منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

التوليدي إلى المسبب (١).

ولا بد لنا ان نعرف أولا : مدى ما ذكره من كون النسبة بين العقد والمعاملة نسبة الآلة إلى ذيها. وثانيا : مدى ما رتّبه على ذلك من نفي تعدد الوجود ، وانه ليس لدينا موجودان متغايران. وثالثا : مدى صحة ما قرره من كون الفرق بينهما كالفرق بين المصدر واسم المصدر.

اما الأول : فهو غير متجه ، لأن الفرق بين الآلة والسبب بحسب الفهم العرفي في ان السبب فعل اختياري للشخص والآلة ليست من افعال الشخص ، بل هي من الأمور التكوينية التابعة في وجودها لأسبابها التكوينية ، فآلة القطع هي السكين وهي ليست من الأفعال ، وسببه تحريك السكين وهو من الأفعال ، فالعرف يرى ان الآلة هي السكين والسبب هو التحريك دون العكس. وعليه ، فكون العقد من قبيل الآلة إذا لوحظ بألفاظه من دون لحاظ الاستعمال والإنشاء ، وليس الأمر كذلك ، فان جهة الإنشاء واستعمال اللفظ هي الدخيلة في التأثير ومقومة للعقد ، وليس العقد عبارة عن ذات الألفاظ بنفسها. وعليه فبمقتضى ما ذكرنا يكون العقد من الأسباب لأنه من الأفعال الاختيارية.

واما الثاني : فهو غريب جدا ، فان كون العقد آلة لا يعني انه ليس بموجود آخر غير الأثر ، إذ لا ملازمة بين الآلية واتحاد الوجود ، إذ وجود السكين غير وجود القطع ، ووجود القلم غير وجود الكتابة ، وتغاير وجود نفس الإنشاء والعقد مع وجود الملكية أمر لا يكاد يخفى ، وكون العقد آلة لا يغير هذا الواقع عما هو عليه ، فان الأثر أمر اعتباري والآلة امر تكويني ، فكيف يكون وجودهما واحدا؟!. هذا ان أراد اتحاد وجوديهما كما قد يظهر من ذيل عبارته. وان أراد اتحاد إيجاديهما مع تعدد الوجود. ففيه : ان تغاير الإيجاد والوجود اعتباري ، وإلاّ فهما

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٨١

متحدان واقعا فكيف يتحد الإيجاد ويتعدد الوجود؟.

واما الثالث : فهو مما لا محصل له ان كان المراد به ما هو ظاهره. والمصرح به في غير هذا المكان ـ في النهي عن المعاملة ـ من كون الفرق بين العقد والأثر فرقا اعتباريا غير حقيقي ، كالفرق بين المعنى المصدري والمعنى الاسمي المصدري ، نظير الإيجاد والوجود ، فان حقيقتهما واحدة والفرق بينهما اعتباري ، فان الإيجاد ينتزع من إضافة الشيء إلى الفاعل والوجود ينتزع من إضافته إلى المورد القابل. ووجه بطلانه : هو استلزامه لأن يكون الشيء مؤثرا في نفسه ، وهو ممتنع ، إذ الشيء لا يكون علة لنفسه ، وذلك لأن ذلك لازم اتحاد العقد المؤثر والأثر في الوجود وعدم تغايرهما في جهة حقيقية ، ولو تنزلنا عن محذور وحدة الوجود ـ كما هو الفرض ـ فهو غير متجه أيضا. وان أريد ان العقد مرتبط بالجهة المصدرية لا انه هو الجهة المصدرية ، بتقريب : ان هناك ملكية وتمليك ، فالملكية بمعنى اسم المصدر والتمليك بمعنى المصدر والعقد المسمى بالسبب أو الآلة يترتب عليه التمليك ، فهو مرتبط بالجهة المصدرية. وعليه فإمضاء الملكية إمضاء للتمليك لعدم الفرق بينهما الا اعتبارا ، وإمضاء التمليك إمضاء للعقد لأنه ناشئ منه ومترتب عليه ـ انه أريد ذلك كما هو المناسب لمقام المحقق النائيني العلمي ـ ، فهو معقول ، إلاّ انه ممنوع : بان ما يترتب على العقد هو الملكية ، والتمليك ينتزع عن ترتبها على العقد الصادر من المنشئ كما لا يخفى. ومن جميع ما ذكرنا يظهر وجه الارتباك في كلامه قدس‌سره بلا خفاء.

واما ما ذكره صاحب الكفاية من : كون الموضوع له اللفظ هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعا وعرفا (١). فالكلام يقع أولا : في معرفة المراد من كلامه. وثانيا في تمامية دعوى الوضع للصحيح وعدم تماميتها.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٢

وتحقيق المقام الأول : ان الظاهر من العبارة ان الموضوع له اللفظ هو العقد المؤثر عند العرف والشرع ، بحيث يكون قوله : « عرفا وشرعا » قيدا للمؤثر. فيكون التأثير لدى الشرع والعرف معا مقوما للموضوع له.

ولا يمكن الالتزام بهذا الظاهر لوجهين :

الأول : ان المفروض انه ليس للشارع اختراع خاص في باب المعاملات ، بل لم يكن منه سوى إمضاء المعاملات العرفية أو الردع عنها ، وهذا يعني ان هذه المعاملات كانت ثابتة قبل زمان الشارع ، وعليه فلا معنى لأن يوضع اللفظ لها في تلك الأزمنة ويكون الموضوع له هو المؤثر عند الشرع والعرف ، إذ لا شارع في زمان الوضع ولا يعترف به كي يكون التأثير عنده مقوما للموضوع له.

الثاني : ان الغرض من تعيين الموضوع له في ألفاظ المعاملات هو تنزيل استعمالات الشارع عليه ، وهذه النتيجة لا تحصل على هذا البيان للموضوع له ، إذ استعمالات الشارع لألفاظ المعاملات بين ما تكون في مقام الإمضاء ، نظير قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) ، وما تكون في مقام الرّدع والإلغاء نظير ما ورد : « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر » (٢). ولا يخفى ان البيع إذا كان معناه العقد المؤثر شرعا وعرفا لم يقبل الإمضاء ولا الإلغاء ، إذ لا معنى لإمضاء الشارع ما هو مؤثر عند الشارع للغويته ، كما لا وجه لإلغاء الشارع ما هو مؤثر عنده ، لأنه تهافت واضح وتناقض ظاهر.

وإذا تبين ان هذا الظاهر لا يمكن الالتزام به ، فلا بد من توجيه الكلام بنحو لا يرد عليه شيء في نفسه ولو احتاج ذلك إلى تكلف وتقدير ، ويمكن ان توجه العبارة بان المراد كون الموضوع له هو المؤثر عرفا. والشارع تابع العرف على ذلك ، فالتأثير شرعا لم يلحظ قيدا للموضوع له ، ولكن هذا التوجيه بعيد

__________________

(١) سورة البقرة : الآية : ٢٧٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٢ ـ ٣٣٠ باب : ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، حديث : ٣.

٢٨٣

جدا عن ظاهر العبارة كما لا يخفى. مضافا إلى انه لا يتلاءم مع ما ذكره بعد ذلك من رجوع الاختلاف بين الشرع والعرف إلى التخطئة ، إذ لا موضوع للتخطئة على هذا التوجيه لفرض تبعية الشارع للعرف وعدم استقلاله في شيء ما.

فالمتعين ان يحمل مراد صاحب الكفاية على ان الموضوع له اللفظ عند الشرع والعرف هو العقد المؤثر بنحو الاقتضاء لا بنحو الفعلية ، ويراد من اقتضاء التأثير هو كون العقد تام الجهات بنحو لو التفت إليه العاقل الحكيم رتب عليه الأثر بلا توقف ، وذلك هو العقد الصحيح. فقوله : « عرفا وشرعا » لا يرجع إلى تقييد التأثير ، بل إلى تقييد الموضوع له ، بمعنى ان الموضوع له عند الشرع والعرف هو العقد المؤثر. والوجه في حمل التأثير على التأثير الاقتضائي لا الفعلي هو ظهور ذلك من عمل العقلاء ، فان العقلاء حين يمضون المعاملة ويرتبون الأثر عليها ، يرون بحسب ارتكازياتهم أنهم يمضون البيع ـ مثلا ـ وهذا يقتضي ان البيع موضوع لما له التأثير اقتضاء ، إذ لو كان موضوعا لما هو مؤثر فعلا كان صدق البيع مترتبا على تحقق الإمضاء منهم واعتبار الأثر بأثر العقد ، وهو يتنافى مع ما يرونه من ورود الإمضاء على البيع وترتبه عليه وان موضوعه هو البيع وهذا المعنى لعبارة الكفاية ليس ببعيد عن الظاهر ، وهو خال عن المحذور السابق فكما لا يخفى. وبذلك يتضح جدا رجوع الاختلاف بين الشرع والعرف إلى التخطئة ، وذلك لأن مرجع اختلاف الشارع مع العرف إلى ان الشارع يرى عدم اقتضاء العقد للتأثير بدون الشرط الّذي يعتبره لاطلاعه على دقائق الأمور وتأثيراتها التكوينية. بخلاف العرف فان اطلاعه محدود جدا ، فيرى ان للعقد اقتضاء التأثير بدون الشرط ، فالشارع باعتباره شرطا يخطئ العرف في نظره الراجع إلى تأثير العقد بدون ذلك الشرط. ولا يرجع الاختلاف إلى الاختلاف في الموضوع له فانه عندهما واحد وهو العقد المؤثر بنحو الاقتضاء في أثر ما ، بل يرجع إلى الاختلاف في تعيين مصداق المؤثر بنحو

٢٨٤

الاقتضاء. ولا يختلف الحال فيما ذكرنا فيما إذا كان الأثر من الأمور الواقعية أو كان من الأمور الاعتبارية ، لأن الاختلاف في تحقق الاقتضاء للتأثير وعدمه وهو أمر واقعي تختلف فيه الأنظار ويقبل التخطئة والتصويب لأن النّظر طريق إليه. وهو أجنبي عن نفس الأثر وتحققه كي يقال ـ كما أفاد المحقق الأصفهاني ـ بان الاختلاف انما يكون من باب التخطئة لو كانت الملكية مثلا من الأمور التكوينية الواقعية دون ما إذا كانت ـ كما هو الحق ـ من الأمور الاعتبارية ، وذلك : لأن الأمور الواقعية لها تقرر في الواقع وفي حد ذاتها ويكون النّظر طريقا إليها وكاشفا ، وبذلك تتصور التخطئة والتصويب ، إذ قد يرى جماعة أو شخص تحقق هذا الأمر في مورد ما ويرى آخرون أو آخر عدم تحققه بلحاظ اطلاعه على بعض الخصوصيات. وهذا بخلاف الأمور الاعتبارية فانه لا وجود لها إلاّ بالاعتبار والجعل ، فالنظر له موضوعية بالنسبة إليها وليس طريقا إليها ، إذ لا تقرر لها كي يكشف عنها. وعليه ، فلا تتصور فيها التخطئة والتصويب ، إذ لا واقع لاعتبار كل معتبر إلا نفسه ، فالملكية الموجودة باعتبار العرف موجودة عند كل أحد ولا مجال لإنكارها لأنها حصلت بالاعتبار الّذي هو فعل العرف ، نعم هي لا وجود لها في اعتبار الشارع في بعض الأحيان وذلك لا يعني التخطئة ونفى الوجود والتحقق إذ تحققها في اعتبار العرف امر لا ينكره الشارع المفروض ان واقع الأمر الاعتباري واقع الاعتبار ونفسه.

وملخص الفرق : ان للأمور الواقعية واقعا محفوظا في نفسه تختلف فيه الأنظار ، وليس للأمور الاعتبارية واقع وتقرر ، بل واقعها لا يعدو الاعتبار وواقعه ، فلا تختلف فيه الأنظار. ولأجل ذلك قيل : ان الأمر الواقعي تختلف فيه الأنظار والأمر الاعتباري يختلف باختلاف الأنظار.

وقد حمل المحقق الأصفهاني ـ بعد ذلك ـ كلام المحقق صاحب الكفاية على التخطئة في مقام آخر ، وهو مقام اقتضاء السبب للتأثير. ببيان : ان الأثر وان

٢٨٥

كان من الأمور الاعتبارية إلاّ ان كون هذا السبب مقتضيا للاعتبار أمر تابع لما يراه العقلاء من مصالح ومفاسد ومقتضيات قائمة بالسبب ، وليس امرا جزافا ، وإلاّ لكان على حد المعلول بلا علة.

وعليه ، فالعقول متفاوتة في إدراك المصالح والمفاسد ، ولا ريب ان نظر العرف يقصر عن إدراك خصوصيات الأمور ودقائقها ، فقد يرى بحسب نظره القاصر صلاحية الشيء للتأثير ولكونه سببا للاعتبار ، ولكن يرى الشارع بحسب نظره الواسع الدّقيق عدم صلاحية ذلك الشيء للسببية وخطأ العرف في نظره فيخطّئه فيه ، فالتخطئة والتصويب في هذه المرحلة دون غيرها ، ويكون المراد من عبارة الكفاية هو تخطئة الشارع العرف في الوجه الباعث على جعل الشيء سببا لا في نفس السبب ولا المسبب (١).

ولكن عرفت ان عبارة الكفاية ـ بناء على ما حملناها عليه من المعنى ـ لا تحتاج إلى هذا التكلف ، بل التخطئة والتصويب في تشخيص مصداق الموضوع له وهو العقد المؤثر ، ولو كان الأثر من الأمور الاعتبارية.

واما المقام الثاني : فظاهر صاحب الكفاية كون الموضوع له هو الصحيح بالمعنى الّذي ذكرناه ، وهو العقد الحاوي لجميع جهات التأثير ، بحيث يترتب عليه الأثر من قبل العقلاء بمجرد الالتفات إليه.

ولكن الإنصاف عدم تمامية هذه الدعوى ، فان المرتكز في الأذهان من اللفظ هو المعنى الأعم من الصحيح والفاسد ، فان إطلاق لفظ البيع على بيع الغاصب الّذي لا يرى العرف نفوذه لا يختلف عرفا عن إطلاقه على بيع المالك في كون إطلاق كل منهما حقيقيا لا مسامحة فيه ، وهذا أمر لا يقبل الإنكار بحسب الظاهر ، ولا نعرف الوجه الّذي به نفي صاحب الكفاية استبعاد الوضع للصحيح.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٥٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٦

والّذي تلخص من مجموع ما ذكرنا امران :

الأول : ان الموضوع له اللفظ ليس هو العقد ولا الأثر ، بل التمليك الإنشائي ونحوه من الآثار بوجودها الإنشائيّ ، ويعبر عنه بالسبب وبالمسبب باعتبار لحاظين. وعليه ، لا بد ان تحمل دعوى صاحب الكفاية الوضع للسبب وان كان ظاهرها الوضع للعقد ، إذ قد عرفت انه لا معنى لكون الموضوع له هو العقد.

الثاني : ان الموضوع له أعم من الصحيح والفاسد ، وليس هو خصوص الصحيح.

هذا كله بالنسبة إلى تعيين الموضوع له.

ويقع الكلام بعده في ثمرة النزاع وإمكان التمسك بالإطلاق في ألفاظ المعاملات وعدمه. وبيان الحال : انه قد يدعى عدم إمكان التمسك بإطلاق دليل إمضاء المعاملة لو شك في إمضاء فرد خاص ، بناء على الوضع للصحيح.

وذلك : لأن اللفظ موضوع إلى ما هو المؤثر واقعا أو ما له اقتضاء التأثير بنحو خاص من الاقتضاء ـ وهو الّذي بيناه ـ ، فالمراد به حينئذ العقد المؤثر في الملكية الواقعية أو المقتضي للتأثير. فإذا شك في فرد أنه ممضى أو لا يشك ـ جزما ـ في أنه مؤثر واقعا أو في أنه مقتضي التأثير أولا. ومعه لا مجال للتمسك بإطلاق اللفظ في إثبات الإمضاء له لعدم إحراز صدق المطلق عليه ، فلا مجال للتمسك بقوله تعالى : « أحل الله البيع » في حلية بيع الغرر. إذ الشك في حلية بيع الغرر يرجع إلى الشك في انه مؤثر في الملكية الواقعية أو انه مقتضي للتأثير فيها بنحو يترتب عليه الأثر بمجرد الالتفات إليه ، فلا يحرز مع هذا صدق البيع عليه كي يتمسك بإطلاقه ، إذ الفرض ان لفظ البيع موضوع لما هو المؤثر واقعا أو ما هو مقتضي للتأثير ، ولا يحرز انطباق إحدى الحقيقتين على بيع الغرر.

وقد تصدى المحقق صاحب الحاشية لتصحيح التمسك بالإطلاق بناء على الوضع للصحيح ، ودفع هذه الدعوى. وتقريب كلامه : ان المدلول المطابقي

٢٨٧

للدليل المتكفل إمضاء العقد وان كان هو إمضاء العقد المؤثر واقعا وهو غير محرز الصدق على الفرد المشكوك إمضاؤه ، فلا يصح التمسك بالإطلاق في إثبات الحكم له ، إلاّ انه حيث لا طريق لدينا من الخارج لتعيين مصداق موضوع الإمضاء وتشخيصه بنحو جزمي فيعين ان هذا العقد مؤثر واقعا في الملكية بنحو يوجب العلم والجزم. كان مقتضى عدم تعرض الشارع في الدليل إلى بيان مصاديق الموضوع والعقد المؤثر وتحديدها بنظر العرف وبحسب الظهور العرفي ، هو الاعتماد على العرف في تشخيص المصداق ، وان ما هو بنظر العرف مؤثر واقعا فهو بنظر الشارع مؤثر. وعليه ، فإذا شك في فرد انه ممضى أولا ، فإذا كان بنظر العرف مؤثرا واقعا شمله الدليل لكونه من افراد الموضوع نعم إذا كان الشك في اعتبار شيء عرفا لم يمكن التمسك بالإطلاق لعدم إحراز كونه ـ أي الفاقد ـ من المؤثر واقعا عند العرف أيضا ، فلا يحرز انطباق المطلق عليه وهو مانع عن التمسك بالإطلاق.

وبالجملة : دليل الإمضاء يتكفل بيان أمرين : أحدهما : إمضاء العقد. والآخر : ان ما هو المؤثر واقعا عند العرف مؤثر عند الشارع. والأول يتكفله المدلول المطابقي للكلام. والثاني يتكفله المدلول الالتزامي الاقتضائي. وبذلك يصح التمسك بدليل الإمضاء مع الشك في اعتبار شيء في عقد شرعا لإحراز التأثير واقعا عند العرف فينطبق عليه المطلق. دون الشك في اعتبار شيء عرفا في العقد ، لعدم إحراز كون العقد بدونه مؤثرا واقعا.

وبهذا البيان يصحح التمسك بدليل الإمضاء لو كان الموضوع له اللفظ هو العقد المقتضي للتأثير ، فانه بمثل التقريب المذكور يحمل كلام الشارع على إرادة العقد المقتضي للتأثير عرفا ، وان ما هو كذلك عند العرف كذلك عند الشرع ، فيصح التمسك بدليل الإمضاء مع الشك لإحراز انه مقتض للتأثير

٢٨٨

عرفا ، فلاحظ (١).

هذا هو الّذي نعلمه في توضيح كلام المحقق صاحب الحاشية ، وهو الّذي أشار إليه صاحب الكفاية (٢). وبذلك يندفع الإشكال ويتضح ان التمسك بدليل الإمضاء ممكن على القول بالصحيح.

ولم يتعرض المحقق النائيني إلى بيان المطلب بشكل مفصل ، بل لم يزد على أكثر من ان الدليل إذا كان في مقام إمضاء الأسباب العرفية ولم يزد شيئا على ما هو سبب عند العرف ، فلا مناص من التمسك بإطلاق كلامه في دفع ما يتوهم دخله (٣).

واما المحقق الأصفهاني فقد تصدى لتوضيح كلام صاحب الحاشية بغير ما بيناه. ومحصله : ان البيع موضوع لما هو المؤثر واقعا ، ونظر العرف والشرع طريق إليه ، فإذا كان المولى في مقام البيان وحكم بنفوذ كل ما هو مؤثر واقعا في الملكية بلا تقييده بمصداق خاص وسبب معين ، يكون هذا الإطلاق حجة على ان ما هو المملك في نظر العرف مملك في نظر الشارع ويكون المتبع في تعيين المصداق هو العرف ، ولا مجال لأن يقال : بان المتبع من نظر العرف هو نظره في المفاهيم دون المصاديق ، وذلك لقيام الحجة الشرعية على جواز اتباعه في تعيين المصداق ، والأخذ بنظره فيها ، وتلك الحجة هي الإطلاق وعدم التقييد ، وقد ارتضى قدس‌سره هذا التقريب لو لا المناقشة في أساسه من كون الملكية من الأمور الواقعية ، لبنائه على كونها أمرا اعتباريا (٤).

وأنت خبير بان هذا التوجيه غير تام ، إذ ليس على المتكلم ان يبين واقع

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي. هداية المسترشدين ـ ١٠٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٨ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٥٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٩

المصاديق وتعيين محققات المفهوم المأخوذ موضوعا لحكم من الأحكام ، بل الّذي عليه ان يبين ما هو الموضوع للحكم وقد بينه بأنه المؤثر في الملكية واقعا ، اما مصاديق هذا الموضوع وبيان افراد المؤثر فذلك ليس من وظائفه كي يكون عدم تقييده اللفظ بمصداق معين دليلا على إرادة المصاديق العرفية ، فالطبيب إذا أمر المريض بأكل الحامض ولم يبين مصاديقه لا يعد ذلك دليلا على تحكيم نظر معين في المصاديق. وإلاّ لكان خلف فرض كونه في مقام البيان.

نعم سكوت المولى عن بيان ما هو المصداق مع عدم الطريق إلى تعيينه غير نظر العرف ظاهر عرفا في تحكيم نظر العرف ، كما ذكرنا ، ولكنه أجنبي عن التمسك بإطلاق الكلام في إثبات ذلك كما قرره المحقق الأصفهاني قدس‌سره ، فانه غير وجيه كما عرفت ، إذ عدم تقييده بمصداق مخصوص كاشف عن إمضاء جميع افراد المؤثر واقعا لا إرادة المؤثر بنظر العرف كما لا يخفى.

هذا كله بناء على كون ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب.

اما بناء على كونها موضوعة للمسببات ، فهل يمكن التمسك بإطلاق الدليل في إثبات صحة المعاملة مع الشك في إمضاء السبب ، كما إذا شك في صحة العقد بالفارسية ونحوه. أولا يمكن ، بل دليل الإمضاء يتكفل إمضاء المسبب دون السبب؟.

وتقريب الإشكال في التمسك بالإطلاق ونفي تكفل دليل إمضاء المسبب إمضاء السبب : ان الدليل انما يتكفل إمضاء المسبب ، وتكفله إمضاء السبب يتوقف على ان يكون نظره إلى ذلك ، إلاّ ان العرف في مثل ذلك لا يرى نظر الدليل إلى ذلك ، بل لا يرى سوى نظره إلى إمضاء المسبب بلا لحاظ أسبابه. وعليه ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق في إثبات إمضاء السبب المشكوك لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، ويشهد لما ذكرنا ملاحظة الموارد العرفية ، فان الشخص إذا أمر أحد عبيده بقتل شخص وعلم من حاله انه يكره استعمال

٢٩٠

السكين في القتل ، فانه لا يرى ان أمره بقتل الشخص منافيا لكراهة استعمال السكين ، ولو كان الدليل المتكفل لإثبات حكم على المسبب ناظرا إلى جهة السبب لكان أمره بقتل الشخص منافيا لكراهة استعمال السكين بنظر العرف. وليس كذلك ، وما ذلك إلاّ لأن العرف لا يرى ان الدليل ناظر إلى جهة السبب وإمضائه.

بهذا الوجه لا بد ان يقرب الإشكال على التمسك بالإطلاق وحاصله : ان العرف لا يرى ان الدليل المتكفل لحكم على المسبب من إمضاء ونحوه ناظر إلى إثبات ذلك الحكم أو لازمه للسبب.

وقد بيّن المحقق النائيني الإشكال بنحو آخر وهو : ان الدليل إذا كان متكفلا لإمضاء المسببات مع قطع النّظر عن الأسباب التي يتوسل بها إليها ، فلا يدل على إمضاء الأسباب العرفية مع وجود القدر المتيقن (١).

ولا يخفى ان هذا ليس تقريبا للإشكال بحسب القواعد ، وأنه أشبه بالقضية المأخوذ موضوعها بشرط المحمول ، إذ فرض فيه عدم النّظر إلى الأسباب في الدليل وأنه مفروغ عنه. وعليه ، فلا يتمسك بالإطلاق. وليس هناك من يدعي ـ بعد هذا الفرض ـ إمكان التمسك بالإطلاق حتى يكون هذا تقريبا للإشكال. ثم يدفع بما قرره : من أن نسبة العقد إلى المعاملة نسبة الآلة إلى ذي الآلة لا نسبة السبب إلى المسبب ، فليس هناك موجودان كي لا يكون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر ، بل موجود واحد. غاية الأمر انه يتنوع بتنوع آلته ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم يقيده بنوع دون آخر يستكشف عمومه لجميع الأنواع.

وأنت خبير بان هذا لا يدفع الإشكال بالنحو الّذي ذكره ، فانه إذا ثبت

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٩١

ان الدليل ناظر إلى المسبب لا إلى جهة السبب أو الآلة ـ كما يسمّيه ( قده ) ـ لم يصح التمسك بإطلاق دليل إمضاء المسبب والمعاملة في نفي الشك من جهة العقد والآلة ، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، سواء كان العقد والمعاملة من قبيل السبب والمسبب أو الآلة وذي الآلة ، إذ وحدة وجودهما لا تصحح التمسك بالإطلاق بعد ان فرض عدم النّظر إلى جهة العقد في الدليل وان النّظر متمحض بجهة المعاملة ، فما قرره من ان العقد والمعاملة موجودان بوجود واحد وليسا موجودين بوجودين لا يجدي في تصحيح التمسك بالإطلاق بعد تقرير الإشكال بما عرفته من نفي نظر الدليل إلى جهة العقد والسبب ، إذ كونه آلة أو سببا لا يغير واقعه وعدم النّظر إليه.

هذا مع ان في ما أفاده مواقع للنظر ، منها : ان ما ذكره تحقيقا لدفع الإشكال عن الشهيد الّذي التزم بان الموضوع له العقود هو الصحيح. مدفوع بما تقدم : من ان إشكال التمسك بالإطلاق يتوجه على بناء الأصحاب على الرجوع إلى مطلقات المعاملات.

ولا يخفى عليك انه يبتني على الوضع للأسباب لا المسببات ، فان الوضع للمسببات مناف للاتصاف بالصحّة باعترافه قدس‌سره ، فلا ربط لهذا الكلام بدفع الإشكال عن الشهيد.

وما يقال : من انه قدس‌سره في مقام تحقيق أصل المطلب ، وليس بناظر إلى خصوص دفع الإشكال عن الشهيد.

فهو خلاف ظاهر العبارة. وعليك بالملاحظة تعرف.

وقد حاول السيد الخوئي تصحيح التمسك بالإطلاق بوجه آخر بعد إبطاله لما ذكره المحقق النائيني في وجه التصحيح.

ومحصله : ان ما ذكر انما يصح لو كان المسبب واحدا له أسباب عديدة ، فان إمضاءه لا يقتضي إمضاء أسبابه ، بل لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن

٢٩٢

ونفي تأثير المشكوك بأصالة عدم ترتب الأثر. نعم لو لم يكن قدر متيقن أمكن القول باستلزامه إمضاء المسبب إمضاء أسبابه جميعها ، لأن الحكم بإمضاء بعضها دون آخر ترجيح بلا مرجح ، والحكم بعدم إمضائها كلها يستلزم اللغوية. واما بناء على التحقيق من تعدد المسبب بتعدد السبب ، بمعنى ان لكل سبب مسبب على حدّه فإنشاء زيد سبب لملكية غير الملكية الحاصلة بإنشاء عمرو وهكذا ، ولا يختلف ذلك باختلاف مباني الإنشاء فلا يتم ذلك ـ أعني عدم كون إمضاء المسببات إمضاء الأسباب ـ ، وذلك لأن كل مسبب لا ينفك عن سببه ، فالدليل المتكفل لإمضاء المسبب بقول مطلق يستلزم إمضاء المسبب مطلقا ، إذ لا ينفك إمضاء المسبب عن إمضاء سببه حينئذ ، وإلاّ لكان إمضاء المسبب لغوا (١).

ولا يخفى ما في هذا الوجه ، فانه لا يصلح ردا للإشكال الذي ذكرناه ، فانه بعد ثبوت ان الدليل المتكفل لإمضاء المسبب لا يكون ناظرا عرفا إلى جهة السبب ويكون مجملا من هذه الجهة ، فلا يجدي تعدد المسبب في إثبات إمضاء السبب المشكوك ، لعدم العلم بإمضاء المسبب الناشئ من السبب المشكوك للشك فيه من جهة السبب ، والمفروض إجمال الكلام من هذه الجهة فلا إطلاق للكلام كي يتمسك به.

ومن هنا يظهر انه لا يجدي في إثبات إمضاء السبب كونه من قبيل المبرز والكاشف عن الاعتبار النفسانيّ لا السبب والمسبب ـ كما هو مذهب السيد الخوئي في باب الإنشاء ـ ، وانه ليس لدينا سبب ومسبب ، بل كاشف ومنكشف ، إذ إمضاء الاعتبار النفسانيّ لا يستلزم إمضاء كاشفه ـ بعد فرض دخله في تحقق الأثر ـ ، إذا ثبت عدم نظر الدليل عرفا إلى جهة العقد وسمي كاشفا أو سببا أو آلة ، لإجمال الدليل من جهة العقد. نعم لو ادعي ـ كما ثبت ذلك ـ كون الموضوع

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٨٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٣

له اللفظ هو المركب من العقد والاعتبار النفسانيّ ، فيكون دليل الإمضاء متكفلا لإمضاء الأسباب ـ أعني العقود ـ ، لأنه يتكفل إمضاء المعاملات بعناوينها الخاصة كالبيع والنكاح ، والمفروض صدق العناوين على المركب فيتمسك بإطلاقها في إثبات إمضاء كل عقد شك في سببيته. لو ادعى ذلك فله وجه ، لكن عرفت ما في أصل المبنى من الوهن.

وللمحقق العراقي كلام مرتبك جدا لا يجدي ذكره وبيان ما فيه فلتلاحظ تقريرات بحثه للآملي (١).

وعليه ، فالذي ينبغي ان يقال في حل الإشكال : ان المراد بالمسبب ـ كما تقدم ـ هو التمليك الإنشائي الحاصل بالعقد والّذي يترتب عليه التمليك الاعتباري العقلائي ، ولا يخفى ان نسبة هذا التمليك إلى العقد نسبة العنوان إلى المعنون ، إذ يقال للعقد انه تمليك إنشائي ، نظير نسبة التعظيم إلى الفعل الصادر من المعظم ، فان التعظيم أمر اعتباري لكنه ينطبق على الفعل ويتعنون به الفعل ، ولذلك يسند الفعل والتعظيم إلى الشخص لا العقلاء.

وعليه ، فالذي نقوله : ان أخذ المسبب موضوعا وورود الحكم عليه بهذه الكيفية كورود حكم الإمضاء عليه يختلف عن سائر الأحكام المأخوذ فيها المسبب متعلقا للحكم في كون العرف يرى نظر الدليل المتكفل للأول ناظرا إلى ناحية السبب وجهته دون الدليل المتكفل للثاني. وبعبارة أخرى : ان الحكم إذا رتب على المسبب بلحاظ تحققه في الخارج بحيث أخذ موضوعا يرى العرف ان الدليل المتكفل له ناظر إلى ناحية سببه ، فإذا قال أحب التعظيم ، يرى العرف ثبوت الحكم لأسباب التعظيم. بخلاف ما إذا رتب الحكم على المسبب بلحاظ إيجاده في الخارج بان أخذ متعلقا فان العرف لا يرى نظر الدليل إلى ناحية

__________________

(١) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ١٤٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٤

أسبابه كما لو قال : « عظم زيدا » فانه لا يدل إلاّ على طلب التعظيم ولا نظر له الا إلى جهة التعظيم دون أسبابه ، والمسبب فيما نحن فيه أخذ موضوعا للإمضاء ، فالدليل المتكفل له ناظر إلى ناحية السبب بنظر العرف.

وجملة المدعى : ان الدليل المتكفل للإمضاء ونحوه يختلف عن غيره بنظر العرف ، فان العرف يرى أنه ناظر إلى جهة الأسباب ، ومعه يمكن التمسك بالإطلاق لكون المتكلم في مقام البيان.

فالجواب يرجع إلى إنكار أساس الإشكال من كون الدليل غير ناظر إلى جهة الأسباب.

ونتيجة ما ذكرناه : انه يمكن التمسك بإطلاق لفظ المعاملة سواء قلنا بوضعه للسبب أو للمسبب ، فلا ثمرة في البحث عن تعيين الموضوع له منهما.

يبقى في المقام أمر تعرض إليه صاحب الكفاية ، ومحصله : ان الشيء الّذي يتعلق به الأمر الدخيل في المأمور به ..

تارة : يكون مقوما للمأمور به ونفس الماهية بنحو الجزئية أو الشرطية كالسورة والطهارة.

وأخرى : يكون مقوما للفرد والتشخص بنحو الجزئية أو الشرطية أيضا ، كالصلاة في المسجد والصلاة جماعة والقنوت في الصلاة.

وثالثة : لا يكون مقوما لأحدهما ، وانما تكون نسبة المأمور به إليه نسبة الظرف إلى المظروف ، بمعنى ان المأمور به أخذ ظرفا له لا أكثر ، كالتصدق في الصلاة فيما لو نذره ، فان التصدق خارج عن حقيقة الصلاة ماهية وفردا (١).

ولا بد من معرفة صحة التقسيم إلى هذه الأقسام الخمسة ومعرفة المقصود من هذا التقسيم.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩٥

فنقول : ان جزء التشخص والفرد أو شرطه لا يعلم له محصل الا في بعض الموارد المذكورة له ، وذلك لأن ما يتقوم به الفرد مع قطع النّظر عن ماهيته عبارة عن لوازم وجوده غير المنفكة عنه كالمكان والزمان ، اما ما ينفك عنه فلا يعد مقوما للفرد ، بل من عوارضه. ولأجل ذلك لا يتصور ان يكون شيئا مأخوذا مقوما للفرد إلا مثل كون الصلاة في المسجد باعتبار تقوم الفرد بمكان ما ومنه المسجد ، لأن من لوازم وجود الصلاة وقوعها في مكان ما من الأمكنة. أما مثل الصلاة جماعة أو القنوت في الصلاة فلا يعقل ان يكون مقوما للفرد ، لأنه ليس من لوازم وجوده بل يمكن ان ينفك عن الصلاة فلا تقع جماعة ولا يؤتى بالقنوت في الصلاة. مضافا إلى ان وجوده لو كان لم يكن من باب اللزوم والقهر وعدم إمكان تجرد الوجود عنه ، بل من جهة اعتباره شرعا والأمر به من قبل الشارع ، ومثل هذا لا يعد من لوازم الوجود كي يكون من مقومات الفردية والتشخص.

وإلى هذا الإشكال أشار المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، وأجاب عنه بما لا يعد الألفاظ من دون ان يكون له معنى محصل ظاهر فلاحظه (١).

ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكان تصور مثل القنوت مقوما للفرد والتشخص ، فالذي يظهر لنا بعد التأمل ان نظر صاحب الكفاية إلى الجزء المستحب دون الجزء الواجب ، وذلك لأن الأمر يتعلق بالمركب من الاجزاء ، فالجزء الواجب المدعى كونه جزء الفرد لا الطبيعة اما ان يكون متعلقا لوجوب آخر غير الوجوب المتعلق بالاجزاء الأخرى فيكون من القسم الخامس ـ أعني الواجب في واجب وليس جزء للفرد ـ ، واما ان يكون متعلقا لنفس الوجوب المتعلق بالاجزاء الأخرى فلا يعقل ان يختلف عنها ، لأن الوجوب يتعلق بها جميعا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٦١ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٦

بنحو واحد وعلى شكل متحد ، فيمتنع ان يفرض كون أحدها جزء الفرد والأخرى اجزاء الطبيعة والمأمور به. مضافا إلى انه لا يختلف عن سائر الاجزاء في الأثر وان عد جزء الفرد لاتحاد الوجوب المتعلق بها. وعليه فلا بد ان يفرض الجزء المأخوذ مقوما للفرد جزء مستحبا كي يرتفع الإشكال ـ كما سيتضح ـ. وعليه فتبنى صحة ذلك على تصور الجزء المستحب للواجب وإمكانه ثبوتا. وقد قيل بامتناعه في الواجب ذي الاجزاء الارتباطية ، نظرا إلى ان مرجع الارتباطية إلى ارتباط الاجزاء بعضها مع بعض في مقام الامتثال ، الّذي يعني : ان امتثال كل جزء انما يحصل بالإتيان بالاجزاء الأخرى بحيث انه مع عدم الإتيان بأحدها لا يحصل امتثال المجموع ، فالارتباطية ترجع إلى تقيد امتثال كل منها بالإتيان بالآخر.

وعليه ، فامتثال الاجزاء الواجبة اما ان يكون متوقفا على الإتيان بالجزء المستحب ، بمعنى انها مرتبطة به في مقام الامتثال. واما ان لا يكون كذلك ، بل يتحقق الامتثال بدون الإتيان به.

فعلى الأول ، يلزم ان يكون الجزء واجبا ولازما لا مستحبا لتوقف الامتثال عليه وهو خلف الفرض.

وعلى الثاني ، يلزم ان لا يكون جزءا للواجب.

وعليه ، فالجزء المستحب للواجب غير معقول ثبوتا.

فما يعبّر عنه بالجزء المستحب للصلاة كالقنوت اما ان يحمل على كونه مستحبا في واجب ، فيكون من القسم الخامس كالواجب في الواجب ، بمعنى ان ظرفه الواجب لا انه جزء الواجب. واما ان يحمل ـ كما صرح به ـ على تعلق امر استحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على هذه الخصوصية غير الأمر الوجوبيّ المتعلق بنفس الطبيعة. نظير ما يقال في توجيه الكراهة في بعض العبادات ، من ان الأمر التنزيهي لم يتعلق بنفس العبادة كي يتنافى مع رجحانها

٢٩٧

والأمر بها وعباديتها ، بل هو متعلق بتطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ ، فالامر التنزيهي متعلق بتطبيق الصلاة على الصلاة في الحمام لا بنفس الصلاة في الحمام ، ومثله ما نحن فيه ، فان الأمر الاستحبابي متعلق بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على الخصوصية كالصلاة مع القنوت أو جماعة. فهناك أمران : أحدهما :

متعلق بذات الطبيعة وهو الوجوبيّ. والآخر : متعلق بتطبيقها على فرد خاص وهو الاستحبابي.

لكن التحقيق يقضي بإمكان تصور الجزء المستحب للواجب ومعقوليته ثبوتا. بيان ذلك : ان الخصوصية الزائدة على أصل الطبيعة المتعلقة للإرادة والأمر ..

تارة : تكون ذات مصلحة مستقلة بلا ارتباط لمصلحة الطبيعة بها ، بحيث يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى تحقق مصلحة الطبيعة بحدّها على حدّ سواء وبلا تفاوت ، فمصلحة الطبيعة تتحقق بتمام حدّها جيء بالخصوصية أو لم يؤت بها. ونظير ذلك ما إذا تعلق الأمر والإرادة بالصلاة ثم تعلقت الإرادة بالتصدق حال الصلاة باعتبار النذر ، فان التصدق لا يزيد من مصلحة الصلاة ولا يوجب تفاوتها عما لو لم يتحقق في أثنائها ، لاستقلال مصلحته عن مصلحة الصلاة ، ومثله ما لو تعلقت الإرادة والأمر بإعداد وليمة لزيد وكان الآمر يرغب في نفسه لبس القباء الأبيض ، فان لبس المأمور به القباء الأبيض وعدمه في الوليمة لا يوجب تفاوت نفس الوليمة في المصلحة ، بل لكل منهما مصلحة وأمر يترتب عليه الثواب ونحوه ، والأمر بهذا النحو يكون من المطلوب في مطلوب كالمستحب أو الواجب في واجب ، ويكون لكل من الأمرين امتثال على حدة.

وأخرى : لا تكون لها مصلحة مستقلة ، بل مصلحته ضمنية مرتبطة بمصلحة الطبيعة ، بحيث تتفاوت مصلحة الطبيعة بوجودها وعدمها ، كما لو تعلقت الإرادة بإعداد الغذاء وكانت خصوصية كونه من الرّز مرغوبا فيها ، فان وجود خصوصية الرّز في الغذاء يوجب تفاوت مصلحة الغذاء عما لو لم تكن

٢٩٨

موجودة بل كان من الحنطة.

ومثل هذه الخصوصية لا يمكن ان تكون متعلقة للأمر الاستحبابي بنفسها لعدم استقلالها في المصلحة ، والأمر تابع لملاكه من المصالح ، فإذا لم يكن فيها مصلحة مستقلة امتنع تعلق امر مستقل بها لعدم ملاكه. وعليه ففي هذه الصورة لا يمكن ان يلتزم يكون الخصوصية من قبيل المطلوب في المطلوب ، فيدور الأمر ثبوتا بين ان يتعلق الأمر الاستحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على الخصوصية ، أو يتعلق الأمر الاستحبابي بنفس الطبيعة مشتملة على الخصوصية ، فيكون هناك أمران أمر وجوبي بذات الطبيعة وأمر استحبابي بالطبيعة بقيد الخصوصية ، ولما امتنع اجتماع أمرين في شيء واحد لأنه من اجتماع الضدين ، يتداخل هذا الأمران وينقدح عنهما امر وجوبي مؤكد بالطبيعة مع الخصوصية.

فالامر يدور بين هذين الاحتمالين : تعلق أمر استحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ. وتعلق أمر وجوبي مؤكد بالطبيعة المشتملة على الخصوصية. ولا محذور في هذا الأخير ، بل هو الثابت في التكوينيات ، فان من يرغب في الغذاء ويرغب في ان يكون من الرز يجد في نفسه إرادة مؤكدة تتعلق بالغذاء من الرّز ، وإرادة غير مؤكدة تتعلق بأصل الغذاء ، ومن هاتين الإرادتين ينقدح الأمر ، فيكون هناك امر بنفس الطبيعة وأمر آكد بالغذاء من الرّز.

وبعد هذا ، ففيما نحن فيه حيث يظهر من الأدلة انّ مثل القنوت ونحوه من اجزاء الصلاة ، فيكون مقتضى ذلك ارتباط مصلحة القنوت بمصلحة الصلاة بحيث تتفاوت مصلحة الصلاة بوجود القنوت وعدمه. وعليه ، فلا يمكن تعلق امر مستقل به حيث يكون من قبيل المطلوب في مطلوب ، لعدم وجود ملاك الأمر المستقل فيه ، بل يدور الأمر بين أن يكون الأمر الاستحبابي متعلقا بتطبيق الطبيعة على الفرد أو يكون متعلقا بالطبيعة مع الخصوصية ويتداخل مع الأمر الوجوبيّ المتعلق بالطبيعة الشامل لمورد الخصوصية فينقدح عنهما أمر وجوبي آكد

٢٩٩

بالطبيعة بقيد الخصوصية ، إلاّ انه حيث كانت المصلحة الموجبة للتأكد غير ملزمة ـ كما دل على ذلك الدليل ـ جاز ترك الخصوصية اختيارا لتعلق الأمر بنفس الطبيعة ـ إذ لو كانت ملزمة امتنع تعلق الأمر بنفس الطبيعة ، ولو كانت ذات مصلحة ملزمة نظير مصلحة الجهر ، فان الإلزام بالجهر مع الاكتفاء بالصلاة الإخفاتية حال النسيان والغفلة كاشف عن ان الصلاة الإخفاتية ذات مصلحة ملزمة ، إلا ان الجهرية ذات مصلحة ملزمة آكد بحيث يلزم بها المكلف مع الالتفات ويرتفع الأمر بكلي الطبيعة ويتعين الأمر بالطبيعة بخصوصية الجهر ، وان اكتفى بالإخفاتية مع الغفلة لعدم إمكان تدارك مصلحة الجهر وان كانت ملزمة كما هو مقتضى دليل الاكتفاء ـ ، فيمتثل نفس الأمر بالطبيعة دون الأمر الآكد المتعلق بها مشتملة على الخصوصية. ومن هنا صح تسمية القنوت بالجزء المستحب ، فانه وان كان متعلقا للأمر الوجوبيّ الآكد كسائر الاجزاء ، إلاّ انه حيث علم بالدليل جواز تركه وعدم العقاب على عدم إتيانه بحيث لا تترتب عليه آثار الواجب كان مستحبا أو بمنزلة المستحب ، لأن المكلف وان ترك هذا الفرد إلاّ انه جاء بفرد آخر بديل له ومتعلق للأمر بالطبيعة ، والمصلحة التي يشتمل عليها هذا الفرد الموجبة لتأكد الوجوب غير ملزمة فلا مانع من تركه. وبعبارة أخرى : المكلف لم يخالف في الحقيقة إلا جهة التأكد لا أصل الأمر ، وهي غير ملزمة فلا مانع من مخالفتها.

وعلى كل ، فالامر ثبوتا يدور بين هذين الاحتمالين ، إذ كل منهما معقول ثبوتا ، إلاّ ان الثاني أولى إثباتا من الأول ، وذلك لأن الأمر يتبع الملاك والمصلحة وهو يتعلق بما فيه الملاك ، ومقتضى ذلك ان يتعلق الأمر الاستحبابي بالطبيعة المشتملة على الخصوصية فانها تحوي المصلحة والملاك ، لا تعلقه بتطبيق الطبيعة على الفرد ، فان نفس التطبيق لا يشتمل على المصلحة وان أوصل إليها وأنهى إلى حصولها.

٣٠٠