منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

تدريجي الحصول فمع الشك في جزئية شيء يشك في تحقق منشأ انتزاعه ، فيشك في حصول العنوان المأمور به والمطلوب تحصيله وإيجاده ـ إذ المطلوب تحصيل العنوان ـ ، فيكون المورد من موارد قاعدة الاشتغال لا البراءة ، ولا يلتزم به المشهور القائلون بالوضع للصحيح.

ولعل نظر الشيخ الأعظم قدس‌سره في إيراده على كون الجامع بسيطا ، باستلزامه عدم جريان البراءة إلى ذلك ، أعني فرض الجامع البسيط جامعا عنوانيا لا حقيقيا مقوليا ، وكأنّ الجامع المقولي معلوم الاستحالة لديه ، وانما البحث في الجامع العنواني كما قد يشعر به فرض أحد طرفي الترديد في الجامع هو العنوان المطلوب. ولا يندفع هذا الإشكال بجواب المحقق صاحب الكفاية ، لأن المأمور به هو نفس الجامع البسيط ، وهو غير متحد مع الاجزاء والشرائط حقيقة وذاتا كالجامع الحقيقي ، كي يكون الأمر به امرا بالاجزاء والشرائط ، باعتبار انه ليس شيئا غير الاجزاء والشرائط ، بل هو أمر منتزع عنها باعتبار تلبسها بعرض خاص فهو غيرها.

الوجه الثالث : ما قرره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، من انه يمكن فرض جامع مبهم من جميع الجهات الا بعض الجهات المعرفة كجهة النهي عن الفحشاء ونحوها ، ولا يكون هذا جامعا مقوليا ولا عنوانيا ، بل هو جامع مركب من جملة أجزاء.

وتوضيح مراده : ان المفاهيم والعناوين المنتزعة عن الخارجيات ...

منها : ما يكون متعينا ومبينا بجميع جهاته كمفهوم الإنسان ونحوه.

ومنها : ما يكون مرددا بين فردين أو افراد ، بمعنى انه مفهوم ينطبق عليها بنحو البدلية بلحاظ ذاته ، وهو المعبر عنه بالمفهوم المردد ، كمفهوم أحدها واحدهما أو هذا أو ذاك. وهذا ـ أعني المفهوم المردد ـ لا وجود له في الخارج كما حقق في محله ، بل ليس الموجود الا كل فرد بنفسه وبذاته لا هو أو غيره ، وهناك قسم ثالث ، وهو المفاهيم المبهمة غير المتعينة والمحددة وغير المرددة بحسب

٢٢١

حقيقتها ، القابلة للانطباق على كل فرد محتمل ، فهي من حيث الصدق تتلاءم مع الترديد ، وهي ثابتة في الخارج وتكون نسبتها إلى الافراد نسبة الطبيعي إلى فرده ، ومن هنا لم تكن من المفاهيم المرددة ، إذ لا وجود لهذه في الخارج كما عرفت ، كما لم تكن من المفاهيم المبينة المعينة لإبهامها ، ويمكن الاستشهاد لوجود هذا النوع من المفاهيم بما ينتزع عن رؤيا الشبح من بعيد من صورة إجمالية مبهمة غير معينة قابلة للانطباق على كل فرد يحتمل ان يكون هو الشبح فان هذه الصورة ليست من المفاهيم المعينة كما لا يخفى ، كما انها ليست بالمفهوم المردد لثبوتها وجدانا وانطباقها على الخارج ضرورة وبلا كلام. فهي صورة مبهمة إجمالية. ثم انه لا يخفى أن دائرة الصدق تختلف سعة وضيقا باختلاف سعة الإبهام وضيقه ، فكلما زاد الإبهام وقلت جهات التعيين كانت دائرة الصدق أوسع وأشمل ، وكلما قل الإبهام بكثرة القيود المعينة كانت دائرة صدق المفهوم المبهم أضيق.

فالمدعى في باب العبادات : ان اللفظ موضوع إلى جامع محصله ، انه سنخ عمل مبهم من جميع الجهات الا من جهة كونه ناهيا عن الفحشاء ونحوه ، فيصدق اللفظ بذلك على جميع مراتب العمل القليل منها والكثير من حيث الاجزاء والشرائط. فانه مضافا إلى الالتجاء إلى الالتزام به من القائل بالوضع للصحيح ـ بعد عدم معقولية الجامع الحقيقي وعدم الوضع للجامع العنواني بما عرفت ـ ، هو المتبادر عرفا من لفظ الصلاة مثلا ، فانه إذا وقعت الصلاة في متعلق الأمر يتبادر منها عرفا تعلق الأمر بسنخ عمل مبهم قابل للانطباق على مراتب الصلاة وأنحائها.

كما انه ليس عديم النظير في العرفيات ، بل له في العرف نظير ، كلفظ الخمر. فان الخمر فيه جهات كجهة اللون ، وجهة المادة كاتخاذه من التمر أو العنب ، وجهة الرائحة وغيرها من الجهات التي يختلف افراد الخمر فيها. والمتبادر من لفظ الخمر عند إطلاقه هو سنخ مائع مسكر لا أكثر ، بحيث يكون من الجهات الخاصة مبهما ، فلذلك يقبل الانطباق على كل نحو من أنحاء الخمر وأصنافه.

٢٢٢

وبالجملة : فيمكن الالتزام بثبوت جامع للافراد الصحيحة لا يكون جامعا حقيقيا ولا عنوانيا ، وهو ان يلتزم بأنه سنخ عمل مبهم يعرّفه جهة نهيه عن الفحشاء ، وبذلك يقتصر في صدقه على خصوص الافراد الصحيحة ويكون جامعا لها بخصوصها دون الأعم كما ان نظيره لفظ الدار والكلمة فتدبر.

هذا توضيح ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره فيما يهم المقام وهو بظاهره لا إشكال فيه ولا محذور في الالتزام به (١).

وأما ما جاء في تقريرات بحث السيد الخوئي ( حفظه الله ) من الإيراد عليه :

أولا : من إنكار الإبهام في الماهيات الاعتبارية ، وان للصلاة حقيقة متعينة لدى مخترعها ، بل لا يعقل دخول الإبهام في تجوهر ذات الشيء فان الشيء في مرتبة ذاته متعين ، وانما الإبهام يكون بلحاظ الطواري الخارجية ، وعليه فالعمل المبهم لا يمكن ان يكون جامعا ذاتيا ، لعدم معقوليته ، ولا عنوانيا لما عرفت من نفيه.

وثانيا : من ان المقصود في تصوير الجامع تعيين المسمى المأخوذ في متعلق الأمر ، وظاهر عدم كون الجامع المزبور متعلقا للأمر ، وانما متعلق الأمر هو نفس الاجزاء المتقيدة ببعض القيود. ومن هنا كان المتبادر عرفا كمية من الاجزاء والشرائط المأخوذة في متعلق الأمر ، لا العمل المبهم الا من حيث كونه مطلوبا كما يدعيه المحقق الأصفهاني.

وثالثا : بان المقصود بالنهي عن الفحشاء المأخوذ في هذا الجامع ، ان كان هو النهي الفعلي توقف ذلك على قصد القربة في المسمى لدخالته في فعلية النهي عن الفحشاء ، ولا يلتزم بدخوله القائل لامتناع أخذه في متعلق الأمر. وان كان النهي الاقتضائي كان ذلك أعم من الصحيح والفاسد ، لأن العمل الفاسد بالنسبة إلى شخص فيه اقتضاء النهي عن الفحشاء ، بحيث لو صدر من أهله.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٣

كان مؤثرا فعلا (١).

ما جاء في التقريرات مما عرفت لا يرجع إلى محصل.

أما الأول : فقد عرفت وجود نحو ثالث من المفاهيم ليس من المفاهيم المقولية ولا العنوانية ، وهو مفهوم مركب ، ولا مجال لإنكاره بل نفس السيد الخوئي يلتزم بنظيره في الجامع الأعمي. وعليه فلا دوران بين الجامع الحقيقي والمقولي وبين الجامع العنواني ، بل هناك شق ثالث وهو الجامع المبهم ، وهو ينطبق على الافراد انطباق الكلي على الفرد ، نظير الصورة الناشئة من الشبح ، إذ ليست هي بصورة عنوانية ولا مقولية لعدم تميز الشبح كي يخترع له صورة كذلك.

واما الثاني : فقد اتضح الإشكال فيه إذ بعد فرض انطباق هذا الجامع على الافراد انطباق الكلي على الفرد ، واتحاده معها خارجا ، كان متعلق الأمر في الحقيقة هو الاجزاء والشرائط أما ما ذكره من كون المتبادر كمية من الاجزاء والشرائط لا العمل المبهم ، فهو عجيب إذ ما الفرق بين العمل المبهم وكمية من الاجزاء والشرائط ، كي ينكر تبادر الذهن إلى الأول ويثبت تبادره إلى الثاني؟!.

واما الثالث : فلان المأخوذ هو النهي اقتضاء لا فعلا ، لكن بنحو خاص ، وهو ما أشرنا إليه من ان الصحيح ما ترتب عليه الأثر لو انضم إليه قصد القربة ونحوه من الشرائط التي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر ، وعليه فينحصر هذا الجامع بخصوص افراد الصحيح ، لأن الفاسد لا يترتب عليه الأثر ولو انضم إليه قصد القربة وغيره ، فلاحظ ما تقدم يتضح لك الحال واما ما ذكره في ضمن كلامه من إشكال لزوم الترادف بين الصلاة والعمل المبهم. فيدفعه : ان المقصود بالعمل المبهم ليس هو مفهومه ، بل هذا العنوان أخذ مشيرا إلى امر واقعي مبهم ، وهو عدة اجزاء فصاعدا القابل للانطباق على الكثير والقليل.

وبالجملة : فلا نعرف فيما أفاده المحقق الأصفهاني وجها للإشكال ، فالمتعين الالتزام به.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٥٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٤

ومن الغريب ان المحقق النائيني يلتزم به في الجامع الأعمي ، ويدعي بنفس الوقت استحالة تصوير الجامع على القول بالصحيح ، مع انه يمكن تأتي نفس تصوير الأعمي على الصحيح بزيادة قيد يخص العمل المبهم بالصحيح (١).

ثم ان المحقق العراقي صور الجامع بتصوير آخر ، إلاّ انه صرح بأنه انما يلتزم به مع بعده عرفا ، باعتبار الضرورة وانحصار التصوير الصحيح به ـ لأجل انه لم يرتض تصويره بما ذكره المحقق الأصفهاني ـ وبما انه قد عرفت تصوير الجامع بنحو صحيح خال عن الإشكال وقريب عرفا ، فلا حاجة إذا للتعرض إلى ما ذكره المحقق العراقي بعد تصريحه نفسه بأنه كان من جهة الالتجاء. فتدبر (٢).

المقام الثاني : في ثبوت الجامع للأعم من الصحيح والفاسد ، وقد صور بوجوه ذكرها في الكفاية :

الوجه الأول : ما ينسب إلى المحقق القمي ، من كونه خصوص الأركان ، واما باقي الاجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به لا في المسمى ، بل المسمى خصوص الأركان (٣).

وناقشه في الكفاية بوجهين :

الأول : عدم اطراده وانعكاسه ، إذ لازمه عدم صدق الصلاة على فاقد ركن مع استجماعه لسائر الاجزاء والشرائط لعدم الموضوع له وهو مجموع الأركان ، وصدق الصلاة على فاقد جميع الاجزاء والشرائط سوى الأركان ، مع ان صدق الصلاة في الأول وعدم صدقه في الثاني مما لا ينكر عرفا.

الثاني : لزوم مجازية استعمال اللفظ في مجموع الاجزاء والشرائط ، لأن

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٨٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) المحقق القمي ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول ١ ـ ٤٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٥

اللفظ موضوع إلى خصوص الأركان فاستعماله في المجموع وإطلاقه على الواجد لجميع الاجزاء والشرائط استعمال للفظ الموضوع للجزء في الكل وهو مجاز (١).

وناقشه المحقق النائيني رحمه‌الله بما حاصله : ان الدعوى المذكورة تنحل إلى دعويين : إحداهما : الوضع للأركان. الثانية : عدم دخول سائر الاجزاء والشرائط في الموضوع له.

اما الدعوى الأولى فيردها : كون المراد بالأركان جميع مراتبها بحسب اختلاف الموارد من القادر والعاجز والغريق ونحوهم ، فلا بد على هذا من تصوير جامع للأركان بجميع مراتبها ليكون هو الموضوع له ، فيرجع الإشكال.

واما الدعوى الثانية فيردها : انه اما ان يلتزم بخروج سائر الاجزاء والشرائط مطلقا ودائما ، واما ان يلتزم بخروجها عند عدمها.

فالأوّل : ينافي الوضع للأعم وكون المسمى ما يصدق على الصحيح والفاسد ، إذ لازمه عدم صدق اللفظ على الصحيح.

والثاني : يلزمه ان يكون شيء واحد داخلا في الماهية عند وجوده وخارجا عنها عند عدمه. وهو محال (٢).

ومن مجموع ما ذكر يظهر وهن هذا الوجه لتصوير الجامع.

الوجه الثاني : ما ينسب إلى المشهور من كون الجامع والموضوع له هو معظم الاجزاء.

وأورد عليه صاحب الكفاية بوجهين :

الأول : ما أورده ثانيا على الوجه الأول ، من لزوم المجازية في استعمال اللفظ في الكل.

الثاني : ـ ما ذكرناه توضيحا لعبارة الكفاية ، إذ لم يتعرض للشق الأول ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤١ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٦

ولعله للمفروغيّة عن عدم الوضع له ولا ادعاء الوضع له ، وانما المنظور واقع المعظم. فلاحظ. ـ ان الموضوع له اما ان يكون مفهوم معظم الاجزاء أو واقعه. فان قيل انه المفهوم ، فيرده انه يستلزم الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ معظم الاجزاء ، وبطلانه واضح. وان قيل انه واقع المعظم وحقيقته ، فيرده ان معظم الاجزاء لا تعين له بكمية معينة من الاجزاء ، بل يختلف باختلاف الحالات والافراد ، وعليه فيلزم التبادل في الماهية والمسمى وان يكون شيء واحد داخلا فيه تارة وخارجا أخرى. بل يلزم التردد في تعيين الداخل والخارج عند اجتماع جميع الاجزاء والشرائط ، إذ لا معين لدخول أحدها دون الآخر ، فكل جزء يصلح ان يكون دخيلا في المعظم (١).

وبعين هذا الإيراد أورد المحقق النائيني على الوجه المذكور ، لكنه صحح كون الجامع هو المعظم بنحو آخر سنشير إليه فيما بعد إن شاء الله تعالى (٢).

الوجه الثالث : ان يلتزم بكون وضع ألفاظ العبادات كوضع الاعلام الشخصية كزيد ، فكما لا يضر في التسمية في باب الاعلام تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر والصحة والمرض والنوم واليقظة وغيرها ونقص بعض الاجزاء وزيادته ، بل يكون الاسم صادقا بنحو واحد في جميع هذه الأحوال ، كذلك الحال في ألفاظ العبادات فلا يضر في صدق الاسم اختلاف الحال وزيادة الاجزاء ونقصها.

وناقش فيه صاحب الكفاية بثبوت الفرق بين المقامين ، وان الموضوع له في باب الاعلام أمر معين محفوظ في جميع الحالات ، دون باب العبادات ، بيان ذلك : ان الموضوع له العلم هو الشخص ، ولا يخفى ان التشخيص يكون بالوجود الخاصّ ، فما دام الوجود باقيا كان الشخص باقيا وان تغيرت عوارض

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٧

الوجود من زيادة ونقصان وغيرهما من الحالات ، فالموضوع له وهو الشخص أمر ثابت محفوظ في جميع هذه الحالات ، صدق الاسم لصدق المسمى دائما ، وليس الأمر كذلك في ما نحن فيه ، لاختلاف المركبات بحسب الحالات فلا بد من ان يفرض ما يجمع الشتات كي يوضع اللفظ بإزائه ، وهو ما نحن بصدده الآن (١).

لكن الّذي يؤاخذ به صاحب الكفاية ، هو ان وضع العلم اما ان يكون بإزاء الوجود أو بإزاء الشخص ـ أعني العنوان المنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالوجود ـ فان كان الموضوع له هو الشخص ، فاما ان يكون مفهوم الشخص أو واقعه ومصداقه.

فالأوّل : ممنوع ، إذ لازمه الترادف بين لفظ « زيد » مثلا ومفهوم الشخص وفساده ظاهر.

والثاني ، يرده : أن الشخص اما ان تلحظ فيه عوارضه الخارجية بحيث كانت دخيلة في الموضوع له أو لا تلحظ ، بل كانت خارجة عنه.

فعلى الثاني : يلزم ان يكون صدق اللفظ على الشخص بخصوصيته مجازا لعدم وضع اللفظ له.

وعلى الأول : يسأل عن مقدار العوارض الملحوظة ونحوها ، وهل هي بعض معين كي يلزم عدم الصدق مع انتفائها أو غير معين ، بل الكل ، فما هو الجامع؟.

وان كان الموضوع له هو الوجود ، فلا بد من عدم إرادة الوجود المطلق غير الله تعالى شيء ، لأن الوجود المطلق هو الله تعالى ، بل المراد وجود شيء معين ، فيقع السؤال عن ذلك المضاف إليه الوجود ما هو؟ فهل هو المبهم الخاصّ ، فيلزم عدم الصدق مع نقصه أو تغير حاله ، أو الأعم ، فما هو؟ وما هو الجامع؟.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٢٨

وبالجملة : لا يظهر لما ذكره صاحب الكفاية محصل.

واما ما قيل : من ان الموضوع له العلم هو النّفس المتعلقة بالبدن ، وتشخص البدن ووحدته محفوظ بوحدة النّفس وتشخصها ، إذ المعتبر مع النّفس مطلق البدن ، بتقريب فلسفي ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية لا داعي إلى ذكره (١).

فهو لو تحقق في محله وبلحاظ القواعد الفلسفية لا يمكننا الالتزام به ، لأن ذلك المعنى مما لم تدركه افهام بعض الاعلام ـ كما يقول الأصفهاني ـ فكيف يلتفت إليه أقل العوام ذهنا ، لأن وضع الاعلام يصدر من العوام والجهلة. فلا بد ان يلتزم بكون الوضع فيها لمعنى مبهم الا من جهة امتيازه عن سائر المعاني ، وهي التشخص الخاصّ ، كما قرره المحقق الأصفهاني في الجامع الصحيحي.

الوجه الرابع : ان الموضوع له ابتداء هو الصحيح التام الواجد لجميع الاجزاء والشرائط ، إلاّ ان العرف يتسامحون ـ كما هو شأنهم ـ فيطلقون اللفظ على الفاقد تنزيلا له منزلة الواجد ، بل يمكن ان يدعى صيرورة اللفظ حقيقة فيه بالاستعمال دفعة أو دفعات للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في الأثر ، نظير أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لمركبات خاصة بحدود معينة ، فانه يصح إطلاقها على فاقد بعض الاجزاء مسامحة أو حقيقة للمشابهة أو المشاركة.

وقد ناقش صاحب الكفاية بمثل ما أوردنا به على اختيار المحقق النائيني في التزامه بالوضع للمرتبة العليا ، وحاصله : وجود الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فان الصحيح التام في أسماء المعاجين معلوم الحد والمقدار ، فيمكن الوضع بإزائه واستعمال اللفظ في الفاقد منه بلحاظه. وليس الصحيح في العبادات معلوم

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٤٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٩

الحد لاختلاف مراتب الصحة وافراد كل مرتبة بحسب اختلاف الحالات ، فلا بد من فرض جامع بينهما يوضع بإزائه اللفظ (١).

الوجه الخامس : ان يكون حالها حال أسماء المقادير والأوزان ، فانها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة ، اما بوضع الواضع أو بكثرة الاستعمال في الأعم.

والمناقشة فيه واضحة ، إذ الصحيح الّذي يحاول فرض لحاظ الزيادة والنقصان بالإضافة إليه يختلف في باب العبادات كما عرفت دون باب المقادير والأوزان.

وعلى كل ، فنفس التقريب والإيراد عليه واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

والّذي تلخص عدم تمامية الوجوه المذكورة لتصوير الجامع بين افراد الأعم.

وقد حاول السيد الخوئي ( دام ظله ) ان يصحح أخذ الأركان جامعا وان تكون هي الموضوع له ، فقد جاء في تقريرات الفياض بعد ذكر كلام المحقق القمي والمحقق النائيني وصاحب الكفاية ، ما نصه : « والصحيح هو ما أفاده المحقق القمي رحمه‌الله ، ولا يرد عليه شيء من هذه الإيرادات أما الإيراد الأول ـ يريد به الإيراد من المحقق النائيني باستلزامه أخذ الاجزاء الأخرى في الموضوع له عند وجودها ، وعدم أخذها عند عدمها ، باستلزامه لدخول شيء في الماهية تارة وخروجه عنها أخرى ـ ، فلان فيه خلطا بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية ، فان المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة ، ولكل واحد من الجزءين جهة افتقار بالإضافة إلى الآخر ، لا يعقل فيها تبديل الاجزاء بغيرها ، ولا الاختلاف فيها كما وكيفا ، ... فما ذكره قدس‌سره

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٣٠

تام في المركبات الحقيقة ولا مناص عنه ، واما المركبات الاعتبارية التي تتركب من امرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزءين جهة اتحاد حقيقة ولا افتقار ولا ارتباط ، بل ان كل واحد منهما موجود مستقل على حياله ومباين للآخر في التحصل والفعلية ، والوحدة العارضة عليهما اعتبارية لاستحالة التركب الحقيقي بين امرين أو أمور متحصلة بالفعل ، فلا يتم فيها ما أفاده قدس‌سره ، ولا مانع من كون شيء واحد داخلا فيها عند وجوده وخارجا عنها عند عدمه.

وقد مثلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ ال « دار » ، فانه موضوع لمعنى مركب ، وهو ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة ، وهي أجزاؤها الرئيسية ، ومقومة لصدق عنوانها ، فحينئذ ان كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهو من اجزائها وداخلة في مسمى لفظها وإلاّ فلا.

وبالجملة : فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ الدار معنى مركبا من اجزاء معينة خاصة ، وهي الحيطان والساحة والغرفة ، فهي أركانها ولم يلحظ فيها موادا معينة وشكلا خاصا من الإشكال الهندسية ، واما بالإضافة إلى الزائد عنها فهي مأخوذة لا بشرط ، بمعنى ان الزائد على تقدير وجوده داخل في المسمى ، وعلى تقدير عدمه خارج عنه ، فالموضوع له معنى وسيع يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد ...

وبتعبير آخر : ان المركبات الاعتبارية على نحوين : أحدهما : ما لوحظ فيه كثرة معينة من جانب القلة والكثرة ، وله حد خاص من الطرفين كالأعداد ، فان الخمسة ـ مثلا ـ مركبة من أعداد معينة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة. وثانيهما : ما لوحظ فيه اجزاء معينة من جانب القلة فقط وله حد خاص من هذا الطرف ، واما من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد أخذ لا بشرط ، وذلك مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك ، فان فيها ما أخذ مقوما للمركب ، وما أخذ المركب بالإضافة إليه لا بشرط ، ومن الظاهر ان اعتبار

٢٣١

اللابشرطية في المعنى كما يمكن ان يكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن ان يكون باعتبار دخول الزائد في المركب ، كما انه لا مانع من ان يكون المقوم للأمر الاعتباري أحد أمور على سبيل البدل. وقد مثلنا لذلك في الدورة السالفة بلفظ الحلوى ، فانه موضوع للمركب المطبوخ من سكر وغيره ، سواء كان ذلك الغير دقيق أرز أو حنطة أو غير ذلك.

ولما كانت ال « صلاة » من الأمور الاعتبارية فانك عرفت انها مركبة من مقولات متعددة ، كمقولة الوضع ومقولة الكيف ونحوها ، وقد برهن في محله ان المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة ، لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين ، بل لا يمكن بين افراد مقولة واحدة فما ظنك بالمقولات ، فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعدا. والوجه في ذلك : هو ان معنى كل مركب اعتباري لا بد ان يعرف من قبل مخترعه سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره ، وعليه فقد استفدنا من النصوص الكثيرة ان حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها وجودا وعدما ، عبارة عن التكبير والركوع والسجود والطهارة من الحدث ، على ما سنتكلم به عن قريب إن شاء الله تعالى. واما بقية الاجزاء والشرائط ، فهي عند وجودها داخلة في المسمى وعند عدمها خارجة عنه وغير مضر بصدقة ، وهذا معنى كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى الزائد. وقد عرفت انه لا مانع من الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية ، وكم له من نظير. وان شئت فقل : ان المركبات الاعتبارية أمرها سعة وضيقا بيد معتبرها ، فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أمور بشرط لا كما في الاعداد. وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد كما هو الحال في كثير من تلك المركبات ، فالصلاة من هذا القبيل فانها موضوعة للأركان فصاعدا ، ومما يدل على ذلك هو ان إطلاقها على جميع مراتبها المختلفة كما وكيفا على نسق واحد بلا لحاظ عناية

٢٣٢

في شيء منها ، فلو كانت الصلاة موضوعة للأركان بشرط لا لم يصح إطلاقها على الواجد لتمام الاجزاء والشرائط بلا عناية ، مع انا نرى وجدانا عدم الفرق بين إطلاقها على الواجد وإطلاقها على الفاقد. وقد تلخص من ذلك : ان دخول شيء واحد في ماهية مركبة مرة وخروجه عنها مرة أخرى ، انما يكون مستحيلا في الماهيات الحقيقية دون المركبات الاعتبارية. وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضا يريد به الإيراد على القائل ـ وهو المحقق النائيني ـ بالحاجة إلى جامع الأركان بخصوصها ـ ، فان لفظ ال « صلاة » موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كما وكيفا ، وله عرض عريض فباعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو واحد ، كصدق كلمة « الدار » على جميع افرادها المختلفة زيادة ونقيصة كما وكيفا ، إذا لا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال. وبتعبير واضح : ان الأركان وان كانت تختلف باختلاف حالات المكلفين كما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ إلاّ انه لا يضر بما ذكرناه من أنّ لفظ الصلاة موضوع بإزاء الأركان بعرضها العريض ، ولا يوجب علينا تصوير جامع بين مراتبها المتفاوتة ، فانه موضوع لها كذلك على سبيل البدل ، وقد عرفت انه لا مانع من ان يكون مقوم المركب الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل ... فما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية » (١).

والكلام معه في نقطتين :

إحداهما : ما التزم به من جواز فرض بعض الاجزاء دخيلا في المسمى حال وجوده وغير دخيل حال عدمه. فانه عجيب. وذلك لأنه يقتضي ان الوضع انما يتحقق لسائر الاجزاء ، وأن العلقة بينها وبين اللفظ انما تحدث بعد وجودها ،

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٥٩ ـ ١٦٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٣٣

لأنها انما تكون جزء المسمى والموضوع له بعد وجودها ، ولا يلتزم بذلك ـ أعني كون حدوث العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى حال وجوده خارجا ـ أحد حتى القائل المزبور ، لأن العلقة بين اللفظ وطبيعي المعنى ، سواء وجد أم لم يوجد ، بل سواء أمكن وجوده أم لم يمكن. ولا يفترق الحال في ذلك بين المركبات الاعتبارية وغيرها. هذا مع انه خلاف ما صرح به في بعض الموارد من عدم الوضع للموجود بما هو موجود ، بل للمفهوم والطبيعي.

ثانيتهما : ما التزم به من عدم لزوم فرض جامع بين الأركان ، لجواز كون مقوم الأمر الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل. فانه بظاهره غريب جدا ، لأن الفرد على البدل مفهوما غير مراد لهذا القائل جزما ، إذ لا ترادف بين معنى اللفظ ومفهوم أحدهما على البدل ، والفرد على البدل مصداقا لا وجود له ولا تقرر حتى يكون مقوما [ للمسمى ] للمركب وموضوعا له اللفظ. فيمتنع ان يكون المسمى هو أحدها على البدل ، إذ لا وجود له ، فلا ينطبق على الافراد الخارجية المفروض صدق اللفظ عليها.

نعم لو كان المقصود ـ ما لا يظهر منه ـ ان المسمى معنى جامع بين سائر الأركان وسائر الاجزاء ، بحيث يصدق على الافراد المتبادلة بنحو البدل ، لا انه أحد هذه الافراد على البدل ، كان وجيها لكنه يرجع إلى ما التزم به المحقق الأصفهاني من كون الجامع معنى مبهم قابل للصدق على القليل والكثير ، ووافقه عليه المحقق النائيني فيرد عليه :

أولا : أنه لا يصلح إيرادا على المحقق النائيني لتوافقهما في المدعى.

وثانيا : إنّ عليه ان يلتزم بمثله في الافراد الصحيحة ، لأنه نفاه بدعوى انحصار الجامع في الجامع المقولي والعنواني. والأول غير معقول. والثاني لم يوضع له اللفظ جزما ، فيرد عليه مثله هاهنا ، فإذا فرض انه تصور هاهنا نحو ثالث للجامع ، وهو الجامع المبهم ألزم به في الصحيح ، ومما ذكرنا يظهر : ان ما أورده من

٢٣٤

الأمثلة كلفظ الدار والكلام والحلوى وانها موضوعة لمعنى معين أخذ لا بشرط بمعنى دخول غيره في المسمى لو وجد غير وجيه ، لأن الكلام في هذه الموارد ونظائرها عين الكلام في الصلاة ، ولا نلتزم بان الموضوع له فيها معنى معين أخذ لا بشرط بالمعنى الّذي يذكره لهذا الاصطلاح ، بل الموضوع له فيها معنى مبهم من جميع الجهات الا بعضها قابل للانطباق على الكثير والقليل.

واما ما ساقه دليلا على كون الموضوع له الأركان من النص الدال على ان الصلاة ثلاثة أثلاث ، ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود ، بضميمة ما دل على تقوم الصلاة بالتكبير ، فهو مما لا يمكن الالتزام به لوجوه :

الأول : ان تصدي الإمام عليه‌السلام لبيان الموضوع له لفظ الصلاة بعد مدة طويلة من ظهور الإسلام ، وإيجاب الصلاة على المسلمين ، وخلوّ سائر النصوص عن ذلك ، مما لا نتصور له أثرا عمليا ، فلو نسلم ظهوره في ذلك فلا بد من صرفه إلى جهة أخرى.

الثاني : ان ظهور كلام المعصوم عليه‌السلام في كون بصدد التشريع ، ينافي حمله على بيان الموضوع له لفظ الصلاة ، إذ لا يترتب على هذه الثلاثة بمجموعها أي حكم شرعي.

الثالث : منافاة هذا النص للنصوص الظاهرة في مغايرة الطهارة للصلاة ، كالنصوص الدالة على انه إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور ، فانه لا يصح هذا العطف لو كان الطهور جزءا للصلاة ، فانه نظير ان يقال : يجب الركوع ، والصلاة.

الرابع : انه لو كان مفاد النصّ : ان الصلاة عبارة عن الطهور والركوع والسّجود حقيقة ، كان ذلك منافيا ـ لا محالة ـ لدخالة التكبير فيها. فإذا وجد ما يدل على دخالة التكبير فيها كان ذلك مصادما لظهور النص في التثليث مباشرة ، فانه ـ حينئذ ـ لا تكون الصلاة ثلاثة أثلاث ، بل أربعة أرباع

٢٣٥

.. فيعلم منه : عدم إرادة المعنى المذكور من النصّ ، وأنّه لا بد من حمله على بيان أهمية الأمور الثلاثة في الصّلاة ، وكونها العمدة من اجزائه ، فكأنّها هي هي. فتدبر.

وبعد هذا كله يتضح انه لا يمكن تصوير الجامع بنحو يكون معقولا وخاليا عن المحذور ثبوتا وإثباتا ، الا ما التزم به المحقق الأصفهاني ووافقه عليه المحقق النائيني ، من كونه سنخ عمل مبهم الا من بعض الجهات ، وهو قابل للانطباق على الكثير والقليل ، وتكون نسبته إلى الافراد نسبة الكلي إلى افراده والطبيعي إلى مصاديقه ، وقد مر توضيحه في المقام الأول فلا نعيد.

الأمر الرابع : في بيان الثمرة العملية لهذا النزاع. وقد ذكر له ثمرات عديدة.

منها : إمكان التمسك بالإطلاق على القول بالأعم ، وعدم إمكانه على القول بالصحيح. بيان ذلك : ان شرط التمسك بإطلاق اللفظ في مورد الشك هو إحراز صدق اللفظ بمعناه على المورد المشكوك فيه ، بحيث يكون الشك في أخذ خصوصية زائدة على أصل المعنى في موضوع الحكم المانع من ثبوت الحكم للفرد المشكوك فيه ، فيتمسك بإطلاق اللفظ في نفي الخصوصية ، ويثبت الحكم لمورد الشك ، نظير ما لو ورد : « أكرم العالم » وشك في ثبوت الحكم للعالم النحوي للشك في أخذ العالم الفقيه في موضوعه ، جاز التمسك بإطلاق « العالم » لنفي أخذ الخصوصية ، فيثبت الحكم للنحوي المحرز كونه عالما.

أما مع عدم إحراز صدق اللفظ بمعناه على الفرد المشكوك فلا وجه للتمسك بالإطلاق في إثبات الحكم له ، إذ ليس الشك في خصوصية زائدة كي تنفي بالإطلاق ، بل الخصوصية المشكوك فيها على تقدير دخلها ، فهي مقومة لمعنى المطلق وثبوته في الفرد المشكوك فيه ، فلو تمسك بالإطلاق وأثبت ان المراد هو المعنى المطلق غير المقيد ، لم يثبت بذلك ثبوت الحكم للفرد المشكوك فيه ، إذ لا يعلم انه من أفراد المطلق أصلا.

٢٣٦

وبعد هذا نقول : انه لما لم يكن صدق العنوان المطلق على الفرد المشكوك فيه ، مع الشك في اعتبار جزء أو شرط محرزا على القول بالوضع للصحيح ، لأن كل ما يفرض دخله في المأمور به فهو دخيل في المسمى ، فالشك في اعتبار جزء مساوق للشك في تحقق المسمى بدونه ، إذ على تقدير اعتباره واقعا يكون دخيلا في المسمى. فلا يجدي التمسك بالإطلاق عند الشك في اعتبار جزء أو شرط في المأمور به ، إذ نفي اعتباره لا يجدي في ثبوت الحكم للمشكوك فيه للشك في صدق عنوان المطلق عليه ، فشرط التمسك بالإطلاق غير محرز على القول الصحيحي ، وهو إحراز صدق المطلق على المشكوك فيه ، فليمكن التمسك به. وهذا بخلاف القول بالوضع للأعم ، إذ صدق اللفظ على المشكوك فيه مع التمسك في اعتبار جزء محرز ، إذ المفروض انه يصدق على الأعم من الصحيح والفاسد فعلى تقدير دخالة الجزء المشكوك فيه واقعا في المأمور به كان العنوان صادقا على فاقده بلا كلام. فالتمسك بالإطلاق في نفي الخصوصية الزائدة المشكوك فيها يجدي في إثبات الحكم للمشكوك فيه ، لأنه من أفراد المطلق على كل حال ، كانت الخصوصية ثابتة واقعا أو لم تكن. نعم ينبغي ان يكون الجزء المشكوك فيه مما لا يكون مقوما للموضوع له حتى على القول بالأعم ـ كما لو كان المشكوك فيه على تقدير دخالته ركنا للصلاة ، فانه دخيل في المسمى على القول بالوضع للأركان ـ ، وإلا تساوى القولان الأعمي والصحيحي في عدم إمكان التمسك بالإطلاق.

ثم ان ما ذكرناه لا يعني فعلية التمسك بالإطلاق عند الشك على القول الأعمي ، بل هو لا يقتضي إلاّ قابلية المورد للتمسك بالإطلاق ، فإذا تمت مقدمات التمسك به من كون المتكلم في مقام البيان وعدم البيان ، صح التمسك به فعلا.

وعليه ، فلا وجه للإيراد على هذه الثمرة ونفيها ، بأنه لا يتمسك بالإطلاق ، سواء قلنا بالأعم أم بالصحيح ، لعدم وجود مورد من موارد استعمال اللفظ يكون المولى فيه في مقام البيان ، فلا يصح التمسك بالإطلاق حتى على القول بالأعم

٢٣٧

لاشتراط كون المتكلم في مقام البيان في صحة التمسك بالإطلاق.

أو بما يقرره المحقق العراقي : بان النصوص الواردة بين ما ليس في مقام البيان وما هو في مقام بيان الاجزاء والشرائط ببيانها بخصوصياتها. فالأوّل لا يصح التمسك بإطلاقه حتى على القول بالأعم ، والثاني يصح التمسك بإطلاقه حتى على القول بالصحيح ، لأنه إذا علم ان المولى في مقام بيان ما هو دخيل في المأمور به فسكوته عن المشكوك فيه دليل على عدم إرادته ، إذ إرادته وعدم بيانه خلف فرض كونه في مقام بيان جميع ما له الدخل (١).

وجه عدم توجه الإيراد : ما أشرنا إليه من ان المفروض في الثمرة إمكان التمسك بالإطلاق ، لا فعليته ، فعدم فعلية التمسك لعدم تمامية بعض مقدمات الحكمة لا ينفي إمكان التمسك وقابلية المورد في نفسه ـ لا فعلا ـ للتمسك بالإطلاق فيه. واما ما ذكره المحقق العراقي من إمكان التمسك بالإطلاق على الصحيح في مورد بيان الاجزاء والشرائط ، فهو لا ينفي ما ذكرناه ، إذ الثمرة هي عدم إمكان التمسك بالإطلاق اللفظي على الصحيح ، وما يتمسك به في نفى دخالة المشكوك في المورد المفروض هو الإطلاق المقامي وهو غير المنفي.

نعم الإيراد المزبور صالح لنفي عملية الثمرة وكونها علمية محضة ، لا نفى أصل الثمرة فلاحظ.

ثم ان هناك وجها آخر ذكر لنفي الثمرة المزبورة ، بيانه :

ان اللفظ وان كان ينطبق على الصحيح والفاسد على القول بالوضع للأعم ، إلاّ ان المأمور به خصوص الصحيح ، ومعه لا يصح التمسك بالإطلاق على هذا القول عند الشك ، وذلك : لأن تقييد المراد الجدي كتقييد المراد الاستعمالي ، وظهور اللفظ مانع من التمسك بالمطلق مع الشك في دخوله في المقيد

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٩٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٣٨

أو غيره ، فكما انه إذا قيد المراد الاستعمالي بالصحيح وقيل : « ائت بالصلاة الصحيحة » وشك في دخالة جزء في المأمور به يمتنع التمسك بالإطلاق ، لعدم إحراز كون الفاقد صحيحا ، لأن الجزء على تقدير اعتباره دخيل في الصحة كما لا يخفى ، فلا يحرز صدق المطلق على المشكوك فيه ، كذلك إذا قيد المراد الجدي دون المراد الاستعمالي ، بان كان اللفظ مطلقا ، لكن قيد المراد الحقيقي منه بخصوص الصحيح ، وعلم انه لا يراد منه غير الصحيح. فمع الشك في اعتبار جزء لا يصح التمسك بالإطلاق ، لأنه انما يتمسك به في المورد الّذي يحرز كون المراد الجدي على طبقه ، والمفروض انه لا يعلم كون المراد الجدي على طبق المطلق الا في خصوص الصحيح ، فلا بد من إحراز كون الفرد المشكوك فيه صحيحا كي يتمسك بإطلاق اللفظ فيه ، والفرض انه لا يحرز صدق الصحيح على الفاقد للجزء المشكوك اعتباره ، فلا يصح التمسك بالإطلاق.

وعليه ، فنحن نعلم بحكم العقل ان المأمور به ليس إلاّ الفرد الصحيح وان كان اللفظ في لسان الدليل أعم من الصحيح والفاسد ، إذ الشارع لا يأمر بالفاسد ، فلا يسعنا ـ مع هذا ـ التمسك بإطلاق اللفظ عند الشك في اعتبار جزء أو شرط بالتقريب الّذي ذكرناه.

وبكلمة واحدة : يكون التمسك بالإطلاق في مورد الشك بعد إحراز تقييده بالصحيح من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية وهو ممنوع.

وقد اختلف كلمات الاعلام في الإجابة عن هذا الإيراد وقد قيل في رده وجوه :

الأول : انه لا مانع من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية ، إذا كان المقيد لبيا لا لفظيا.

وهو غير وجيه ، إذ التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية في المقيد اللبي لا يلتزم به الا بعض قليل من الاعلام ، والمفروض ان المشهور يتمسكون

٢٣٩

بالإطلاق في مورد الشك ، وهو ينافي التزام الأكثر بعدم جواز التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية. فلا بد من جواب آخر.

الثاني : ـ وهو ما جاء في تقريرات بحث العراقي ـ ان الصحة على الصحيح قيد من قيود المعنى المأمور به ، فهي دخيلة في قوام المعنى ، ولهذا لا يصح التمسك بالإطلاق. واما على الأعم فهي غير دخيلة في قوام المعنى المأمور به ، وانما تعلق الأمر بشيء مشروط بأمور أخرى ، فإذا أتى المكلف بالمأمور به على وجهه المعين له شرعا ينتزع العقل من المأتي به انه صحيح لمطابقته للمأمور به ، فالصحة على الصحيح متقدمة رتبة على الأمر ، وعلى الأعم متأخرة رتبة على الأمر ، وفي مثله يصح التمسك بالإطلاق لتقدم موضوعه.

وأورد عليه في التقريرات : بان الصحة على الصحيح لم تؤخذ قيدا للموضوع له أو للمستعمل فيه ، لا على نحو دخول القيد والتقييد ولا على نحو دخول التقييد فقط ، بل الموضوع له أو المستعمل فيه هي الحصة المقارنة للصحة ، والمأمور به على الأعم أيضا تلك الحصة ، لاستحالة الأمر بالفاسد واستحالة الإهمال في متعلق إرادة الطالب. فلا فرق في متعلق الأمر بين القول بالصحيح والقول بالأعم إلاّ بالوضع لخصوص الحصة المقارنة للصحة على الأول ، وعدم الوضع لخصوصها على الثاني ، وفي مثل هذا الفرق لا أثر له في جواز التمسك بالإطلاق وعدمه (١).

الثالث : ما ذكره الشيخ في الرسائل ، وسيأتي بيانه.

والتحقيق ان يقال : ـ بعد فرض كون المراد بالصحّة ترتب الأثر كما تقدم دون غيرها من المعاني ـ ان ما ذكر من مانعية تقييد المراد الجدي عن التمسك بالمطلق في مورد الشك مسلم. كمانعية تقييد المراد الاستعمالي ، ولا كلام فيه لما

__________________

(١) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ١٣٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٤٠