منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

وعليه ، فتصور الجزء المستحب للواجب ممكن ، إذ عرفت ان الأمر الوجوبيّ المؤكد يتعلق بالطبيعة بقيد الخصوصية ، وتكون الخصوصية متعلقة للأمر الوجوبيّ ضمنا ، لكنها في نفس الوقت يجوز تركها ومن هنا يسمى الجزء مستحبا وان كان متعلقا للأمر الوجوبيّ ، بلحاظ عدم ترتب آثار الوجوب عليه.

وعلى هذا فلا بد من ان يكون الإتيان بالقنوت بداعي الأمر الصلاتي لا امره ، إذ لا امر يتعلق به كما لا يخفى.

ثم انه تظهر الثمرة في الالتزام بالجزء المستحب في موارد :

منها : عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في صحة الصلاة وهو في التسليم ـ لو قيل باستحبابه ـ بناء على الالتزام بأنه جزء مستحب للصلاة ، لعدم تحقق الفراغ من الصلاة المقوّم للقاعدة بخلاف ما لو التزم بأنه مستحب في واجب أو كون المستحب تطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ فان القاعدة تجري لتحقق الفراغ عن الصلاة بانتهاء التشهد لعدم تقوم الصلاة بالتسليم وكونه من اجزائها.

ومنها : جريان قاعدة التجاوز فيما لو شك في السورة وهو في القنوت بناء على الالتزام بأنه جزء مستحب فيما لو التزم في صحة جريان القاعدة ان يكون كل من المشكوك والمدخول فيه مرتبطا بالآخر في المحل المجعول له ، بمعنى ان يكون الغير الداخل فيه مرتبا على المشكوك وان يكون المشكوك مأخوذا سابقا على الغير ـ ولأجل ذلك بني على عدم جريان القاعدة فيما لو شك في التسليم أو الصلاة وهو في التعقيب ، لأن التعقيب وان كان محله متأخرا عن الصلاة شرعا إلاّ انه لم يؤخذ في الصلاة سبقها على التعقيب إذ لا إشكال في صحتها بدون التعقيب ـ بخلاف ما لو لم يلتزم بكونه جزء مستحبا ، بل كونه مستحبا في واجب أو كالمستحب في الواجب ، وذلك لأنه مع كونه من اجزاء الصلاة يكون كل منهما مرتبطا بالآخر ويؤخذ السابق سابقا على القنوت ومقيدا بترتب القنوت عليه ،

٣٠١

فيتحقق ملاك القاعدة. واما إذا كان مستحبا في واجب أو نحوه لم يكن مثل السورة مأخوذا سابقا على القنوت لعدم لزوم الإتيان به وعدم كونه من اجزاء الصلاة كي يفرض الترتب بينها.

ومنها : ما لو جاء بالقنوت فاسدا ، أو لم يأت به بالمرة فانه بناء على عدم كونه جزء مستحبا بل مستحبا في واجب أو نحوه لا يوجب فساد القنوت فساد الصلاة بالمرة ، لأنه لا يرتبط بأمر الصلاة ، بل هو امتثل أمر الصلاة بالإتيان بسائر الاجزاء وخالف امر القنوت وهو مستقل عن امر الصلاة كما هو المفروض.

واما بناء على كونه جزء مستحبا فقد يقال بكون فساده موجبا لفساد الصلاة لأنه جزؤها ، والمركب ينتفي بانتفاء أحد اجزائه ، إلاّ انه ينبغي التفصيل بين ما لو كان قصده الإتيان بالمأمور به بالأمر الصلاتي المؤكد بنحو التقييد ، وما لو كان قصده الإتيان بالمأمور به بالأمر الصلاتي لكنه اعتقد أنّ القنوت دخيل فجاء به فاسدا من باب الخطاء في التطبيق.

فعلى الأول ، تبطل الصلاة ، لأن المقصود امتثاله ، وهو الأمر المؤكد ، لم يمتثل ، وغيره لم يقصد امتثاله ، فلا يكون المأتي به امتثالا له.

وعلى الثاني ، لا تبطل لأنه جاء بما يوافق الأمر الصلاتي المقصود موافقته ، وترك القنوت أو فساده لا يضير فيه وان اعتقد لزوم الإتيان به ودخله في الصلاة.

وعلى كل ، فالثمرة موجودة في هذا المورد ولو في بعض صور الفرض.

وهناك موارد كثيرة للثمرة ، تظهر بملاحظة باب الخلل في الصلاة ، ولا حاجة لذكرها بعد بيان الموارد الثلاثة لها.

ولعل نظر صاحب الكفاية في عقد هذا الأمر إلى بيان الجزء المستحب وإمكانه فلاحظ. اما دخول أي الأقسام في المسمى وعدمه فذلك معلوم مما تقدم في بيان معنى الصحة وتحديدها ، فلا نعيد فلاحظ ، وتأمل والله ولي التوفيق والتسديد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٣٠٢

الاشتراك

هذا المبحث عديم الجدوى والأثر ، وانما تعرض إليه الأعلام تمهيدا للمبحث التالي وهو : « استعمال اللفظ في أكثر من معنى » وان لم يبتن عليه ، ولأجل هذا كان الاعراض عن تحقيق الأقوال فيه أولى ، وان كان إمكانه ، بل وقوعه من الأمور البديهية تقريبا ، وما قيل في امتناعه أو وجوبه يعلم وهنه مما جاء في رده في الكفاية (١) وغيرها. ولكن السيد الخوئي جزم باستحالته بناء على ما ذهب إليه في معنى الوضع من انه تعهد تفهيم المعنى عند ذكر اللفظ ببيان مفصل مذكور في تقريراته (٢). ولا يهمنا التعرض إليه بعد ان تقدم منّا بيان فساد أصل المبنى ووهن كون الوضع عبارة عن التعهد بجميع محتملاته ، وبالخصوص المحتمل الّذي يبني عليه هنا ، فلاحظ وراجع.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٢٠٢ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٣
٣٠٤

استعمال اللفظ في أكثر من معنى

هذا المبحث من المباحث المهمة التي تعرض لتحقيقها الاعلام ، وله آثار فقهية عملية تعرف في محلها من أبواب الفقه ، فمن الموارد التي يظهر فيها أثر هذا البحث ما إذا جاء امر واحد بالأذان والإقامة معا ، فان مقتضى ظاهر الأمر كونه وجوبيا وكون الطلب المدلول له إلزاميا. ثم جاء دليل منفصل يدل على عدم وجوب الأذان وكونه مستحبا وليس بواجب. فمقتضى الجمع العرفي تقديم الدليل المنفصل وحمل الأمر المتعلق بالأذان على الأمر الاستحبابي لا الوجوبيّ فيتصرف في ظاهره. فإذا بني على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، أمكن البناء على ظهور الأمر في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة لعدم الموجب لرفع اليد عنه ، والبناء على إرادة الاستحباب منه بالنسبة إلى الأذان للقرينة ، إذ لا يمتنع إرادة الوجوب والاستحباب من الأمر في استعمال واحد. واما إذا بني على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى كان الدليل المنفصل موجبا للتصرف في ظهور الأمر وحمله على الاستحباب أو على الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب بالنسبة إلى الإقامة والأذان كليهما ، إذ إبقاؤه على ظهوره في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة وحمله على الاستحباب بالنسبة إلى الأذان يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ممتنع كما هو الفرض ، فلا بد ان يحمل على معنى واحد

٣٠٥

بالنسبة إلى كليهما يتفق مع الدليل المنفصل وهو الاستحباب أو الجامع ، ويعلم إرادة الفرد الاستحبابي بالقرينة المنفصلة الموجودة.

هذا أحد الموارد التي يظهر فيها أثر هذا المبحث. وغيره كثير يشار إليه في محله.

ثم انه لا بد من معرفة محور الكلام وموضوع النزاع الّذي يدور في كلمات الاعلام بين النفي والإثبات أو التفصيل. لأنّ تصور استعمال اللفظ في أكثر من معنى بنحو واضح الإمكان وبنحو واضح الاستحالة بحيث لا يكون الإمكان والامتناع بتقديريه امر يحتاج إلى بيان ومورد الخلاف ، فانه ...

ان أريد باستعمال اللفظ في أكثر من معنى استعماله في معان متعددة مستقلة غير مرتبطة إلاّ انه بكشف واحد ، نظير العام الاستغراقي الّذي يراد به كل فرد فرد بلا ارتباط له بغيره من الافراد ويجعل اللفظ العام كاشفا عن الجميع ـ ان أريد من الاستعمال في أكثر من معنى ذلك ـ ، فهو واضح الإمكان ، لبداهة صحة استعمال العام وإرادة افراده بنحو الاستغراق والشمول ولا يرى في ذلك أي محذور مما قد يتصور ، ولا يتوقف في صحته أحد.

وان أريد منه استعماله في كل معنى على حدة ومستقلا بحيث لا يلحظ مع معنى آخر ولا يستعمل اللفظ في غيره ، فهذا واضح الاستحالة إذ الاستعمال في المتعدد خلف فرض التزام ان لا يكون معه آخر ولا يلحظ غيره بلحاظ آخر.

إذن فما هو موضوع الكلام؟ وما الّذي يتصور في استعمال اللفظ في أكثر من معنى مما يقبل الخلاف والنزاع؟.

موضوع النزاع هو ما أشار إليه صاحب الكفاية : من انه استعمال اللفظ في كل معنى بنحو الاستقلال ، وبان يكون اللفظ كاشفا عن كل منهما مستقلا ، فيكون بمنزلة ان يستعمل فيهما مرتين وعلى حدة ، بحيث يكون هناك كشفان ، ويكون هذا الاستعمال بمنزلة استعمالين لاشتماله على خصوصياتهما.

٣٠٦

هذا هو محل النزاع ، فقد اختلف في إمكانه وامتناعه. وظاهر صاحب الكفاية هو ابتناء الإمكان والامتناع على حقيقة الاستعمال (١) ، فان كان الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى كان الاستعمال في أكثر من معنى ممكنا ، إذ لا يمتنع ان يكون الشيء الواحد علامة وكاشفا عن أمرين مع كونه ملحوظا بلحاظ واحد ، كما هو شأن العلامة ، فانه من الظاهر إمكان نصب العلم لغرض بيان جهتين كرأس الفرسخ وأرض بني فلان. وان كان الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى بجعله مرآة ووجها له بحيث يكون كأنه هو الملقى رأسا كان الاستعمال في المتعدد ممتنعا ، وذلك لأن الاستعمال إذا كان كذلك استدعى ان يلحظ اللفظ آلة وطريقا إلى المعنى لفنائه فيه فناء الوجه في ذي الوجه. وعليه فاستعماله في معنيين يستلزم إفناءه مرتين ، وهو يقتضي ان يلحظ بلحاظين آليين وهو ممتنع لاستحالة اجتماع المثلين في شيء واحد في آن واحد ـ كما تحقق في محله ـ ، ولامتناع ان يعرض الوجود على الموجود بما هو كذلك ، فيمتنع ان يتعلق اللحاظ بما هو ملحوظ ، إذ الموجود لا يوجد ثانيا بوجود آخر ، كما لا يخفى ، ولا يتأتى هذا الكلام بناء على كون الاستعمال جعل اللفظ علامة ، إذ لا يستلزم لحاظ اللفظ آلة ، بل يمكن تعلق اللحاظ الاستقلالي به ويقصد به تفهيم معنيين كما هو واضح.

إلاّ انه قد ذكر لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بناء على كونه جعل اللفظ علامة ، محذور.

وتقريبه ـ كما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني (٢) ـ : ان جعل اللفظ علامة للمعنى معناه انه سبب لحصول العلم والانتقال إلى المعنى ، فهو سبب

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٦٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٧

للاعلام والتفهيم الّذي معناه إيجاد العلم والفهم. وعليه ، فيمتنع ان يكون اللفظ محققا لإعلامين وتفهيمين لامتناع ان يكون الوجود الواحد إيجادين لاتحاد الوجود والإيجاد حقيقة وتغايرهما اعتبارا.

ولكنه يشكل أولا : بان اتحاد الوجود والإيجاد ذاتا وحقيقة لا يرتبط بما نحن فيه أصلا ، إذ الوحدة بلحاظ ما يضاف إليه الوجود والإيجاد معا ، وهو مختلف فيما نحن فيه فان الوجود الواحد هو وجود اللفظ خارجا ، والإيجاد المتعدد هو إيجاد المعنى وإحضاره في الذهن ، وأي شخص يدعي ضرورة وحدة الوجود الخارجي مع الإيجاد الذهني كي يستحيل تعدد أحدهما وحدانية الآخر.

ولو تنزل ولوحظ اللفظ بوجوده الذهني في ذهن المخاطب بحيث يكون كل منهما موطنه الذهن وهو ذهن المخاطب ..

فيشكل ثانيا : بان الوجود الواحد وجود للفظ ، وهو انما يقتضي وحدانية إيجاده لا إيجاد المعنى ، إذ وجود اللفظ في الذهن يباين ويغاير وجود المعنى فيه ، ومقتضى وحدة الوجود والإيجاد في الذات مغايرة إيجاد اللفظ لإيجاد المعنى حقيقة لتغاير وجوديهما كذلك ، فلا محذور في وحدة وجود اللفظ وإيجاده مع تعدد وجود المعنى وإيجاده. فلاحظ وتدبر.

وقد أورد (١) على دعوى امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى بالنقض بموردين :

المورد الأول : العموم الاستغراقي ، ويتصور النقض به بوجهين :

أحدهما : ان كل فرد من افراد العام ملحوظ مستقلا وعلى انفراده ، فكما صحّ تعلق الحكم الواحد بكل فرد على انفراده كذلك يصحّ استعمال اللفظ الواحد في كل معنى على انفراده عند لحاظ المعاني كل على حدة.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٦٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٨

وفيه : ان نحو تعلق الحكم يختلف عن الاستعمال ، فان اللفظ في حال الاستعمال يكون فانيا في المستعمل فيه ، وليس كذلك الحكم ، فانه لا يفنى في موضوعه ، بل لا يتوقف إلاّ على تصور موضوعه بأيّ نحو كان ، فلا محذور في الحكم على المتعدد.

ثانيهما : ان افراد العام قد لا تكون متناهية ، فلا يمكن لحاظ كل منها بنحو الاستقلال والحكم عليها ، بل يحكم عليها بتوسط عنوان يكون كاشفا عنها ، ويكون لحاظه لحاظا لها. فعليه فكما يمكن ان يكون المفهوم الواحد فانيا في افراده المتعددة كذلك يمكن ان يكون اللفظ الواحد فانيا في المعاني المتعددة. أو يقرّب : بان لحاظ العنوان إذا كان لحاظا لمطابقاته بوجه ، وكان اللازم لحاظ الافراد مستقلا في مقام الحكم ، لزم تعلق لحاظات استقلالية بالعنوان متعددة بعدد افراده الواقعية ، فكما يصح ذلك فليصح تعدد اللحاظ في اللفظ.

وفيه : ان ألفاظ العموم غير فانية وحاكية عن كل فرد فرد مستقلا ، أما ما كان من قبيل : « كل عالم ، والعلماء » فواضح ، ضرورة عدم انطباق عنوان العلماء على كل فرد من افراد العالم ، وهكذا كل عالم بل هو عنوان لجميع الافراد ، فليس هذا العنوان الا فانيا في الجميع بفناء واحد. وأما ما كان من قبيل المطلق الشمولي كالعالم ، فلأنه بمادته وهيئته موضوع للذات المتلبسة بالمبدإ ، فهو موضوع للطبيعة المهملة ، فلا يمكن ان يكون عنوانا لكل فرد وفانيا فيه لعدم انطباقه على الخصوصيات بعد ان كان موضوعا للطبيعة ، فاستفادة العموم منه بدليل آخر وقرينة خارجية.

وبالجملة : فليس من العمومات ما يكون عنوانا لكل فرد بانفراده كي يكون فانيا فيه فيتعدد فناء العنوان ويصح النقض به على ما نحن فيه.

المورد الثاني من موردي النقض : الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فانه كما يمكن وضع اللفظ إلى كل واحد من الافراد بخصوصه بتوسط عنوان

٣٠٩

عام ، فليكن كذلك باب الاستعمال ، فيستعمل اللفظ في كل واحد من المعاني بتوسط عنوان عام.

ويدفع هذا النقض : بالفرق بين باب الاستعمال وباب الوضع ، بان اللفظ يكون في باب الاستعمال فانيا في المعنى وليس كذلك في باب الوضع ، فانّه ملحوظ بالاستقلال. واما نفس الوضع فهو كالحكم لا يحتاج إلاّ إلى لحاظ الموضوع له ، فلاحظ.

ثم انه قد ذكر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى وجه آخر غير ما أشار إليه المحقق صاحب الكفاية. وبيانه بالإجمال : ان لازم استعمال اللفظ في أكثر من معنى اجتماع لحاظين للمعنيين في آن واحد وهو ممتنع (١).

ويندفع هذا الوجه بما حقق من قابلية النّفس لحصول صورتين لمعنيين في آن واحد ، ويستشهد على ذلك بشواهد :

منها : ان الشخص قد يفعل فعلين في آن واحد ، كأن يقرأ ويكتب مع ان الفعل امر اختياري يتوقف على اللحاظ والتصور ، فانه من مبادئ الإرادة.

ومنها : الحكم على الموضوع بالمحمول ، فانه يتوقف على لحاظ كل من المحمول والموضوع كي يتّجه حكمه به عليه وحمله على الموضوع.

وبالجملة : فاندفاع هذا الوجه واضح.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، توضيحه : إن الاستعمال عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ بوجود تنزيلي ، بمعنى ان يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، وبما ان الإيجاد متحد مع الوجود حقيقة وذاتا وان اختلف بحسب الاعتبار امتنع استعمال اللفظ في معنيين ، إذ يستحيل ان يكون الوجود الواحد إيجادا لكل من المعنيين بنحو يكون إيجادين

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٦٤ ـ الطبعة الأولى.

٣١٠

للمعنيين ، نعم الوجود الواحد يكون إيجادا لكلا المعنيين ممكن ، لكن ان يكون إيجادين ممتنع ، لأنه إذا كان إيجادا لهذا المعنى فقد امتنع ان يكون في نفس الوقت إيجادا آخر للمعنى الآخر.

هذا توضيح ما ذكره ، وقد اختلف تعبيراته. فعبر في الحاشية : بان الاستعمال إيجاد المعنى تنزيلا (١). وعبر في الأصول على النهج الحديث : بأنه إيجاد للمعنى بالعرض (٢). وعلى كل فغرضه ما ذكرناه من امتناع ان يكون الوجود الواحد إيجادا لهذا المعنى وإيجادا لذلك المعنى.

وقد أورد عليه :

أوّلا : بان الوجود الواحد لا يمكن ان يكون إيجادا لمعنيين انما هو في الوجود الحقيقي العيني لا التنزيلي ، لأنّ التنزيل ترجع سعته وضيقه إلى المنزل ، فيمكن ان ينزل اللفظ منزلة المعنيين.

وثانيا : بان الشيء الواحد يمكن ان يكون وجودا بالعرض لمعان متعددة إذ يمكن ان يتعنون الشيء بعناوين متعددة بلا كلام (٣).

ويردّ الأول : بان المدعى امتناع كون اللفظ الواحد إيجادين لمعنيين ولو تنزيلا لا إيجادا لهما. فإمكان تنزيل اللفظ منزلة المعنيين لا يعني إمكان كون اللفظ إيجادين لمعنيين.

ويردّ الثاني : بان تعدد العناوين المنطبقة على شيء واحد انّما هو لتعدد الجهات التي يشتمل عليها الشيء ، فينتزع عن كل جهة عنوان خاص ، وإلاّ فيمتنع انتزاع عناوين متعددة عن جهة واحدة في الشيء كما لا يخفى.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٦٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث ـ ٤٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ١٤٨ ـ الطبعة الأولى.

٣١١

والمتحصل : ان ما ذكره المحقق الأصفهاني وجيه في نفسه ، إلاّ أنّ الإشكال في أصل مبناه ، وهو كون الاستعمال إيجاد المعنى تنزيلا باللفظ ، فانه وان وقع في كلام الفلاسفة ، إلاّ انه لا يعلم له وجه ظاهر ولم يذكر دليل عليه ، بل هو يقع في الكلمات بنحو إرسال المسلمات ، فهو قابل للإنكار لأنه دعوى بلا دليل ، بل قد مر عليك ما يوهنه من عدم تصور معنى معقول لتنزيل اللفظ منزلة المعنى فراجع (١).

والّذي ننتهي إليه انّ امتناع الاستعمال في أكثر من معنى وإمكانه يبتني على تفسير الاستعمال وحقيقته ، وكونها إفناء اللفظ في المعنى أو جعله علامة عليه ، فيمتنع على الأول ويمكن على الثاني كما تقدم.

وقد بنى السيد الخوئي كون حقيقة الاستعمال أحد هذين المعنيين على ما يختار في حقيقة الوضع ، فان اختير انها تنزيل اللفظ منزلة المعنى كان الاستعمال إفناء للفظ في المعنى وإيجادا للمعنى باللفظ ، فيمتنع ان يكون الاستعمال في أكثر من معنى كما عليه صاحب الكفاية. وان اختير ـ كما هو الحق لديه ـ ان حقيقة الوضع هي التعهد والقرار كان الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى ، لأن الاستعمال ليس إلاّ فعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لإبراز ما قصد المتكلم تفهيمه ، فلا مانع من ان يكون علامة لإرادة المعنيين المستقلين. كما ان تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له أو بجعل اللفظ على المعنى اعتبارا لا يستدعي فناء اللفظ في المعنى في مقام الاستعمال.

والّذي ينتهي إليه أخيرا هو جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأنه يختار كون حقيقة الوضع هي التعهد الّذي لازمه كون الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى المقتضي لإمكان الاستعمال في أكثر من معنى (٢).

__________________

(١) راجع ١ ـ ٥٨ من هذا الكتاب.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٢٠٧ ـ الطبعة الأولى.

٣١٢

هذا محصل كلامه. ولكنه غير سديد ، وذلك لأن حقيقة الاستعمال وكونها إفناء اللفظ في المعنى أو جعل اللفظ علامة للمعنى لا ترتبط بحقيقة الوضع ولا تبتني عليها أصلا ولم يظهر وجه الملازمة بينهما ، بل يمكن دعوى ان الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى ولو ادعى ان الوضع هو التعهد ، إذ ما يحصل بالوضع أيا كانت حقيقته هو العلاقة بين اللفظ والمعنى والارتباط بينهما ، فيكون اللفظ قابلا للكشف عن المعنى ، فيتكلم حينئذ ان الاستعمال هل هو جعل اللفظ علامة للمعنى أو جعله مرآتا له؟ ، سواء كان الوضع هو التعهد أو غيره ، وما يستدل به على أحد الطرفين في باب الاستعمال جار على جميع تقادير الوضع ، وما ادعي من الملازمة لا يعلم له وجه.

ويشهد لذلك : بعض الموارد العرفية ، فمثلا لو تعهد شخص بأنه متى ما أراد ان يقرأ فهو يضع النظارة على عينيه ويستعملها ، أو متى ما أراد ان يرى وجهه يستعمل المرآة ، فانه إذا استعمل النظارة أو المرآة جريا على طبق تعهده لا يشك أحد أن كلا من النظارة والمرآة يكون فانيا في المقصود الأصلي وملحوظا طريقا وآلة إليه ، مع ان الاستعمال كان جريا على طبق التعهد والالتزام النفسيّ لا شيء آخر. فان ذلك دليل على ان التعهد لا يلازم تعلق النّظر الاستقلالي بالمستعمل ولا يتنافى مع تعلق النّظر الآلي به.

كما يدل على ما ذكرناه : ان عنوان النزاع أعم من الوضع ، لأنه يتعدى إلى الاستعمال في المعنى الحقيقي والمجازي أو المعنيين المجازيين ، مع انه لا وضع هاهنا كي يبتنى جواز الاستعمال وعدمه على تحقيق حقيقته. ومقتضى ما ذكر عدم جريان النزاع في ذلك المورد مع ان جريانه وتأتي كلا القولين في الاستعمال أمر لا شبهة فيه ولا تتوقف عنده ، فتدبر.

ونتيجة ما ذكرناه : انّ البناء على إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى وامتناعه يبتني على تحقيق انّ الاستعمال هل هو جعل اللفظ علامة للمعنى أو

٣١٣

جعله فانيا فيه؟ ، فيجوز الاستعمال في أكثر من معنى على الأول لعدم المحذور فيه كما قدمنا ، ويمتنع على الثاني لمحذور اجتماع اللحاظين في آن واحد. وبما ان صاحب الكفاية اختار الثاني بنى على الامتناع عقلا. كما انه قد تقدم منّا في أوائل مبحث الوضع ان الاستعمال جعل اللفظ طريقا وفانيا في المعنى ، فالمتعين الالتزام بامتناع الاستعمال في أكثر من معنى عقلا ولا يفرق في ذلك بين المفرد وغيره والمعنى الحقيقي والمجازي لسريان المحذور في جميع صور الاستعمال بلا فرق.

ثم انه لو تنزلنا وقلنا بإمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى بمقتضى الحكم العقلي ، فما هو حكم ذلك بحسب القواعد الأدبية وبمقتضى أصل الوضع؟. الحق هو الجواز ، إذ لا مانع من ذلك ، إلاّ ما قيل من انّ اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء لقيد الوحدة ، فلا يكون الاستعمال فيما وضع له اللفظ ولكنه موهون جدا ، إذ فيه :

أولا : ان الموضوع له ذات المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة فيه. ويدل على ذلك مراجعة الوجدان ، وتبادر أهل العرف في عملية الوضع ، فان الإنسان حال الوضع لا يلحظ سوى ذات المعنى ويضع له اللفظ.

وثانيا : انه لو سلم كون الموضوع له هو المعنى بقيد الوحدة ، فلا يستلزم منع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ يكون حينئذ استعمالا مجازيا للمحافظة على ذات الموضوع له ولا مانع منه. فتأمل. وهناك إيرادات تذكر على هذا الإشكال لا حاجة إلى التعرض إليها لوضوح وهن الإشكال.

واما البحث في تحقيق مقتضى الظهور العرفي للكلام بعد تسليم الجواز ، وان الظاهر من الكلام عند عدم القرينة جميع المعاني الموضوع لها اللفظ أو أحدها غير المعين فيكون الكلام مجملا؟ كما تعرض إليه السيد الخوئي ( حفظه

٣١٤

الله ) (١) ، فهو غير متين بناء على الالتزام واقعا بالامتناع ، إذ البحث التنزيلي لا يجدي في تحقيق المطلب ، لأن الحكم على العرف ، باستظهاره وعدم استظهاره لا بد وان يلحظ فيه استعمالات العرف ونظرهم في ترتيب الآثار عليها ، فمع الالتزام بامتناع الاستعمال وانه لا يصدر من أحد لا يمكن الحكم بان الظاهر عند الاستعمال ـ لو قيل بالجواز ـ كذا ، إذ هو رجم بالغيب ولا أساس له في الخارج. نعم من يقول بالجواز وصدور الاستعمال خارجا ـ كالسيد الخوئي ـ اتجه له البحث عن هذه الجهة. فتدبر.

ثم ان صاحب الكفاية قدس‌سره أشار إلى تفصيل صاحب المعالم رحمه‌الله في المقام وناقشه.

اما تفصيل المعالم : فهو القول بالجواز بنحو المجاز في المفرد وبنحو الحقيقة في التثنية والجمع. وعلله في المعالم : بان اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء للقيد المذكور ، فيكون استعمالا في غير ما وضع له ، ويكون مجازيا بعلاقة الجزء والكل ، إذ اللفظ الموضوع للكل استعمل في الجزء. ولا يجيء هذا البيان في غير المفرد لأن التثنية والجمع في قوة تكرار اللفظ فيكون لهما حكم التكرار ، فكما يصح إرادة معنى معين من لفظ : « عين » وإرادة غيره من لفظ : « عين » آخر ، يصح إرادة المعنيين معا من لفظ : « عينين » بلا تجوّز لأنهما في قوة قولك : « عين وعين » (٢).

واما المناقشة : فبان اللفظ لم يوضع الا إلى نفس المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة ، وإلاّ لامتنع استعمال اللفظ في الأكثر ، إذ الأكثر يباين المعنى الموضوع له مباينة الشيء بشرط لا والشيء بشرط شيء ، إذ الموضوع له هو المعنى بشرط

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٢٠٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) العاملي جمال الدين ، معالم الدين ـ ٣٢ ـ الطبعة الأولى.

٣١٥

ان لا يكون معه غيره والمستعمل فيه هو الشيء بشرط ان يكون معه غيره ، فلا علاقة بينهما كما ادّعي كي يصحح الاستعمال المجازي ، بل بينهما المباينة المانعة من الاستعمال.

هذا بالنسبة إلى المفرد ، واما بالنسبة إلى التثنية والجمع ، فالمناقشة فيهما بوجهين :

أحدهما : ان التثنية والجمع وان كانا بمنزلة تكرار اللفظ ، إلاّ ان الظاهر ان المراد من كل لفظ فرد من افراد معناه ، فيراد من المثنى فردان من طبيعة واحدة لا معنيان.

والإيراد على ذلك بتثنية الاعلام ، فانّ المراد من المثنى معنيان ، إذ الموضوع له كل لفظ مباين للآخر ، وليس الموضوع له هو الطبيعة كي يقبل الافراد ، بل الموضوع له هو الفرد ، فلا معنى لأن يراد به فردان بل معنيان.

مدفوع : بالتزام التأويل بورود التثنية على المسمّى ، فيكون المعنى من :

« زيدين » فردين من مسمى زيد مثلا ، والمسمى طبيعة يتصور لها افراد.

ثانيهما : انه لو قلنا بعدم التأويل ، وان الموضوع له المثنى هو المتعدد أعم من ان يكون فردين من معنى واحد أو معنيين ، بحيث يكون استعماله وإرادة معنيين استعمالا حقيقيا ، لو قلنا بذلك ، لم يكن إرادة معنيين من المثنى من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأنه هو معنى اللفظ فيكون المستعمل فيه اللفظ معنى واحد ، كما لو أريد فردان من معنى واحد. نعم يكون استعمال اللفظ وإرادة فردين من معنى وفردين من آخر من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، ولكنه لا دليل على جوازه حقيقة ، إذ حديث التكرار لا يجدي حينئذ لإلغاء قيد الوحدة فيه ، لأن الموضوع له هو المتعدد من معنيين أو فردين بقيد الوحدة. فتدبر.

هذا ملخص ما ذكره صاحب الكفاية وهو وجيه ، كما لا يخفى (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٦

لكن السيد الخوئي ( حفظه الله ) نهج في مناقشته لصاحب المعالم نهجا آخر ، فقد جاء في مناقشته ما محصله : ان في التثنية والجمع وضعين : أحدهما للمادة. والآخر للهيئة وهي الألف والنون أو الواو والنون. اما الهيئة فهي موضوعة للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها. واما المادة فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات حتى الخصوصية اللابشرطية ، فإذا أريد من العين مثلا معنى واحد وهو الذهب ، فلا يعقل ان يراد من المثنى أكثر من طبيعة واحدة ، إذ المراد بالمادة معنى واحد وطبيعة واحدة والمراد بالهيئة المتعدد من مدخولها ، فمقتضى ذلك إرادة فردين من مدخولها لأن مدخولها طبيعة واحدة ، فالتعدد فيها يكون بإرادة فردين منها ولا دليل آخر يدل على إرادة طبيعتين كما لا يخفى (١).

ولكنه وان كان تاما في نفسه واقعا أو تنزلا ، إلاّ انه لا يتجه ان يكون نقاشا مع صاحب المعالم ، فانه انما يصلح ذلك لو كان ما ذكره من تعدد الوضع في التثنية والجمع وجهة الوضع أمرا مسلما لدى صاحب المعالم فيؤاخذ به ويلزم بمقتضاه. ولكنه لم يثبت بناء صاحب المعالم عليه ، فقد يرى ان التثنية ليس لها إلاّ وضع واحد والموضوع له هو المتعدد ، ولعله هو المستظهر من كلامه ، فالمتعين هو المناقشة بما ذكره صاحب الكفاية فلاحظ.

ثم ان المحقق العراقي قدس‌سره قد حرر النزاع في التثنية والجمع بنحوين : الأول : الامتناع في المفرد والجواز في المثنى والجمع. الثاني : الجواز بنحو المجاز في المفرد وبنحو الحقيقة في المثنى والجمع (٢).

ولا يخفى ان تحرير النزاع بالنحو الثاني له وجه. واما تحريره بالنحو الأول فلا يتناسب مع البحث العلمي ـ وان كان ذلك من جملة أقوال المسألة ـ ،

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٢١١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ١٥٢ ـ الطبعة الأولى.

٣١٧

وذلك لأنه بعد اختيار الامتناع بالمحذور العقلي الّذي ذكرناه لا تتجه دعوى الجواز في التثنية والجمع ، لسراية المحذور في جميع الصور كما تقدم. وعلى كل فالامر سهل جدا.

تذييل : ورد في الحديث : « ان للقرآن سبعة بطون أو سبعين بطنا » (١). فقد يتوهم منافاة ذلك لما قرر من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ ظاهره ان المعاني المقصودة من الألفاظ القرآنية بهذا العدد ، وهو لا يجتمع مع الالتزام بمحالية إرادة المعاني المتعددة من اللفظ الواحد ، لأنه يدل على وقوعه فضلا عن جوازه.

وقد دفع صاحب الكفاية رحمه‌الله هذا الوهم بعدم دلالة الحديث عن كون قصد هذه المعاني من باب قصد المعنى من اللفظ ، بل يحتمل فيه أحد وجهين :

الأول : ان يراد منه إرادة هذه المعاني في أنفسها حال الاستعمال في المعنى الواحد ، لا انها مرادة من اللفظ.

الثاني : ان يكون المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وان كانت تلك اللوازم المتعددة خفيّة بحيث لا تصل إليها أذهاننا لقصورها (٢).

وقد رجّح السيد الخوئي ـ كما جاء في تقريرات بحثه ـ الاحتمال الثاني ونفي الأول بوجهين :

الأول : ان إرادة المعاني في أنفسها لا توجب عظمة القرآن وعلو منزلته ، إذ يمكن ذلك في غير الاستعمالات القرآنية من الاستعمالات العرفية ، بل يمكن ذلك في مورد الكلام بالألفاظ المهملة ، إذ يمكن ان ترد على الذهن في حال

__________________

(١) الكافي ٢ ـ ٥٩٩ باب فضل القرآن. حديث : ٢.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٨

التكلم معان كثيرة.

الثاني : انه يلزم ان لا تكون هذه المعاني بطونا للقرآن ، إذ هي بذلك تكون أجنبية عنه.

وهذان الأمران يخالفان مقتضى الروايات الواردة في مقام بيان عظمة القرآن بذلك ، وان هذه المعاني معاني القرآن وبطونه لا انها أجنبية عنه. ثم ذكر بعض الروايات الناطقة بذلك ، وبعد ذلك رجح الثاني وادعى ظهور الروايات الكثيرة فيه (١).

ونحن ان لاحظنا أصل المطلب من وجود البطون للقرآن وأغمضنا النّظر عن ما يكشف المطلب من نصوص ، فان التحقيق في نحو دلالتها يحتاج إلى بحث مفصل طويل ، نرى ان الكفّة الراجحة في جانب الاحتمال الأول لا الثاني ، إذ لا عظمة للقرآن بوجود لوازم لمعناه المقصود خفية عن أذهان الناس لا تصل إليها عقولهم وإدراكاتهم ، فانه لا يتصف بذلك بالعظمة وشرف المنزلة كما لا يخفى. اما كون الجمل القرآنية قابلة في نفسها للتطبيق على معان متعددة مرادة في نفسها ودالة في حد ذاتها على عدد كبير من المعاني وان أريد منها معنى واحد لا الجميع ، بحيث يمكن للفكر الدّقيق الثاقب ان يصل إلى بعض تلك المعاني بالتأمل والتعمق في آيات الكتاب ، فهو من عظمة القرآن والتركيب الكلامي لجمله ، إذ قلّ من الجمل العرفية ما يمكن تطبيقه على متعدد من المعاني ، فإيراد تركيب قابل للتطبيق على عدد كبير من المعاني وفرض ورود تلك المعاني في نفس المتكلم والتفاته إليها وتحرّيه في إيراد ما يمكن تطبيقه عليها من التراكيب الكلامية دليل على عظمة ذلك المتكلم وسعة أفق تفكيره في الاطلاع على دقائق الألفاظ ومعانيها.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٢١٣ ـ الطبعة الأولى.

٣١٩

وقد يضرب تقريبا لذلك بعض الأمثلة العرفية ، ولا أظنني بعد هذا البيان بحاجة إلى ذكرها فتدبر.

تتمة : يحسن بنا ان يكون ختام البحث في هذه المسألة تحقيق ما جاء في بعض كلمات الفقهاء من عدم جواز قصد معاني آيات الكتاب الّذي تقرأ في الصلاة ، لأن ذلك محل الابتلاء ولعلاقته بالمسألة.

وقد وجّه امتناع ذلك : بان المطلوب في الصلاة هو القراءة ، وهي ـ أعني القراءة ـ استعمال اللفظ في اللفظ ، فإذا قصد بالآية المعنى الّتي استعملت فيه كان ذلك من استعمال اللفظ في المعنى ، وهو يوجب عدم تحقق القراءة لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فإذا استعمل في المعنى امتنع استعماله في اللفظ فلا تتحقق القراءة ، مع انه قد ورد في الروايات استحباب ذلك والحث عليه وان كمال الصلاة بقصد المعنى والالتفات إليه (١).

وقد أجيب عن هذا الوجه بوجوه :

الأول : ان قصد المعنى من اللفظ لا يكون في عرض القراءة ، بل في طولها ، بمعنى انه يقصد الحكاية عن اللفظ باللفظ ويقصد في نفس الوقت الحكاية عن المعنى باللفظ المحكي لا الحاكي فلا محذور فيه ، إذ لم يستعمل اللفظ في معنيين بل كل لفظ مستعمل في معنى (٢).

وهذا الوجه واه جدا. وقد قيل في إبطاله وجوه متعددة. والوجه الواضح في الإشكال فيه : هو انه يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شيء واحد. بيان ذلك : ان اللفظ المحكي باللفظ بما انه محكي ومستعمل فيه يكون ملحوظا بالاستقلال ، وبما انه حاك عن المعنى وفان فيه يكون ملحوظا آلة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ ـ ٨٢٦ باب : ٣ من أبواب قراءة القرآن. حديث : ٦ و ٧.

(٢) ذهب إليه السيد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى ٦ ـ ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٣٢٠