والكلام فيه يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في حقيقة الوضع. وقد اختلف فيها المحققون ، فقيل : انه أمر واقعي تكويني (١). وقيل : انه أمر وسط بين التكويني. والجعلي وبرزخ بينهما (٢). وقيل : انه أمر جعلي ويتفرع أقوال أربعة :

الأول : انه عبارة عن جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى واعتباره بينهما (٣).

الثاني : انه عبارة عن جعل اللفظ على المعنى (٤).

الثالث : انه عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى.

الرابع : انه عبارة عن التعهد ، والبناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى الخاصّ (٥).

فالأقوال على هذا ستة.

__________________

(١) وهو مذهب عباد بن سليمان الصميري وأصحاب التكسير على ما في قوانين الأصول ١ ـ ١٩٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٠ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٤ ـ الطبعة الأولى.

(٥) وهو لملاّ علي النهاوندي في كتابه تشريح الأصول كما في محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٤٨.

٤٣

والّذي يمكن ثبوتا من هذه الأنحاء المتعددة هو القول الأخير والثالث ، أعني : « كونه عبارة عن اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى ، وكونه عبارة عن التعهد والالتزام » ومقام الإثبات دائر بينهما.

أما الأنحاء الأخرى فلا يتصور لها معنى معقول يمكن فرضه إثباتا.

ولا بد في وضوح ذلك من معرفة حقيقة كل نحو والمراد منه وبيان جهة المناقشة فيه.

أما القول الأول : أعني القول بأنه أمر حقيقي تكويني واقعي ، فلا بد في معرفة أنحائه والمناقشة فيها ، من بيان المراد من الأمر الحقيقي والأمر الجعلي ، فنقول : المراد بالحقيقي التكويني ، ما كان له نحو ثبوت في نفس الأمر والواقع بلا ارتباط بجعل جاعل وفرض فارض ، بل هو ثابت ولو لم يكن جاعل ويقابله الأمر الجعلي ، فان ثبوته يتقوم بجعل الجاعل من دون ان يكون له تقرر في نفس الأمر.

ويترتب على هذا ان اختلاف الأنظار في ثبوت الأمر الحقيقي لا يوجب تغيرا في ثبوته ولا يستلزم التبدل فيه ، بل هو على ما هو عليه من التقرر والثبوت ، والاختلاف المذكور يرجع إلى تخطئة كل من المختلفين للآخر في نظره وعلمه بثبوته أو عدم ثبوته ، ولا يضير اعتقاد عدم ثبوته فيه ، بل يكون كما كان بلا تغير ولا تبدل ، بخلاف اختلافه في الأمر الجعلي ، فانه يرجع إلى اعتباره وعدم اعتباره ، فيوجب تبديلا فيه ويكون ثابتا بالنسبة إلى بعض وغير ثابت بالنسبة إلى آخرين ولا يرجع إلى التخطئة في النّظر ، إذ هو موجود مع فرض تسليم ثبوته بالنسبة إلى الجاعل والمعتبر. نظير ما لو اعتبر قوم شخصا رئيسا لهم ولم يعتبره آخرون واعتبروا غيره رئيسا ، فان اختلاف النّظر في الرئيس لا يرجع إلى تخطئة كل الآخر في دعواه ، إذ لا واقع للرئيس غير الاعتبار ، وانما يرجع إلى الاختلاف في الاعتبار والجعل وذلك يستلزم ان يكون الرئيس لكل غيره للآخر لعدم

٤٤

اعتباره رئيسا عليهم.

فاللازم الظاهر الّذي يختلف فيه الأمر الحقيقي التكويني مع الأمر الجعلي الاعتباري ، هو ان اختلاف النّظر في الأمر الحقيقي لا يوجب تغيرا فيه ، بل هو على واقعه واختلافه في الأمر الجعلي يوجب تبدله وتغيره.

وبعبارة جامعة : ان الأمور الاعتبارية تختلف باختلاف الأنظار دون الأمور الواقعية الحقيقية ، فانها لا تختلف باختلاف الأنظار ، وان اختلفت فيها الأنظار.

ثم ان الأمور الحقيقية على نحوين :

الأول : ما يكون لها وجود في الخارج ، ويعبر عنه بما يكون الخارج ظرفا لوجوده ، وهي المقولات العشر الجوهر والاعراض التسعة.

الثاني : ما لا وجود له منحازا ولا ما بإزاء ، ويعبر عنه بما يكون الخارج ظرفا لنفسه كالملازمات العقلية ، فان الملازمة بين شيئين من الأمور الحقيقية التي لها تقرر في نفس الأمر ولا ترتبط بجعل جاعل ، إلاّ انه لا وجود لها في الخارج ينحاز عن وجود المتلازمين.

إذا عرفت هذا فنقول : ان المراد من كون الوضع والارتباط الخاصّ بين اللفظ والمعنى من الأمور الحقيقية.

إن كان انه من النحو الأول الّذي له وجود في الخارج ، فهو ممتنع. إذ قد عرفت ان ما يكون بهذا النحو لا يخرج عن المقولات العشر وليس الارتباط من أحدها ، أما عدم كونه من الجواهر فبديهي ، إذ لا وجود لشيء بين اللفظ والمعنى من قبيل الجسم ونحوه من الجواهر كي يعبر عنه بالارتباط.

وأما عدم كونه من المقولات العرضية ، فلأن وجود المقولات يتقوم بالموجودات ، بمعنى انه لا وجود لها الا في ضمن الموجود ، والمفروض ان الارتباط المدعى كونه من الأمور الحقيقية انما هو بين طبيعي اللفظ والمعنى ، لا بين اللفظ

٤٥

الموجود والمعنى ، لأن استعمال اللفظ متأخر عن الوضع وثبوت الارتباط بينه وبين المعنى ، ووجود اللفظ انما يكون بالاستعمال ، فالارتباط المدعى حاصل قبل وجود اللفظ ، لأنه ثابت قبل الاستعمال ولو لم يحصل الاستعمال بعد ، وهذا يعني انه ليس من نسخ الاعراض ، وإلا لكان ثبوته متوقفا على وجود اللفظ ـ وإلى هذا الإشكال أشار المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (١) ـ.

وان كان انه من النحو الثاني الّذي لا وجود له ، بل ليس له إلاّ التقرر في نفس الأمر والواقع ، فان ادعى انه من الأمور الواقعية التي لا دخل لجعل للجاعل في ثبوتها أصلا ، كالملازمات لثبوتها في نفسها ، سواء اعتبرها المعتبر أو لم يعتبرها ، وبذلك تكون من الموجودات الأزلية. إذا ادعى ذلك فهو واضح البطلان ، لوضوح وقوع النقل في الألفاظ الموضوعة لبعض المعاني الموجب لتحديد العلقة الوضعيّة والارتباط الخاصّ بين اللفظ والمعنى وتبديل أحد طرفيه وهو المعنى ، وهذا ينافي واقعية الارتباط وذاتيته بنحو لا تمسه يد الجاعل ولا تصل إليه. ألا ترى ان الملازمة بين وجود الزوجية ووجود الأربع خارجا من الأمور التي لا تتغير ولا تتبدل ، بل هي متقررة ولو لم يعتبرها معتبر ، وهكذا الملازمة بين تعدد الآلهة ووجود الفساد ، فانها ثابتة من دون أن تتغير بالاعتبار ، بل من دون ان يكون للاعتبار دخل في ثبوتها؟ وان ادعى انها من الأمور الواقعية المنتهية إلى الجاعل ، بمعنى ان ثبوتها الحقيقي كان بسبب الجعل لا بحسب ذاتها ، فهو معنى معقول ولا يرد عليه النقض السابق ، لفرض كون ثبوته الواقعي بالجعل ، فمع إلغائه وجعل نحو آخر من الارتباط تتبدل العلقة لا محالة. إلاّ ان هذه الدعوى لا شاهد عليها ولا برهان ، فالقائل بها مجازف.

وقد نسبت هذه الدعوى ـ في تقريرات بحث السيد الخوئي (٢) ـ إلى

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٤١ ـ الطبعة الأولى.

٤٦

المحقق العراقي قدس‌سره وأورد عليه بما ستعرفه.

إلاّ أن الإنصاف يقضي بان نظر المحقق العراقي يمكن ان يكون إلى جهة أخرى ، وهي أن الوضع أمر اعتباري إلاّ انه يختلف عن الأمور الاعتبارية الأخرى ، بان ما يتعلق به الاعتبار يتحقق له واقع ويتقرر له ثبوت واقعي كسائر الأمور الواقعية. فهو يختلف عن الأمور الواقعية ، من جهة انه عبارة عن جعل العلقة واعتبارها. ويختلف عن الأمور الاعتبارية ، بان ما يتعلق به الاعتبار لا ينحصر وجوده بعالم الاعتبار ، بل يثبت له واقع في الخارج.

توضيح ذلك : ان الملازمة بين الماهيتين والطبيعتين كالملازمة بين طبيعتي النار والحرارة ، كما يكون بلحاظ اشتمال كل من الماهيتين في وجودها الخارجي على خصوصية توجب عدم انفكاك وجود إحداهما خارجا عن وجود الأخرى بين النار والحرارة في الوجود الخارجي ، كذلك تحصل بالملازمة بين الوجود الذهني لإحداهما ووجوده للأخرى وعدم الانفكاك بينهما في عالم الذهن ، كما إذا كان تصور إحداهما لا ينفك عن تصور الأخرى كما يقال في العمى والبصر فان تصور العمى لا ينفك عن تصور البصر.

فكما ينتزع عن عدم الانفكاك بين الوجودين الخارجيين والملازمة بينهما الملازمة بين نفس الماهيتين الموجودتين ، كذلك ينتزع ذلك عن عدم الانفكاك بين الوجودين الذهنيين. وهذه الملازمة لها تقرر في نفس الأمر وثبوت واقعي لا تصل إليه يد التغيير والتبديل.

وعليه ، فالمدعى ان الجاعل اعتبر مفهوم الملازمة والعلقة بين اللفظ والمعنى ـ كما هو شأن كل جعل ، فانه يتعلق بالمفاهيم ـ ، وقد نشأ من اعتبار هذه الملازمة ملازمة حقيقية واقعية بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى ، بلحاظ ان ذلك الاعتبار أوجب عدم انفكاك العلم بالمعنى وتصوره عن العلم باللفظ وتصوره ، وتلازم الانتقال إلى المعنى مع الانتقال إلى اللفظ وهذا ، يعني حدوث ملازمة واقعية

٤٧

بين اللفظ والمعنى.

ولم تبق الملازمة رهينة وحبيسة في عالم الاعتبار ، إذ نشأ منها واقع له ثبوت حقيقي. فاختلف الوضع بهذا عن غيره من الأمور الاعتبارية ، إذ المعتبر فيها لا يخرج عن عالم الاعتبار والجعل.

ثم ان هذا قد يكون مورد التساؤل ، فانه لو كان الناشئ من اعتبار الملازمة ملازمة حقيقية ذاتية مرجعها إلى عدم انفكاك تصور اللفظ عن تصور المعنى ، لزم ان لا يختص في فهم معاني الألفاظ أهل اللغة الموضوع فيها تلك الألفاظ ومن يعلم الوضع ، إذ الاختصاص خلف فرض الملازمة ، ولا إشكال في وقوعه ، بداهة عدم علم كل إنسان بلغات العالم بأجمعها.

لذلك نبّه عليه في كلامه ، والتزم بتخصيص المجعول وتقييده بمورد العلم بالجعل ، بمعنى : ان الجاعل يجعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في صورة العلم بهذا الجعل ، بنحو يكون العلم قيد المجعول لا قيد الجعل ، كي يقال : بان أخذ العلم بالشيء في موضوع نفسه محال. وذلك ـ أعني أخذ العلم بالجعل قيدا للمجعول ـ أمر ممكن لا محذور فيه ، كما يقرر في بحث التعبدي والتوصلي.

وعليه ، فاختصاص تحقق الملازمة المزبورة بمن يعلم بالوضع والجعل ، انما هو لتقييد المجعول به وقد عرفت انه منشأ الملازمة الواقعية ، فتقييده يستلزم تقييدها.

فدعوى المحقق العراقي تتلخص في ضمن أمور :

الأول : أن الوضع عبارة عن امر اعتباري ، وهو جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى.

الثاني : انه ينشأ من هذه الملازمة الاعتبارية ملازمة حقيقية ، وبذلك يختلف الوضع عن غيره من الاعتباريات.

الثالث : ان المجعول مقيد بصورة العلم بالجعل.

٤٨

وظاهر ان هذه الدعوى لا محذور فيها ثبوتا ولا إثباتا ، فتتعين لو كان غيرها ممتنعا ، وسيتضح الحال شيئا فشيئا فانتظر.

ومن هذا البيان يظهر الإشكال في كلام السيد الخوئي من جهات :

الأولى : نسبته القول بان الوضع أمر واقعي حصل بالجعل إلى المحقق العراقي ، مع انه غير ظاهر من كلامه ، بل الظاهر خلافه ، وحدوث الملازمة الواقعية لا يستلزم واقعية الوضع ، إذ المجعول رأسا ليس هو هذه الملازمة ، بل مفهومها.

الثانية : الترديد في الإيراد عليه ، بين ان يكون اختياره حدوث الملازمة مطلقا بلا تقييد بالعلم بالجعل ، وان يكون اختياره حدوثها في صورة العلم إذ لا وجه لهذا الترديد بعد ان عرفت ان المحقق المزبور قد تنبه للإشكال وقيد حدوث الملازمة بصورة العلم ، فلا إجمال في كلامه من هذه الجهة كي يكون مجال الترديد.

الثالثة : الإشكال عليه بعد فرض اختياره الشق الثاني من شقي الترديد أعني اختصاص حدوث الملازمة بصورة العلم بالوضع ، بان الأمر وان كان كذلك إلاّ انها ليست بحقيقة الوضع ، بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة ، ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي ترتبت عليها الملازمة.

فان هذا الإشكال مندفع بما عرفت ، من عدم ادعاء المحقق المزبور كون هذه الملازمة هي حقيقة الوضع ، بل ما ذكره ـ كما أوضحناه ـ ظاهر في انها نتيجة الوضع وأثره فلاحظ وتدبر.

واما القول الثاني : ـ أعني : القول بان الوضع برزخ بين الواقعي والجعلي ـ ، فهو الّذي ذهب إليه المحقق النائيني كما في تقريرات بحثه (١).

وتقريب ما ذكره : انه لما لم يكن واضع الألفاظ لهذه المعاني من البشر

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٩

لجهتين : إحداهما : ـ وهي ترتبط بمقام الثبوت ـ هو ان الألفاظ المتداولة الموضوعة لمعانيها بحد من الكثرة يمتنع عادة ان يوجد من البشر من يستطيع لحاظها جميعا بمعانيها ووضعها لها ، مع ان الوضع يتوقف على لحاظ كل من اللفظ والمعنى. والأخرى : ـ وهي ترتبط بمقام الإثبات ـ هي ان عملية الوضع المذكورة لو سلم إمكانها من الأمور المهمة ، والحوادث الجليلة التي تستدعي انتباه الناس وتداول ذكرها من ألسنتهم ومعرفة من قام بها ، فلو كان لها أثر في الخارج لسجلت في أمهات الكتب كما تسجل الحوادث التي هي أقل منها شأنا ولتناقلتها الألسن في مختلف الدهور ، مع ان الأمر ليس كذلك ، إذ لم يجئ في خبر ان شخصا قام بهذا العمل الجبار ، وهو يكشف عن عدم وقوعه من أحد.

وعليه ، فينحصر ان يكون الواضع هو الله جل وعلا ، ويكون الوضع من مجعولاته واعتباراته جلّ شأنه. إلا انه جرت العادة ان يكون إيصال المجعولات الشرعية إلى البشر بواسطة الرسل والأنبياء ، وحيث انه لم يثبت ان رسولا ما أخبر عن الله تعالى بوضع لفظ خاص لمعنى خاص كان إدراك هذه الحقيقة الثابتة بالإلهام لا بالتبليغ ، فالوضع ليس بالأمر التكويني الواقعي ، لأنه من اعتبارات الله عزّ وجل ومجعولاته وليس مما يحتاج إلى جعل ، كما انه ليس كسائر الأمور الاعتبارية ، لأن إيصالها بواسطة الرسل ، مع انه إيصاله بالإلهام ، فهو بهذا اللحاظ برزخ بين الأمر الحقيقي والجعلي.

وظاهر ان الإيراد على الوسطية المزبورة ، بأنه لا يتصور وجود أمر وسط بين الواقعي والجعلي ، لأن الأمر إما ان يكون له ثبوت وتقرر في نفس الأمر والواقع ، بحيث لا تصل إليه يد الجعل ولا يختلف باختلاف الأنظار ، فهو واقعي ، أولا يكون كذلك ، بل كان أمرا دائرا مدار الجعل ويختلف باختلاف الأنظار ، فهو اعتباري جعلي ولا وسط بينهما ، إذ لا ثالث بين النفي والإثبات.

غير وجيه : فان المحقق المزبور لم يدع ان حقيقة الوضع حقيقة ثالثة

٥٠

ليست بواقعية ولا جعلية وان الوضع وسط بين الواقعي والجعلي في حقيقته ، إذ التزم بأنه امر اعتباري بيد الشارع. وانما الدعوى كونه وسطا بلحاظ عدم ترتب الآثار العادية المترتبة على الاعتباريات الشرعية عليه فهو وسط من حيث اللوازم والآثار لا من حيث الحقيقة كما توهم.

إلاّ ان الّذي يرد عليه قدس‌سره في جهات كلامه الأخرى ظاهر ، وبيانه :

أما ما ذكره من المانع الثبوتي لكون الواضع من البشر ، فلأنه انما يتم لو التزم بان وضع الألفاظ لا بد وان يكون دفعة واحدة ، وهو غير مسلم إذ الوضع إنما يحتاج إليه لحصول التفهيم والتفاهم بين الافراد في أمورهم الاجتماعية ، والحاجة إلى الألفاظ الموضوعة تختلف سعة وضيقا باختلاف المحيط والمجتمع كما انها تزداد بمرور الزمن وكثرة الموارد المألوفة المتداولة في ما بين الافراد.

وعليه ، فوضع هذه الألفاظ للمعاني لم يكن بنحو دفعي ، بل بنحو تدريجي حسب ما يتطلبه كل زمن من سعة ما يتفاهم به ، كما انه لم يكن شخصيا ، بل كان عاما. فوضع أولا قسم من الألفاظ لقسم من المعاني ، ثم حصلت الحاجة لوقوع التفاهم ببعض المعاني الأخرى فوضع لها بعض الألفاظ وهكذا كما ان هذا المجتمع يضع هذه الألفاظ لهذه المعاني وغيره يضع غيرها لمعاني أخرى لاختلاف حاجتهم وتنوعها.

وظاهر ان المحذور المذكور لا يتأتى في مثل هذا النحو.

ومن هنا يتضح الإشكال في الوجه الإثباتي ، فانه مجد في فرض دعوى وحدة الواضع وانفراده دون فرض دعوى عدم تعينه بشخص دون آخر ولا مجتمع دون غيره ولا زمان دون زمان ، إذ مثل هذا العمل لم تجر العادة بتسجيله والتنبيه عليه من الوضع التاريخ. بل لعله يكون مستهجنا في عرفهم.

واما ما ما ذكره من كون الوضع من الله ، وإن إيصاله يكون بالإلهام ـ بعد

٥١

تسليم كونه ممتنعا في حق البشر ـ ، فلأن إلهام المتكلم الأول تحقق الوضع وان معنى هذا اللفظ هو هذا المعنى لا يجدي بمجرده في حصول التفاهم ما لم يعلم المخاطب بذلك ، فيدور الأمر بين أحد ثلاثة : اما ان يلهم المخاطب أيضا بذلك بلا ان يحتاج تفهيمه إلى تنبيه. أو يلهم المستعمل عملية الوضع فيضع. أو يلهم المستعمل فيخبر بتحقق الوضع.

والأول : باطل ، إذ من البديهي ان المخاطب لا يتمكن من فهم معنى اللفظ بلا تنبيه سابق.

والثاني : خلف فرض كون الواضع هو الله تبارك وتعالى.

والثالث : ممنوع التحقق ، إذ لم يعهد من المستعمل الأول الاخبار بالوضع منه تعالى.

وهذا مضافا إلى ان ما ذكره خلاف الضرورة في مثل وضع الاعلام ، إذ من البديهي ان وضعها من قبل البشر ، وانه لا يعبر عن الذات بأي لفظ قبل وضع شخص لفظا لها.

ثم انه قدس‌سره بعد ان قرر كون الواضع هو الله تعالى ، أفاد بان قضية الحكمة البالغة كون وضع اللفظ الخاصّ للمعنى الخاصّ ، انما هو لمناسبة ذاتية بينهما ، وغاية ما يقرب به ذلك : بأنه مع عدم المناسبة لم يكن وجه لوضع خصوص هذا اللفظ دون غيره فوضعه ترجيح بلا مرجح وهو محال.

وأورد عليه : بان المحال هو الترجح بدون المرجح كوجود المعلول بدون العلة ، لا الترجيح بدون المرجح لا مكان تساوي الافراد في تحصيل غرض واحد مطلوب ، كتساوي الرغيفين من الخبز في الإشباع ، فيؤتى بأحدها تخييرا لحكم العقل بالتخيير حينئذ وإلاّ لزم فوات هذا الغرض ، إذ مقتضى محالية الترجيح بلا مرجح فواته مع تساوي الدخيل فيه من جميع الجهات ، بل عدم إمكان الإتيان بواحد مما له دخل فيه ـ كما هو مقتضى المحالية ـ ، مع انه خلاف الوجدان

٥٢

والعقل لإمكان الإتيان بأحدهما بداهة ، كما انه لا وجه لتفويت الغرض المطلوب.

وثبوت هذا الإيراد وعدمه موكول إلى محله من محالية الترجيح بلا مرجح وعدمها.

فالإيراد الجزمي عليه قدس‌سره فيما أفاده هو : ان مقتضى محالية الترجيح بلا مرجح لزوم جهة ما في المرجح تصلح للترجيح ، سواء كانت ذاتية فيه أو غير ذاتية ، فلا وجه للحكم بوجود مناسبة ذاتية بين اللفظ والمعنى ، مع انه يمكن ان يكون الترجيح ووضع خصوص هذا اللفظ لجهة خارجة عن واقع اللفظ والمعنى ترتبط بعالم المصالح والمفاسد الخارجية فلاحظ. والنتيجة الحاصلة مما ذكرناه : انه لا يعلم لما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره وجه محصل فتدبر.

وبذلك يعلم ان الوضع ليس من الأمور الحقيقية الواقعية ، ولا وسطا بين الحقيقي والاعتباري بالمعنى الّذي قرره المحقق النائيني ، بل من الأمور الاعتبارية المحضة التي تختلف باختلاف الاعتبارات والأنظار. فيدور الأمر بين الاحتمالات الأربعة المزبورة ، وقد عرفت تقريب كلام المحقق العراقي بما يمكن إرجاعه إلى الأول وسيأتي تحقيقه ، فيقع الكلام في الاحتمال الثاني ، وهو كون الوضع جعل اللفظ على المعنى ، وقد التزم به المحقق الأصفهاني (١).

وقد مهد لكلامه تمهيدا ، وهو وان لم يرتبط بالنتيجة التي ذكرها الا اننا نذكره لما يترتب عليه من أثر فيما بعد ، وذلك في مبحث الإنشاء ، حيث قيل ان معنى الإنشاء تسبيب إلى جعل الشارع واعتباره ، ومقتضى هذا عدم كون الوضع من المعاني الإنشائية ، لأنه اعتبار مباشري كما تلاحظ.

وهو : ان الأمور الاعتبارية ما لا واقع لها ولا ثبوت الا في عالم الاعتبار ، بحيث لا يخرج المعنى المعتبر عن مفهوميته وطبيعته ، ولا يوجد في الخارج وانما

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٤ ـ الطبعة الأولى.

٥٣

ينسب الوجود له باعتبار صيرورته طرفا لاعتبار المعتبر.

وهذه الأمور الاعتبارية تارة تكون من الأمور التسبيبية ، بمعنى ان المنشئ والمعتبر لا يقصد حصول الأمر الاعتباري بمجرد اعتباره ، بل يقصد التسبيب بهذا الإنشاء إلى الاعتبار العقلائي أو الشرعي أو غيرهما. وذلك كالملكية ونحوها من الاعتبارات الشرعية ، فان الملكية توجد في عالم الاعتبار من الشارع مباشرة ، بمعنى ان من يتولى الاعتبار هو نفسه ومن المتعاقدين بالتسبيب. وأخرى تكون من الأمور المباشرية ، بمعنى ان المعنى المعتبر يحصل بنفس اعتبار الفرد لا باعتبار العقلاء أو الشارع وكان الفرد بإنشائه سببا لذلك.

ومن النحو الثاني الاختصاص الوضعي ، فانه لا يحتاج في وجوده الا إلى اعتبار الواضع والاعتبار ، كما هو واضح قائم في نفس المعتبر بالمباشرة لا بالتسبيب ، وان توقف اثره في بعض الأوضاع على إمضاء العقلاء أو مشاركتهم له فيه ، لكنه لا بنحو يكون وضعه تسبيبا لاعتبارهم ، بل يكون حاصلا بوضعه واعتباره مباشرة ولا يتوقف تحقق الاختصاص في عالم الاعتبار على الاعتبار العقلائي ، بحيث يكون اعتبار الفرد تسبيبا له كتسبيب المتعاقدين لاعتبار الملكية.

وبعد هذا أفاد : « بأنه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية دلالة سائر الدوال ، كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ ، فانه أيضا ينتقل من النّظر إليه إلى ان هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر ان الوضع فيه حقيقي وفي اللفظ اعتباري ، بمعنى كون العلم موضوعا على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر ، بخلاف اللفظ فانه كأنه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص » (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٤ ـ الطبعة الأولى.

٥٤

والنكتة التي تظهر لنا من عبارته الواضحة هي : انه مع اتحاد سنخ دلالة اللفظ على المعنى مع سنخ دلالة سائر الدوال على مدلولاتها ، فلا مفرق حقيقي بينهما إلاّ ان الجعل والوضع في سائر الدوال حقيقي واقعي دونه في اللفظ ، فانه جعلي واعتباري ، فالفرق لا بد وان ينحصر بين هذين في هذه الجهة فقط.

وقد أورد عليه السيد الخوئي بوجهين :

أحدهما : أن هذا المعنى من المعاني الدقيقة للوضع التي لا يلتفت إليها العرف في أوضاعهم ، فلا يتناسب مع كون الوضع من الأمور العرفية التي يتولاها افراد العرف.

ثانيهما : أن ما ذكره يقتضي ان يكون التعبير عن المعنى بالموضوع عليه لا بالموضوع له ، مع ان المتداول التعبير بالثاني دون الأول ، بل ادعاء عدم صحة الأول غير مجازفة (١).

ولا يخفى ان كلا الوجهين غير واردين :

أما الأول : فلأنه ينقض بكثير من الأمور العرفية التي قام الخلاف فيها على قدم وساق كالخبر والإنشاء ، فان استعمال العرف للجمل الخبرية والإنشائية مما لا يخفى ، مع ان الخلاف في معنى الإنشاء والخبر مما لا ينكر ، وهكذا الكلام في معاني الحروف ، فان استعمال العرف للحروف أكثر من ان يحصى ، مع وقوع الخلاف في معنى الحرف ودورانه في كلام القوم بين المعاني الدقيقة التي قد لا يصل إلى مداها الاعلام فضلا عن افراد العرف ، فهذا دليل على ان كون المعنى من الأمور الدقيقة لا يتنافى مع كونه عرفيا. بل التعهد الّذي التزم به من أدق ما ذكر للوضع من معان كما ستعرف ، للاختلاف في تحديده والتعبير عنه. والسر في ذلك الّذي يكون حلا للجميع : هو ان لهذه الأمور معان عرفية ارتكازية ،

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٥٥

والخلاف والنزاع انما هو في تفسير ذلك المعنى والكشف عنه وتحديده بنحو جامع مانع ، والدقة في هذا المقام لا في نفس المعنى كي يدعى عدم إدراك العرف ووصوله إليه.

وأما الثاني : فلان ما أفاده المحقق المزبور لا ينافي صحة التعبير عن المعنى بالموضوع له ، باعتبار ان اللفظ انما وضع على المعنى للدلالة على المعنى والانتقال إليه عند ذكر اللفظ ، فالمقصود من كون المعنى موضوعا له انه قد وضع اللفظ للدلالة عليه فاللام بمعنى الغاية. فالمعنى بهذا البيان موضوع عليه وموضوع له ، والتعبير عنه عادة بالموضوع له ، انما هو لأجل كون الغرض من الوضع هو إفادة المعنى والدلالة عليه باللفظ ، ونفس الوضع ملحوظ طريقا إلى هذه الجهة كما لا يخفى. ولكنه مع هذا يصح التعبير عنه بالموضوع عليه بلحاظ جهة نفس الوضع ولا محذور فيه.

فالأولى ان يورد على المحقق الأصفهاني :

أولا : بان الموضوع عليه في سائر الدوال غير المنكشف ، بخلافه في اللفظ. فان العلم انما يوضع على نفس المكان ووجوده كذلك يكون كاشفا عن ان هذا المكان رأس فرسخ. وبعبارة أخرى : ان المكان بوضع العلم عليه يتصف بوصف وهو كونه موضوعا عليه العلم ، وهو بهذا الوصف يكشف عن صفة أخرى فيه كانت مجهولة وهو كونه رأس فرسخ ، وليس الموضوع عليه المكان بوصف كونه رأس فرسخ ، لأن هذا الوصف وصف عنواني لا مدخلية له في تحقق الوضع ، بل الوضع يتقوم بذات المكان ، وهذا بخلاف اللفظ فان الموضوع عليه اعتبارا نفس المعنى والمنكشف به هو نفس المعنى أيضا ، وعليه فلا ينحصر الفرق بين الألفاظ وسائر الدوال بما ذكره ، بل هذا وجه فارق أيضا.

وثانيا : وهو العمدة ، بان الوضع التكويني الواقعي لا يقتضي دلالة الموضوع على الموضوع له بنفسه ، وإلاّ للزم ان يكون كل علم دالا على رأس

٥٦

فرسخ وهو بديهي المنع. وانما يتوقف أيضا عن سبق بناء وقرار على جعل العلم على رأس فرسخ ، فتحصل الدلالة بسبق هذا القرار والبناء.

وعليه ، فالوضع الاعتباري الجعلي أولى بعدم انتهائه إلى دلالة اللفظ على المعنى بنفسه وتوقفه على سبق القرار والبناء على دلالة اللفظ على المعنى عند الوضع. وإذا انتهى الأمر إلى اعتبار الدلالة وجعلها وعدم كفاية مجرد الوضع تكوينا أو اعتبارا ، فيقتصر عليه ولا احتياج إلى وضع اللفظ على المعنى اعتبارا.

وأما الاحتمال الثالث : فغاية تصويره ، أن اللفظ يعتبر ويجعل وجودا آخر للمعنى في قبال الوجود الحقيقي الواقعي له. وقد اختلف التعبير عن هذا المعنى ، فعبر عنه تارة باعتبار اللفظ نفس المعنى وأخرى بتنزيله منزلة المعنى وجعله وجودا تنزيليا له.

وقد ذكر لهذا الوجه مؤيدات وشواهد لا يهمنا البحث عنها قبل معقولية هذا المعنى وإمكانه ثبوتا ، فان البحث عن المؤيدات الإثباتية فرع الإمكان الثبوتي ، فلا بد من وقوع البحث أولا عن معقوليته.

وقد التزم السيد الخوئي بمعقوليته في نفسه ، ولكن أورد عليه بوجهين :

الأول : ما تقدم في مقام الإيراد على المحقق الأصفهاني من انه معنى دقيق لا تصل إليه أذهان افراد العرف ، مع ان عملية الوضع يقوم بها الصغار فضلا عن الكبار ، بل قد يقوم بها بعض الحيوانات التي لا شعور عندها.

والثاني : ان الغرض المقصود من عملية الوضع هو تحقيق دلالة اللفظ على المعنى لحصول التفهيم بها ، والدلالة كما لا يخفى تقتضي اثنينية الدال والمدلول.

وعليه ، فاعتبار الوحدة بين الدال والمدلول يكون لغوا وعبثا ، لأنه بلا أثر ، إذ لا يترتب عليه أثر الوضع لأنه يقتضي التعدد (١).

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٤١ ـ الطبعة الأولى.

٥٧

والمناقشة في الوجه الأول قد عرفتها فلا نعيد.

وأما الوجه الثاني : فالمناقشة فيه واضحة ، بيان ذلك : ان اعتبار شيء شيئا آخر يقتضي تحقق الانتقال إلى المعنى المعتبر في ذلك الشيء عند الانتقال إلى ما اعتبر ، سواء كان المعنى الاعتباري مما له وجود حقيقي كاعتبار شخص جاهل عالما ، أو لم يكن له وجود الا في عالم الاعتبار كاعتبار شخص رئيسا. فان الانتقال إلى الشخص الجاهل المعتبر عالما ملازم للانتقال إلى العالم ، وهكذا الانتقال إلى من اعتبر رئيسا ملازم للانتقال إلى الرئيس ، فالتلازم بين الانتقال إلى المعتبر والانتقال إلى ما اعتبر من الآثار التكوينية للاعتبار. ثم ان اعتبار شيء شيئا آخر يكون غالبا بلحاظ ترتيب آثار المعتبر على ما اعتبر ، كترتيب آثار العالم على الجاهل وآثار الرئيس على زيد مثلا. وقد لا يكون بهذا اللحاظ ، بل بلحاظ ترتب الأثر التكويني على نفس الاعتبار ، أعني الملازمة في الانتقال ، وهكذا الحال في اعتبار اللفظ نفس المعنى ـ على هذا القول ـ ، فان اعتبار كون اللفظ هو المعنى ليس بلحاظ ترتيب آثار المعنى على اللفظ ، بل بلحاظ ترتب الأثر التكويني للاعتبار ، أعني التلازم بين الانتقال إلى اللفظ والانتقال إلى المعنى ، وظاهر ان هذا لا يتحقق إلاّ باعتبار الوحدة وان أحدهما عين الآخر ، فاعتبار الوحدة ليس بلا أثر كي يكون لغوا ، بل له تمام الدخل في ترتب الغرض ، وهو حصول التفهيم والتفهم بحصول الانتقال إلى المعنى عند الانتقال إلى اللفظ. كما انه لا يتنافى مع اقتضاء الدلالة للتعدد ، إذ الدال هاهنا غير المدلول ذاتا ، فان الدال هو اللفظ والمدلول هو المعنى واعتبار الوحدة لا يضير في التعدد الذاتي المعتبر في مقام الدلالة.

فالتحقيق ان يقال : ان التنزيل قد يطلق ويراد به ما هو أعم من الاعتبار ، وقد يطلق ويراد به معنى يقابل الاعتبار.

فالأوّل : بأن يؤخذ شيء ، فيعتبر كونه شيئا آخر ، فان الاعتبار ـ كما تحقق

٥٨

ـ امر خفيف المئونة لأنه لا يخرج عن الفرض غاية الأمر ان الفرض قد لا يكون له أثر عقلائي فيكون خيالا ويعبر عنه بالخيال. وقد يكون ذا أثر عقلائي أو شرعي فيقال عنه الاعتبار ، فاعتبار ان هذا الجاهل عالم لا مئونة فيه ، ويطلق عليه بأنه تنزيل لوجوده منزلة وجود العالم فيترتب عليه آثار العالم المجعولة من قبل المعتبر.

والثاني : ان يكون شيء بديل شيء آخر في ترتب آثاره عليه التكوينية أو غيرها ويقوم مقامه في ذلك ، وهذا أمر واقعي لا جعلي ، إلاّ انه تارة ينشأ من أمر واقعي أيضا ، كما إذا كان الأثر المترتب عليه والمترتب على غيره من الآثار التكوينية ، كترتب الحرارة على النار والشمس ، فيقال ان النار بمنزلة الشمس وتقوم مقامها ـ ولا يخفى ان مراعاة الأسبقية أو الأكملية في الأثر لا بد منها في الحكم ، بان المتأخر أو الضعيف بمنزلة الأسبق ، وإلاّ كان كل منهما بمنزلة الآخر ـ. وأخرى ينشأ من أمر جعلي ، كما إذا كان ترتب الأثر المترتب على آخر بواسطة جعل الشارع ( الجاعل ) أو غيره ، فيعبر عنه بالتنزيل بهذا اللحاظ ، فنفس البدلية أمر واقعي وان كان منشؤها اعتبار ترتب الأثر على البدل فيكون بدلا.

وبالجملة : التنزيل تارة يراد به الاعتبار. وأخرى يراد به ترتيب أثر الغير عليه مع المحافظة على واقع الموضوع حتى في عالم الاعتبار. وهو بالمعنى الأول اعتباري ، وبالمعنى الثاني حقيقي واقعي ، فان كون هذا ذاك بالاعتبار دون كون هذا بمنزلة ذاك ـ أعني نفس عنوان المنزلية والبدلية ـ ، فانه أمر واقعي انتزاعي.

وعليه ، فهذا القائل اما ان يقصد بتنزيل اللفظ منزلة المعنى التنزيلي بالمعنى الثاني ، فهو غير معقول ، لأن تنزيل اللفظ منزلة المعنى يكون حينئذ بمعنى ترتيب آثار المعنى على اللفظ ، ومن الواضح انه لا أثر جعليا يترتب على

٥٩

المعنى كي يكون قابلا لاعتبار ترتبه على اللفظ كي يحصل به غرض الوضع من التفهيم والتفهم. وترتب انتقال المعنى على وجوده لا يمكن اعتبار ترتبه على اللفظ ، لأنه امر تكويني وترتبه على وجود المعنى تكويني لا جعلي ، فهو غير قابل للجعل ولا يتحقق واقعه ـ وهو المرغوب ـ بواسطة جعله. فلاحظ.

أو يقصد القائل بالتنزيل المعنى الأول ، يعني : اعتبار اللفظ نفس المعنى ، فيكون للمعنى وجودان أحدهما واقعي والآخر اعتباري. فهو أيضا مما لا يمكن الالتزام به وذلك لأن من آثار اعتبار الشيء نفس آخر هو صحة إطلاق المعنى المعتبر على ما اعتبر كما لو كان نفسه حقيقة وواقعا ، بلا فرق من حيث صحة الإطلاق وحقيقته ، وكونه بلا مسامحة وتجوز ، فيكون التجوز في نفس المعنى وادعاء ثبوته لغيره ، فإذا اعتبر زيد الجاهل عالما صح إطلاق العالم على زيد بلا مسامحة ولا تجوز ، بل التجوز في نفس الادعاء والاعتبار كما هو شأن كل حقيقة ادعائية.

وعليه ، فاعتبار اللفظ نفس المعنى يستلزم صحة إطلاق المعنى على اللفظ وصحة حمله عليه بالحمل الأولي الذاتي ان كان الاعتبار بين الماهيتين ، بان اعتبرت طبيعة اللفظ نفس طبيعة المعنى ، كما هو مقتضى الاتحاد في الماهية فيقال للفظ الماء بما انه لفظ جسم سيال خاص ، ويحمل عليه بالحمل الأوّلي الذاتي ، أو بالحمل الشائع الصناعي ان كان المعتبر نفس المعنى هو وجود اللفظ ، كما هو شأن الاتحاد في الوجود فيحمل واقع الماء ـ أعني الجسم السيال الخاصّ ـ على لفظه بالحمل الشائع.

وظاهر ان الإطلاق والحمل المزبور بإحدى صورتيه من بديهي البطلان ، وهذا يكشف عن عدم ملزومهما ، وهو الاعتبار المدعى.

والمتحصل : ان هذا الوجه في تحديد حقيقة الوضع غير وجيه أيضا.

يبقى الكلام في الوجهين الآخرين ، وهو كون الوضع عبارة عن اعتبار

٦٠