منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

تقدم من تقريبه.

إلاّ انه يمكن الالتزام في ما نحن فيه بما يتفق مع التقييد في النتيجة بلا تقييد المراد الجدي أصلا ، وعليه فلا يجري فيه الحكم.

بيان ذلك : ان للصلاة فردين : أحدهما يترتب عليه الأثر. والآخر لا يترتب عليه الأثر ، وكل منهما عبارة عن كمية خاصة من الاجزاء والشرائط ، وقد علمنا بان الأمر انما تعلق بالكمية الخاصة التي يترتب عليها الأثر ، ولكن بلا ان يكون ترتب الأثر ملحوظا في مقام تعلق الأمر ومأخوذا في المأمور به ، وذلك لأن ترتب الأثر على الكمية المعينة في نفس المولى أمر تكويني قهري ، فلا يكون المورد قابلا للإطلاق والتقييد ، إذ الإطلاق والتقييد انما يكونان في المورد الّذي يمكن فيه أخذ القيد وعدم أخذه ، فيقال : ان المراد الجدي اما ان يكون مطلقا أو مقيدا لامتناع الإهمال من حيث القيد. اما المورد الّذي لا يقبل التقييد لقهرية حصول القيد فلا يجري فيه ما ذكر ، إذ عدم الإطلاق والتقييد لا يستلزم الإهمال لثبوت القيد لا محالة بلا توقف على لحاظه وأخذه.

وعليه ، فالمأمور به ليس إلاّ الكمية الخاصة الملازمة لترتب الأثر ، بحيث تكون جهة ترتب الأثر جهة معرفة للمأمور به لا دخيلة فيه. والمراد الجدي انما هو مقدار معين في نفس المولى من الأجزاء والشرائط ، فإذا تردد المراد الجدي بين الأقل والأكثر وانه الاجزاء التسعة أو العشرة ، وكان هناك ظهور يعين لنا مقداره كان التمسك به متعينا ، كما فيما نحن فيه. لأن لفظ الصلاة على الأعم يصدق على الأقل والأكثر فهو ظاهر فيهما ، فإذا تردد المراد الجدي من هذا الظاهر ـ إذ الفرض حصول العلم بكون المراد الجدي منه كمية معينة من الاجزاء والشرائط والتردد في مقدارها وانه الأقل أو الأكثر ـ أمكن التمسك بظهوره الإطلاقي في تعيين المراد الجدي وانه الأقل دون الأكثر لعدم القرينة عليه ، كما هو شأن كل ظاهر حيث انه تحقق بناء العقلاء على كشف المراد الجدي بظاهر

٢٤١

الكلام ، ولا يأتي هذا الكلام على القول بالصحيح ، لأن اللفظ موضوع لتلك الحصة المعينة واقعا المرددة عندنا ، فهو ظاهر في تلك الحصة ولم يعلم انها الأقل كي يتمسك بظهوره فيه في تعيين المراد الجدي ، بل يكون مجملا من جهة الأقل والأكثر. بخلاف القول بالأعم ، إذ اللفظ ظاهر في الأقل ، فيعين انه المراد الجدي بالظهور.

وبالجملة : ليس ما نحن فيه ـ على ما ذكرناه ـ من باب التمسك بالعامّ بعد إحراز المراد الجدي منه في الشبهة المصداقية كي يمنع ذلك ، بل من باب التمسك بظهور المطلق في الإطلاق في إحراز المراد الجدي وهو لا محذور فيه ، ويفترق الحال فيه بين القول بالصحيح والأعم كما عرفت.

ويمكن ان يقرب الجواب بنحو آخر وهو : انه لا إشكال في ان الأمر لم يتعلق بذات الصلاة وماهيتها المطلقة من كل قيد وشرط ، بل تعلق بها مقيدة ببعض الاجزاء والشرائط ، وقد علمنا بحكم العقل عدم تعلق الأمر إلا بما يترتب عليه الأثر. ونحتمل ان يكون ما يترتب عليه الأثر هو خصوص الكمية المعلومة فعلا دون الأكثر منها ولا نعلم بأنها الكمية الأكثر ودخل بعض الاجزاء في ترتب الأثر.

وعليه ، فلا يعلم بان المراد الجدي ، وهو خصوص الأجزاء والشرائط المعلومة ، مقيد أصلا ، لاحتمال أنه هو الّذي يترتب عليه الأثر بلا دخل لشيء آخر فيه.

وعليه ، فلا مانع من التمسك بإطلاق اللفظ في نفي القيد الزائد وكون المقدار المعلوم هو المأمور به لعدم البيان ـ نظير ما لو قال : « أكرم جيراني » وعلمت بأنه لا يريد إكرام أعدائه ، ولكن لم اعلم بوجود عدو له من جيرانه ، بل يحتمل ان يكون الجميع غير أعداء له ، فبذلك لا أعلم بتقييد المراد الجدي من العام وهو : ( الجيران ). وعليه فيمكن التمسك بإطلاقه في إثبات وجوب إكرام من

٢٤٢

يحتمل عداؤه من جيرانه ـ. ولا يتأتى ذلك على القول بالصحيح ، إذ المفروض ان اللفظ موضوع للحصة الملازمة لترتب الأثر ، فمع احتمال عدم كون هذه الحصة المعلوم تعلق الأمر بها مما يترتب عليها الأثر بخصوصها ، بل تتوقف على تحقق الجزء المشكوك لا يمكن التمسك بإطلاق اللفظ لعدم إحراز صدقه على المشكوك.

وبهذا البيان يرتفع الإشكال الّذي لا أعلم من تصدى لحلّه بنحو يرتفع به الإيراد من الاعلام.

ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ الأنصاري في جوابه عن الإشكال حيث قال : « ودفعه يظهر مما ذكرناه : من ان الصلاة لم تقيد بمفهوم الصحيحة وهو الجامع لجميع الأجزاء والشرائط ، وانما قيدت بما علم من الأدلة الخارجية اعتباره ، فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للأمور التي دل الدليل على تقييد الصلاة بها ، لا ان مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ، فكلما شك في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوع إلى الاحتياط لإحراز مفهوم الصحيحة ... » (١). إذ لا يظهر له وجه وجيه غير ما ذكرناه فلاحظ وتدبر.

هذا ، ولكن الإنصاف ان الوجهين المذكورين لا يخلوان عن بحث ، فالعمدة في الجواب ان يقال : ان الحكم العقلي بعدم تعلق الأمر الا بالصحيح بمعنى واجد الملاك والمصلحة لا ينافي دليل تعلق الأمر بالعمل كي يكون مقيدا له ببعض حصصه ، إذ التقييد فرع المنافاة بين الدليلين بنحو لا يمكن اجتماعهما. وذلك لأن دليل الأمر بالعمل يدل بالملازمة على ثبوت الملاك في الفعل ، فيكون بجميع افراده صحيحا واجدا للملاك. وبذلك تكون نسبة دليل الأمر إلى الحكم

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٨١ ـ الطبعة الحجرية.

٢٤٣

العقلي نسبة الوارد إلى المورود وموجبا لارتفاع موضوعه.

وبالجملة ، لا يكون الحكم العقلي المزبور موجبا لإخراج بعض افراد دليل الأمر ، إذ لا يقتضي ذلك أصلا ، فتدبر تعرف.

الرابع : ما ذكره المحقق الخوئي من : ان هذا الإيراد يبتني على أخذ الصحة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجا ، وهي غير مأخوذة قطعا ، بل لا يعقل أخذها ـ لما تقدم منه ـ ، وانما المأخوذ في المأمور به الصحة الاقتضائية التي هي الصحة بمعنى تمامية الاجزاء والشرائط ، وعليه فيفترق الحال بين القول بالصحيح والقول بالأعم ، إذ لا يحرز صدق اللفظ على الفاقد الجزء المشكوك اعتباره بناء على الصحيح فيمتنع التمسك بالإطلاق.

بخلافه على القول بالأعم ، إذ صدقه على الفاقد محرز فيكون الشك في أمر زائد لا في أصل تحقق المعنى كما هو على القول بالصحيح ـ. وعليه فلا مانع من التمسك بالإطلاق في إثبات كون المأمور به هو الطبيعي الجامع بين الفاقد والواجد (١).

وأنت خبير بان هذا تقرير لأصل الثمرة وليس جوابا على الإيراد الموجه عليها وحلا للإشكال فيها. فان المستشكل يعلم بصدق الصلاة على الفاقد بناء على الأعم ، إلا انه لا يرى صحة الأخذ بظهور الكلام الإطلاقي لتقييد المراد الجدي بالصحيح ، فلا يكون ما ذكر جوابا ، بل هو تقرير لموضوع الإشكال.

واما ما ذكره المحقق النائيني في دفع الإشكال من : ان المأمور به أو قيده البسيط على الصحيح مشكوك الصدق على الفاقد كما عرفت ، فلا يمكن معه التمسك بالإطلاق ، بخلافه على الأعم فان المأمور به على هذا ليس إلا نفس الاجزاء والشرائط ، والصحة ليست إلا منتزعة عن كون الشيء موافقا للمأمور

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٨١ ـ الطبعة الأولى.

٢٤٤

به ، فالصحة متأخرة عن تعلق الأمر ويستحيل أخذها في المأمور به (١).

ففيه : انه لا يخلو عن غرابة ، لأن الصحة لا تختلف حقيقتها على القول بالصحيح أو بالأعم ، فكيف يفرض تعلق الأمر بالعمل بوصف الصحة على القول بالصحيح واستحالة ذلك على القول بالأعم لتأخر وصف الصحة عن الأمر رتبة؟ فلاحظ.

فالذي ينبغي ان يقال في الجواب ما عرفت.

وبذلك يظهر : ان الإيراد على الثمرة ينحصر بالوجه الأول ، وهو انها ثمرة غير عملية بل علمية محضة ، وهو لا يكفي في تحرير المسألة الأصولية فان المقصود بها مقام الاستنباط والعمل.

وقد تصدى السيد الخوئي لدفع هذا الإيراد بإثبات كون الثمرة عملية بإنكار دعوى عدم وجود المطلق في الكتاب والسنة الوارد مورد البيان ، وأنّ دعوى ذلك رجم بالغيب ، إذ قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (٢) ، وارد مورد البيان ، فيكون موردا للثمرة المزبورة ، إذ المفهوم من كلمة الصيام عرفا كفّ النّفس عن الأكل والشرب وهو المعنى اللغوي ، وهو بهذا المعنى ثابت في الشرائع السابقة ، وهو وان اختلف بكيفيته باختلاف الشرائع ، لكن الاختلاف يرجع إلى الخارج عن ماهية الصيام ، بل قد يعتبر فيه كما في الشرع الإسلامي الكف عن بعض القيود الأخر ، كالجماع والارتماس وغيرهما. فإذا شك في اعتبار شيء قيدا أمكن التمسك بالإطلاق في نفيه كما يتمسك بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٣) مع الشك في اعتبار شيء في المعاملة البيعية. ومثل قوله تعالى ما في السنة من الروايات الموردة مورد البيان

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) سورة البقرة : الآية : ١٨٣.

(٣) سورة البقرة : الآية : ٢٧٥.

٢٤٥

كقوله عليه‌السلام في التشهد : « يتشهد » (١) فان مقتضى إطلاقه نفى الخصوصيات الزائدة على أصل الشهادة مع الشك في اعتبارها (٢).

ولكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به ..

اما الآية الشريفة : فلا نسلم ورودها مورد البيان ، بل هي واردة لبيان أصل الوجوب وبيان اشتراك المكلفين به فعلا مع غيرهم ممن سبقهم ، وانه ليس تكليفا مختصا بهم تخفيفا لوطأة التكليف على نفوسهم ، فوزانه وزان قوله تعالى :

( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (٣) وقوله : ( وَآتُوا الزَّكاةَ ) (٤) ونحوهما. والاستشهاد بقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) في غير محله ، إذ لم نلتزم في محله بأنه في مقام البيان كما هو ظاهر ، إذ هو في مقام التفرقة بين البيع والرّبا في الحكم وان الأول حلال والثاني حرام ردا على من ادعى عدم الفرق والتسوية بينهما في الحكم. فلاحظ الآية تعرف.

مضافا إلى انه لا يمكن الاستشهاد بآية : « كتب عليكم الصيام .. » في إثبات الثمرة العملية ، حتى لو كانت واردة في مقام البيان. إذ التمسك بإطلاقها ممكن على القول بالصحيح. وذلك لأن الصوم ـ على القول بالصحيح ـ لا بد ان يلحظ فيه جميع ما له دخل فيه من اجزاء وشرائط. ولما كنا نسلم بان الواجب في شريعتنا يختلف عما كان هو الواجب في الشرائع السابقة ولو قيدا ، وقد قرر في الآية ثبوته علينا كثبوته في السابق ، فيعلم ان المراد من الصيام في الآية غير الصوم الصحيح ، إذ لا يتلاءم مع القول بالاختلاف.

وعليه ، فيمكن التمسك بالإطلاق فيها ولو قيل بالصحيح ، لعدم إرادته

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ ـ باب : ١٣ من أبواب التشهد ، حديث : ١ و ٢ و ٣ و ٤.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٧٨ ـ الطبعة الأولى.

(٣) سورة المزمل : الآية : ٢٠.

(٤) سورة المزمل : الآية : ٢٠.

٢٤٦

من اللفظ المانع من الثمرة. فالثمرة لا تظهر في المقام فلا يصلح نقضا على إنكار وجود المورد للثمرة.

واما الرواية : فلا تصلح شاهدا على ما يقول ، إلا بناء على شمول النزاع المزبور لاجزاء العبادة وعدم اختصاصه بنفس العبادة. وهو فاسد ، إذ لا ملزم له بل يمكن الالتزام بالوضع اللغوي لها من دون تغيير ، كما هو ظاهر في مثل التشهد ، فان إطلاق لفظ التشهد على ذكر الشهادتين انما كان بالوضع اللغوي لا الشرعي كما لا يخفى.

منها : جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته على القول الأعمي دون القول الصحيحي ، بل لا بد من الاحتياط.

بيان ذلك : انه إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر بان علم إجمالا بكون المأمور به اما الاجزاء الخمسة أو الستة ، فهل يكون المورد من موارد البراءة أو الاحتياط؟.

قيل : بجريان الاحتياط للعلم الإجمالي المنجز الموجب للاحتياط بقاعدة الاشتغال التي تقتضي لزوم اليقين بالامتثال ، وهو لا يحصل إلاّ بالاحتياط بالإتيان بالأكثر.

وقيل : بالبراءة بدعوى انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل ـ وهو الخمسة ـ وشك بدوي في وجوب الزائد فيكون مورد البراءة. ثم ان دعوى الانحلال تارة تكون في حكم العقل. وأخرى في حكم الشرع. وليس محلّ تحقيقه هنا.

وانما المهم ان نقول : ان الثمرة المدعاة مترتبة على القول بالانحلال ، بمعنى : انه بعد تسليم الانحلال وعدم العلم الإجمالي المنجز الموجب للاحتياط ، يدور الأمر في الالتزام بالبراءة والاشتغال ، مدار القول بالوضع للصحيح والأعم ، فان قلنا بالوضع للصحيح كان المتعين هو قاعدة الاشتغال. وان قلنا بالوضع

٢٤٧

للأعم كان المتعين هو قاعدة البراءة.

وذلك ببيان : ان مرجع الشك في الزائد على القول بالصحيح إلى الشك في محقق المأمور به ومحصله ، لأن المأمور به ليس هو نفس الاجزاء والشرائط ، بل امر يتحقق بها ويحصل ، والشك في المحقق والمحصل مورد الاشتغال للعلم بالتكليف والشك في الفراغ. ومرجع الشك على القول بالأعم إلى الشك في المأمور به ، لأن المأمور به عين الاجزاء والشرائط فيرجع الشك في الجزء الزائد إلى الشك في تعلق الأمر به وهو مورد البراءة.

وبتقرير أوضح : ان العنوان المأخوذ في متعلق الأمر ..

تارة : تكون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة الكلي إلى الفرد ويكون وجوده بوجودها ، بحيث يكون وجودها وجوده بلا انحياز له عنها أصلا في الخارج لاتحادهما حقيقة ، ولذلك يصدق على الاجزاء والشرائط ويحمل عليها.

وأخرى : تكون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة المسبب إلى السبب ، فلا يكون وجودها وجوده ، بل لكل منهما وجود مستقل عن الآخر لكن أحدهما المعين يحقق الآخر فلا يصلح لأن يكون عنوانا للاجزاء والشرائط ، كما لا يصلح ان يكون المعلول عنوانا للعلة ، وذلك نظير ما يقال في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء ، فانها عنوان بسيط يتحقق بالوضوء ولا يقال للوضوء طهارة ولا للطهارة وضوء.

فالشك في جزء زائد على الأول يرجع إلى الشك في المأمور به ، لأن المأمور به حقيقة هو الاجزاء والشرائط ، فيكون مورد البراءة لكون الشك شكا في التكليف.

واما على الثاني ، فالشك يرجع إلى المحقق والمحصل ، إذ المأمور به امر معلوم متقرر في نفسه والاجزاء والشرائط سبب وعلة لوجوده ، فالشك فيها شك في محقق المأمور به وهو مورد الاشتغال والاحتياط ، إذ بترك المشكوك يشك في

٢٤٨

الفراغ الّذي يحكم العقل بلزوم إحرازه.

وهناك نحو ثالث من العناوين يشابه النحو الأول في كون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة العنوان إلى المعنون والطبيعي إلى مصداقه ، ويختلف عن النحو الثاني في هذه الجهة ، لكنه يشابهه ويختلف عن النحو الأول في عدم اتحاده حقيقة مع الاجزاء والشرائط ، وعدم اتحاده ذاتا معها ، بل هي من محققاته وسبب لوجوده ، فهو عنوان بسيط مسبب عنها ، نظير عنوان الوفاء بالنذر فانه ينطبق على واقع الوفاء ، وهو أداء المال لزيد المنذور ، انطباق الكلي على فرده ، لكنه غير متحد مع أداء المال لزيد ذاتا وحقيقة ، بل بالأداء يتحقق عنوان الوفاء ويحصل. ومثله : عنوان الناهي عن الفحشاء في الصلاة فانه غير الاجزاء والشرائط حقيقة وذاتا. وهكذا عنوان الدار لو قلنا بأنه موضوع لما يسكن ، فان ما يسكن عنوان ينطبق على الغرف والساحة والحيطان لكنه يختلف عنها في ذاته وحقيقته.

وهذا النحو :

تارة : لا يكون تشكيكيا ، بمعنى انه لا ينطبق على القليل والكثير ولا يتحقق بهما ، بل انما يتحقق بمجموع الأجزاء والشرائط ، كعنوان الناهي عن الفحشاء ، فانه لا يتحقق إلا بتحقق جميع الاجزاء والشرائط.

وأخرى : يكون تشكيكيا يتحقق بالأقل والأكثر وينطبق عليهما بنحو واحد ، كالدار فان عنوان ما يسكن يتحقق بغرفة وساحة وحيطان فقط ، ويتحقق بغرف وساحات وسرداب وغيرها من الاجزاء ، وينطبق على الثاني كما ينطبق على الأول.

فعلى الأول : لو شك في دخل جزء أو شرط في المأمور به يكون الشك في المحقق ، إذ يشك في تحقق العنوان البسيط بالخمسة أو بخصوص الستة ، فيكون المورد من موارد الاشتغال.

وعلى الثاني : يكون الشك في المأمور به لتحقق العنوان بالأقل ، فيكون

٢٤٩

الشك في الزائد شكا في التكليف الزائد وهو مورد البراءة.

فالشك على الأول مورد الاشتغال. وعلى الثاني مورد البراءة.

وفي حكم هذا العنوان : ما إذا تعلق الأمر بنفس الأجزاء والشرائط ولكن مقيدة بالأمر البسيط ، ولم يتعلق بنفس العنوان المنتزع بان تعلق الأمر بالحصة المتقيدة بتحقق الأمر البسيط ، كما لو تعلق الأمر بالاجزاء والشرائط التي تنهى عن الفحشاء ويترتب عليها النهي عن الفحشاء. فانه مع الشك في اعتبار جزء أو شرط يشك مع عدم إتيانه في حصول التقيّد بالأمر البسيط للشك في تحققه نفسه. وبعبارة أخرى : المأمور به هو المقيد ، وبدون الإتيان بالمشكوك لا يحرز تحقق المقيد بما هو كذلك ، فيكون من الشك في المحصل ، وهو مورد قاعدة الاشتغال.

نعم إذا كان الأمر البسيط المأخوذ قيدا من الأمور التشكيكية الحاصلة ببعض الاجزاء والشرائط ، لم يكن الشك في المورد شكا في المحصل لإحراز تحقق المقيد وانما الشك في تعلق الأمر بجزء أو شرط زائد فالأصل البراءة لأنه شك في التكليف.

بعد وضوح هذا الأمر نقول : انه لو التزم بان الجامع على القول بالصحيح جامع بسيط حقيقي ذاتي مقولي كما التزم به صاحب الكفاية رحمه‌الله (١) ، كان مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر من موارد أصالة البراءة لا الاشتغال ، لاتحاد المأمور به ـ وهو الجامع ـ مع الاجزاء والشرائط ذاتا ووجودا ، فهي في الحقيقة المأمور به ، فيكون الشك في الأكثر شكا في التكليف.

وهكذا لو التزم بأنه جامع مركب يعرّفه النهي عن الفحشاء لا مقيد به وهو الجامع المبهم ، لأنه متحد مع الافراد وجودا وحقيقة ومنطبق عليها انطباق

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٠

الكلي على الفرد كما عرفت ، فيكون الشك فيها شكا في المأمور به.

واما لو التزم بأنه جامع بسيط عرضي عنواني منتزع عن الذات بلحاظ ترتب أثر خاص عليها كعنوان الناهي عن الفحشاء ، فالشك في اعتبار جزء شك في تحقق العنوان البسيط بدونه ، إذ هو ليس تشكيكيا ، بل ينطبق على المجموع ويحصل به ، فيكون المورد من موارد الاشتغال بلا كلام ، إذ المأمور به امر معلوم والشك في حصوله.

ومثله لو التزمنا بان المأمور به في باب الصلاة والجامع هو الاجزاء والشرائط مقيدة بحصول النهي عن الفحشاء كما عرفت.

وبالجملة : بناء على كون الجامع الصحيحي جامعا بسيطا مقوليا أو مركبا مبهما يعرفه النهي عن الفحشاء ، يكون الشك في الأقل والأكثر من موارد البراءة. وبناء على كونه جامعا بسيطا عنوانيا أو مركبا مقيدا بالنهي عن الفحشاء يكون مورد الشك في الأقل والأكثر من موارد الاشتغال.

والمحقق النائيني قدس‌سره لما لم يتصور جامعا يوضع له اللفظ ويتعلق به الأمر على القول الصحيحي ، إلا بأحد النحوين الأخيرين ـ أعني الجامع البسيط العنواني ، والمركب المقيد بالنهي عن الفحشاء ـ جعل مما يترتب على القول بالصحيح هو الالتزام بعدم جريان البراءة عند الشك في الجزئية أو الشرطية وجريان قاعدة الاشتغال.

ولما كان الجامع المفروض للأعم ـ بأي نحو كان ـ مما يتحد مع الاجزاء حقيقة كان مما يترتب على القول بالأعم هو الالتزام بالبراءة عند الشك في الجزئية أو الشرطية ، لأن الشك في نفس المأمور به.

فجعل رحمه‌الله ثمرة النزاع هو جريان البراءة على الأعمي ، والاشتغال على الصحيحي (١).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٥١

ولا يرد على المحقق النائيني في فرضه هذه الثمرة شيئا ، إذ لا إشكال فيها بناء على ما التزم به من عدم إمكان فرض جامع للصحيح يتعلق به الأمر إلاّ بأحد ذينك النحوين ، وعدم جريان البراءة مع الالتزام بأحدهما لا ينكر.

لكن الإيراد على أصل المبنى لا البناء إذ عرفت إمكان تصوير جامع مركب بنحو مبهم يعرّفه النهي عن الفحشاء ولا يكون قيدا له.

وعليه ، تجري البراءة عند الشك في الجزئية.

والمتحصل : ان الثمرة المذكورة مما قرّرها المرحوم النائيني رحمه‌الله لالتزامه بما يستلزمها ، ما قد عرفته ، وهي بمقدار كونها ثمرة مبنائية لا إشكال فيها ، إلاّ ان الإشكال في المبنى كما عرفت.

ومن هنا يظهر انه لا وجه لما جاء في تقريرات الفياض من إنكار فرض الثمرة على المحقق النائيني قدس‌سره بدعوى : ان الجامع الصحيحي اما ان يفرض من الماهيات المتأصلة المركبة أو البسيطة أو من الماهيات الاعتبارية ، والبراءة تجري عند الشك في الجزئية أو الشرطية على جميع التقادير. اما على تقدير كونه جامعا حقيقيا بسيطا ، فلأنه متحد مع افراده خارجا ، فالامر به أمر بها ، فالشك فيها شك في المأمور به كما سبق تقريبه. واما على تقدير كونه جامعا مركبا ، فلأنه عين الاجزاء والشرائط ، فالاجزاء والشرائط تكون بنفسها متعلقة للأمر. فيرجع الشك في اعتبار جزء زائد إلى الشك في التكليف. واما على تقدير كونه جامعا انتزاعيا عنوانيا ، فلان الأمر الانتزاعي ليس له ما بإزاء في الخارج فلا يصح تعلق الأمر به ، وانما الأمر متعلق في الحقيقة بمنشإ انتزاعه وهو نفس الاجزاء والشرائط ، فيكون الشك في الجزئية شكا في المأمور به والتكليف (١).

فان ما ذكر غير وجيه لوجهين :

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٧١ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٢

الأول : ان الجامع المركب لا يمكن جعله هو نفس الاجزاء والشرائط بذاتها ، إذ كل مقدار يفرض يمكن وقوعه صحيحا وفاسدا ، بل لا بد من تقييدها بجهة بسيطة كالنهي عن الفحشاء.

ومعه لا مجال لجريان البراءة عند الشك في الجزئية لرجوعه إلى الشك في المحصل ، وقد صرح المحقق النائيني بما ذكرناه ، فإغفاله عجيب.

الثاني : ان الأمر الانتزاعي وان لم يكن له وجود في الخارج وكان الموجود منشأ انتزاعه ، إلا انه من الواضح ان منشأ انتزاع عنوان ( الناهي عن الفحشاء ) ليس نفس الاجزاء والشرائط بلحاظها ذاتها ، بل بلحاظ ترتب النهي عن الفحشاء عليها ، إذ العناوين الانتزاعية انما تنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بوصف أو جهة تصحح انتزاع العنوان عنها ، فعنوان العالم والقائم انما ينتزع عقلا عن الذات بلحاظ اتصافها بوصف العلم أو القيام ، لا بلحاظها نفسها ، وإلاّ لصح انتزاع العنوان المذكور من جميع الذوات حتى ممن لم يتلبس بالعلم أو القيام وبطلانه واضح.

وعليه ، فالمأمور به ـ لو سلم انه لا يكون نفس العنوان بل المعنون ـ هو الاجزاء والشرائط مقيدة بالنهي عن الفحشاء التي هي جهة الانتزاع ، ومعه يكون مورد الشك في الجزئية من موارد الاشتغال لرجوعه إلى الشك في المحصل كما عرفت. هذا مع ان ترتب الحكم على العناوين الانتزاعية كثير بحيث لا يلتزم بإناطته بمنشإ الانتزاع ، ولذا لا يلتزمون بإجراء الأصل الجاري في منشأ الانتزاع في ترتب الحكم المعلق في لسان الدليل ، على العنوان الانتزاعي كعنوان الفوت في القضاء ، وعنوان الوفاء في النذر ، ونحو ذلك.

نعم ، على تقدير كون الجامع حقيقيا بسيطا يكون المورد من موارد البراءة ، لكن المحقق النائيني لا يلتزم بأصل التقدير كما عرفت.

والخلاصة : انه عرفت فعلا ان لهذا المبحث ثمرتين :

٢٥٣

إحداهما : إمكان التمسك بالإطلاق وعدمه.

والأخرى : جريان البراءة وعدمه.

وكلتاهما ثمرتان مهمتان تصححان تحرير مثل هذا البحث وتنقيح أحد قوليه.

اما الثانية : فواضح لما عرفت من ترتبها على بعض تقادير الصحيحي ، ويكفي في ثمرة البحث ترتبها ولو على بعض التقادير. وهي ثمرة عملية كما لا يخفى.

واما الأولى : فهي وان تقدم الإشكال فيها من جهة عدم كونها عملية لعدم المورد لها ، إلاّ ان التحقيق ان ذلك لا ينفي كونها ثمرة مهمة ، وذلك فان الفقيه لا يستغني عن تنقيح هذا المبحث للوصول إلى نتيجته المزبورة ، إذ قد يرى بعض المطلقات واردة في مقام البيان كما ادعي في آية : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) ، وعدم العثور فعلا على مثل ذلك لا ينفي ما ذكرنا ، إذ قد يتبدل نظر الفقيه فيرى ان هذا المطلق في مقام البيان بعد ان لم يكن يرى ذلك. أو قد يختلف الفقهاء في نظرهم فيرى أحدهم بخلاف ما يرى الآخر في هذا الموضوع. وعليه فيتوقف استنباطه من معرفة جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه ، وهو يتوقف على تحقيق أحد قولي المسألة ، فتدبر.

نعم الإيراد على الثمرة بأنها ليست ثمرة للمسألة الأصولية ، لأن ثمرتها لا بد ان تكون استنباط حكم فرعي كلي ـ على رأي ـ أو رفع التحير الحاصل للمكلف في الحكم بلا واسطة ـ على المختار ـ كما أشرنا إلى ذلك في تحقيق ضابط المسألة الأصولية ، وهذه المسألة ليست كذلك ، إذ لا يترتب عليها الاستنباط مباشرة ، بل لا تقع في طريق الاستنباط ، لأن مسألة جواز التمسك بالإطلاق وعدمه مسألة أصولية بنفسها ، كما انه لا يرتفع بها التحير إلا بواسطة المسألة الأصولية أعني جواز التمسك بالإطلاق وعدمه.

٢٥٤

وبالجملة : ما يترتب على المسألة ليس مسألة فقهية بل مسألة أصولية وهو ليس بثمرة للمسألة الأصولية ، والكلام بنفسه يجري بالنسبة إلى ترتب جريان البراءة وعدمه ، لأنه من المسائل الأصولية التي يتوصل فيها إلى حكم شرعي أو إلى رفع الحيرة في مقام العمل.

والإيراد بذلك له وجه ـ كما عرفت تقريبه ، وقد ذكرنا ذلك في مبحث ضابط المسألة الأصولية فراجع ـ. إلاّ انه لا يعنى نفي الثمرة وكون البحث أشبه بالعلمي منه بالعملي ، بل غاية ما ينفي أصولية المسألة وكونها من المبادي ، وهو غير نفي ثمرة المسألة من حيث العمل ، فلاحظ.

ومنها : مسألة النذر ، كما لو نذر شخص بان يعطي درهما لمن صلى ، فانه بناء على الصحيح لا يحصل الوفاء بالنذر الا بإعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة. وبناء على الأعم يحصل الوفاء بالنذر بإعطاء الدرهم لمن صلى مطلقا ولو صلاة فاسدة.

وأورد على هذه الثمرة بوجهين :

الأول : ان الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر دون ما تلفظ به ، فان قصد من الصلاة خصوص الصلاة الصحيحة لم يحصل الوفاء الا بإعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة ولو قلنا بالأعم. وان قصد الأعم من الصلاة الصحيحة والفاسدة يحصل الوفاء بإعطاء الدرهم لمطلق المصلي ولو كانت صلاته فاسدة وان قلنا بالصحيح. فلا يبتني تحديد موضوع وجوب الوفاء وانه الضيق أو الواسع على البحث المتقدم بل على معرفة قصد الناذر.

الثاني : انه لو سلم ابتناء معرفة موضوع وجوب الوفاء على البحث المذكور ، إلاّ انه لا يتناسب مع المسألة الأصولية ، لأن ذلك أجنبي عن الاستنباط المأخوذ في ثمرة المسألة الأصولية ، إذ هو يرتبط بتنقيح موضوع الحكم وتطبيقه على موارده ، وذلك ليس من شأن المسألة الأصولية بل أي مسألة علمية ولو كانت

٢٥٥

من المبادئ.

ولكن التحقيق يقضي بعدم ورود كلا الوجهين :

اما الأول : فلأنه وان كان موضوع وجوب الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر سعة وضيقا ، إلاّ أنه إنما يجدي في نفي الثمرة فيما لو تعلق قصده بمعنى معين حاضر في ذهنه من الصحيح أو الأعم ـ كما فرض في الإيراد ـ ، اما إذا قصد إعطاء الدرهم لمن جاء بمسمى الصلاة عرفا ولمن جاء بما يصدق عليه اسم الصلاة في العرف ، كانت سعة موضوع الحكم وضيقه دائرة مدار تحقيق ان الموضوع له عرفا لفظ الصلاة هل هو الأعم أو خصوص الصحيح؟. فتترتب الثمرة المذكورة بلا إشكال. ونظيره في باب المعاملات ما يقال في ما لو باع مالك النصف المشاع النصف بلا تعيين انه المشاع أو المفرز ـ إذ تختلف النتيجة على الحالين ـ ، من انه لا عبرة بلفظ إنشائه ، بل العبرة بقصده وترتيب الأثر عليه ، فان كان قاصدا بيع النصف المشاع أخذ به ، وان كان قاصدا بيع النصف المفرز كان المبيع نصفه المشاع لأنه يملك نصفه بنحو الإشاعة ، ويجاب عنه في محله : بأنّ مورد التردد ما لو لم يقصد نصفا معينا من المشاع أو المفرز وانما قصد بيع ما يدل عليه لفظ النصف وما هو ظاهر فيه عرفا ، فيقع التردد في ان الظاهر عرفا بحسب حاله هل هو بيع النصف المشاع أو المفرز؟.

واما الثاني : فلأنه وان اشتهر في العبارات وعلى الألسن حتى بلغ المسلمات التي لا يشكك فيها أحد ، إلاّ ان الّذي يقرب إلى الذهن عدم تماميته وانه لا يخلو عن مغالطة ، وذلك لأنّ مرجع الشك في ان موضوع الحكم هل هو الأعم أو خصوص الصحيح إلى الشك في التعيين والتخيير ، فتعيين أحد الطرفين في المسألة التزام بأحد شقي الشك من التعيين والتخيير ، وهو يرجع إلى الاستنباط. بيان ذلك : انه إذا ورد دليل يدل على وجوب التيمم على الصعيد ، وتردد الموضوع له لفظ الصعيد بين ان يكون خصوص التراب أو الأعم منه ومن

٢٥٦

الجص ، فان مرجع التردد المذكور إلى التردد في انه هل يتعين على المكلف التيمم بالتراب أو يتخير فيه بين التراب والجص. فإذا كان هناك مبحث يعين المراد من الصعيد وانه خصوص التراب ، فانه يترتب على معرفة تعيين كون الملحوظ في موضوع الحكم هو خصوص التراب. أو أنه الأعم من التراب والجص فيترتب عليه الحكم بالتخيير وانّ التيمم يكون بالتراب أو الجص.

وبعبارة أخرى : ان التردد في معنى الصعيد يرجع إلى التردد في ان الملحوظ في موضوع الحكم هو خصوص التراب أو التراب والجص مخيرا. فتعيين معنى الصعيد يترتب عليه استفادة تعلق الحكم بخصوص التراب أو بأحدهما مخيرا. وما نحن فيه كذلك ، فان التردد في معنى الصلاة يرجع إلى التردد في التعيين والتخيير في الحكم ، بوجوب الوفاء ، فتعيين معنى الصلاة يستفاد منه أحد النحوين في الحكم ، إما تعيين الوفاء بإعطاء الدرهم لمن صلى صحيحا أو التخيير فيه بإعطاء مطلق المصلي ولو فاسدا. وهذا حكم شرعي وليس هو مجرد تطبيق للحكم على موضوعه كي يكون أجنبيا عن الاستنباط.

وبعبارة واضحة : يكون حال المسألة بالنسبة إلى النذر وتعيين أحد الطرفين من التعيين والتخيير حال مسألة الأصل الجاري في مورد الشك في التعيين والتخيير وتعيين أحدهما ، فكما ان مسألة تعيين الأصل في مورد الشك بين التعيين والتخيير من المسائل الأصولية بلحاظ ما يترتب عليها من الأثر كذلك مسألة الصحيح والأعم ، إذ حال الالتزام بالصحيح أو الأعم حال الأصل العملي أو الدليل الاجتهادي القائم على التعيين أو التخيير.

نعم ، يكون الإشكال في أصولية المسألة من جهة أخرى ، وهي انها مختصة بباب النذر ونحوه ولا تعم أبواب الفقه ، نظير قاعدة الطهارة ، إذ قد تقدم اشتراط سريان نتيجة المسألة في جميع أبواب الفقه في أصولية المسألة.

هذا كله مضافا إلى إمكان دعوى عدم الحاجة إلى ترتب ثمرة المسألة

٢٥٧

الأصولية على مسألة الصحيح والأعم ، إذ لم يلتزم بنحو متسالم عليه بأصوليتها ، بل يمكن دعوى كونها من المبادئ ، ولذلك تذكر في مباحث المقدمة والتعرض إليها بخصوصها باعتبار عدم البحث فيها في غير مكان.

وعليه ، فيكفي في صحة البحث فيها ترتب أثر فقهي عليها ولو كان في مورد خاص ، إذ ذلك يرفع لغويتها ، وهو ثابت في مسألة النذر ولو كان من باب التطبيق بلا كلام.

منها : فيما ورد من النهي عن الصلاة وبحذائه امرأة تصلي ، فانه بناء على الصحيح يختص المنع عن الصلاة بصلاة المرأة الصحيحة ، فإذا كانت صلاتها فاسدة لا تمنع من صحة صلاة الرّجل. واما بناء على الأعم فيكون المانع من صحة صلاة الرّجل الأعم من الصلاة الصحيحة التي تؤديها المرأة أو الفاسدة.

وقد أورد على هذه الثمرة : بعدم كونها ثمرة للمسألة الأصولية لأنها ترجع إلى تطبيق الحكم الثابت على موضوعه بتنقيح موضوعه وتعيينه ، وذلك أجنبي عن مقام الاستنباط.

وقد اتضح الجواب عن هذا الإيراد بما تقدم :

أولا : من انه يكفي مجرد الترتب الأثر الفقهي على المسألة ولو لم يكن بأثر المسألة الأصولية ، لعدم الالتزام بأصولية المسألة.

وثانيا : بان الأثر المترتب أثر المسألة الأصولية ، لأنه يعين أحد طرفي الشك من التعيين والتخيير ، فلاحظ.

وبعد كل هذا يقع الكلام في تعيين الموضوع له وأنه الصحيح أو الأعم منه ومن الفاسد ، وإقامة البرهان على ذلك.

ولا يخفى ان من يلتزم بثبوت الجامع بين خصوص الأفراد الصحيحة وعدم إمكانه بين الأعم كالمحقق صاحب الكفاية (١). أو بثبوته بين افراد

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤ ـ ٢٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٨

الأعم دون خصوص الأفراد الصحيحة كالمحقق النائيني (١). ـ بعد التنزل عن دعواه في الموضوع له السابقة ـ ، في راحة عن الاستدلال لكلا الطرفين بل حدهما ، إذ عدم إمكان تصور الجامع على الطرف الآخر كاف في نفيه وتعيين الوضع للطرف الّذي أمكن تصوير الجامع بين افراده وهو الصحيح على رأي صاحب الكفاية والأعم على رأي المحقق النائيني ، بلا حاجة لإقامة الدليل على الوضع له ، لأن عدم إمكان تصور الجامع يلزم عدم إمكان الوضع له ثبوتا. فلا تصل النوبة إلى مرحلة الإثبات ، فالذي يحتاج إلى إقامة الدليل على الوضع لأحدهما اما الصحيح أو الأعم من يلتزم بإمكان تصوير الجامع على كلا القولين كالمحقق الأصفهاني (٢) ، الّذي تابعناه على رأيه ، لإمكان كل منهما إثباتا ، فتعيين أحدهما يحتاج إلى دليل معين.

وقد ذكر صاحب الكفاية أدلة الطرفين وإليك بيانها مع توضيح ما يحتاج إلى توضيح :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٤٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٩

أدلة القول بالصحيح

الأول : تبادر الصحيح من اللفظ وهو علامة الحقيقة.

الثاني : صحة سلب اللفظ عن الفاسد بالحمل الشائع الصناعي بنحو الدقة ، مما يكشف عن عدم كونه من افراد الموضوع له الكاشف عن عدم الوضع للأعم والوضع لخصوص الصحيح ، وإلاّ لما صح سلبه.

الثالث : الروايات الظاهرة في تحقق الوضع للصحيح ، وهي على طائفتين :

إحداهما : ما مفادها إثبات بعض الآثار للمسميات ، وهي لا تترتب على غير الصحيحة ، مثل ما ورد من : « ان الصلاة عمود الدين » ، أو : « انها تنهى عن الفحشاء والمنكر » ، ونحوهما (١).

والأخرى : ما مفادها نفي الطبيعة والماهية بمجرّد انتفاء جزء أو شرط نظير : « لا صلاة إلا بطهور » و: « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » (٢) ، ولو كان الموضوع له لفظ الصلاة هو الأعم لم يلزم انتفاء الطبيعة بانتفاء أحد اجزائها وشرائطها ، إذ لا يلزم بانتفائه إلا انتفاء الصحة وهو لا يلازم انتفاء الطبيعة بعد ان كانت تنطبق على الفاسدة.

ودعوى : إرادة نفي الصحة أو الصلاة الصحيحة في هذه الطائفة والصلاة الصحيحة من الطائفة الأولى باعتبار شيوع مثل هذا الاستعمال في نفي الكمال لا الحقيقة أو الصحة ، نظير ما ورد من انه : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (٣).

__________________

(١) الكافي ٣ ـ ٩٩ باب النفساء الحديث ٤.

(٢) غوالي اللئالي ١ ـ ١٩٦ الحديث ٢.

(٣) تهذيب الأحكام ٣ ـ ٢٦١ ـ باب ٢٥ فضل المساجد والصلاة فيها ، الحديث ٥٥.

٢٦٠