منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الطلب والإرادة

أقحم صاحب الكفاية مبحث الطلب والإرادة ، وحديث اتحادهما وتغايرهما ، في البحث عن مادة الأمر ، وقد انتقل إليه بنحو واضح التكلف. فانه بعد ما انتهى من الحديث عن مادة الأمر ، وان الطلب الموضوع له لفظ الأمر هو الإنشائي ، أو انه هو المنصرف إليه من لفظ الأمر كما انه المنصرف من لفظ الطلب ، ذكر أن الأمر في لفظ الإرادة بالعكس ، فان المنصرف منها الإرادة الحقيقية ، وهو الّذي أوجب إيهام تغايرهما ذاتا ، فقيل به ثم بدأ بذكر ما اختاره في المقام ، والاستدلال عليه بشكل مفصل.

وعلى كل فقد تبعه في هذا المبحث سائر الاعلام ممن تأخر عنه ، فاللازم متابعتهم والبحث في هذا الموضوع.

وقد اختار صاحب الكفاية اتحاد الطلب والإرادة مفهوما وإنشاء وخارجا ، بمعنى ان مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب ، والإرادة الإنشائية عين الطلب الإنشائي ، وواقع الإرادة عين واقع الطلب ، ولا فرق بينهما ذاتا ووضعا ، وانما الفرق بينهما لفظي لا أكثر ، فلفظ الطلب ينصرف إلى الطلب الإنشائي ولفظ الإرادة ينصرف إلى الإرادة الحقيقية. وقد نسب قدس‌سره هذا الرّأي إلى المعتزلة ، ونسب دعوى تغايرهما إلى الأشاعرة (١).

وتحقيق المقام : انه قد قيل : ان النزاع يمكن ان يكون بأنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون في ثبوت صفة نفسانية أو فعل نفساني غير الإرادة عند

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٨١

الأمر بشيء. وهو بهذا النحو يكون عقليا.

الثاني : ان يكون النزاع في ان مدلول الأمر هل هو الإرادة والطلب متحد معها ، أو منطبق على الكاشف عنها كي يكون الصيغة كاشفة عن الإرادة ، فيترتب عليه ما يترتب على إحراز إرادة المولى ، أولا فتكون الصيغة كاشفة عن الطلب المغاير للإرادة ، فلا يترتب عليها ما يترتب على إحراز إرادة المولى. والمسألة بهذا النحو تكون أصولية.

الثالث : ان يكون النزاع في مرادفة لفظ الطلب للفظ الإرادة بلا نظر إلى ثبوت صفة أخرى في النّفس ولا إلى مدلول الصيغة. والمسألة بهذا النحو تكون لغوية محضة.

وعليه فالكلام يقع في الأنحاء الثلاثة :

اما في ثبوت صفة أخرى نفسانية غير الإرادة ، فقد التزم به الأشاعرة ، وعبروا عنها بالكلام النفسيّ في الجمل الاخبارية وبالطلب في الإنشائيات. ومنشأ التزامهم بثبوت هذه الصفة في النّفس هو : انه مما لا ريب فيه ان الله جلّ اسمه يطلق عليه متكلم ويوصف بالتكلم كما يوصف بالعلم والإرادة وغيرهما. وبما ان صفاته جلّ شأنه عين ذاته وجودا لزم ان تكون قديمة كقدم ذاته. فيلزم ان يكون الكلام الموصوف به الله قديما ، فيمتنع ان يراد به هو الكلام اللفظي لوضوح حدوثه وتصرمه فليس هو بقديم ، فلا بد ان يكون امرا قديما في نفس المولى كشف عنه الكلام اللفظي ، فهناك صفة أخرى في النّفس غير الإرادة هي الكلام النفسيّ ، لأنه يوصف بهما فيقال : مريد ومتكلم ، وهو يقتضي المغايرة. ومن هنا قال شاعرهم :

« ان الكلام لفي الفؤاد وانما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا »

فالكلام اللفظي كاشف عن وجود صفة نفسانية من سنخه وحاك عنها ، سواء

٣٨٢

كان إخباريا أو إنشائيا. وعليه ففي مورد الأمر والإنشاء تكون في النّفس صفة غير الإرادة يحكي عنها الكلام اللفظي الإنشائي ، فعبر عنها الأشاعرة بالطلب لأنها من سنخ الكلام اللفظي ، وبذلك يختلف الطلب عن الإرادة ذاتا وحقيقة.

هذا هو الأساس في ذهاب الأشاعرة إلى تغاير الطلب والإرادة ، كما قيل.

والإشكال فيه واضح : فان ما ذكروه انما يتم لو كان التكلم من صفات الذات لاتحادها مع الذات المستلزم لقدمها.

ولكنه ليس كذلك ، بل هو من صفات الفعل التي يصح سلبها عن الذات في حين ما ، وهو الفارق ـ كما قيل ـ بينها وبين صفات الذات ، كالرازق والخالق ، وهي لا يلزم ان تكون قديمة لعدم اتحادها مع الذات ، بل هي حادثة ولذلك يقال :

« خلق الله زيدا الآن ، ورزقه كذا فعلا » ، ولم يكن كل من الخلق والرزق قديما كما لا يخفى ، فالكلام كذلك. وعليه فلا يمتنع ان يراد من الكلام هو الكلام اللفظي ، ولا موجب للالتزام بثبوت الكلام النفسيّ.

بل قيل : بامتناع الالتزام بالكلام النفسيّ وانه صفة من صفات النّفس غير الإرادة ، لإقامة البرهان في محله على تعيين الكيفيات النفسانيّة وتحديد صفات النّفس وامتناع غيرها ، وليس منها الكلام النفسيّ (١).

ولا موجب لذكر الدليل وملاحظة صحته أو سقمه.

وانما نقول : انه على تقدير تسليم الدليل على امتناع وجود صفة نفسانية غير الإرادة والعلم وغيرهما مما قيل بانحصار الكيفيات النفسانيّة فيه ، فيمكننا الالتزام بالكلام النفسيّ ، لا على ان يكون من صفات النّفس ، بل يكون من افعال النّفس ومخلوقاتها وموجوداتها ، فان النّفس لها قابلية إيجاد الصور وحمل أحدها على الأخرى ، والحكم بان هذا ذاك والتصديق والجزم به ، فان هذا مما لا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٠٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٣

ينكره أحد ، فان كل شخص حين يحمل المحمول على الموضوع خارجا ، لا بد له من لحاظ الموضوع والمحمول والجزم بان هذا ذاك في نفسه ، والبناء على ذلك ، والتصديق به ، وكل من التصور والجزم أو الحمل أو الحكم ـ بأي لفظ يعبر عما يجده في النّفس حال الحمل ـ من موجودات النّفس ومخلوقاتها. وقد أشار إلى هذا المعنى أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : « كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق لكم مردود إليكم » (١).

وعليه ، فيمكن ان يدعى كونه كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي.

والإشكال فيه : بان الموجود الخارجي أو الذهني غير قابل للمدلولية وانما هي شأن الماهيات ، لأن المدلولية مرجعها إلى انتقال المعنى إلى الذهن بواسطة اللفظ والموجود غير قابل للانتقال ، كما تقدم من ان المماثل لا يقبل المماثل والمقابل لا يقبل المقابل.

يمكن التخلص عنه : بان استعمال اللفظ وإرادة الموجود الخارجي منه كثيرا ما يقع في الكلام ، كاستعمال الاعلام أو استعمال اللفظ الموضوع للكلي وإرادة فرد منه معين. ويصحح ذلك : بان الموضوع له والمدلول للفظ هو نفس الماهية الكلية أو الجزئية وإرادة الفرد المعين والموجود المتميز بالتطبيق. فليكن ما نحن فيه كذلك ، فالكلام اللفظي يكون دالا على نفس المفهوم وذاته لا بما انه موجود وإرادة ما هو موجود في النّفس منه من باب التطبيق لا الاستعمال والكشف والحكاية.

وعليه ، فالالتزام بوجود فعل للنفس يسمى بالكلام النفسيّ ، وهو الجزم والحكم ، ويكون مدلولا للكلام اللفظي ، لا نرى فيه محذورا.

ولكن ما ذكرناه يختص بالجمل الخبرية كما لا يخفى ، إذ الحكم والتصديق

__________________

(١) والكلام للإمام محمد الباقر عليه‌السلام كما في حق اليقين ١ ـ ٤٧ للسيد الشبر.

٣٨٤

يرتبط بالأخباريات ، فالالتزام به لا ينفع الأشاعرة فيما رتبوه عليه من تغاير الطلب والإرادة ، فانه يتوقف على ثبوته في الإنشائيات.

ولكن الالتزام في الإنشائيات بوجود صفة نفسانية أو فعل للنفس غير الإرادة ونحوها يكون مدلولا للكلام اللفظي ويعبر عنه بالكلام النفسيّ مشكل ، بل ممنوع ، لأن القوم ما بين منكر لوجود صفة في النّفس غير الإرادة ومقدماتها من تصور الشيء والجزم بفائدته وغيرهما. ومدّع لوجود صفة أخرى تتوسط الإرادة والفعل عبر عنها بالاختيار وسمّاها بالطلب.

وبيان ذلك : ان معظم الفلاسفة أو كلهم يدعون بأنه ليس في النّفس غير الإرادة ومقدماتها التي يحصل بها الفعل. فلا واسطة بين الفعل والإرادة وليس لهم شاهد على ما ذهبوا إليه سوى دعواهم الوجدان ، وان كل من يراجع وجدانه يرى انه لا يحصل لديه سوى تصور الشيء ، والجزم بفائدته ، والميل إليه والشوق إليه ، المستتبع للفعل بلا توقف. ولا يجد صفة أخرى غير هذه في نفسه. والوجدان أكبر شاهد على إثبات المدعى. وتابعهم على ذلك صاحب الكفاية (١).

إلاّ ان المتكلمين وبعض الأصوليين خالفوا الفلاسفة في ما ذهبوا إليه ، وادعوا وجود صفة أخرى بين الإرادة والفعل عبروا عنها بالاختيار وبحملة النّفس ومشيئتها.

وممن ذهب إلى ذلك المحقق النائيني قدس‌سره (٢) ، وقد قرب الدعوى : بأنه لا إشكال ان العقلاء يفرقون بين حركة المرتعش والحركة الصادرة عن غيره بفعله ، فيسندون الثانية إلى الشخص ، بحيث يقال انه فعله ويلام عليها أو يثاب على اختلاف موارده. دون الأولى فانه لا يقال له : لم فعلت ذلك ، أو حبذا ما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٨٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٥

فعلت. فالأفعال بنظر العقلاء على نحوين : نحو يستحق المدح والذم ، كرمي الشخص نفسه من شاهق. ونحو لا يستحق المدح والذم ، بل لا يسند إلى الشخص القائم به الفعل ، كما لو رمي شخص من شاهق. فلو لم تكن هناك صفة أخرى غير الإرادة ومقدماتها ، للزم ان يكون الفعل الإرادي كغيره ، فلا فرق بين حركة المرتعش وحركة غيره ، وذلك لأن حصول الإرادة ومقدماتها التي هي العلة التامة للفعل ـ كما يدعى ـ ليس أمرا بالاختيار ، بل هو قهري الحصول ، فالفعل الحاصل بها يكون كعلته قهريا لعدم انفكاكه عنها ، فتكون الإرادة التي تنشأ منها الحركة كالمرض الّذي ينشأ منه الارتعاش ، فالفعلان بالنسبة إلى الشخص على حد سواء. فلا بد ان يكون السبب في الفرق المحسوس وجود صفة أخرى بين الإرادة والفعل يستطيع بها الشخص الفعل وعدمه ، بحيث انه بعد الإرادة له ان يفعل وله ان لا يفعل. تسمى هذه الصفة أو الفعل النفسيّ بالاختيار أو حملة النّفس أو مشيئة النّفس ، وهي المفرقة بين مثل حركة المرتعش وغيره ، لأنه لا اختيار للمرتعش في حركته فليس له ان يفعل وان لا يفعل ، بخلاف غيره فان له الاختيار ، فتارة يفعل. وأخرى لا يفعل. وبذلك يستحق المدح والذم وغيرهما من آثار الفعل الاختياري.

وبهذا التقريب وعلى أساسه تنحل مشكلة الجبر ، إذ يثبت توسط الاختيار بين افعال الناس وإراداتهم ، فلا جبر كما قد يتوهم. كما تنحل مشكلة التفويض به مع إضافة شيء بسيط. وعلى كل فليس ذلك محل بحثنا ، انما المهم هو التنبيه على ان ذلك لا ينفع الأشاعرة.

اما على قول من لا يقول بوجود صفة غير الإرادة ومبادئها فواضح جدا.

واما بناء على الالتزام بوجود صفة أو فعل هو الاختيار المتوسط بين الإرادة والفعل فلان المفروض في كلامهم ان الصفة يعبر عنها بالكلام النفسيّ المدلول للكلام اللفظي ، وليس الاختيار كلاما نفسيا ، إذ لا دلالة للفظ عليه

٣٨٦

بالمرة ، فانه مربوط بالفعل الخارجي لا بالكلام كما ستعرف.

هذا مضافا إلى : انه مما يلتزم به في افعال الشخص الخارجية والتكوينيات دون مثل الأمر من الإنشائيات ، إذ المفروض ان الاختيار يتعلق بنفس الفعل ، فله ان يفعل وله ان لا يفعل ، وهو انما يتم لو كان الفعل فعل الشخص نفسه ، وفي مورد الأمر لا يتصور ذلك ، إذ الفعل ليس فعل الآمر كي يتعلق به اختياره ، وانما هو فعل المأمور ، والّذي يتعلق به اختيار نفس المأمور ، وانما تتعلق به إرادة الآمر فيأمر به العبد ، فلا يتصور حصول صفة الاختيار في مورد التكليف والأمر فلا تحقق لها في مورده. وثبوتها في مورد آخر لا ينفع الأشاعرة.

والمتحصل : انه لا محذور في موافقة الأشاعرة في وجود صفة في النّفس غير الإرادة في الإخباريات دون الإنشائيات.

لكن هذا لا يعني القول باتحاد الطلب والإرادة مفهوما ، بل هما متغايران مفهوما.

وقد قيل : ان التغاير بينهما بنحو العموم المطلق ، فالطلب هو خصوص الإرادة من الغير دون الإرادة ، فانها مطلق الشوق سواء كان من الغير أو لا.

ولكنه غير صحيح ، لوضوح صدق الطلب في موارد لا تتعلق الإرادة فيها بالغير ، كما يقال : طلب الدنيا أو طلب العلم بواسطة المطالعة ونحو ذلك.

فالإنصاف : ان الإرادة تطلق على الصفة النفسانيّة التي هي عبارة عن الشوق والرغبة إلى الشيء مطلقا ، والطلب يطلق على التصدي لحصول المراد والمرغوب ، ولذلك لا يقال طلب الضالة إلا لمن تصدى خارجا للبحث عنها دون من أرادها نفسا فقط ، فالطلب ليس هو الشوق نفسه ، بل هو إظهاره وإبرازه بالتصدي لتحصيل المشتاق إليه. ولذلك يطلق الطلب على نفس صيغة الأمر لأنها تتعنون بعنوان التصدي وبها إظهار الإرادة. وبذلك يتضح اختلاف الطلب والإرادة مفهوما ، وانه ليس مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب ، بحيث يكون

٣٨٧

اللفظان مترادفين ـ كما ادعاه صاحب الكفاية ـ كما يتضح ان إطلاق الطلب على الاختيار في التكوينيات ـ كما ارتكبه المحقق النائيني ـ لا يخلو عن تسامح ، فان التصدي ينشأ عن الاختيار ، وليس هو الاختيار كما لا يخفى. وقد نبه قدس‌سره على ذلك بتقريب : ان التوجه والقصد لما كان إلى الغاية لا إلى المبدأ أطلق اسم الغاية على المبدأ من باب أخذ الغاية وترك المبدأ ، كما يطلق الأكل على مجرد البلع بلا مضغ. فلاحظ.

يبقى الكلام في الجهة الثانية من جهات النزاع ـ أعني النزاع في مدلول صيغة الأمر ـ.

فقد تقدم الكلام فيما مضى عن معنى الحروف وهيئة الاسم وهيئة الماضي والمضارع من الأفعال. وبقي الكلام في هيئة الأمر كـ : « افعل » و « صلّ » و « كل » ونحوها وموضعه هاهنا.

وعلى كل فقد ذكر صاحب الكفاية : انها موجدة لمعناها في نفس الأمر (١) ، وقد تقدم منه ان الصيغ الإنشائية تتكفل إيجاد المعنى بوجود إنشائي (٢).

ولكن ما ذكره هنا ليس بيانا لمعنى الصيغة ، إذ لم يعلم ما هو معناها الّذي توجده إنشاء. وكلامنا في معرفة معناها وما هي موضوعة له لا في بيان أثرها وعملها.

ولكنه قال في موضع آخر ما مضمونه : إن صيغة افعل تستعمل في إنشاء الطلب ، وان معناها ذلك وان اختلفت دواعي إنشائه ، من طلب ، وتهديد ، وتعجيز ، واستفهام ، ونحوها (٣).

ومن الواضح ان الالتزام بوضع الصيغة لإنشاء الطلب مثار المناقشة ، لأن

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول ـ ٢٨٦ ـ المطبوعة ضمن حاشية الفرائد.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٩ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٨٨

الإنشاء كما عرفت غير قابل للإنشاء والإيجاد مرة أخرى. وعليه فلا تصلح الصيغة لإنشاء معناها كما ذكره ، لأن معناها هو الإنشاء وهو غير قابل للإيجاد. ومن هنا حاول البعض تصحيح كلامه بحمله على إرادة كون الموضوع له والمستعمل فيه هو الطلب الإنشائي لا إنشاء الطلب ، كما وجهت عبارة الشيخ الدالة على ان البيع هو إنشاء التمليك بإرادة التمليك الإنشائي ، كما أشرنا إليه. ولكنك قد عرفت عدم ارتفاع الإشكال ، فان الطلب الإنشائي معناه هو الطلب الموجود بوجود إنشائي ، فلا يقبل الإنشاء ثانيا لامتناع إيجاد الموجود. وعليه فلا تصلح الصيغة لإيجاد معناها لأنه غير قابل للإيجاد ، إذ هو الطلب الإنشائي.

فالأولى ان يقال في توجيه عبارته قدس‌سره : ان الموضوع له والمستعمل فيه هو الطلب ، لكن قيد الوضع ـ بمعنى العلقة الوضعيّة ـ بان تستعمل في مقام الإنشاء والإيجاد ، فان الطلب تارة يقصد الأخبار عنه. وأخرى يقصد إيجاده وإنشاؤه. فصيغة افعل وضعت لنفس الطلب لكن بقيد استعمالها في مقام الإنشاء والإيجاد ، بحيث لا يجوز أن تستعمل في الاخبار عن الطلب ، ولذلك لا تدل عليه بوجه. فاللام في قوله : « لإنشاء » لم يقصد بها لام الإضافة بل لام الغاية ، فمراده انها موضوعة للطلب لأجل إنشائه بتقييد الوضع بذلك. وإذا كانت موضوعة لمفهوم الطلب صح استعمالها فيه بقصد إيجاده ، ويتحقق الطلب فيها بتحقق إنشائي كغيره من المفاهيم المنشأة.

وعليه ، فلا إشكال في كلامه من هذه الجهة. انما الإشكال في أصل دعواه الوضع لمفهوم الطلب المبتني على دعواه في مبحث الحروف بعدم الفرق الذاتي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وان كلا من الحرف والاسم موضوع لمعنى واحد ، والفرق في جهة خارجة عن الموضوع له ، وهي اختصاص الاسم باللحاظ الاستقلالي ، والحرف باللحاظ الآلي.

فانك قد عرفت فيما تقدم وجود الفرق الذاتي الجوهري بين معنى الاسم

٣٨٩

والحرف ، فيمتنع ان توضع الهيئة إلى مفهوم الطلب كلفظ الطلب ، لأن الهيئة من الحروف.

ولكنه ليس بإيراد خاص بهذه الدعوى ، بل هو راجع إلى أصل المبنى ، فالهيئة والطلب كـ : « من والابتداء » و « في والظرفية ».

وعلى كل ، فما ذكره في معنى الصيغة لا يمكن الالتزام به لما عرفت من ان معنى الحروف ليس من سنخ المفاهيم ، فيمتنع الالتزام بان الصيغة موضوعة لمفهوم الطلب. فلاحظ.

وقد ادعي : انها موضوعة لإبراز الاعتبار النفسانيّ (١).

وتحقيق الحال فيه يقتضى التكلم في جهتين :

الجهة الأولى : في ان المعتبر ومتعلق الجعل هل هو كون الفعل في عهدة المكلف ، أو انه البعث نحو الفعل؟. وبعبارة أخرى : ان الأمر هل هو جعل الفعل في عهدة المكلف الّذي يرجع ثبوته إلى اشتغال ذمة المكلف بالفعل ، أو انه جعل الباعث نحو العمل والمحرك إليه؟. ويترتب على تحقيق أحد الاحتمالين آثار عملية في الأصول جمّة تظهر بوضوح في باب التزاحم والعلم الإجمالي ، فان التكليف إذا كان من باب اشتغال الذّمّة لا يعتبر فيه القدرة على العمل ، لعدم توقفه عليه ، بل يكون كالدين الّذي في الذّمّة مع عدم القدرة على الأداء ، بخلاف ما إذا كان جعل الباعث ، فان الباعثية والمحركية تتوقفان على القدرة لتوقف الانبعاث عليها.

كما انه بناء على الأول لا يعتبر في تنجز العلم الإجمالي كون جميع أطرافه محل الابتلاء ، لعدم اعتبار كون الشيء في موضع الابتلاء في صحة التكليف به ، بناء على انه من باب اشتغال الذّمّة بالفعل. بخلاف ما لو كان جعل الباعث

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ١٣٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٠

لاشتراط موضعية الشيء للابتلاء في التكليف به ، فيعتبر في تنجيز العلم الإجمالي كون جميع الأطراف محل الابتلاء.

وبالجملة : فالالتزام بالأول له آثار جمّة قد تغير من سير الفقه والاستنباط الفعلي.

والصحيح : انه لا يمكن ان يلتزم بجعل الفعل في العهدة ـ كما عليه السيد الخوئي ـ ولا جعل البعث واعتباره تشبيها بالبعث التكويني ـ كما عليه المحقق الأصفهاني ـ.

وتحقيق هذه الجهة ليس محله الآن بل يكون في مورد التزاحم أو نحوه إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية : في صحة كون الموضوع له الصيغة هو الاعتبار بأحد احتماليه أو إبرازه. وقد تقدم تحقيق ذلك في مبحث الإنشاء والاخبار ، وتقدم ان هذه الدعوى باطلة لا محصل لها. فراجع (١).

والمشهور كون الصيغة موضوعة للنسبة الطلبية كغيرها من الحروف الموضوعة للنسب الخاصة.

وتوضيحه : ان الشخص حينما يطلب شيئا من غيره تكون هناك نسبة ذات أطراف أربعة ، وهي : الطالب ، والطلب ، والمطلوب ، والمطلوب منه. ويعبر عن هذه النسبة بالنسبة الطلبية ، وهي معنى إيجادي ، كما عرفت في تحقيق حقيقة النسب. ولها مماثل في الذهن ، فالهيئة تستعمل في النسبة الطلبية المتحققة في ذهن المتكلم بقصد إيجاد البعث وإنشائه.

واما اعتبار البعث ففيه :

أولا : ان البعث التكويني لا يترقب منه سوى تحقق الفعل ولو بدون

__________________

(١) راجع ١ ـ ١٣٧ من هذا الكتاب.

٣٩١

اختيار الشخص. وهذا لا يمكن ان يلتزم به في باب التكليف ، فكيف يكون متعلقا للاعتبار؟.

وثانيا : انه خلاف ما يصرح به القائل نفسه من كون الحكم المجعول هو ما يمكن ان يكون داعيا الّذي يرجع إلى جعل الداعي والباعث ، وهو غير جعل البعث.

وثالثا : ان الاعتبار شيء لا بد ان يكون بلحاظ ترتب أثر عليه بوجوده الحقيقي ، فيقصد ترتيبه عند اعتباره ، كما في الملكية ونحوها. وهذا انما يكون إذا لم يكن الأثر مما يترتب بدون الاعتبار وإلاّ كان لغوا ، والأثر المترقب من جعل التكليف هو لزوم الطاعة عقلا. وهذا يترتب بمجرد وجود الغرض الملزم مع تصدي المولى لتحصيله ، سواء تحقق اعتبار البعث أم لا ، فإذا حصل التصدي وجبت الطاعة ولو لم يعتبر أي شيء وعليه يكون الاعتبار لغوا لا أثر له.

ويتحصل من ذلك : ان مفاد الصيغة ليس امرا مجعولا ، بل مفادها ما عرفت من نسبة صدور الفعل إلى الإرادة النفسيّة وغيرها من الصفات ، والمتكلم حيث يستعملها في هذا المقام يتحقق به مصداق التصدي ، فتلزم الحركة على طبق الغرض الملزم ، فالطلب عنوان الصيغة لا مدلول لها ، كما انها لا تكشف إلا عن أمر تكويني لا جعلي.

هذا هو المشهور. وقد نسب إلى المحقق الشيخ هادي الطهراني رحمه‌الله دعوى كون الهيئة موضوعة للنسبة الصدورية بين الفعل والمخاطب بداعي الطلب ، فان استعمال الهيئة في النسبة الصدورية قد يكون بداعي الاخبار كما هو الحال في الجمل الخبرية كـ : « ضرب زيد » ونحوه. وقد يكون بداعي الإنشاء والإيجاد ، كما هو الحال في الألفاظ الموضوعة لما يقبل الإيجاد كـ : « بعت » ونحوه. وقد لا يكون بكلا الداعيين بل بداع آخر ، كداعي الطلب. فهيئة الأمر مستعملة في النسبة الصدورية ولكن بداع الطلب ، وقصد تحقق الفعل ، لا بداعي الاخبار ،

٣٩٢

ولا بداعي الإيجاد ، لعدم قابلية الطلب للإيجاد ، وبذلك يحصل الانبعاث نحو الفعل والتحريك إليه ، كما لا يخفى.

والّذي حدا به إلى هذه الدعوى : ما أشرنا إليه ، من الإشكال في إنشائية بعض الصيغ كصيغ التمنّي لعدم كون معانيها قابلة للإيجاد ، إلا بناء على رأي صاحب الكفاية في الإنشاء. وقد أشرنا هناك إلى تخلصه عن الإشكال بان الإنشاء ليس هو استعمال اللفظ بداعي الإيجاد كي يستشكل في إنشائية بعض الصيغ ، بل هو استعمال اللفظ في المعنى لا بداعي الحكاية والاخبار. سواء كان بداعي الإيجاد أو غيره من الدواعي ، كالتمني والطلب ونحوهما.

وقد عرفت إمكان التخلص عن الإشكال بوجه آخر مع المحافظة على ما هو المشهور من معنى الإنشاء. فلاحظ تلك المباحث.

وعلى كل ، فالوجه الّذي ذكره في معنى الصيغة لا محذور فيه ثبوتا ، فيدور الأمر إثباتا بين الالتزام به والالتزام بما هو المشهور ، ولا دليل من الصناعة يعين أحدهما.

فالأولى إحالتهما على الوجدان ، والّذي يعينه الوجدان هو المعنى المشهور ، فان العرف لا يجد من الآمر انه استعمل اللفظ في صدور الفعل من المخاطب بداعي الطلب ، بل يرى انه استعمل الهيئة في مقام أسبق من مقام الصدور وهو مقام التسبيب إلى الصدور والبعث نحو الفعل.

وبعبارة أخرى : ان الّذي يجده كل آمر من نفسه ويفهمه العرف منه هو انه عند الأمر واستعمال الصيغة لا يلاحظ نسبة صدور الفعل من المخاطب بحيث يستعمل اللفظ فيها ، بل لحاظه يتركز على ما هو السبب في ذلك وهو نسبة الطلب والبعث.

وعليه ، فالمتعين الالتزام بان الموضوع له صيغة الأمر هو النسبة الطلبية ، على حد سائر الحروف من وضعها لأنحاء النسب والربط.

٣٩٣

وهذا هو مراد من صرح بان الموضوع له الصيغة هو الطلب أو البعث النسبي ـ وهو المحقق الأصفهاني (١) ـ ، وليس مراده كون الموضوع له هو نفس مفهوم البعث المتقوم بطرفين والملحوظ حالة لغيره في قبال البعث الملحوظ بنفسه ومستقلا ، إذ ذلك لا يخرجه ـ عند هذا القائل ـ عن كونه مفهوما اسميا لا حرفيا ، إذ اختلاف اللحاظ لا يوجب اختلافا في حقيقة المفهوم ، بل يبقى اسميّا وان لوحظ حالة لغيره ، لأن الاختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي لدى القائل جوهري ذاتي. بدعوى ان المعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم بالمرة وانما هو نحو وجود المفهوم في الذهن. وبتعبير أوضح : المعنى الحرفي هو النسبة الذهنية بأنحائها ، فلا بد ان يكون مراده من تعبيره بوضع الهيئة للبعث النسبي ـ بقرينة ما سبق منه في المعنى الحرفي ـ هو النسبة الطلبية والبعثية ، وإلاّ كان المعنى اسميا وهو خلف كون الهيئة من الحروف.

وقد تابع المحقق المذكور في التعبير المزبور مقرر المحقق العراقي رحمه‌الله فذكر : ان الهيئة موضوعة للبعث النسبي (٢).

ويغلب الظن أنه اشتباه من المقرر ، وانه ليس من تعبيرات نفس المحقق العراقي ، وانما أخذه المقرر من المحقق الأصفهاني ، فانه يختار في الهيئات والحروف غير المستقلة كونها موضوعة للنسب كما تقدم ، مضافا إلى استبعاد توافق المحققين في التعبير الواحد وتوارد ذهنيهما على لفظ فارد ، ولذلك لم يجئ هذا التعبير في المقالات ، وعبر بالوضع للنسبة الإرسالية بين المبدأ والفاعل (٣) ، فلاحظ (٤).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٢٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

(٣) العراقي المحقق الشيخ آقا ضياء. مقالات الأصول ـ ٧٠ ـ الطبعة الأولى.

(٤) لا يخفى انه يصرح قدس‌سره بكونها ـ الصيغة ـ موضوعة للنسبة الإرسالية كما في نهاية الأفكار ١ ـ ١٧٨

٣٩٤

وعلى كل فالأمر سهل.

المطلب الثاني : في صيغة الأمر.

وتحقيق الحال فيها يستدعي بيان جهات :

الجهة الأولى : في بيان معنى الصيغة وما هو الموضوع له الهيئة.

وقد تقدم بيانه في ذيل مبحث الطلب والإرادة ، وقد عرفت انه النسبة الطلبية.

وقد وقع الإشكال والكلام في استعمالها في موارد لا يكون هناك طلب حقيقي ، كاستعمالها في مقام التهديد أو الامتحان أو التعجيز أو السخرية والاستهزاء.

وجهة الإشكال ـ كما أشار إليها صاحب الكفاية ـ هي : انها ـ أعني الصيغة ـ في هذه الموارد هل هي مستعملة في هذه المعاني كالتهديد والتعجيز والتمني والترجي وغيرها؟ فيكون الاستعمال مجازيا فيها لوضعها للطلب ، إلاّ أن يدعى الوضع لكل منها ، أو الجامع ان كان. أو انها مستعملة في معناها الموضوعة له بلا اختلاف؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني ، فادعى : ان المستعمل فيه في الجميع واحد وهو الموضوع له ، واختلاف الموارد من جهة أخرى خارجة عن دائرة المستعمل فيه. ببيان : ان الموضوع له الصيغة هو مفهوم الطلب بقصد إيجاده في عالم الإنشاء ، وهذا المعنى قد تختلف الدواعي له ، فتارة : يكون الداعي له هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي. وأخرى : يكون الداعي له هو التهديد. وثالثة : يكون هو التمني. ورابعة : التعجيز. وهكذا .. فالمستعمل فيه في جميع هذه الموارد واحد وهو مفهوم الطلب بقصد الإنشاء ، وانما الاختلاف من جهة

٣٩٥

الدواعي ، وغاية ما يمكن دعواه : هو ان الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب بداعي البعث والتحريك ، فإذا كان الإنشاء بداع آخر لزم المجاز ، ولكنه لا بمعنى استعمالها في التهديد ونحوه ، بل كل هذه الأمور خارجة عن دائرة المستعمل فيه.

ثم أضاف قدس‌سره إلى ذلك تأتّي ما ذكره في جميع الصيغ الإنشائية ، فالمستعمل فيه صيغة الاستفهام هو مفهوم الاستفهام بقصد إنشائه ، وانما يختلف الداعي إلى ذلك ، فتارة : يكون ثبوت الاستفهام حقيقة. وأخرى : يكون بداع آخر كالاستنكار أو التقرير أو نحوهما. وهكذا الحال في صيغ التمني والترجي وغيرهما. ومن هنا يظهر انه لا وجه للالتزام بانسلاخ صيغ الاستفهام عن معانيها إذا وردت في كلامه تعالى واستعمالها في غيرها ـ كما أشار إليه الشيخ في رسائله ، في مبحث حجية خبر الواحد ، في آية النفر حيث قال : « ان لعل ـ بعد انسلاخها عن معنى الترجي ـ ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلم » (١) ـ ، لاستحالة ثبوت الاستفهام حقيقة في حقه تعالى ، لانتهائه إلى الجهل. واستحالة ثبوت الترجي والتمني حقيقة في حقه لانتهائه إلى العجز كما لا يخفى ، وتعالى الله عنهما علوا كبيرا. وذلك لأن معانيها ليس إلا الفرد الإنشائي لا الحقيقي ، والمستحيل في حقه هو الحقيقي منها دون الإنشائي ، فالمستعمل فيه في كلامه تعالى وفي كلام غيره واحد ، إلا ان الداعي في كلامه لا يمكن ان يكون ثبوت الصفات حقيقة ، بل يكون شيئا آخر كالاستنكار وإظهار المحبة ، كما يقال في سؤاله تعالى لموسى عليه‌السلام عن ما في يمينه. فلاحظ (٢).

والتحقيق : انه لا بد أولا من معرفة صحة ما ذكره من كون الصيغة مستعملة لإيجاد الطلب إنشاء ، وانما يختلف الداعي إليه ، وان ذلك معقول ثبوتا

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٧٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٩٦

أو غير معقول. ثم يقع الكلام إثباتا بعد ذلك.

والإنصاف انه غير معقول ثبوتا ، فان الداعي بحسب ما يصطلح عليه هو العلة الغائية ، بمعنى ما يكون في تصوره سابقا على الشيء وفي وجوده الخارجي مترتبا على الشيء متأخرا عنه. فيقال : « أكل » بداعي تحصيل الشبع ، فان الشبع تصورا سابق على الأكل ، وبلحاظ ترتبه على الأكل ينبعث الشخص إلى الأكل ، ولكنه وجودا يترتب على الأكل ويتأخر عنه.

وعليه ، فصلاحية الأمور المذكورة من تمن وترج وتعجيز وتهديد وامتحان وسخرية لأن تكون داعيا للإنشاء في الموارد المختلفة يصح في فرض ترتب هذه الأمور على الإنشاء وجودا وأسبقيتها عليه تصورا. وليس الأمر فيها كذلك ، فان ..

منها : ما يترتب على صورة الأمر ولو لم يكن استعمال أصلا كالامتحان في مقام الإطاعة ، لأن الاختبار يتحقق بذكر ما صورته أمر ولو كان مجرد لفظ ولقلقة لسان ، إذ الانبعاث نحو الفعل يحصل بوجود ما يتخيل المنبعث كونه أمرا حقيقة ، فيعلم بذكر الصيغة ولو لم يقصد بها أي معنى أنه في مقام الإطاعة أو العصيان.

ومنها : ما يترتب على الأمر حقيقة وبداعي البعث والتحريك ، كالامتحان في المأمور به واختباره في مقدار معرفته في أداء المأمور به ، فان المأمور به مراد واقعا كامتحان الطفل بأمره بالكتابة أو القراءة.

منها : ما يكون في تحققه وترتبه أجنبي بالمرة عن الأمر حقيقة وصورة ، كالتهديد والتمني والترجي ونحوها ، فان هذه الأمور تحصل بأسبابها الخاصة ولا تترتب على الأمر ، كما لا يخفى.

نعم في ما كان الداعي السخرية والاستهزاء ، أمكن أن يدعى ترتب الاستهزاء على استعمال الصيغة في معناها لا بداعي الجد والواقع ، فيصلح الاستهزاء على استعمال الصيغة في معناها لا بداعي الجد والواقع ، فيصلح الاستهزاء للداعوية لو لم نقل بأنه ـ أعني الاستهزاء ـ يتحقق بمجرد الإنشاء صورة ولو لم يكن استعمال ، فان إنشاء الأمر صورة بلا قصد أي معنى من المعاني ،

٣٩٧

بل ليس المقصود إلا هذه الألفاظ الخاصة ، يعد استهزاء عرفا. فتأمل.

وإذا تبين ان جميع هذه الأمور لا تصلح للداعوية ما عدا الاستهزاء ـ على إشكال فيه ـ فلا وجه لأن يقال : ان الصيغة هنا مستعملة في معناها ، ولكن لا بداعي البعث والتحريك بل بداع آخر.

فالأولى ان يقال في هذه الموارد : ان الصيغة مستعملة فيها في معناها الحقيقي وبداعي البعث والتحريك ، إلا ان موضوع التكليف مقيد ، فالتكليف وارد على الموضوع الخاصّ لا مطلق المكلف ، ففي مورد التعجيز يكون التكليف الحقيقي معلقا على قدرة المكلف بناء على ادعائه ، فيقال له في الحقيقة : « ان كنت قادرا على ذلك فأت به » ، فحيث انه لا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه لا يكون مكلفا ، لا بلحاظ عدم كون التكليف حقيقيا ، بل بلحاظ انكشاف عدم توفر شرط التكليف فيه وعدم كونه مصداقا لموضوع الحكم ، فموضوع الحكم هاهنا هو القادر لا مطلق المكلف. وهكذا يقال في التهديد فان الحكم فيه مشروط بمخالفة الأمر في مكروهة وما لا يرضى بفعله وعدم الخوف من عقابه ، فيقول له : « افعل هذا إذا كنت لا تخاف من العقاب ومصرا على فعل المكروه عندي » ، فالموضوع خاص في المقام ، وهكذا الكلام في البواقي.

ومثل هذا يقال في الأوامر الواردة في أجزاء الصلاة ، فان المشهور على انها أوامر إرشادية تتكفل الإرشاد إلى جزئية السورة مثلا وغيرها.

ولكن للفقيه الهمداني تحقيق فيها لا بأس فيه وهو : انها أوامر مولوية حقيقية إلا انها واردة على موضوع خاص ، وهو من يريد الإتيان بالمركب الصلاتي كاملا وعلى وجهه ، فكأنه قيل لهذا الشخص : « ائت بالسورة » ، فمن لا يريد ذلك لا يكلّف بهذا التكليف ، فالامر مولوي لكن موضوعه خاص (١).

__________________

(١) الهمداني الفقيه آغا رضا. مصباح الفقيه ـ ١٣٣ كتاب الصلاة ـ الطبعة الأولى.

٣٩٨

والمتحصل : انه إذا أمكن الالتزام بان الصيغة في هذه الموارد مستعملة في النسبة بداعي البعث والتحريك جدا ، فلا وجه لتكلف جهة أخرى في حل الإشكال في هذه الموارد ، كما تصدى لذلك صاحب الكفاية.

وبعد هذا نقول : ان ما ذكره صاحب الكفاية من كونها ظاهرة في الطلب والبعث الحقيقي (١) ، سواء ادعى انها موضوعة لمطلق النسبة الطلبية ، أو النسبة الطلبية إذا كان الداعي هو البعث الحقيقي ، أمر لا ينكره أحد ، فان العرف يفهم ذلك من الصيغة بمجرد إطلاقها ، ولا يهمنا بعد ذلك تحقيق الموضوع له ، إذ الّذي يفيد الفقيه والأصولي تحقيق ظاهر الكلام المنسبق منه عند إطلاقها سواء كان بالوضع أو بغيره ، فلا يهمه تحقيق ان هذا الظهور وضعي أو ليس بوضعي.

الجهة الثانية : في ظهور الصيغة في الوجوب.

فقد وقع الخلاف في انها ظاهرة في خصوص الطلب الإلزامي المعبر عنه بالوجوب ، أو الطلب غير الإلزامي المعبر عنه بالندب ، أو مطلق الطلب بلا خصوصية الإلزام وعدمه فيحتاج تعيين كل منهما إلى قرينة خاصة وبدونها يكون الكلام مجملا.

وقد أشار صاحب الكفاية إلى هذا الخلاف واختار وضعها للطلب الوجوبيّ (٢).

إلا ان المحقق النائيني سلك نحوا آخر في تحقيق المسألة مدعيا عدم الوجه في البحث في تشخيص الموضوع له وانه الوجوب أو الندب أو الأعم ، لأن الطلب الوجوبيّ ليس سنخا آخر غير الطلب الندبي ، بل هما من سنخ واحد ومعنى فارد ، فان الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة المولى.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٧٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٩٩

وعليه ، فليس هناك نحوان من الطلب ثبوتا كي يتنازع في كون أيهما الموضوع له دون الآخر. وبيان ما أفاده ـ كما جاء في تقريرات بحثه للسيد الخوئي ـ : إن بناء المتقدمين كان على كون كل من الوجوب والاستحباب معنى مركبا ، فالوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك ، والاستحباب هو طلب الفعل مع الترخيص في الترك. وقد رفض المتأخرون هذا القول وذهبوا إلى أنهما أمران بسيطان وهما مرتبتان من الطلب ، فمرتبة منه ضعيفة يعبر عنها بالاستحباب ومرتبة شديدة يقال عنها الوجوب ، والمنع من الترك والاذن فيه من لوازم شدة الطلب وضعفه لا دخيلان في حقيقة الوجوب والاستحباب ، وهذا المعنى أمر عرفي ظاهر لا يقبل الإنكار.

ولكنه قدس‌سره لم يرتض هذا المعنى ذاهبا إلى : ان الطلب غير قابل للشدة والضعف ، وان المستعمل فيه في كلا الحالين ، سواء كان الفعل ضروري الوجود أو غير ضرورية ، ليس إلاّ النسبة الإيقاعية بمعنى إيقاع المادة على المخاطب من دون ان يكون شدة وضعف في المستعمل فيه ، ولا يجد الآمر اختلافا في المستعمل فيه في نفسه.

واما الطلب القائم بالنفس المتعلق بالافعال التكوينية ، فهي غير قابل للشدة والضعف أيضا ، لأنه ـ كما عرفت ـ عين الاختيار ، وهو واحد في كل الحالات.

واما الإرادة فهي وان كانت في نفسها قابلة للشدة والضعف ، لكن الإرادة فيما نحن فيه هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات ، وغيره لا يكون إرادة ، وذلك غير قابل للشدة والضعف.

وبذلك يتبين ان الوجوب والاستحباب ليسا من كيفيات المستعمل فيه حتى يدعى ظهور أو انصراف صيغة في أحدهما ، بل المستعمل فيه واحد ، وهو النسبة الإيقاعية ، والاختلاف من حيث المبادئ ، فان إيقاع المادة على المخاطب

٤٠٠