منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

فدفع الجهة الأولى من الإشكال : بان صفات الباري عزّ وجل وان كانت متحدة مع ذاته خارجا ووجودا إلا ان المبدأ يغايرها مفهوما ، فان مفهوم العلم يغاير مفهوم الذات المقدسة ، وهذا التغاير المفهومي يصحح الحمل بلا إشكال ولا ريب ، كيف؟ وقد عرفت ان من أقسام الحمل ما كان التغاير فيه بين المفهومين والاتحاد بين الوجودين وهو الحمل الشائع ، فلا يعتبر التغاير بين الوجودين في صحة الحمل كما لا يخفى (١).

والإنصاف ان الأمر كما ذكره ، بل لا يحتاج إلى ذلك أصلا ، فان حلّ هذه الجهة أهون من ان يعقد لها تنبيه مستقل وتكون مورد الاهتمام بهذا النحو ، ولم تكن كفاية المغايرة المفهومية بين المبدأ والذات محل الإشكال بحسب الظاهر.

وعلى كل فيكفي في صحة الحمل مغايرة نفس المحمول مع الموضوع ـ كما أشار إلى ذلك المحقق الأصفهاني (٢) ـ ولا يحتاج إلى إثبات مغايرة مبدئه ، فان المعتبر هو وجود المغايرة بين المحمول والموضوع لا غير ، ومن الواضح ان مفهوم المشتق يختلف عن مفهوم الذات حتى فيما كان مبدؤه متحدا مع الذات مفهوما ، نظير : « السواد أسود والوجود موجود ».

وعليه ، ففي مثل صفات البارئ وان كان المبدأ متحدا مع الذات وجودا إلا ان المحمول هو الصفة لا المبدأ ، والصفة مغايرة للذات ، ومغايرتها تكفي في صحة الحمل.

وبالجملة : فاندفاع هذه الجهة من الإشكال في غاية الوضوح ، فلا تحتاج إلى مزيد بحث وتفصيل كلام.

واما الجهة الثانية : فقد دفعها المحقق صاحب الكفاية ـ بعد التزامه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٥٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٩٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٦١

باعتبار التلبس وقيام المبدأ بالذات في صدق المشتق ، ودفع توهم من توهم عدم اعتباره لأجل صدقه في موارد لا يقوم المبدأ فيها بالذات ، كالضارب والمؤلم فان الضرب والألم يقومان بالمضروب والمؤلم ، مع ان صدق الضارب والمؤلم على من صدر منه الضرب والألم حقيقي لا إشكال فيه ـ : بان أنحاء القيام والتلبس تختلف باختلاف أنحاء المبادي وأطوارها ، فتارة : يكون القيام صدوريا. وأخرى : حلوليا. وثالثة : بنحو الوقوع عليه. ورابعة : بنحو الوقوع فيه. وخامسة : يكون بنحو الانتزاع. وسادسة : يكون بنحو الاتحاد خارجا. فالقيام على أنحاء ، ومنه القيام بنحو الاتحاد خارجا كما في صفات الباري تعالى ، فان العلم قائم بذاته ، لكن قيامه بنحو العينية والاتحاد. وعدم اطلاع العرف على مثل هذا النحو من التلبس وكونه بعيدا عن الأذهان العادية لا يضر صدقها عليه ، مع وجود مفهوم صالح للصدق عليه حقيقة ولو بعد الدقة والتأمل العقلي ، فان العرف مرجع في تشخيص المفاهيم دون المصاديق وما ينطبق عليه المفهوم (١).

وأنت خبير بان ما ذكر صاحب الكفاية من صدق التلبس في صفات الله عزّ اسمه وتحقق القيام وانه نحو قيام لا يدرك إلا بالدقة ، امر لا يعدو هذه الألفاظ ومعانيها ، وإلاّ فهو غير قابل للتصور والتسليم بعد ان عرفت ان التلبس يستتبع النسبة بين الذات والمبدأ ويتقوم بها ، والنسبة تتوقف على وجود اثنينية وتغاير بين المنتسب والمنتسب إليه ولا اثنينية بين صفات الله وذاته فلا تتصور النسبة والتلبس بينهما ، ففرض وجود التلبس والقيام بنحو خاص وهو القيام بنحو الاتحاد أمر لا يسهل التسليم به ولا يعرف كنهه. وما ذكره قدس‌سره أشبه بالفرار عن الإشكال والانحراف به إلى عالم آخر وجهة ثانية. فتأمل.

وقد تصدى المحقق الأصفهاني (ره) لدفع الإيراد المزبور : بعنوان توضيح

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٥٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٢

عبارة الكفاية : بان من مصححات صدق المشتق عينية المبدأ لتمام ذات الموضوع ، كما في صدق الأسود على السواد والموجود على الوجود ، ببيان : ان اتصاف الجسم بالأسود بواسطة أمر خارج عن ذاته يوجب أولوية اتصاف السواد به ، لأن وجدان الشيء لنفسه ضروري ، ومن هذا الباب صدق صفات الكمال والجمال والجلال على ذات الباري عزّ اسمه ، فان مبادئها عين ذاته ، وهو نحو من القيام ، بل هو أعلى مراتب القيام (١).

والإنصاف انه لا يخلو عن شيء من التوقف ، فانه ان كان المراد كما قد يظهر انه لا يعتبر في صحة الحمل وصدق المشتق التلبس والنسبة ، بل يكفى واجدية الذات للمبدإ ، فما ذكره من ضرورة واجدية الشيء لنفسه لا يكاد يتعقل ، فان الظاهر من الواجدية عرفا كونها إضافة خاصة تتقوم بالواجد والموجود ، وظاهران الإضافة بطبعها تقتضي الاثنينية ، فلا معنى لأن يقال ان الشيء واجد لنفسه ، بل ـ إذ هو عين نفسه ـ فواجديته لنفسه لا محصل لها. وعليه ، فالتخلص عن الإيراد بما ذكر لا يتحقق ، إذ ما ذكر يقتضي الاثنينية أيضا.

وقد تصدى السيد الخوئي ( دام ظله ) لتصحيح اعتبار الواجدية في صحة الحمل وعدم اعتبار التلبس بتقريب : ان التلبس بمعنى قيام العرض بمعروضه غير معتبر بلا إشكال ، ضرورة صحة صدق المشتقات الاعتبارية مع عدم كونها من الاعراض وليست بقائمة بالذات قيام العرض بمعروضه ، فلا بد أن يكون المصحح للصدق واجدية الذات للمبدإ كي تشتمل المبادئ الاعتبارية ، بل جاء في تقريراته : ان المراد من التلبس هو ذلك ، ثم ذكر أن واجدية الذات لنفسه ضرورية (٢).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٠٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٢٩٢ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٣

ولا يخفى ان ما ذكره انما يتم لو دار الأمر بين التلبس بمعنى قيام العرض بمعروضه والواجدية بحيث لم يكن هناك واسطة ، إذ نفي أحدهما يعين الآخر قهرا ، ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ يمكن ان يؤخذ في تصحيح الحمل وجود النسبة والربط بين المبدأ والذات فيعم المبادئ الاعتبارية ولا يرجع إلى الواجدية ، فنفي أخذ التلبس بذاك المعنى لا يعين الواجدية كما لا يخفى. بل يمكن اعتبار التلبس ولكن بمعنى قيام المبدأ بالذات لا قيام العرض بمعروضه ، فيعم أيضا الأوصاف الاعتبارية.

ثم ان ما ذكر في كلام العلمين من تصحيح الحمل بواجدية الذات للمبدإ بنحو واجدية الشيء لنفسه وكونه من الحمل اتحاد الواجدية يمكن ان يورد عليه :

أولا : ان مقتضاه صحة حمل المشتق على ما يدل على المبدأ في جميع الموارد ، مع انه لا يصح ان يقال : « القيام قائم ، والعلم عالم ، والضرب ضارب » ونحو ذلك.

وثانيا : ان المدار في تشخيص مفاهيم الألفاظ على الفهم العرفي ، والعرف يفهم من المشتق الواجدية المتقومة باثنين ، والحاصلة بين أمرين ، ولا يفهم منه ما يعم واجدية الشيء لذاته ولو كان هذا ناشئا عن عدم إدراكه لها ، وهذا ليس من الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق بل من الرجوع إليه في تعيين المفاهيم. فلاحظ.

وبالجملة : ما ذكره لا يرجع إلى محصل.

والّذي يتحصل : انه لم يتم لدينا وجه لدفع الإشكال في صدق صفات الباري على ذاته حقيقة ، لعدم النسبة والربط لعدم التغاير بين الذات والصفات ، فلا محيص عن الالتزام بما التزم به صاحب الفصول من كون استعمالها بنحو المجاز أو النقل.

نعم يبقى هنا إيرادان :

٣٦٤

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية على الالتزام بالنقل ، من لزوم الإلحاد أو التعطيل ، وذلك لأن المعنى الّذي يراد استعماله فيه ، اما ان يكون المعنى العرفي المفهوم كمن ينكشف لديه العلم في عالم ، أو ما يقابله كالجهل ، أو لا يراد بها أي معنى.

فالأوّل : هو المدعى والمفروض انه لا يقول به. والثاني ، يستلزم نسبة الجهل إليه تعالى وهو محال. والثالث ، يستلزم ان يكون اللفظ صرف لقلقة لسان (١).

ولا يخفى ان هذا الإيراد انما يتأتى لو أراد صاحب الفصول بالنقل نقل المادة ، اما لو كان مراده نقل الهيئة وانها تستعمل في معنى آخر غير المعنى الموضوعة له لم يلزم ما ذكر ، فان المبدأ يراد به معناه ، وهو من ينكشف لديه العلم ، وإنما التصرف في الهيئة ، فانها هي مورد الإشكال.

الثاني : ان التجوز لا يتصور في الحروف ، إذ الموضوع له فيها هو النسبة والربط وهو من سنخ الوجود ، فإذا لم يستعمل فيه الحرف واستعمل في غيره ، فاما ان يكون الغير من المعاني الحرفية أو من المعاني الاسمية ، فعلى الأول يعود الإشكال. وعلى الثاني لا علاقة بين المعنيين كي تصحح الاستعمال للتغاير الموجود بينهما ، مضافا إلى خروج الحرف عن كونه حرفا.

والجواب : انه لا ملزم لأن يكون المجاز في الكلمة كي يورد ما ذكر ، بل يمكن ان يكون المجاز في الإسناد ، بمعنى ان يكون في اسناد الصفة إلى الذات مسامحة وتجوز ، مع استعمالها هيئة ومادة في معناها الموضوع له.

وبالجملة : يتعين الالتزام بما التزم به صاحب الفصول ، ولا محذور فيه عقلا. والله العالم.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٥٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٥

تذييل : عقد صاحب الكفاية في آخر مبحث المشتق امرا لم يتضح المراد به والأثر منه وعبارته لا تخلو من ارتباك وتهافت ، إذ قال أولا : « الظاهر انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة التلبس بالمبدإ حقيقة ... بل يكفي التلبس به ولو مجازا كما في الميزاب الجاري » ، ثم قال بعد ذلك : « فالمشتق في مثل المثال بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي وان كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالإسناد المجازي » (١). إذ ظاهر العبارة الأولى عدم اعتبار التلبس بالمبدإ حقيقة في جري المشتق على الذات حقيقة. وظاهر العبارة الثانية انه لا يعتبر في صدق المشتق في نفسه وبما انه مشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدإ ، بل يكون التجوز في الإسناد لا في الكلمة ، نظير اسناد الجريان بما له من المعنى إلى الميزاب.

وعلى كل فليس ما أفاده أخيرا بذي إفادة وأثر فلا يهمنا تحقيقه والبحث فيه. والله ولي السداد والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

تم بحث المشتق درسا وحضورا يوم السبت ٣٠ رجب سنة ١٣٨٤ ه‍ ـ. وقد تم تسويده يوم الثلاثاء ٣ شعبان سنة ١٣٨٤ ه‍ ـ. ويأتي الكلام بعده في مبحث : « الأوامر » ونستمد من الله تعالى العون.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٥٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٦

الأوامر

٣٦٧
٣٦٨

الأوامر

الكلام في مطالب :

المطلب الأول : في مادة الأمر.

ولأجل تحقيق الحال فيها يتكلم في جهات :

الجهة الأولى : في معنى الأمر لغة وعرفا واصطلاحا.

وقد ذكر صاحب الكفاية : بأنه ذكر له معان عديدة ، كالطلب. والشيء. والشأن. والغرض. والحادثة. والفعل ، إلا انه قدس‌سره استشكل كون هذه كلها من معاني الأمر ، وادعى أن عدّ بعضها من معانيه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق ، بمعنى : انه لم يستعمل في الموارد التي يستشهد بها في المفهوم ، بل يراد منه ما هو مصداق المفهوم ، ولكن لا بما انه مصداق المفهوم فيتخيل انه مستعمل في المفهوم وموضوع له ، فمثلا قوله : « جئت لأمر كذا » لم يستعمل لفظ الأمر في مفهوم الغرض كما قيل. بل اللام دلت على الغرض لكونها تعليلية ، وانما استعمل في مفهوم آخر كان هذا بدلالة اللام مصداقا للغرض. ونحوه غيره ، ومن هنا خطأ صاحب الفصول حيث التزم بان لفظ الأمر حقيقة في الطلب والشأن (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٩

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية تعبير صاحب الكفاية عن الاشتباه المزبور بأنه من اشتباه المفهوم بالمصداق ، ببيان : ان اشتباه المفهوم بالمصداق انما يكون في مورد يوضع اللفظ للمصداق بما انه مصداق وبما هو كذلك ويستعمل فيه مع هذا اللحاظ ، فيدعى وضعه للمفهوم كما لو وضع اللفظ للغرض بالحمل الشائع ، فيدعى وضعه للغرض بالحمل الأولي. اما مع عدم الوضع للمصداق فلا يكون ادعاء وضعه للمفهوم من باب الخلط بين المفهوم والمصداق. والحال في المعاني المذكورة كذلك ، إذ لم يوضع اللفظ لمصاديقها جزما. فالمتجه على هذا : التعبير بالاشتباه ، لا غير (١).

وأنت خبير بان هذا التعبير كما يمكن ان يراد به ما ذكره المحقق الأصفهاني يمكن ان يراد به ما قصده المحقق الخراسانيّ ، إذ يصح التعبير به عن دعوى الوضع للمفهوم مع استعماله في المصداق لتخيل استعماله في المفهوم.

ويكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق في مقام الاستعمال الّذي لوحظ طريقا لمعرفة الوضع.

وبالجملة : ليس في وضع التركيب المذكور ما يعين كون مفاده ما ذكره الأصفهاني ، بل هو تركيب يمكن ان يقصد منه ما يتلاءم معه. فلاحظ ، والأمر سهل ، لأن الإيراد أدبي لا جوهري علمي.

ثم ان صاحب الكفاية بعد هذا لم يستبعد كون الأمر موضوعا للطلب في الجملة ـ يعنى بلا تعيين كونه الوجوبيّ أو الأعم أو غير ذلك من الخصوصيات التي يتكلم في أخذها فيه ـ وللشيء وحقيقة فيهما (٢).

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني : بان وضع الأمر للشيء يقتضي

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٠٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٠

مرادفتهما الموجب لصحة استعمال كل منهما في كل موضع يستعمل فيه الآخر ، مع ان الأمر ليس كذلك ، فان هناك موارد يستعمل فيها الشيء ولا يستعمل فيها الأمر ، كالأعيان الخارجية ، فانه لا يقال : « رأيت أمرا » إذا رأى فرسا ، مع انه يقال : « رأيت شيئا » فان الأمر يختص في صدقه بالصدق على الأفعال. كما ان من موارد استعمال الأمر ما لا يحسن إرادة الشيء فيه كقولك : « امر فلان غير مستقيم » ، فانه لا يحسن أن يقال : « شيء فلان غير مستقيم » (١).

واختار المحقق النائيني قدس‌سره : ان معنى الأمر هو الطلب والواقعة ذات الأهمية في الجملة ، ثم تدرّج وادعى إمكان القول بان الأمر بمعنى الطلب من مصاديق الواقعة ذات الأهمية ، لأن الطلب من الأمور التي لها أهمية. وعليه فللأمر معنى واحد يندرج فيه الكل ، وهو الواقعة ذات الأهمية ، وهو ينطبق تارة على الطلب. وأخرى على الغرض. وثالثة على الحادثة. وهكذا. نعم هو لا يستعمل في الجوامد بل في خصوص الأفعال والصفات. وقد ذكر قدس‌سره بان تصوير الجامع القريب بين الجميع وان كان صعبا ، لكننا نرى بالوجدان ان الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد ، فيكون الاشتراك اللفظي أبعد (٢).

ولكن الإنصاف يقتضي عدم تمامية ما ذكر ، إذ يرد عليه :

أولا : انه من الواضح استعمال لفظ الأمر فيما لا أهمية له من الوقائع بلا لحاظ عناية وعلاقة ولا وجود مسامحة بحسب النّظر العرفي ، فيقال : « هذا الأمر لا أهمية له » ، فدعوى كون الموضوع له هو الواقعة ذات الأهمية ممنوعة.

وثانيا : ان لفظ الأمر يجمع بنحوين : الأول : بنحو أوامر. والآخر : بنحو أمور. وهذا التعدد يكشف عن تعدد معنى الأمر بحيث يختلف الجمع لاختلاف

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٠٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٨٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٧١

المعنى المقصود ، فدعوى وحدة معنى الأمر ممنوعة. فلاحظ.

وقد ذهب المحقق العراقي رحمه‌الله إلى ان لفظ الأمر له معنيان :

أحدهما : عبارة عن مفهوم عرضي عام مساوق لمفهوم الشيء والذات من جهة كونهما من المفاهيم العامة العرضية ، ولكنه أخص مما يساوقه من هذين العنوانين ، وهو بهذا المعنى من الجوامد يجمع بنحو : « أمور ».

والآخر : ما يساوق الطلب المظهر بالقول أو بغيره من كتابة أو إشارة ، لا مطلق الطلب ولو لم يظهر ، ولا مطلق إظهاره ولو لم يكن في الواقع طلب ، وهو بهذا المعنى من المشتقات فيصلح الاشتقاق منه اسما أو فعلا ، فيقال : أمر يأمر فهو آمر. ويجمع بنحو : « أوامر » (١).

ولا يخفى انه لا يرد عليه ما ورد على صاحب الكفاية ، لالتزامه بأخصية معنى الأمر عن مفهوم الشيء ، بل هو مفهوم آخر يشارك مفهوم الشيء في كونه مفهوما عاما عرضيا لا غير. كما لا يرد عليه ما ورد على المحقق النائيني من تعدد الجمع ، لالتزامه بتعدد المعنى المستتبع لتعدد الجمع. وقد التزم المحقق الأصفهاني رحمه‌الله بوحدة معناه ، وانه بمعنى الطلب والإرادة ، وهو بهذا المعنى يصدق على التكوينيات ، فانها متعلقة لإرادة الله التكوينية ومشيئته الإلهية فيطلق عليها لفظ المصدر ، ويكون بمعنى المفعول بمعنى ان المقصود بالأمر فيها المراد. فيطلق على الأعيان الخارجية بلحاظ هذا المعنى. ثم انه قدس‌سره تعرض لإبطال ما قيل من ان معنى الأمر هو الفعل. ببيان : ان الموضوع له اما ان يكون مفهوم الفعل وما هو بالحمل الأولي فعل. أو يكون مصداقه وما هو بالحمل الشائع فعل. اما الأول : فهو واضح المنع لوضوح عدم مرادفة الأمر للفعل ، فليس امر وفعل بمعنى واحد لا محالة ، واما الثاني : فالوضع لذوات المصاديق بلا جهة جامعة بينها ،

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ١٥٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٧٢

كالأكل والشرب والقيام وغيرها سخيف جدا ولا يلتزم به أحد.

والجهة الجامعة بين افراد الفعل بما هي كذلك ليست إلا حيثية الفعلية المتقومة بقابلية تعلق الإرادة بها ، فانها هي الجهة الفارقة بين الأفعال والصفات. وعليه فيكون إطلاق الأمر عليها من جهة قابليتها لأن تكون موردا للإرادة فيطلق لفظ الأمر بمعناه المصدري المبنى للمفعول على الأفعال ، كما يطلق المقصد والمطلب على ما يقع في معرض القصد والطلب وان لم يكن هناك طلب ولا قصد.

وبالجملة : فالامر في جميع استعمالاته بمعنى واحد ، وهو الإرادة والطلب ، لكنه يستعمل في متعلق الإرادة بمعنى المفعول.

يبقى إشكال اختلاف الجمع. ويدفع : بان الأمر حين يطلق على الأفعال لا يلحظ فيه تعلق الطلب بها تكوينا أو تشريعا فعلا ، بل لا يلحظ إلاّ قابليتها لذلك ، فيكون اللفظ متمحّضا في معناه الأصلي الجامد ، فيجمع على وزن أمور كما هو الغالب فيما هو على هذا الوزن ، بخلاف إطلاقه على الطلب ، فان الطلب فعلا ملحوظ فيه كيف؟ وهو المستعمل فيه ، فلا يتمحض في معناه الأصلي فيجمع على وزن أوامر.

ثم انه قدس‌سره بعد تحقيق هذا بتفصيل اختصرناه ، ذكر ان تحقيق الحال لا أثر فيه ولا طائل تحته فالاقتصار على هذا المقدار متعين وأولى (١).

ومن الواضح ان مرجع ما ذكره قدس‌سره إلى عدم الملزم للالتزام بتعدد المعنى للأمر بنحو الاشتراك اللفظي ، مع إمكان فرض معنى واحد له بلا ورود أي إشكال.

وما ذكره لا أرى فيه خدشا ، فلا ضير في الالتزام به فتدبر.

هذا كله في بيان المعنى اللغوي والعرفي. واما المعنى الاصطلاحي : فقد

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٠٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٣

نقل صاحب الكفاية بأنه موضوع في الاصطلاح للقول المخصوص ، واستشكل صاحب الكفاية بأنه على هذا لا يكون معنى الأمر حدثيا بل جامدا. فلا يصح الاشتقاق منه ، مع ثبوت الاشتقاق الظاهر كونه بلحاظ ما له من المعنى عندهم ، وذلك يتنافى مع دعوى أنّ معناه القول المخصوص. ثم ذكر انه يمكن ان يراد بان المعنى الاصطلاحي للأمر هو الطلب بالقول لا نفس القول ، وانما ذكر القول فقط تعبيرا عن الطلب بما يدل عليه.

وبعد ان ذكر هذا ، أفاد ان تحقيق المعنى الاصطلاحي غير مهم ، بل الأمر سهل ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح ، وانما المهم تحقيق معناه العرفي ليحمل عليه الاستعمال الوارد في الآيات والروايات مع عدم القرينة على التعيين (١).

ثم انه قدس‌سره ذكر انه قد استعمل في غير واحد من معانيه. وهو بظاهره يتنافى مع ما تقدم منه من انه حقيقة في خصوص الطلب والشيء ، فلاحظ. والأمر سهل كما ذكر فلنكتف بهذا المقدار ، فالتطويل بلا طائل.

الجهة الثانية : في أخذ العلوّ أو الاستعلاء في معنى الأمر.

لا إشكال في ان الطلب الموجه من طرف ـ شخص ـ إلى آخر بلا علوّ ولا استعلاء لا يعد عرفا أمرا ، بل يسمى التماسا المرادف بالفارسية لـ :

« خواهش ». وانما الإشكال في أن الطلب الّذي يكون معنى الأمر هل هو الطلب مع خصوص العلوّ ، أو مع خصوص الاستعلاء ، أو أحدهما؟.

ادعى صاحب الكفاية : بان الأمر هو خصوص الطلب من العالي. واستدل على دعواه بظهور ذلك عرفا ، وان الطلب من العالي ولو كان مستخفضا لجناحه يعد امرا (٢).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٤

وقد يستدل على كفاية الاستعلاء في تحقق الأمر وعدم اعتبار العلو بتقبيح الطالب السافل من العالي وتوبيخه ، وهو قد يقرب بوجهين :

أحدهما : ان نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب امرا ، إذ أمر السافل العالي قبيح.

والآخر : إطلاق الأمر على طلبه في مقام التوبيخ بقولهم : « لم تأمره؟ » ، فانه كاشف عن كون طلبه أمرا ، إذ الظاهر كون الاستعمال حقيقيا وبما له من المعنى لا مجازيا.

ولكن كلا الوجهين مدفوعان :

اما الأول : فلان التوبيخ لم يكن على الأمر ، بل على استعلائه على من هو أعلى منه وإثبات ما ليس له من المقام لنفسه ، لا على نفس الأمر.

ومنه يتضح اندفاع الوجه الثاني ، فان إطلاق الأمر على طلبه جريا على اعتقاده وبنائه لا حقيقة. فان الطالب السافل يدعى لنفسه مقام الآمر والأمر. فيجري في مقام توبيخه على مجرى بنائه ويوبخ على ما هو أمر بنظره. كما يقال لمن يدعي الأعلمية وهو ليس كذلك : أيها الأعلم بين هذه المسألة بوضوح. فلاحظ.

وأنت خبير بان تحقيق هذه الجهة لا أثر له أصلا ، لأن الأمر الّذي نبحث فيه ما يصدر من المولى جل شأنه وهو مستجمع للعلو والاستعلاء كما لا يخفى.

وانما تعرضنا لها تبعا لصاحب الكفاية فالدقة فيها غير لازمة. وانما الأمر الّذي لا بد من التنبيه عليه : ان مطلق الطلب من العالي لا يسمى أمرا ، وانما هو خصوص الطلب الصادر منه بحسب مقام مولويته أو علوه دون ما يصدر منه بغير لحاظ هذه الجهة ، كالتماسات الملوك لإخوانهم أو لغيرهم لا بنحو الأمر المستتبع لغضبهم وعقابهم ، فانها لا تسمى أوامر بلا إشكال.

الجهة الثالثة : قد عرفت ان الأمر بمعنى الطلب من العالي ، فهل هو

٣٧٥

خصوص الطلب الإلزامي والّذي يكون بنحو الوجوب ، أو الأعم منه ومن الطلب الندبي ، أو أنه خصوص الطلب الندبي.

ذهب صاحب الكفاية إلى الأول وان لفظ الأمر حقيقة في الوجوب ، مستدلا على ذلك : بانسباقه عند إطلاقه. وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة امره. وأيده ببعض الاستعمالات التي نوقش في دلالتها في الكتب المطولة ، ولذلك جعلها تأييدا ومقربا لا دليلا وشاهدا.

وأنكر الاستدلال على الوضع للأعم بصحة تقسيم الأمر للوجوب والندب ، فيقال : الأمر وجوبي وندبي. بأنه انما يكون دليلا على إرادة الأعم من لفظ الأمر في مقام التقسيم ومن اللفظ المستعمل ، والاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

كما أنكر الاستدلال على الوضع للأعم بان فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهي فعل المأمور به. بان المراد من المأمور به ان كان معناه الحقيقي ، فالكبرى ممنوعة لاختصاص الأمر بالوجوب. وان كان الأعم من معناه الحقيقي ، فالكبرى وان سلمت لكن لا تفيد في إثبات المدعى (١).

ولكن الإنصاف : ان صحة التقسيم إلى الإيجاب والندب انما يكون بلحاظ ما للأمر من معنى عرفي لا بلحاظ ما يستعمل فيه اللفظ حال التقسيم. وعليه ، فهو دليل على كون اللفظ موضوعا للأعم من الطلب الوجوبيّ والندبي.

ولكن يعارض هذا الدليل بدوا صحة مؤاخذة العبد بمجرد مخالفة الأمر ، فانه ظاهر في ظهور الأمر في الوجوب.

ويمكن الجمع بالالتزام بوضع لفظ الأمر للأعم مع الالتزام بأنه ينصرف مع عدم القرينة إلى الطلب الوجوبيّ والإلزامي وينسبق إليه. فيتحفظ على

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٦

ظهور كلا الأمرين المزبورين ـ أعني التقسيم والمؤاخذة ـ ، وتكون النتيجة موافقة لمدعى صاحب الكفاية وان خالفناه في المدعى والموضوع له. فتدبر.

الجهة الرابعة : هل الموضوع له لفظ الأمر هو الطلب الحقيقي أو الإنشائي ، أو الحقيقي المنشأ بقول أو بغيره من كتابة أو إشارة؟.

التحقيق كونه موضوعا للطلب الإنشائي ولو لم يكن طلب حقيقي ، وهو مختار صاحب الكفاية (١). لوضوح عدم صدق الأمر على مجرد حصول الطلب في النّفس لو علم به بلا إظهار له إنشاء ، كما انه يصدق بلا مسامحة على الأوامر الامتحانية ، مع عدم ثبوت الطلب فيها حقيقة.

ولا بد من التنبيه على امرين :

الأمر الأول : ان الأمر إذا كان موضوعا للطلب الإنشائي ـ كما اختاره صاحب الكفاية وهو الظاهر ـ ، امتنع إنشاء الطلب بلفظ الأمر حقيقة ، لأن الطلب الإنشائي هو الطلب المنشأ باللفظ والموجود بوجود إنشائي بواسطته ، وهذا غير قابل للإنشاء ثانيا ، إذ ما هو موجود لا يقبل الإيجاد ، وانما الإنشاء والوجود الإنشائي يطرأ على ذات المعنى ونفس المفهوم. وعليه ، فإذا كان لفظ الأمر موضوعا للطلب الموجود في عالم الإنشاء ـ بأي معنى أريد من الإنشاء ـ امتنع ان يستعمل في إنشاء الطلب حقيقة ، لأنه يستلزم إنشاء الطلب المنشأ ويكون معنى : « أمرتك » إنشاء الطلب المنشأ وقد عرفت امتناعه.

ونظير هذا الأمر يورد على تعريف البيع : بأنه تمليك إنشائي ، فانه يقتضي عدم صحة إنشاء التمليك بلفظ البيع ، كقوله : « بعت » ، لأن التمليك الإنشائي الّذي هو معنى البيع غير قابل للإنشاء.

وقد غفل من وجّه تعريف الشيخ للبيع في مكاسبه : بأنه إنشاء التمليك

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٧

بكون مراده كون البيع هو التمليك الإنشائي لا إنشاء التمليك ، لعدم قابلية الإنشاء للإنشاء ، لأنه عبارة عن استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى ـ اعتبارا أو إنشاء ـ أو نفس إيجاد المعنى ، وهو بذلك غير قابل للإنشاء ، بل لا معنى لإنشائه ـ كما لا يخفى ونبهنا عليه في بيان الإشكال في وضع لفظ المعاملة للسبب (١) ـ. غفل من وجه كلام الشيخ رحمه‌الله بذلك عن ورود عين الإشكال على ما وجّهه به ، إذ عرفت ان التمليك الإنشائي غير قابل للإنشاء كالطلب الإنشائي ، وعليه فيشكل إنشاؤه بلفظ البيع كما يقع كثيرا.

والطريق إلى التخلص عن هذا الإيراد ينحصر في أحد امرين :

أحدهما : الالتزام بان لفظ الأمر والبيع ونحوهما مستعمل في مقام الإنشاء في ذات المعنى كالطلب والتمليك بلا أخذ خصوصية إنشائه فيه ، وان وضع اللفظ للمعنى مع الخصوصية ، فتكون هذه الاستعمالات مجازية.

والآخر : التنزل عن دعوى وضع اللفظ للطلب الإنشائي أو التمليك الإنشائي ، والتزام ان الموضوع له لفظ الأمر هو مفهوم الطلب ، أعم من كونه حقيقيا أو إنشائيا ، وان الموضوع له لفظ البيع هو كلي التمليك سواء كان حقيقيا أو إنشائيا. نعم ينصرف اللفظ إلى الفرد الإنشائي من الطلب والتمليك ، لكنه مع عدم القرينة فهو مستعمل في مقام الإنشاء في معناه الحقيقي ، وهو نفس المفهوم ، ولا ينصرف في هذا الحال إلى الفرد الإنشائي ، لأن استعماله في مقام الإنشاء بضميمة عدم إمكان إنشاء المنشأ قرينة قطعية على عدم إرادته. وعليه فيلتزم بانصرافه إلى الفرد الإنشائي في مقام الاخبار لا في مقام الإنشاء لوجود القرينة في هذا المقام المانعة عن الانصراف. فتدبر.

وعلى كل فالإشكال متين ، وهذان الطريقان فرار منه والتزام بوروده كما

__________________

(١) راجع ١ ـ ٢٧٦ من هذا الكتاب.

٣٧٨

لا يخفى.

الأمر الثاني : فيما يتعلق بعبارة الكفاية في المقام لظهور وجود تهافت بين صدرها وذيلها.

وبيان ذلك : انه قدس‌سره ادعى ان الطلب الموضوع له لفظ الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الّذي يحمل عليه الطلب المطلق بالحمل الشائع الصناعي ، بل هو الطلب الإنشائي الّذي لا يحمل عليه الطلب بقول مطلق بالحمل الشائع ، بل يحمل عليه الطلب الإنشائي. ثم ذكر انه لو أبيت إلاّ عن كونه موضوعا لمطلق الطلب الأعم من الحقيقي والإنشائي ، فلا أقل من دعوى انصرافه إلى الطلب الإنشائي ، كما ان لفظ الطلب ينصرف إليه (١).

فان الّذي يظهر من صدر العبارة ان للطلب مفهوما لا يشمل الطلب الإنشائي ، ولذلك لا يحمل عليه بالحمل الشائع لأنه ليس فرده ، وهذا ينافي ما جاء في العبارة الأخرى من انصرافه إلى الطلب الإنشائي ، إذ مع عدم كونه من افراده كيف ينصرف إليه؟!. فان الانصراف فرع فردية المنصرف إليه للمفهوم الكلي كما لا يخفى. ثم انه إذا لم يحمل عليه بقول مطلق عرفا ، فكيف ينسبق عنه إلى الذهن؟.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيه العبارة ورفع ما يظهر من التهافت هو :

ان الحمل الشائع الصناعي ينصرف عرفا إلى ما كان الاتحاد بين المحمول والموضوع في الوجود الخارجي الا ما قامت القرينة فيه على كون الاتحاد في غير الخارج ، بل نسب إلى صدر المتألهين : القول بان ملاكه الاتحاد في الخارج.

وعليه ، فلا يحمل المفهوم على فرده غير الخارجي مع كونه فردا له. وبما ان الطلب الإنشائي ليس موجودا خارجا فلا يحمل عليه الطلب المطلق ، وانما يحمل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٩

على الطلب الحقيقي لأنه وجوده الخارجي.

واما الانصراف فهو لا يرتبط بعالم الحمل والصدق ، وانما هو يرتبط بعالم اللفظ واستعماله ، فيجوز ان ينصرف اللفظ إلى الفرد الإنشائي لكثرة استعماله فيه ، ولو لم يصح حمل المفهوم عليه.

وبالجملة : صحة الحمل لا ترتبط بالاستعمال ، بل بالملاك الواقعي للحمل ، بخلاف الانصراف فان ملاكه كثرة الاستعمال ولو كان مجازيا ، فالانفكاك بينهما جائز. فلاحظ وتأمل.

إلى هنا ينتهي الكلام في جهات مادة الأمر.

٣٨٠