منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

تمهيد

اعتاد الأعلام أن يبتدءوا بالبحث عن بعض الأمور وما يتعلق بها ، كموضوع العلم وخصوص علم الأصول والمائز بين العلوم ونحوها. إلا أنها حيث كانت عديمة الفائدة رأينا أن الإغماض عن ذكرها والبحث عنها أولى. ورأينا أن تكون بداية الكلام في الوضع وما يتعلق به من أبحاث ، وقبل الشروع في ذلك لا بد من البحث في جهة واحدة من تلك الجهات المذكورة بدائيا ، وهي معرفة الضابط للمسألة الأصولية التي به تتميز عن غيرها. فان البحث فيها وان لم يكن بذي فائدة عملية وأثر تطبيقي ، إلا انه حيث جرت سيرة القوم على التعرض لها في كل مسألة بالبحث عن أصولية المسألة وعدمها ، كان البحث فيها هاهنا لازما للحاجة إليها فيما يأتي.

ضابط المسألة الأصولية :

اختلف الاعلام في تعيين الضابط للمسألة الأصولية ، وقد حكي عن المشهور ان المسائل الأصولية هي القواعد الممهدة لاستنباط

٢١

الأحكام الشرعية ، وقد كان هذا التعريف هو السائد إلى ان خالفه صاحب الكفاية ، فعرف المسائل الأصولية : بأنها ما يعرف بها القواعد التي تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل (١). والنقطة التي يفترق بها صاحب الكفاية في تعريفه عن تعريف المشهور ـ غير الاختلاف اللفظي والمفارقة في التعبير بين التعريفين ـ ، هي زيادته القيد الأخير في تعريفه ، وهو ( أو التي ينتهي إليها في مقام العمل ). وقد أشار قدس‌سره إلى الوجه الّذي حدي به إلى هذه الزيادة ، بان تعريف المشهور وتحديده لضابط المسألة الأصولية لا يتناول جميع المسائل المحررة في علم الأصول ، لخروج بعض المسائل عن علم الأصول بمقتضاه ولا وجه لذلك ، إذ لا موجب لخروجها عنه والتزام كون البحث فيها في الأصول بحثا استطراديا ، وهي بهذا القيد المضاف إلى تعريفهم تكون من مسائل الأصول. وتلك المسائل كما ذكرها قدس‌سره هي مسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية ، ومسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

وقد وجه خروج هذه المسائل عن الأصول بتعريف المشهور ، ودخولها فيه بتعريف صاحب الكفاية ، بأن الأصول العملية بين ما لا يكون مفادها حكما شرعيا ولا يتوصل بها إلى حكم شرعي كالأصول العقلية من براءة واشتغال ، فإن مفادها ليس إلاّ المعذرية أو المنجزية ، وظاهر أن ذلك لا يكون واسطة في الاستنباط ، وبين ما يكون نفس مفادها حكما شرعيا كالأصول الشرعية من أصالة الحل ونحوها والاستصحاب بناء على كونه يتكفل إثبات حكم مماثل ـ كما قد يظهر من بعض عبارات الكفاية في محله (٢) ـ ، فإن أصالة الحل لا يستنبط بواسطتها حكم شرعي ، بل هي عينها حكم شرعي وهو الحلية.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٤ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٢

وتوهم : ان أصالة الحل تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، ويتوصل بواسطتها إليه باعتبار وقوعها في كبرى قياس استنتاج الحكم ، فيقال : هذا مشكوك الحلية وكل ما كان مشكوك الحلية فهو حلال ، فينتج بهاتين المقدمتين حلية المشكوك ويعرف بهما هذا الحكم ، ومثل هذا يكفي في كون القاعدة مما يستنبط بها حكم شرعي.

مندفع : بأن أصالة الحل وان كانت كبرى القياس المذكور ، إلاّ ان ذلك لا يعني كونها مما يستنبط بها الحكم الشرعي ، إذ النتيجة وهي حلية المشكوك المعين عين مفاد القاعدة ، فكان ذلك القياس قياسا لتطبيق الحكم الكلي على موارده الجزئية وصغرياته ومنه الصغرى. ولم يستنبط من القياس المذكور بواسطة القاعدة حكم آخر غير مفادها. فلا يصدق الاستنباط.

وأما مسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة ـ فلأنه ـ لا يتوصل بواسطة نتيجة هذه المسألة إلى حكم شرعي ، سواء أريد من الظن على الحكومة حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظنّي الملازم للإتيان بالمظنونات والمشكوكات ، أو أريد أن العقل يرى بمقدمات الانسداد حجية الظن حيث يقتصر في مقام الامتثال على المظنونات.

أما على الأول فواضح ، لأن حكم العقل بجواز الاقتصار على الامتثال الظّنّي وعدم لزوم الامتثال اليقيني لا يرتبط أصلا بعالم استنباط الأحكام ، بل هو انما يرتبط بعالم إفراغ الذّمّة والامتثال والتعذير عن الواقع لو كان في طرف الموهومات.

وأما على الثاني ، فلأن مرجع حجية الظن بنظر العقل إلى جعله منجزا بحيث يكون حجة على العبد ، فلا يستنبط منه أي حكم من الأحكام.

فاتضح ، ان هذه المسائل لا تندرج في علم الأصول بناء على تعريف المشهور لعدم وقوعها في طريق استنباط الأحكام ، ولكنها مما ينتهى إليها في مقام

٢٣

العمل بعد اليأس عن الظفر بالدليل ، فتندرج في علم الأصول بناء على تعريف صاحب الكفاية بملاحظة ما أضافه من القيد إلى تعريف المشهور.

بهذا التوجيه وجّه المحقق الأصفهاني نظر صاحب الكفاية في ذكر هذا القيد (١) ـ ولكنه ذكره بنحو مجمل كان ما ذكرناه توضيحا له ـ ، ثم أفاد قدس‌سره بان الإشكال المذكور يسري إلى جل مسائل الأصول بما محصله : ان الأمارات غير العلمية سندا ودلالة يتطرق إليها هذا الإشكال ، وهو ان مرجع حجيتها اما إلى الحكم الشرعي بناء على كون مفاد دليل الاعتبار جعل الحكم المماثل للمؤدى ، أو غير منته إليه أبدا بناء على كون المجعول فيها هو المنجزية والمعذرية فهي على كلا التقديرين لا تقع في طريق استنباط الأحكام.

وتخلصا عن هذا الإشكال في جميع موارده ، وجه الاستنباط بمعنى يحصل بهذه المسائل ، وذلك بدعوى : أن حقيقة الاستنباط ليس إلاّ تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بلا توقف على إحراز الحكم. وظهر ان حجية الأمارات بأي معنى كانت لها الدخل في إقامة الحجة على حكم العمل ، وبذلك جعل الضابط للمسائل الأصولية هو القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي. وتابعة بذلك في تفسير الاستنباط السيد الخوئي ـ كما جاء في تقريرات درسه ـ (٢).

ولا يخفى أن ما ذكره قدس‌سره وان كان بظاهره التزاما بوجهة نظر صاحب الكفاية التي أبان عنها اللثام ، إلاّ انه في الحقيقة إشكال عليه في اقتصاره في الإشكال على بعض الموارد ، مع كون الإشكال ساريا إلى جل المسائل.

فالتحقيق : انه يمكن ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى جهة تختص بهذه الموارد التي نبه إليها في كلامه ، ولا تسري إلى غيرها ، كما لا ترتفع تلك الجهة

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٤

بما وجه به معنى الاستنباط.

اما جهة الإشكال في الأصول ، فهي ما قرره في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري : من ان مفاد دليل الأمارة هو جعل المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل دون مفاد دليل الأصل الشرعي. فانه ليس إلاّ جعل حكم ظاهري يصير به فعليا. واما الواقع ، فلا يكون فعليا لحكم العقل بارتفاع فعليته بفعلية الحكم الظاهري.

وعليه ، فإذا لم يكن الواقع مع الأصل فعليا لم يتصور قيام المنجز له أو المعذر عنه ، لأنها فرع فعليته ، فتحصيل الحجة على الواقع بواسطة الأصل لا أساس له.

ودعوى : ان نفي فعلية الواقع بقيام الأصل كاف في كون الأصل معذرا عن الواقع.

فاسدة : لأن نفي فعلية الواقع ليس مفادا للأصل ، بل يستفاد بحكم العقل باستحالة طلب الضدين. ولو كان مثل هذا كافيا في أصولية المسألة لكان كل حكم شرعي من المسائل الأصولية ، لأن ثبوته يستلزم نفي غيره بحكم العقل.

والسر في المطلب ، ان نفس الحكم لا يتكفل نفي حكم آخر ولو بواسطة الملازمة ، بل الدليل الدال عليه يتكفل بالملازمة نفي غيره ، فنفي الواقع بالدليل على الحكم لا بنفس حكم الأصل ، ونفس الدليل مسألة أصولية لأنه من الأمارات. وان كان نفس المفاد أعني الحكم مسألة فرعية.

وهكذا الكلام في مسألة الظن الانسدادي ، فان نتيجتها أجنبية عن المنجزية والمعذرية كأجنبيتها عن الانتهاء إلى الحكم الشرعي.

وذلك لأن الواقع يتنجز بالعلم الإجمالي المستلزم للإتيان بجميع

٢٥

المحتملات حتى الموهوم منها ، وشأن هذه المقدمات هو بيان عدم الإلزام بالإتيان بالموهومات أو هي والمشكوكات ـ على الخلاف الّذي أشرنا إليه ـ ، واما لزوم الإتيان بخصوص المظنون فهو ليس مفاد هذه المقدمات ، بل هو أمر ينتج من ضم العلم الإجمالي ومنجزيته إلى حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بالموهومات والمشكوكات ، فليس نتيجة المسألة حجية الظن أصلا.

وبالجملة : فما عرفته من توجيه خروج المسألتين لا يسري إلى غيره من المسائل. إذ ليس الوجه هو كون نتيجة هذه المسائل أما حكما شرعيا أو المنجزية كي ينتقض بالأمارات ، بل الوجه انها لا ترتبط بالحكم الشرعي الواقعي بحال لا كشفا عنه ولا حجة عليه ، فلا يصح النقض بالأمارات والالتزام بوسعة الإشكال. كما لا يندفع بما وجه به معنى الاستنباط ، إذ ليس من هذه المسائل ما نتيجته حصول الحجة على الحكم الواقعي نفيا وإثباتا كما لا يخفى فلاحظ.

ثم أن المحقق الأصفهاني بعد ما بين ضابط المسألة الأصولية بما عرفته ، أورد على تعريف صاحب الكفاية بأنه يستلزم محذورين :

الأول : انه لا بد من فرض جامع بين الغرضين المذكورين أعني الاستنباط والمرجعية في مقام العمل ، إذ مع عدم الجامع يستلزم تعدد الغرض تعدد فن الأصول ، لأن التمايز بين العلوم ـ على رأي صاحب الكفاية ـ بالتمايز بين الأغراض ، والجامع مفقود لتباين الغرضين.

الثاني : ان الانتهاء في مقام العمل ، اما ان يكون مقيدا بأنه بعد اليأس عن الظفر بالدليل على الحكم ، أو لا يكون مقيدا بذلك ، بل يكون مطلقا. فإن قيد بذلك لم تدخل الأمارات فيه ، إذ الرجوع إليها ليس بعد اليأس وحجيتها لا تتوقف على ذلك ، فانه شرط في صحة الرجوع إلى الأصول العملية فقط. وان لم يقيد به وعرّى عنه لزم دخول جميع القواعد الفقهية العامة في التعريف لأنها

٢٦

مما ينتهي إليها المجتهد في مقام العمل والتطبيق (١).

ولكن الإنصاف انه لا يستلزم كلا من المحذورين.

اما المحذور الثاني : فحاصل المناقشة فيه انه يلتزم بإضافة القيد المذكور. وخروج الأمارات عن الذيل بذلك ليس بمحذور ، لأنه انما يكون محذورا لو فسر الاستنباط بإحراز الحكم الشرعي واستخراجه بحيث لا يشمل تحصيل الحجة عليه. إذ بذلك تخرج الأمارات عن صدر التعريف أيضا ، لأن المجعول فيها ـ كما عرفت ـ اما المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل ، وهي بكلا الوجهين لا تقع في طريق استنباط الأحكام ـ كما تقدم تقريبه ـ ، فيلزم من ذلك خروج مسائل الأمارات عن علم الأصول بالمرة.

اما لو التزم بان المراد بالاستنباط المعنى الأعم ، وهو تحصيل الحجة على الواقع ، فمسائل الأمارات تدخل في الأصول بصدر التعريف ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ ، فخروجها عن الذيل لا محذور فيه ، إذ المحذور المتخيل هو خروجها بذلك عن علم الأصول ، وهو غير تام لشمول الصدر لها ، فتكون من مسائل علم الأصول.

وبالجملة : فالإشكال المذكور يبتني على جعل نظر المحقق الخراسانيّ إلى ما وجهت به عبارته أولا ، وقد عرفت عدم التسليم به والمناقشة فيه.

وأما المحذور الأول : فهو يرتفع بتصور غرض خارجي جامع بين الغرضين ، ويترتب على جميع مسائل علم الأصول. وذلك الغرض هو ارتفاع التردد والتحير الحاصل للمكلف من احتمال الحكم.

توضيح ذلك : ان المكلف إذا التفت إلى شيء بلحاظ حكمه ، فقد يحتمل وجوبه أو يحتمل حرمته ، ومن هذا الاحتمال ينشأ في نفسه التردد والعجز بالنسبة

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٧

إلى العمل فهل يفعل أو لا؟ أو هل يترك أو لا؟ والّذي يترتب على المسألة الأصولية سواء كانت واقعة في طريق الاستنباط أو لم تكن هو ارتفاع هذا التردد ، أما ما أوجب العلم منها كالملازمات العقلية فواضح لانكشاف الواقع بها وارتفاع التردد بذلك لارتفاع منشئه تكوينا.

واما الأمارات غير العلمية ، فلأن نتيجة حجيتها هو تنجيز الواقع بها أو التعذير عنه ـ اما لأجل أن المجعول فيها ذلك ، أو لأنه مما يترتب على المجعول فيها ـ وهي بذلك ترفع الحيرة والتردد في مقام العمل.

أما الأصول العملية ، فالعقلية منها يكون مفادها التعذير أو التنجيز وهي بذلك ترفع التحير ، لأن مفادها أن المكلف في أمان من الواقع أو في عهدة الواقع ، وهي بكلا المفادين ترفع التردد. واما الشرعية فبناء على انها تفيد حكما شرعيا تترتب عليه المنجزية والمعذرية ، أو ان التعبد بها يرجع إلى جعل المنجزية والمعذرية ، فكونها رافعة للتحير واضح. وأما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم نظرها إلى الواقع أصلا وان مفادها حكم ظاهري ، فلأن نفس جعل الحكم الظاهري كالحلية في مقام التردد والشك رافع للتردد ومعين للوظيفة العملية.

واما مسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة ، فلأن حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بغير المظنونات أو غير الامتثال الظني رافع للتحير في مقام العمل ، لأن حقيقته التعذير عن الواقع الثابت في مورد الوهم أو الشك.

فالمتحصل ان مسائل الأصول كلها تنتهي بنا إلى غاية واحدة وهي ارتفاع التردد الحاصل من احتمال الحكم الشرعي ، سواء كانت نتيجتها الاستنباط أو لم تكن كذلك وبذلك يرتفع المحذور المذكور.

نعم يبقى هاهنا سؤال وهو : انه لم عدل صاحب الكفاية إلى هذا التعريف المفصل وذكر كلا القيدين ، مع ان نظره لو كان إلى هذه الجهة المذكورة لكان

٢٨

يكفي في تعريف علم الأصول ان يقول : « هو القواعد التي يرتفع بها التحير الحاصل للمكلف من احتمال الحكم الشرعي » ، إلاّ أن الأمر في ذلك سهل ، فانه لا يعدو كونه إشكالا لفظيا. ولعل نظره قدس‌سره إلى الإشارة إلى قصور تعريف المشهور وانه يحتاج إلى إضافة قيد ، لا إلى بطلانه كما قد يشعر به تبديله وتغييره.

والّذي يمكن استفادته مما تقدم إمكان بيان تعريف المسائل الأصولية وضابطها بنحو يكون جامعا للمسائل المدونة ومانعا عن دخول القواعد الفقهية العامة. تقريب ذلك : انه قد عرفت ان المكلف إذا احتمل ثبوت الحكم الشرعي واقعيا كان أو غيره يحصل في نفسه التردد والحيرة بالنسبة إلى وظيفته العملية تجاه هذا الحكم المحتمل.

فهاهنا مقامات ثلاث : أحدها : مقام الحيرة والتردد. والآخر : مقام الاحتمال الموجب للتردد. والثالث : مقام واقع الحكم المحتمل من ثبوت ونحوه.

وعليه ، فالقواعد الأصولية ما كانت رافعة بلا ان تكون بمفادها ناظرة إلى نفس الحكم المحتمل بتعيين أحد طرفيه. بل اما ان تكون بمفادها ناظرة إلى مقام التردد والتحير ، بجعل ما يرفعه بلا ارتباط بكيفية الواقع كمسائل الأصول العملية والأمارات ، بناء على جعل المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل ونحوها من المسائل كما تقدم تقريبه. أو تكون نتيجتها رفع أساس التردد وهو الاحتمال ، اما تكوينا كالملازمات العقلية ، لأنها تستوجب العلم بالحكم فيرتفع التردد بارتفاع منشئه ولا نظر لها إلى نفس المحتمل ، إذ لا تعين أحد طرفي الاحتمال ثبوتا ، بل تكون واسطة في الإثبات باستلزامها العلم لا واسطة في الثبوت الحقيقي للحكم. واما تعبدا كالأمارات ، بناء على جعل الطريقية وتتميم الكشف ، فانه بها يتحقق العلم تعبدا بالحكم بلا ان يكون النّظر إلى نفس الحكم وثبوته حقيقة في واقعه.

٢٩

فالجامع بينهما هو ارتفاع التردد بها اما ابتداء أو بواسطة رفع منشأ التحير ، بلا ان يكون لها نظر إلى تعيين الحكم المحتمل بأحد طرفيه.

ومن هنا يظهر الفرق بين المسائل الأصولية والمسائل الفقهية فان الثانية ما يكون نظرها إلى المحتمل ، بمعنى ان مفادها نفس الحكم المحتمل ، وهي بذلك لا ترفع التردد ، إذ نفس الحكم لا يرفع التردد وانما دليله يرفعه وهو مسألة أصولية ، فمقام إحداهما يختلف عن مقام الأخرى ، فالفرق بينهما حقيقي وذاتي.

وبهذا التحقيق يندفع النقض بجملة من القواعد الفقهية العامة ، كقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وقاعدة الطهارة ، وقاعدة لا ضرر ، وقاعدة نفي العسر والحرج ، ونحوها.

بدعوى : انه قد يستفاد من هذه القواعد حكم كلي ، كاستفادة عدم الضمان في الهبة الفاسدة من قاعدة « ما لا يضمن » ، فانه حيث يشك في ذلك يرجع إلى هذه القاعدة ويستفاد منها عدم الضمان باعتبار عدم الضمان في الهبة الصحيحة.

وكاستفادة طهارة المتولد من الكلب والشاة غير الملحق بأحدهما ، والمشكوك طهارته من قاعدة الطهارة.

وكاستفادة حرمة أو عدم وجوب الوضوء الضرري من قاعدة نفى الضرر.

وكاستفادة عدم وجوب الوضوء الحرجي من قاعدة نفي الحرج. فان المستفاد من هذه القواعد حكم كلي ، ومقتضى ذلك دخول هذه القواعد في الأصول لأنها مما يستنبط بها حكم كلي.

وجه الاندفاع : ما عرفت من عدم كون الملاك في أصولية القاعدة إيصالها إلى حكم كلي لا جزئي ، بل الملاك هو رفعها الحيرة مع كون نظرها إلى مقام غير الحكم المحتمل. فلا يتجه النقض بالتقريب المذكور.

٣٠

وتحقيق الحال في هذه القواعد على المسلك الّذي قربناه :

أما قاعدة « ما لا يضمن » ونحوها ، فهي انما تنظر إلى نفس المحتمل وهو الضمان وعدمه ، ومدلولها نفس الحكم لا رفع الحيرة والتردد.

واما قاعدة نفي الضرر أو العسر ، فهي تارة تجري في الحكم الكلي الفرعي كنفي وجوب الوضوء الضرري أو الحرجي. وأخرى تجري في الحكم الأصولي كجريانها في نفي وجوب الفحص عن المعارض إذا كان مستلزما للضرر أو العسر ، المساوق لإثبات حجية الخبر الفعلية ، فان وجوب الفحص من المسائل الأصولية. وكجريانها في نفي وجوب الاحتياط عند انسداد باب العلم لاستلزامه الضرر أو الحرج.

وعليه ، فهي بلحاظ جريانها في الحكم الفرعي تكون من المسائل الفقهية ، وبلحاظ جريانها في الحكم الأصولي تكون من المسائل الأصولية. ولا مانع من ان تكون مسألة واحدة من مسائل علمين ، إذ كان فيها ملاكا العلمين ـ كما يقال في مسألة الاستصحاب من انها أصولية بلحاظ الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، وفقهية بلحاظه في الشبهات الموضوعية ـ.

وأما قاعدة الطهارة فالتخلص عن النقض بها ـ لثبوت الملاك المزبور فيها لكون المجعول فيها حكما ظاهريا في مقام التردد والشك بلا نظر إلى نفس الواقع المحتمل ـ بما أشار إليه صاحب الكفاية من أن المسألة الأصولية يعتبر فيها ان تكون سارية في جميع أبواب الفقه أو جلّها فلا يختص بإجرائها بباب دون آخر ولا كذلك أصالة الطهارة لاختصاصها بمشكوك الطهارة فلا تجري في أبواب المعاملات ولا أبواب الفقه الأخرى كما لا يخفى (١). أو انه يعتبر في أصولية المسألة أن تكون نظرية ومحور النزاع ومحل الكلام ، لا واضحة كل الوضوح

__________________

(١) الخراسانيّ المحق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١

كقاعدة الطهارة إذ لا كلام في ثبوتها ولا نظر.

وبالجملة : فالمسألة الأصولية ما كان نظرها إلى رفع التردد في مقام العمل لا إلى الواقع المحتمل ، فما كان من المسائل ذلك كان من المسائل الأصولية بلا أي محذور في هذا الالتزام.

ويقع الكلام بعد هذا في جهتين يرتبطان بالتعريف والضابط المذكور :

الجهة الأولى : في تخصيص مسائل علم الأصول بما كان مجراها الشبهة الحكمية لا الموضوعية وانه بلا موجب ، بل الوجه هو التعميم ، وذلك لأن الظاهر كون الداعي لأخذه في تعريفات القوم هو التحرز عن دخول كثير من المسائل الفقهية في علم الأصول ، إذ لو لا أخذه وكون المسألة الأصولية مما يتوصل بها إلى حكم شرعي كليا كان أو جزئيا يلزم دخول أكثر موارد الفقه في الأصول للتوصل بالقواعد الفقهية إلى أحكام جزئية كوجوب الصلاة ونحوه. وبزيادة قيد التوصل إلى الحكم الكلي تخرج هذه المسائل.

ولا يخفى ان هذا المحذور لا يتأتى على ما ذكرناه من ضابط المسألة كما هو ظاهر جدا ، فلا موجب لأخذ الوصول إلى الحكم الكلي في ضابط المسألة الأصولية ، وعليه فيكون الاستصحاب في الشبهات الموضوعية من المسائل الأصولية بلا كلام ، لأن نظره إلى مقام الحيرة لا مقام المحتمل.

ومن هنا يظهر عدم الموجب لتقييد المسألة الأصولية ، بما كان المتوصل بها إلى الحكم هو المجتهد ، وما كان إجراؤها بيده دون المقلد ، إذ التطبيق في الشبهات الموضوعية بيد المقلد لا المجتهد ، ولا مانع منه لكون الملزم لأخذه في التعريفات غير متأت على ما ذكرناه فلاحظ.

الجهة الثانية : في دفع وهم.

أما الوهم فهو ، ان المراد من كون المسألة الأصولية ما يقع في طريق الاستنباط ـ كما هو تعريف القوم ـ ، أو ما يرتفع به التحير والتردد ـ كما هو

٣٢

التعريف الّذي اخترناه ـ ، اما ان يكون ما يقع في طريق الاستنباط أو ما يرتفع به التحير والتردد مطلقا ولو كان بالواسطة ، بمعنى ان يتخلل بينه وبين استنباط الحكم بعض المسائل الأخرى. أو يكون ما يقع في طريق الاستنباط أو يرتفع به التردد في مقام العمل مباشرة وبلا واسطة ، بحيث يترتب عليها الحكم الشرعي رأسا. وكل من التقديرين يستلزم محذورا.

اما التقدير الأول : فلأنه يستلزم دخول كثير من القواعد الفلسفية واللغوية والمنطقية وغيرها في مسائل الأصول ، لوقوعها في طريق تنقيح بعض القواعد الأصولية ، فيترتب عليها الاستنباط ويرتفع بها التحير بالواسطة.

واما التقدير الثاني : فلأنه يستلزم خروج كثير من المسائل المحررة في كتب الأصول عن علم الأصول. كمسألة الصحيح والأعم ، ومسألة المشتق ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة ان الأمر ظاهر في الوجوب أو لا ، ومسألة العام والخاصّ في بعض الحالات ، ومسائل المفاهيم.

توضيح ذلك : ان المبحوث عنه في مسألة الصحيح والأعم ، وهو ثبوت وضع اللفظ الشرعي إلى المعاني الشرعية وعدمه ، لا يترتب عليه مباشرة الحكم الشرعي ، إذ لا يعدو هذا البحث البحث عن أمر لغوي. وانما تترتب عليه مسألة أصولية ، وهي جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم وعدم جوازه على القول بالصحيح. بتقريب : ان أساس التمسك بالإطلاق ـ قبل ملاحظة تمامية مقدمات الحكمة ـ هو إحراز صدق عنوان المطلق على الفرد الفاقد للخصوصية المشكوك من جهة أخذها في متعلق الحكم ، فمع القول بالصحيح يكون اللفظ مشكوك الصدق على الفاقد للخصوصية المشكوكة ، باعتبار ان كل ما له دخل في متعلق الحكم له دخل في صدق اللفظ. بخلاف القول بالأعم ، لأن يصدق المطلق على الفاقد لا يتوقف على إحراز عدم دخل الخصوصية في المتعلق ، لأنه يصدق على الأعم من واجد الاجزاء والشرائط بتمامها والفاقد لبعضها فليكن هذا منها ،

٣٣

فان عدمه لا يخل بصدقة.

وعليه ، فالبحث في مسألة الصحيح والأعم ينتهي بنا إلى إثبات أساس الإطلاق ونفيه ، وهذا لا يترتب عليه حكم شرعي ، بل يترتب عليه ما عرفت من المسألة الأصولية ، وهي جواز التمسك بالإطلاق مع الشك بأخذ خصوصية في متعلق الحكم وعدم جوازه ، لأنه تنقيح لموضوعها.

واما مسألة المشتق ، فلان البحث فيها بحث لغوي عن تحقيق الموضوع له اللفظ المشتق ، وظاهر ان الحكم الشرعي لا يترتب عليه مباشرة ، بل بضميمة مقدمات أخرى بلا إشكال.

واما مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلان ما ينتهي إليه بتنقيح أحد طرفيها جوازا أو منعا هو تحقيق موضوع لمسألة أصولية لا معرفة حكم شرعي أو رفع تردد فيه ، وذلك لأنه ان قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي بالالتزام بعدم كفاية تعدد العنوان في تصحيحه كان المقام من موارد التعارض ، لتعارض دليلي الحرمة والوجوب. وان قيل بجوازه في نفسه لكنه باعتبار عدم القدرة على امتثال كلا الحكمين لا بد من ارتفاع أحدهما كان المورد من موارد التزاحم ، ومسألة التزاحم كمسألة التعارض من المسائل الأصولية.

أمّا المسائل اللفظية الأخرى ، كمسألة ظهور الأمر في الوجوب ، أو ظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في انتفاء الحكم بانتفاء الشرط أو الوصف ، أو ظهور العام في الباقي بعد التخصيص فيكون حجة فيه ، أو ظهوره في العموم الاستغراقي أو المجموعي ، وغيرها من المسائل المشاكلة لها ، فإيصالها إلى الحكم أو ارتفاع التردد بها انما يكون بضميمة كبرى أصولية وهي حجية الظاهر ، إذ بدونها لا يتوصل إلى المطلوب ، فان ظهور الأمر في الوجوب لا يستفاد منه في نفسه الحكم بل لا بد ان يضم إليه ان الظاهر حجة فيثبت الوجوب ويرتفع التردد ، وهكذا غيرها ، فإن مجرد ثبوت الظهور لا يجدي في إثبات الحكم ، بل

٣٤

يتوقف على ضم كبرى أصولية وهي كون الظاهر حجة ، فيكون ذلك الظاهر حجة في مدلوله. فظهر بهذا البيان : أن اعتبار رفع التردد بالمسألة الأصولية أو استنباط الحكم مباشرة وبلا واسطة يستلزم خروج هذه المسائل ، وهو مما لا يلتزم به أحد ، كما ان إلغاء هذا الشرط يستلزم دخول غير المسائل الأصولية في الأصول ، وهو أيضا مما يفر عنه الاعلام.

واما الدفع فهو ، بالالتزام باعتبار هذا الشرط ، أعني : ترتب الأثر المزعوم عليها مباشرة بلا واسطة.

وخروج مسألتي الصحيح والأعم والمشتق لا محذور فيه ، بل ذلك هو الظاهر من اعتياد ذكرها في مقدمة الأصول ، وأما الوجه في أصل التعرض إليها مع عدم التعرض إلى نظائرها فهو لأجل عدم استيفاء البحث في تحقيقها في محلها أو لعدم التعرض لها في غير محل.

وأما استلزامه لخروج المسائل اللفظية المذكورة ، ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، فهو ممنوع. اما المسائل اللفظية ، فلأن ترتب الحكم عليها وإن كان بواسطة الكبرى المزبورة ، إلاّ انها حيث كانت من الجلاء والتسليم بحد يرى ان الحكم يترتب بمجرد تنقيح موضوعها وهو أصل الظهور لم تخل وساطتها الارتكازية في أصولية هذه المسائل ، إذ الواسطة المعتبر عدمها في أصولية المسألة الواسطة النظرية التي تلحظ في ترتب الحكم على الصغرى بضمها إليها لا الارتكازية التي لا تلحظ في ترتيب الحكم على الصغرى ، بل يرى ان الحكم مترتب بمجرد تمامية الصغرى.

وأما مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلان المذاهب فيها ثلاثة :

الأول : الجواز مطلقا.

الثاني : الامتناع من جهة اجتماع الضدين ، بدعوى عدم كفاية تعدد العنوان في جواز تعلق الأمر والنهي.

٣٥

والثالث : الامتناع من جهة التزاحم ، لعدم القدرة على امتثال كلا التكليفين لا في نفسه ، بدعوى : كفاية تعدد العنوان لتصحيح تعلق الأمر والنهي بذي العنوانين. وهي على القولين الأخيرين وان لم تنته إلى رفع التردد في مقام العمل ، بل تحقق موضوع المسألتين ، لكنها بالقول الأول مما يترتب عليها هذا الأثر لإثباتها صحة العمل الرافع للتردد. ويكفي هذا في أصولية المسألة ، إذ لا يعتبر انها تكون مما يترتب عليها الأثر الأصولي بجميع محتملاتها ، بل يكفي فيها ان يترتب عليها الأثر الأصولي ولو بلحاظ بعض محتملاتها.

ومن هنا يظهر عدم الموجب للالتزام بخروجها من مسائل الأصول وكونها من المبادي التصديقية للمسألة الأصولية ـ كما عليه المحقق النائيني (١) ـ ، فانه إغماض عن وجود المذهب الأول في المسألة الموجب لكونها من الأصول. فتدبر.

إلى هنا يتحصل لدينا ان المسألة الأصولية هي المسألة النظرية التي يتوصل بها إلى رفع التحير في مقام العمل بلا واسطة نظرية ، سواء كان جريانها في الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية.

ومنه يتضح الفرق بينه وبين الضابط المذكور في الكفاية (٢) ، فانه يخصص المسألة الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية ، كما هو مقتضى قيد كون الانتهاء في مقام العمل بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، إذ جريان الأصول في الشبهات الموضوعية لا يشترط فيه الفحص واليأس عن الدليل ، فمقتضى القيد إخراج الأصول والأمارات في الشبهات الموضوعية عن مسائل علم الأصول. وهذه هي الجهة الفارقة بين ما ذكرناه من الضابط وما ذكره

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٣٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦

صاحب الكفاية ، وإلاّ فقد عرفت ان نظر صاحب الكفاية في ما ذكره من المائز يمكن ان يكون إلى ما ذكرناه ، من كون الغاية من المسألة الأصولية هو رفع التردد في مقام العمل.

كما ان ما ذكرناه من الضابط أجمع لمسائل الأصول مما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره في بيان الضابط ، من انه هو القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي (١). إذ قد عرفت انه لا يشمل مسألة أصل الإباحة بناء على كون المجعول فيها الحلية الظاهرية بلا نظر إلى الواقع لا المعذرية ولا الحكم المماثل لعدم تحصيل الحجة على الواقع بها ، ومسألة الظن الانسدادي على الحكومة بالمعنى الّذي عرفته للحكومة ، لأنها لا تنتهي بنا إلى تحصيل الحجة على الحكم الشرعي كما تقدم تقريبه وقد عرفت دخولها في مسائل علم الأصول على الضابط الّذي ذكرناه لارتفاع التحير بها في مقام العمل.

وقد جعل المحقق النائيني قدس‌سره ضابط المسألة الأصولية ، ما يقع كبرى في قياس الاستنباط للحكم ، وأضاف إلى ذلك قيدين :

الأول : أن تكون النتيجة حكما كليا.

الثاني : أن لا تصلح هذه المسألة لإلقائها إلى العامي (٢).

والسر في إضافة هذين القيدين ، هو أنه مع الاقتصار في الضابط على ما يقع كبرى استنباط الحكم أعم من ان يكون كليا أو جزئيا يلزم دخول أكثر المسائل الفقهية ، كوجوب الصلاة ونحوها ، فانه يستنتج منها أحكاما جزئية في الموارد الجزئية الخاصة ، ولكنها بقيد كون المستنبط حكما كليا لا تندرج في الضابط ، وبذلك تكون أجنبية عن علم الأصول.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٧

إلاّ انه لما كان هذا القيد بخصوصه لا يجدي في خروج جميع مسائل الفقه عن علم الأصول ، لوجود بعض المسائل الفقهية التي تكون نتيجتها حكما كليا ، كقاعدة « نفي الضمان بالعقد الفاسد الّذي لا ضمان بصحيحه » وشبهها كما عرفت تقريبه ، احتاج في إخراج مثل هذه المسائل إلى إضافة القيد الآخر ـ أعني : ما لا يصلح إلقاؤها إلى العامي ـ ، إذ المسائل الفقهية صالحة لإلقائها إلى العامي بحيث يتولى بنفسه التطبيق دون المسائل الأصولية ، إذ معرفة العامي حجية الخبر أو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته لا تفيده شيئا ، فلا تصلح لإلقائها إليه ، بخلاف معرفته لنفي الضمان في الفاسد الّذي لا ضمان بصحيحه.

ولكنه يشكل بوجود بعض المسائل الفقهية لا تصلح لإلقائها إلى العامي ، وهي بهذا الضابط لا بد ان تكون من المسائل الأصولية.

وذلك كمسألة بطلان الشرط المخالف للكتاب والسنة ، فان العامي بمعرفة هذه المسألة لا يستطيع ان يتوصل بها في الموارد الجزئية أو الكلية التي تنطبق عليها ولو بعد بيان المراد بالمخالفة وانها المخالفة للنص أو الظاهر.

وكمسألة التسامح في أدلة السنن ، فان لها عنوانين بأحدهما تدخل في علم الأصول ، وبالآخر تندرج في مسائل الفقه.

اما العنوان الّذي به تدخل في علم الأصول ، فهو عنوان التسامح في أدلة السنن ، لأن مرجع هذا البحث إلى البحث عن دلالة اخبار « من بلغه ... » على كون موضوع الحجية في اخبار السنن أوسع من غيرها ، فيشمل الضعيف وغيره. وعدم دلالتها ، فيكون موضوع الحجية فيها كغيرها فيقتصر فيه على الصحيح والموثق. ومن الظاهر ان البحث عن حجية الخبر الضعيف ونحوه في مقام وعدم حجيته أصولي لارتباطه بمقام الحيرة والتردد.

اما العنوان الّذي به تدخل في علم الفقه ، فهو عنوان استحباب العمل

٣٨

الّذي قام على استحبابه أو وجوبه خبر لا يعتمد عليه عملا ، إذ مرجع البحث إلى ان هذه الاخبار تدل على استحباب هذا العمل أو لا تدل ، ومثل هذا البحث بحث من فقهي ، لأنه يدور حول الحكم الشرعي ونتيجته ذلك ـ أعني : الحكم الشرعي ـ إثباتا أو نفيا.

ولا يخفى ان المسألة لو كانت بالنحو الثاني المبحوث عنه في الفقه ، لا تكون مما يصلح إلقاؤه إلى العامي ، إذ لا يستطيع العامي ان يستفيد بذلك شيئا كيف؟ وهو يتوقف على معرفة الخبر الضعيف من غيره المتوقف ذلك على الاطلاع في أحوال رجال الحديث وشئونهم.

وإذا عرفت ما في تعريفات المحققين من قصور ، وانها ما بين غير جامع لمسائل الأصول ، وغير مانع عن غيرها من مسائل الفقه ، يتضح لك ان الأوجه تعريفه بما ذكرناه وتحديد الضابط بما قررناه. فقد عرفت جمعه ومنعه ، فليكن على ذكر منك والتفات.

* * *

٣٩
٤٠