منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

ينشأ ـ تارة ـ عن مصلحة لزومية. وأخرى : عن مصلحة غير لزومية.

إذا تمّ ذلك ، فاعلم ان الصيغة إذا صدرت من المولى يحكم العقل بمجرد صدورها بلزوم امتثال التكليف والجري على طبقه ، قضاء لحق العبودية والمولوية ، إلاّ إذا صرح المولى بعدم لزوم الفعل وجواز الترك ، وقد قرّب هذا المعنى بوجه فلسفي لا نعرف ارتباطه. فلاحظه. وعلى كل فالذي يتخلص من مجموع كلامه : ان استفادة الوجوب انما هو من طريق حكم العقل بلزوم الإطاعة ولا يرتبط بعالم اللفظ والمستعمل فيه (١).

ولتحقيق الحق لا بد ان نتكلم في إمكان وجود الفرق بين الوجوب والاستحباب ثبوتا وإثباتا. فنقول : انه لا إشكال في ان صدور الصيغة الطلبية من المولى يختلف ثبوتا من حيث المبدأ والمنتهى ..

اما من حيث المبدأ. فلان الأمر وطلب الفعل انما يكون بلحاظ ما يترتب على الفعل من مصلحة ، وهذه المصلحة تختلف فقد تكون لزومية وقد تكون غير لزومية ، وباختلاف المصلحة من هذه الجهة تختلف الإرادة وتتفاوت شدة وضعفا ، فان إرادة الفعل الّذي تكون مصلحته لزومية تكون أشد من إرادة الفعل ذي المصلحة غير اللزومية ، ويكون الشوق إليه آكد ، وهذا أمر وجداني لا ينكر.

واما حديث ان الشوق ما لم يصل لحد تحريك العضلات لا يسمى إرادة ، ومع وصوله لا يقبل الشدة والضعف حينئذ. فهو ان سلم تام بالنسبة إلى الإرادة التكوينية دون الإرادة التشريعية ، إذ ليس في الإرادة التشريعية تحريك العضلات ، لأن الإرادة التشريعية إرادة الفعل من الغير فلا معنى لاستتباعها تحريك العضلات ، وإرادة الفعل من الغير يتصور فيها الشدة والضعف حسب اختلاف المصالح الموجبة لانقداح الإرادة. فما ذكر ـ منه قدس‌سره ـ من

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٩٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٠١

الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.

واما من حيث المنتهى ، فلان الأمر ينشأ بداعي البعث والتحريك نحو الفعل ، فيمكن ان يكون المقصود تارة : هو البعث المسمى اللزومي. وأخرى : البعث والتحريك غير الحتمي. ونظيره في البعث التكويني دفع الشخص غيره بقوة وشدة ، ودفعه دفعا خفيفا غير شديد ، وعلى كل فاعتبار البعث والتحريك بنحويه الحتمي وغير الحتمي متصور وليس فيه إشكال وريب ، فالفرق من حيث المنتهى ثابت أيضا ، كما لا يخفى.

وإذا ثبت الاختلاف ثبوتا من حيث المبدأ والمنتهى ، أمكن دعوى رجوع اختلاف الوجوب والاستحباب إلى الاختلاف في المدلول اللفظي ، بان يقال : ان الوجوب هو الطلب الناشئ عن الإرادة الحتمية الأكيدة. والاستحباب هو الطلب الناشئ عن الإرادة غير الحتمية ، وان اللفظ موضوع للنسبة الطلبية التي يكون إنشاؤها عن إرادة حتمية أو عن مطلق الإرادة.

وبالجملة ، يمكن دعوى اختلاف الوجوب والاستحباب وضعا ، وان الصيغة التي يراد بها الوجوب تستعمل في غير ما تستعمل فيه لو أريد بها الندب. وبكلمة مختصرة : انه بعد فرض وجود نسبتين : إحداهما : طرفها الشوق الأكيد. والأخرى : طرفها الشوق الضعيف. فيمكن أن يقع النزاع في أن الموضوع له هذه النسبة أو تلك النسبة أو الجامع؟.

واما ما عن المحقق العراقي من تصوير النزاع بملاحظة الاختلاف في مرتبة الشوق ، فيقع الكلام في إرادة أي المرتبين (١).

ففيه : ان الكلام ليس مسوقا لبيان الشوق كي يتنازع في مدلوله من مراتب الشوق. هذا بلحاظ مقام الثبوت.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٢١٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٠٢

اما مقام الإثبات (١) : فما ذكره قدس‌سره من ان العقل يحكم بلزوم الإطاعة بمجرد إنشاء الصيغة. بدعوى (٢) جزافية ، فانك خبير بأنه بعد إدراك العقل ان إنشاء الطلب يمكن أن يكون عن إرادة حتمية ، كما يمكن ان يكون عن إرادة غير حتمية ، وان المنشأ عن إرادة غير حتمية لا يلزم امتثاله بعد إدراكه هذا المعنى ، كيف يحكم بلزوم الامتثال بمجرد الإنشاء ما لم يدع ظهور الصيغة في كون الإنشاء عن إرادة حتمية ، وهو خلاف المفروض؟!.

وإذن هل يجد الإنسان في نفسه ذلك؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به بل يمكن الجزم بخلافه. وإذا ظهر وجود الاختلاف بين الوجوب والاستحباب ثبوتا وعدم تعين أحدهما في نفسه إثباتا ، لا بد من بيان ان أيهما الّذي يظهر فيه اللفظ بوضع أو إطلاق ، كي يحمل عليه اللفظ إذا ورد بلا قرينة معينة للآخر ومن هنا يتضح ان تحرير الكلام بنحو ما حرره صاحب الكفاية لازم.

وقد ادعى صاحب الكفاية تبادر الوجوب من اللفظ بلا قرينة. وقد عرفت ان التبادر علامة الحقيقة. وأيد دعواه بعدم صحة اعتذار العبد عن مخالفة الأمر باحتمال إرادة الندب وعدم القرينة الحالية والمقالية عليه ثم أشار إلى بعض الإيرادات ودفعها.

كالإيراد بكثرة الاستعمال في الندب في الكتاب مما يجب نقله إليه أو حمله

__________________

(١) التعرض إلى مقام الإثبات بعد بيان الفرق الثبوتي إنما هو لأجل بيان بطلان ما ذكره المحقق النائيني ، لأنه مع تماميته يلغو النزاع في ظهور الصيغة ووضعها وان ثبت الفرق ثبوتا لعدم الأثر عليه. فتدبر. ( منه عفي عنه ).

(٢) هذا ما ذكرناه سابقا. لكن نقول. فعلا : انه لا بد من القول بمقالة النائيني ، لتوقف ما التزم به من تقديم النص أو الأظهر على الظاهر ـ كتقديم دليل جواز الترك أو الفعل على الدليل الظاهر في الوجوب أو التحريم ـ على الالتزام بهذه المقالة ، إذ على المبنى المشهور تكون دلالة الظاهر على المدلول قطعية كدلالة النص أو الأظهر ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر. وقد أوضحنا ذلك في بعض مباحث التعادل والترجيح فراجع تعرف.

٤٠٣

عليه. وفيه أولا : بكثرة استعماله في الوجوب وثانيا : بان الاستعمال وان كثر في الندب لكنه مع القرينة ، والاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يستلزم صيرورته مشهورا فيه كي يبنى على الخلاف في المجاز كما لم ينثلم ظهور العام بكثرة استعماله في الخاصّ حتى قيل : ما من عام إلاّ وقد خصّ.

وفيه : أن الوجه الثاني يبتني على ان الدالّ على المعنى المجازي هو مجموع اللفظ والقرينة بحيث يكون اللفظ جزء الدال ، وما إذا كان تمام الدال هو بواسطة القرينة فلا يتم ، لحصول الأنس بين ذات اللفظ بكثرة الاستعمال. وأمّا النقض بكثرة التخصيص تام بناء على مبناه في التفصيل في استعمال العام في الخاصّ بين المخصّص المتصل والمنفصل في باب العموم. فراجع.

وقد استشكل المحقق العراقي ـ كما جاء في تقريرات بحثه (١) ـ وضع الصيغة للوجوب لعدم العلم باستناد التبادر إلى حاق اللفظ ونشوئه عن الوضع ، ولكنه وافق صاحب الكفاية في نفس ظهور الصيغة في الوجوب مع عدم القرينة.

ووجّه ذلك : بأنه مقتضى الإطلاق وجريان مقدمات الحكمة في الإرادة التي تستتبع الإنشاء. ببيان : ان الإرادة الوجوبية هي الإرادة التامة التي لا ضعف فيها ولا نقصان ، بخلاف الإرادة الاستحبابية ، فانها تشتمل على جهة نقص لضعفها. وعليه فلا بد من حمل الكلام على ما يتمحض في الإرادة ، بحيث كان ما به امتيازه عن غيره عين ما به اشتراكه معه ، وهو الإرادة ، لأن شدة الإرادة إرادة ، وهي الإرادة الشديدة التامة ، لأنه لا يحتاج في بيانها إلى غير اللفظ ، دون الإرادة الضعيفة فانها تحتاج في بيانها إلى غير لفظ الإرادة أو ما يؤدى معناه ، لكي يبين جهة النقص فيها وعدم وصولها إلى المرتبة الخاصة من الإرادة مما يكون امتيازها بغير ما به اشتراكها ، لأن نقص الإرادة غيرها كما لا يخفى.

__________________

(١) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٢١٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٤

وإلى هذا البيان أشار صاحب الكفاية في أواخر كلامه (١).

وقد استشكل على نفسه : بان مقدمات الحكمة انما تجري في المفاهيم لكونها قابلة للسعة والضيق الّذي يرجع إليه الإطلاق والتقييد لا الأشخاص ، لأنها غير قابلة للإطلاق والتقييد ، فإذا دار الأمر بين أحد فردين خارجا كان من دوران الأمر بين المتباينين ، والحال في الإرادة كذلك ، فان الإرادة الموجودة في نفس المولى أمر شخصي يدور أمره بين أحد نحوين ، فيكون من دوران الأمر بين المتباينين ، وليس اللفظ يقصد منه بيان مفهوم الإرادة كي يقبل الإطلاق والتقييد.

والتفصي عن هذا الإشكال : بان الفرد الخارجي وان كان بحسب مفهومه غير قابل للإطلاق والتقييد ، لكنه من حيث الأحوال قابل لهما ، والشدة والضعف من أحوال الإرادة الطارئة عليها ، فيمكن لحاظ الإطلاق والتقييد من حيث الأحوال.

ممنوع : لأن الشدة والضعف في الإرادة من لوازم وجودها وليسا من الأحوال الطارئة عليها بعد وجودها. فهي توجد إما شديدة أو ضعيفة ، والمفروض هو تعيين أحد النحوين في الفرد بالإطلاق ، لا إثبات إرادة صرف الفرد بلا لحاظ شدته وضعفه.

وانما الصحيح ان يجاب بما حررناه في محله ، من جريان مقدمات الحكمة في تعيين أحد الفردين ، إذا دار الأمر بينهما وكان أحدهما يحتاج في بيانه إلى مئونة زائدة على اللفظ الموضوع للطبيعي ، فانه بالإطلاق يثبت إرادة الفرد الآخر ، كما هو الحال فيما نحن فيه. هذا محصل كلامه.

وفيه أولا : انه يبتني على الالتزام بجريان مقدمات الحكمة في الأشخاص

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٠٥

إذا دار الأمر بين فردين أحدهما يحتاج في بيانه إلى مئونة والآخر لا يحتاج في بيانه إليها. وتحقيق ذلك في محله.

وثانيا : ان أساس مقدمات الحكمة كون المتكلم في مقام البيان من الجهة التي يقصد التمسك بالإطلاق فيها ، وليس المتكلم فيما نحن فيه في مقام البيان من جهة الإرادة شدة وضعفا ، بل في مقام إنشاء الطلب واستعمال اللفظ في النسبة الطلبية. اما نحو الإرادة فليس الآمر والمنشئ في مقام بيانه ، كي يتمسك بإطلاق كلامه.

ثم ان المحقق النائيني ، بعد ما أفاد ما عرفته ، ذكر : انه بما عرفت يندفع الإشكال المشهور في استعمال الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب معا ، مثل : « اغتسل للجمعة والجنابة » بل لا يرد الإشكال أصلا (١).

وتوضيح الإشكال : ان الطلب جنس لا بد في تحققه من الانفصال بفصل ، لأن الفصل هو الّذي يحصل الجنس وبه يتحقق. كما انه لا بد ان يتحدد بحدّ من الشدة والضعف ، فلا يمكن ان يوجد في الخارج منفكا عنهما معا.

وعليه ، فلا يمكن ان يلتزم ان المستعمل فيه مطلق الطلب ، كما لا يمكن ان يلتزم بان المستعمل فيه الطلب الوجوبيّ والطلب الاستحبابي ، لأنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال ، وإرادة أحدهما ممنوعة ، لأنها خلف فرض كون المتعلقين مختلفين وجوبا واستحبابا.

ولا يخفى انه يندفع بل لا يرد ، بناء على ما التزم به المحقق النائيني كما ذكر ذلك قدس‌سره ، لأن المستعمل فيه في حالتي الوجوب والاستحباب واحد وهو النسبة الإيقاعية ، والاختلاف من جهة المبادئ ، وهو لا يضير في المستعمل فيه ، واستفادة الوجوب بحكم العقل ، ولا ربط له بالمستعمل فيه.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٩٦ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٦

وبالجملة : نسبة المستعمل فيه إلى كلا المتعلقين بنحو واحد ، والوجوب والاستحباب أجنبيان عن عالم المستعمل فيه ، إذ استفادتهما من الخارج لا من اللفظ ، فكون أحدهما واجبا والآخر مستحبا لا يستلزم أي إشكال ، كما هو ظاهر جدا.

ولكن اندفاع الإشكال لا ينحصر بالالتزام بما ذكره ، بل يمكن دفعه بناء على ما ذكرناه. فان اللفظ في حالتي وجود الإرادة الحتمية وغيرها انما يستعمل في النسبة الطلبية. غاية الأمر : ان منشأه تارة : يكون هو الإرادة الحتمية المنبثقة عن وجود المصلحة اللزومية. وأخرى : يكون هو الإرادة غير الحتمية الناشئة عن وجود المصلحة غير اللزومية.

وعليه ، فيمكن ان يقال في دفع الإشكال : ان اللفظ مستعمل في النسبة الطلبية في كلا المتعلقين بمقتضى وضعه لها ، لكنه ناشئ عن إرادتين إحداهما :

حتمية وهي المتعلقة بالجنابة لكون مصلحتها لزومية. والثانية : غير حتمية وهي المتعلقة بالجمعة لكون مصلحتها غير لزومية ، فالمستعمل فيه واحد ، وهو المعنى الموضوع له اللفظ ، أعني النسبة الطلبية ، ولكن منشأ الاستعمال متعدد ، ولا محذور فيه ، سوى مخالفته لمقتضى الوضع لو قيل : بان الموضوع له هو النسبة الناشئ إنشاؤها عن الإرادة الحتمية ، فيكون الاستعمال مجازيا. لكنه خال عن المحذور ، كما قد يتوهم.

ودعوى كون الطلب جنسا ، فلا بد ان يتحصل بأحد فصليه.

تندفع : بان الأمر كذلك ثبوتا ، وهو لا ينافي إرادة الكشف عن الكلي خاصة دون فصله كما يقال : « الإنسان والبقر حيوان ». ولا يخفى ان مقتضى هذا الجواب عدم إمكان استفادة الوجوب من الكلام بالنسبة إلى غير ما قام الدليل على استحبابه.

ويمكن الجواب بوجه آخر ، وهو ان يقال : ان العطف في قوة تكرار

٤٠٧

الصيغة فأداته تدل على نسبة أخرى غير النسبة المدلول عليها بنفس الصيغة.

وعليه ، فلدينا نسبتان مدلول عليهما بدالين ، فيمكن ان تكون إحداهما وجوبية والأخرى ندبية ، ويبقى ظهور الصيغة في الوجوب بالنسبة إلى غير ما قام الدليل على استحبابه على حاله. فتدبر جيدا.

الجهة الثالثة : في تحقيق الكلام في مدلول الصيغة الخبرية الواردة في مقام الطلب ، وبيان ما تظهر فيه من وجوب أو استحباب أو غيرهما.

وبيان ذلك : انه كثيرا ما يجيء في النصوص في مقام الطلب صيغة خبرية نظير : « يعيد » أو : « يتوضأ » ونحوهما. فهل هي ظاهرة في الوجوب أو لا؟.

قيل : بعدم ظهورها في الوجوب ، باعتبار انها غير مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاخبار بثبوت النسبة ، والمعاني المجازية المحتملة متعددة ، ولا مرجح للوجوب لعدم أقوائيته.

وقد التزم صاحب الكفاية بظهورها في الوجوب ، بدعوى : ان الصيغة لم تستعمل في غير معناها ، بل انما استعملت في معناها وهو النسبة ، إلاّ إنه لم يكن بداعي الاخبار والاعلام ـ وهو غير مقوم للموضوع له كما تقدم ـ ، بل بداعي البعث والتحريك بنحو آكد ، فانه أخبر بوقوع المطلوب في مقام طلبه إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه ، فيكون ظهوره في البعث آكد من ظهور الصيغة.

ثم تعرض بعد ذلك لا يراد لزوم وقوع الكذب في كلامه تعالى ـ إذا كان المستعمل فيه هو النسبة ـ لعدم وقوع المطلوب غالبا.

والجواب عنه : بان الكذب انما يتحقق لو كان الاستعمال بداعي الإعلام لا بداعي البعث كما فيما نحن فيه ، وإلاّ لزم الكذب في غالب الكنايات (١).

ولا يخفى ان ما ذكره قدس‌سره مجرد دعوى ليس لها صورة دليل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٠٨

وبرهان ، ولم يذكر لها تقريب وتوجيه ، وذلك لا يكفي في إثبات المطلوب ، بل يمكن الإيراد فيه : بان الاخبار بالوقوع لا يكشف إلا عن إرادة الوقوع باعتبار المناسبة بينهما ، اما كون الإرادة بنحو خاص بحيث لا يرضى بتركه فلا دلالة للجملة على ذلك.

وقد قرّب ظهور الصيغة في الوجوب بتقريب دقيق حاصله : انه قد تقرر في علم الفلسفة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، بمعنى : انه ما لم توجد علته التامة المقتضية لضرورة وجوده ـ لعدم انفكاك المعلول عن العلة ـ لا يوجد الشيء فإذا أخبر بوجود الشيء وتحققه كان ذلك كاشفا عن ضرورة وجوده ولا بديته ، والمناسب لذلك في مقام الطلب هو الوجوب التشريعي والطلب الإلزامي ، فيدل الإخبار على الوجوب بالملازمة.

وأنت خبير بأن ما اعتمد عليه في إثبات دلالة الصيغة على الوجوب من القاعدة المحررة ، وهي ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ، ليس أمرا عرفيا واضحا ، بل هو أمر دقيق لا يدركه كل أحد بالإدراك البدوي ، فلا يمكن دعوى الظهور العرفي للفظ استنادا إلى ذلك.

فالأولى في تقريب ظهور الصيغة في الوجوب ان يقال : ان وقوع الفعل خارجا من المنقاد يلازم الوجوب والطلب الحتمي ، فان الطلب غير الحتمي لا يستلزم وقوع الفعل خارجا من المنقاد ، إذ يمكن ان يفعل ويمكن ان لا يفعل ، لأن عدم الفعل لا ينافي الانقياد لعدم الإلزام. فالإلزام والوجوب مستلزم وعلة لوقوع الفعل ، وعليه فالوجوب ملزوم ووقوع الفعل لازم ، فيكون اللفظ مستعملا في اللازم ويدل على الملزوم بالدلالة الالتزامية. فظهور الصيغة الخبرية الواقعة في مقام البعث في الوجوب بنحو الالتزام والدلالة الالتزامية ، لملازمة الوقوع للإرادة الحتمية.

ولعل نظر صاحب الكفاية في دعواه إلى ذلك فتأمل.

٤٠٩

ثم ان صاحب الكفاية ذكر : انه لو لم نقل بان المناسبة المذكورة بين وقوع الفعل وعدم الرضا بالترك موجبة لظهور الصيغة في الطلب الوجوبيّ ، فلا أقل من الالتزام باستلزامها بتعين الوجوب من سائر المحتملات عند الإطلاق وعدم القرينة ، فإذا تمت مقدمات الحكمة كان مقتضاها حمل الكلام على إرادة الوجوب ، لأن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب توجب تعين إرادة الوجوب مع عدم القرينة على غيره وكون المتكلم في مقام البيان (١).

الجهة الرابعة : لو لم نقل بظهور الصيغة في الوجوب وضعا ، فهل هي ظاهرة فيه بسبب آخر من انصراف أو غيره؟.

ادعي انصرافها إليه باعتبار كثرة الاستعمال فيه ، أو بلحاظ غلبة وجوده ، أو من جهة أكمليته.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان استعمال الصيغة في الندب وهكذا وجوده لا يقل عن استعمالها في الوجوب ووجوده لو لم يكن بأكثر ، وأكملية الوجوب لا توجب انصراف اللفظ إليه ، إذ الظهور انما ينشأ من شدة أنس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجها ومرآة له ، والأكملية وحدها لا توجب ذلك (٢).

ثم انه قدس‌سره قرب ظهور الصيغة في الوجوب عند الإطلاق وتمامية مقدمات الحكمة بما مرت الإشارة إليه في كلام المحقق العراقي ، وقد عرفت الإشكال فيه فلا نعيد.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤١٠

التعبدي والتوصلي

الجهة الخامسة : الواجبات على قسمين : تعبدي وتوصلي.

وقد وقع الكلام في بيان المراد من التعبدي والتوصلي.

فقيل : ان الوجوب التعبدي ما لا يحصل الغرض فيه إلا بإتيان متعلقه بقصد القربة. ويقابله التوصلي ، وهو ما يحصل منه الغرض بلا قصد القربة (١).

وقيل : بان الواجب التعبدي ما شرع الإتيان به بنحو العبادة وللتعبد به. ويقابله التوصلي وهو ما شرع لغرض حصوله بذاته لا بعنوان العبادة (٢).

وقيل : بان التعبدي ما اعتبر فيه قصد القربة. والتوصلي ما لم يعتبر فيه قصد القربة (٣).

ولا يخفى ان تحقيق كون التعبدي أي المعاني من هذه ، أو تحقيق ان التعبدية والتوصلية هل هي صفة الوجوب أو الواجب؟. ليس بذي أهمية فيما هو المهم في الكلام كما سيتضح ، كما لا يخفى ان هذه التفسيرات كلها تشير إلى معنى واحد ، وهو كون التعبدي ما لا يسقط به الأمر إلا بقصد القربة دون التوصلي.

وعليه ، فلا يهمنا إثبات أيها معنى للتعبدي والتوصلي ، فليكن موضوع الكلام فعلا ، هو التعبدي ، بمعنى ما يعتبر فيه قصد القربة. والتوصلي بمعنى ما لا يعتبر فيه قصد القربة.

وقد أشير إلى أن للتعبدي معنى آخر ، وهو : ما لا يسقط به الأمر إلا بالمباشرة ، وان يكون عن إرادة واختيار ، وان لا يكون بفعل محرم. بخلاف

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٩٦ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ١٣٩ ـ الطبعة الأولى.

٤١١

التوصلي ، فانه ما يسقط الأمر بمجرد وجوده وتحققه خارجا ولو كان بفعل الغير ، أو بلا إرادة واختيار ، أو بفعل محرم من المحرمات كتطهير الثوب (١).

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم : ان محل الكلام في أن مقتضى الأصل ـ مع الشك في كون الواجب تعبديا أو توصليا ـ هل هو العبادية أو التوصلية؟. والمراد بالأصل الأعم من الأصل اللفظي والعملي ، فان المناسب لمبحث الألفاظ وان كان هو البحث في الأصل اللفظي دون العملي ، لكن حيث جاء في كلام الأعلام البحث عن كليهما جرينا على منوالهم.

ولا يخفى ان البحث لا بد ان يكون أولا عن الأصل اللفظي ، وانه هل هناك إطلاق أو نحوه يعين أحد النحوين؟ ، فانه مع ثبوته ووجوده لا تصل النوبة للأصل العملي ، فإذا لم يثبت الأصل اللفظي يبحث ثانيا عما يقتضيه الأصل العملي من أحد النحوين وما تكون نتيجته منها.

ثم ان البحث يقع أولا عن التعبدية بالمعنى الأول ـ أعني الجامع بين الأقوال الثلاثة ـ. ثم نبحث أخيرا عن العبادية والتوصلية بالمعنى الآخر ، فيتكلم في أن الأصل هل يقتضي المباشرة في الواجب أو الإرادية أو عدم تحققه بالفعل المحرم ، أو لا يقتضي شيئا منها ، أو بعضها؟. فان تحقيق ذلك مما له فائدة جمة في مباحث الفقه.

وعلى كل ، فيقع الكلام فعلا في : أن مقتضى الأصل هل هو اعتبار قصد القربة في الواجب أولا؟. والكلام في مرحلتين :

المرحلة الأولى : في الأصل اللفظي ، ومحل البحث هو وجود أصل لفظي كالإطلاق يعين أحد النحوين وعدمه. فالكلام في اقتضاء إطلاق الصيغة التوصلية ونفي اعتبار قصد القربة وعدمه.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ١٣٩ ـ الطبعة الأولى.

٤١٢

والمشهور في كلامهم هو : عدم إمكان التمسك بالإطلاق ، لأجل عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، بضميمة كون الإطلاق إنما يثبت في المورد القابل للتقييد دون غير القابل له كالمورد.

ولا يخفى ان التقرب كما يحصل بقصد امتثال الأمر كذلك يحصل بما يكون موجبا للقرب من القصود ، كقصد المحبوبية أو قصد الإتيان بالفعل له تعالى ونحوه ، إلا ان كلامهم أولا ينصب على تحقيق إمكان وعدم إمكان أخذ قصد امتثال الأمر والإتيان بالفعل بداعي الأمر في متعلق الأمر ، ومنه يبتّون في الأنحاء الأخرى من القصد.

ولأجل ذلك فيكون الكلام فيه أولا في إمكان أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر نفسه وعدم إمكانه ، جريان على منوال القوم.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع أخذه في متعلق الأمر شرعا ، معللا ذلك باستحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلق ذلك الأمر ، سواء كان أخذه فيه بنحو الجزئية أو الشرطية ، وأعقب ذلك بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر ، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها » (١).

وكلامه في المقام لا يخلو عن إجمال ، إذ لم يتضح منها ان وجه عدم إمكان أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر شرعا هو استلزامه لمحذور واحد أو لمحذورين ، وعبارته قابلة للحمل على كلا الاحتمالين ، كما ان لكل منهما قرينتين ، فلا يمكن الجزم بإرادته أحدهما ، ويحسن بنا بعد ان نبهنا على ذلك الإفصاح عما ذكرناه فنقول :

يمكن حمل عبارته على استلزام أخذ قصد القربة في متعلق الأمر لمحذورين :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤١٣

الأول : ان متعلق الأمر لا بد وان يكون في رتبة سابقة على نفس الأمر ، لأنه معروض الأمر ، والعارض متأخر عن معروضه رتبة ، وداعي الأمر معلول لوجود الأمر لاستحالة تحققه بدونه فهو متأخر عنه تأخر المعلول عن علته. وعليه فلا يمكن أخذه في متعلق الأمر ، لأنه متأخر عن الأمر ، ففرض كونه في متعلق الأمر يستلزم فرض تقدمه على الأمر وهو خلف.

والثاني : ان الأمر انما يتعلق بما هو مقدور دون ما هو ليس بمقدور ، والإتيان بالصلاة بداعي الأمر غير مقدور إلا بتعلق الأمر بذات الصلاة. وأوضح ذلك فيما بعد بان الأمر انما يدعو إلى ما تعلق به ، وقد تعلق بالصلاة مقيدة بقصد القربة ، فلا يمكن الإتيان بالصلاة بداعي الأمر ، إذ لا أمر قد تعلق بها كي يدعو إليها ويؤتى بها بداعيه.

وإلى هذا المحذور أشار بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة .. ». وإلى الأول أشار بقوله : « لاستحالة أخذ ... ».

كما انه يمكن حمل عبارته على ذكر محذور واحد وهو محذور عدم القدرة بتقريب : انه قدس‌سره ذكر أولا استحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه ، ولم يبين السّر والوجه في الاستحالة ، وانما ذكر ذلك بنحو الإجمال ، لكنه عقب ذلك ببيان مثال ذلك مشيرا في مثاله إلى نكتة الامتناع ، وهي عدم القدرة ، وذلك بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة ... ».

وقرينة هذا الاحتمال :

أولا : ظهور الفاء في قوله : « فما لم تكن » في التفريع على ما سبق. وهو يتناسب مع وحدة المحذور لا مع تعدده إذ على الثاني لا معنى للتفريع ، بل كل منهما محذور مستقل.

وثانيا : حكمه بفساد التوهم الّذي ذكره مع تسليمه بجهة من جهاته ، فلو كان النّظر إلى وجود محذورين لم يكن مجموع التوهم فاسدا ، بل يكون دفعه

٤١٤

للمحذور الآخر فاسدا دون الأول ، فحكمه المذكور ظاهر في وحدة المحذور ، وانه لا يندفع به المحذور. وان سلمت إحدى الجهتين به ، فهو واضح الفساد. ويؤيد ذلك انه أصر على ما ذكره من الكلية ـ أعني استحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه ـ في غير مكان من الكفاية ، فلو كان نظره فيه إلى ما ذكر من المحذور بنحو التعدد لم يتجه ذلك لاندفاعه بكفاية تصور المتعلق في مرحلة الأمر وتسليمه قدس‌سره به. فتأمل.

كما أنه على الاحتمال الأول قرينتان :

إحداهما : التعرض في التوهم إلى دفع جهتين والتخلص من إشكالين ، وهما اللذان ذكرناهما وهو ظاهر في تعدد المحذور.

ثانيتهما : عدم مناسبة التفريع مع الكلية المذكورة أولا ، وذلك لأن عدم القدرة على الإتيان بقصد امتثال الأمر لم ينشأ عن جهة كون قصد الأمر مما لا يتأتى إلا من قبل الأمر ، بل لخصوصية في قصد الأمر بنفسه ، ولذا لا يسري إلى كل ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر كالعلم بالحكم ونحوه. فظاهر الكلية كون المحذور ناشئا عن جهة كون قصد الأمر مما لا يتأتى إلا من قبل الأمر ، وهو أجنبي عن عدم القدرة على المتعلق ، بل ظاهره كون المحذور فيه هو المحذور في غيره مما يشابهه في عدم تأتيه الا من قبل الأمر وهو غير عدم القدرة. ولذا يلتزم البعض بعدم استحالة أخذ العلم بالحكم في المتعلق ببعض التأويلات ، مع ان المحذور لو كان جهة القدرة لم يقبل التأويل كما هو واضح جدا. وبواسطة وجود القرينة على كلا الاحتمالين يمكننا دعوى كون كلام صاحب الكفاية من المجملات. فلاحظ.

وعلى أي حال فالمهم هو بيان ما ذكر من الوجوه لمنع أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر وهي كثيرة ربما أوصلها البعض إلى عشرة :

الأول : إشكال الدور الّذي أوضحناه في مقام بيان عبارة الكفاية ، والّذي

٤١٥

محصله : ان الأمر يتوقف على ثبوت متعلقه ، وقصد الأمر يتوقف على ثبوت الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر يستلزم فرض توقف الأمر عليه ، وقد عرفت توقفه على الأمر. وهذا هو الدور أو الخلف وهو محال.

والجواب عنه واضح ، وقد أشار إليه في الكفاية ، وبيانه : ان الأمر لا يتوقف على وجود متعلقه خارجا ، بل يتوقف على وجوده ذهنا وتصورا ، فيتعلق به ويبعث الأمر بعد تصوره. وداعي الأمر انما يتوقف على الأمر بوجوده الخارجي لا التصوري ، إذ يمكن تصور داعي الأمر ولو لم يكن أمر أصلا. وعليه فالذي يتوقف عليه الأمر هو قصد الأمر بوجوده التصوري وهو لا يتوقف على الأمر ، بل الّذي يتوقف على الأمر هو قصد الأمر بوجوده الخارجي وهو لا يتصور عليه الأمر فلا دور ، إذ الموقوف عليه الأمر غير الموقوف على الأمر.

الثاني : استلزامه الدور بلحاظ مقام الامتثال ، وذلك لأن الأمر يتوقف على القدرة على متعلقه ، إذ لا يصح الأمر مع عدم القدرة ، فإذا كان قصد الأمر مأخوذا في متعلق الأمر كان الأمر متوقفا على القدرة عليه ، مع ان القدرة على قصد الأمر تتوقف على الأمر ، إذ لا يتحقق قصد الأمر بدون الأمر.

وأجيب عن ذلك : بان القدرة المصححة للأمر إنما هي القدرة على المتعلق في ظرف الامتثال لا في ظرف الأمر.

وتوضيح النّظر في الجواب يتوقف على بيان المقصود من شرطية القدرة.

فنقول : ان الشرط قد يطلق ويراد به معناه الفلسفي ، وما هو المصطلح به عليه عند أهل ذلك الفن ، وهو جزء العلة التامة وما يكون دخيلا في وجود المشروط. وقد يطلق ويراد به معنى غير ذلك ، بل ما يكون مصححا لإيجاد الفعل ورافعا للغويته وموجبا لكونه من الأفعال العقلائية وان أمكن وجود الفعل بحسب ذاته بدونه ، وذلك نظير ما يقال شرط اعتبار الملكية ترتب الأثر عليها ، فان ترتب الأثر ليس دخيلا في وجود الملكية ، بل هو مصحح لإيجادها من قبل

٤١٦

العقلاء وبه يخرج الفعل على تقدير وجوده عن اللغوية. ومن الواضح ان الشرط بالمعنى الأول سابق رتبة على المشروط ، فيمتنع ان يفرض تأخره عنه رتبة في حال من الأحوال سواء كان في وجوده لا حقا أم سابقا على وجود المشروط.

واما الشرط بالمعنى الثاني ، فليس هو في الرتبة سابقا على المشروط ولا يتوقف المشروط عليه ، فلا يمتنع ان يفرض تأخره عنه في الرتبة.

وشرطية القدرة للتكليف لو أريد بها المعنى الأول كان الإشكال في محله ، إذ القدرة على قصد الأمر يتوقف عليها الأمر مع ان قصد الأمر معلول لوجود الأمر.

ولا ينحل الإشكال بان القدرة التي هي شرط الأمر هي القدرة في مقام الامتثال لا في ظرف التكليف والأمر ، إذ القدرة في مقام الامتثال على قصد الأمر معلولة للأمر ، فلا يمكن أن تؤخذ شرطا للأمر وجزء علته ، فان ذلك يستلزم الدور والخلف كما هو واضح.

لكن الّذي يهون الخطب ان شرطية القدرة للتكليف ليس المقصود بها المعنى الفلسفي للشرطية ، بل المقصود بها المعنى الثاني ، فالقدرة مصححة للأمر والتكليف ، إذ بدونها يكون لغوا ومعها يخرج عن اللغوية ، فهي شرط للتكليف الصادر من المولى الحكيم ، فلا يمتنع ان تكون ناشئة عن نفس التكليف ، كما أنها ثابتة ، إذ ما هو شرط ومصحح للأمر انما هو القدرة في مقام الامتثال لا في ظرف الأمر كي يدعي عدم القدرة عليه بدون الأمر ، والقدرة على قصد الأمر في ظرف الامتثال حاصلة لتحقق الأمر.

وبالجملة : فإشكال الدور يبتني على الخلط بين الشرط بالمعنى الفلسفي والشرط بمعناه الآخر. وبعد تبين الخلط والمراد بالشرط يتضح عدم تأتي الإشكال ، ويتبين ما هو محط النّظر في الجواب المشار إليه فتبصر.

الثالث : وهو ما يرتبط بعدم القدرة على المأمور به أيضا. لكنه بتقريب

٤١٧

آخر ، وهو ما أشار إليه في الكفاية أولا ثم أوضحه في طيات كلماته.

وبيانه : ان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يستلزم عدم القدرة على الإتيان بالفعل بقصد الأمر. وذلك : لأن قصد الأمر إما ان يؤخذ بنحو الشرطية للفعل أو بنحو الجزئية ، بحيث يكون المأمور به مركبا من الفعل وقصد الأمر.

فعلى الأول : فحيث ان الأمر إنما يتعلق بالمقيد بما هو مقيد بحيث لا يكون إلا أمر واحد متعلق بموضوع واحد وهو المقيد ولا ينحل الأمر إلى أمرين أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر بالخصوصية أو بتقيده بها ، لأن التجزؤ إنما يكون بالتحليل العقلي ..

لم تكن ذات الفعل متعلق للأمر. وعليه فلا يمكن الإتيان بها بداعي الأمر المتعلق بها لعدم وجوده ، والأمر الموجود إنما يدعو إلى المقيد بما هو مقيد لأنه متعلقه ، لا إلى الذات إذ لم يتعلق بالذات ، والمفروض ان المقيد ـ وهو الفعل بقصد الأمر ـ غير مقدور لتوقفه على تعلق الأمر بذات الفعل حتى يصح الإتيان به بداعي أمره.

وعلى الثاني : فالفعل وان كان بذاته متعلقا للأمر لأنه جزء ، والمفروض ان الكل عين أجزائه فالأمر المتعلق به متعلق بها ، إلا أن في أخذه جزء محذورين :

أحدهما : لزوم تعلق الأمر بغير الاختياري ، وهو قصد القربة ، لأنه إذا كان جزء كان متعلقا للأمر وهو غير اختياري ، لأن الإرادة ليست بالاختيار ، وإلا لزم التسلسل ـ وهو واضح ـ ويمتنع تعلق الأمر بما هو غير اختياري.

ثانيهما : عدم القدرة على الإتيان بالمأمور به ، وذلك لأن المركب الارتباطي لا يمكن الإتيان بكل جزء منه على حدّه ومستقلا ، بل لا يتحقق امتثاله إلا بالإتيان بكل جزء مع غيره من الأجزاء ـ ولذا لا يمكن قصد الأمر في الإتيان بالركوع وحده ـ.

وعليه ، فلا يمكن الإتيان بذات الفعل بداعي وجوب الكل ما لم ينضم

٤١٨

إليه الجزء الآخر وهو قصد الأمر ، فيكون المأتي به هو الفعل بداعي الأمر لداعي الأمر ، وذلك محال لا من باب ان داعي الأمر لا يمكن ان يتحقق بداعي الأمر ـ إذ ذلك بنفسه لا محذور فيه ، ولذا يرتفع المحذور المذكور في صورة الالتزام بتعدد الأمر مع انه يستلزم ان يكون داعي الأمر عن الأمر ـ بل من جهة ان الأمر لا يكون محركا نحو محركية نفسه ، فانه بوزان علية الشيء لعلية نفسه ، بيان ذلك : ان المفروض انه لا أمر إلا واحد ، وعليه فإذا جيء بالصلاة ـ مثلا ـ بقصد أمرها ـ وهو الأمر بالمجموع المركب ـ وكان المحرك نحو ذلك هو الأمر بالمجموع ، كان الإتيان بالصلاة بداعي الأمر بالمركب منبعثا عن الأمر بالمركب ، فالأمر بالمركب يكون داعيا للإتيان بالصلاة بداعي الأمر نفسه ، فيلزم ان يكون الأمر داعيا لداعوية نفسه وهو محال بملاك علية الشيء لعلية نفسه (١). وعلى هذا الوجه حمل المحقق الأصفهاني عبارة الكفاية وبين جهة المحالية بما عرفته (٢).

وهذا توضيح ما أفاده صاحب الكفاية ويقع الكلام في ما أفاده في موارد ثلاثة :

الأول : فيما ذكره من عدم انحلال الأمر بالمقيد وانبساطه ، بل يكون امرا واحدا متعلقا بالمقيد بما هو مقيد.

وتحقيق الكلام في صحة هذه الدعوى ليس محله هاهنا ، بل له محل آخر في هذا العلم وهو مبحث البراءة والاشتغال عند البحث عن جريان البراءة مع الشك في الشرطية ، فان جريان البراءة الشرعية والاشتغال يبتني على تحقيق أن الأمر بالمشروط هل ينحل إلى أمرين ضمنيين ، أمر بذات المشروط وامر آخر

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٣٤ ـ الطبعة الأولى.

٤١٩

بتقيده بالشرط ، فيكون الحال في الشروط كالحال في الاجزاء ، إلاّ ان الجزء يختلف عن الشرط في أنه بذاته متعلق الأمر الضمني دون الشرط فان متعلق الأمر الضمني فيه هو التقيد به لا نفس الشرط؟. أو انه لا ينحل ، بل لا يكون هناك إلا أمر واحد متعلق بالمشروط بما هو كذلك ، فنفس الفعل لا يكون مأمورا به بالأمر الضمني أصلا ، إذ المأمور به يكون أمرا بسيطا متعلقا لأمر واحد ولا وجه للانحلال حينئذ؟.

فعلى الأولى : يتجه إجراء البراءة عند الشك في شرطية شيء ، لأنه يعلم تفصيلا بتعلق الأمر بذات المشروط ويشك بدوا في تعلقه بالتقيد بالشرط ، فيكون الشك شكا في التكليف وهو مجرى البراءة.

واما على الثاني : فلا مجال للبراءة ، إذ العلم الإجمالي لا ينحل لفرض وحدة الأمر على تقدير تعلقه بالمشروط ، فالأمر دائر بين المتباينين ، إما الأمر بذات المشروط ، أو الأمر بالمشروط بما هو كذلك ، وهو مجرى الاشتغال.

وعليه ، فالتزام المحقق الخراسانيّ هنا بعدم انحلال الأمر بالمشروط ينافى التزامه بجريان البراءة الشرعية عند الشك في الشرطية ، وعلى كل فتحقيق الحال فيما ذكره له محل آخر كما عرفت. والحق ـ كما سيأتي ـ هو الالتزام بالانحلال ورجوع الشرطية إلى أخذ التقيد بالشرط جزء.

وعليه ، فيبتني إمكان أخذه شرطا في متعلق الأمر وعدمه على تحقيق إمكان أخذه بنحو الجزئية أولا ، إذ الملاك فيهما يتحد بعد ما عرفت من رجوع الشرطية إلى جزئية التقيد بالشرط.

الثاني : فيما ذكره من عدم إمكان تعلق الأمر بقصد الأمر لعدم اختياريته ، وهو ممنوع ، إذ يرد عليه :

أولا : النقض بتعلق الإلزام بقصد الأمر ولو بحكم العقل ، فان العبد يرى نفسه ملزما بالإتيان بالفعل مع هذا القصد ، بحيث يرى ان هناك فرقا بينه وبين

٤٢٠