منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الأمر الثاني : في معنى الصحة وتحديد موضوع النزاع والبحث.

اتفق الكل على ان معنى الصحة هو التمامية ، إلاّ انه وقع الكلام في جهات :

الأولى : انه هل للتمامية واقع مستقل غير ما ذكر من الآثار كموافقة الأمر وإسقاط القضاء والإعادة ، أو انها أمر ينتزع عن مقام ترتب الأثر؟. وبعبارة أخرى : ان موافقة الأمر ونحوها من الآثار هل هي من لوازم التمامية وآثارها ، أم انها من مقومات معناها؟. ذهب صاحب الكفاية إلى ان هذه الآثار لوازم التمامية ومن آثارها ، وان تفسير الصحة في كلام الفقهاء بإسقاط الإعادة والقضاء ، وفي كلام المتكلمين بموافقة الأمر ، تفسير لها بلوازمها وآثارها التي هي محط النّظر ، وان ذلك لا يكون دليلا على ان للصحة معنى غير التمامية (١). وظاهر كلامه في مبحث دلالة النهي على الفساد ، ان اتصاف العمل بالتمامية انما هو بلحاظ ترتب الأثر (٢).

وذهب المحقق الأصفهاني إلى الثاني ، فادعى ان مثل موافقة الأمر وإسقاط الإعادة من مقومات التمامية حيث انه لا واقع للتمامية الا التمامية من حيث موافقة الأمر أو إسقاط الإعادة والقضاء أو ترتب الأثر المرغوب ، فالتمامية متقومة بهذه الحيثية المضافة إلى الأثر ، ولا يخفى انه يمتنع ان يكون الأثر حينئذ من لوازم التمامية ، لأن ما يكون من مقومات الشيء لا يكون من لوازمه وآثاره ، لأن نسبة اللازم إلى الملزوم والأثر إلى المؤثر نسبة المعلول إلى العلة ، وهو خلف فرض كونه مقوما للشيء.

ثم انه تعرض في حاشية له على المقام لبيان الفرق بين لازم الماهية ولازم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٠١

الوجود ، ولما لم يكن ذا علاقة ماسة بما نحن فيه أهملنا ذكره (١).

وقد ذهب السيد الخوئي إلى ان للتمامية واقعا مع قطع النّظر عن هذه الآثار (٢) ، وهي التمامية بمعنى جامعية الاجزاء والشرائط فانها بهذا المعنى لا تتقوم بشيء من الآثار ، بل لها وجود في ذاتها. واما موافقة الأمر وإسقاط الإعادة والقضاء وغيرهما من الآثار ، فهي من لوازم التمامية بهذا المعنى وآثارها. وادعى ان ما ذكره المحقق الأصفهاني ناشئ من الخلط بين تمامية الشيء في نفسه المراد بها جامعيته للاجزاء والشرائط. وتماميته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء فانه لا واقع لهذه التمامية مع قطع النّظر عن هذه الآثار واللوازم ، بل كونه تاما في مقام الامتثال والاجزاء لا يعنى به الا كونه مسقطا للإعادة والقضاء وموافقا للأمر. أو من الخلط بين واقع التمامية وعنوانها ، فان عنوان التمامية عنوان انتزاعي ينتزع عن الشيء بلحاظ اثره ، فحيثية ترتب الآثار متممات حقيقة هذا العنوان. ولكنه خارج عن محل الكلام ، فان كلمة « الصلاة » مثلا لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورة ، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه وهو الاجزاء والشرائط ، ومن الظاهر ان

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) أشرنا في التحقيق الوارد في ذيل الكلام : انه استجماع الاجزاء والشرائط ، لا واقع له الا ملاحظة جهة واحدة ، بالإضافة إليها يقال انه تام أو ناقص ، وإلا فلا وجه لأن يقال عن الركعة الواحدة انها مركب ناقص ، وإذا لم تكن جهة الوحدة هي الأثر ، أو موافقة الأمر كما هو الفرض ، فلا بد ان تكون هي التسمية ، بان يلاحظ تسمية مجموعة من الاجزاء والشرائط باسم الصلاة مثلا. ولا يمكن ان يراد ذلك في المقام ، إذ لا معنى ، لأن البحث عما هو الموضوع له وما هو المسمى باسم الصلاة ، ولا معنى لأن يقال ان الموضوع له لفظ الصلاة هو التام بلحاظ اسم الصلاة ، بل لا مجال للنزاع حينئذ.

وبتقرير آخر : نقول ان الجزئية تنتزع عن ملاحظة الجزء مع غيره أمرا واحدا. فإذا كانت جهة الوحدة هي التسمية باسم واحد ، كان الجزء جزء المسمى ، ولا معنى للكلام في الوضع حينئذ.

هذا مع ان النقصان والتمامية في الاجزاء لا يستلزم مطلقا صدق الفساد والصحة ، فليس الجسم الناقص فاسدا ، إذ الفساد يصدق بلحاظ عدم ترتب الأثر ، فالفساد أخص من النقصان. والكلام هاهنا في الصحة في مقابل الفساد لا مقابل النقصان.

٢٠٢

حيثية ترتب الآثار ليست من متممات حقيقة تمامية هذه الاجزاء والشرائط. هذا بيان ما ذكره السيد الخوئي إيرادا على أستاذه الأصفهاني بعبارة تقريرات الفياض تقريبا (١).

والتحقيق في المقام : ان الجزئية والشرطية ليس لهما واقع ، وانما هما ينتزعان عن الشيء بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الأمور المتكثرة واحدا بالإضافة إليه والتي ينتزع لها عنوان المركب ، كالأثر التكويني أو إسقاط القضاء أو الأمر. فالركوع مثلا بنفسه وبلحاظه ، ذاته لا يعد جزءا ، بل هو فعل تام مستقل ، وانما يعد جزءا بلحاظ دخله في حصول المأمور به ومتعلق الأمر ، فهو جزء المأمور به ، فجهة تعلق الأمر الواحد بالأمور المتكثرة دفعة واحدة ملحوظة في انتزاع الجزئية ولولاها لما كان جزءا ، أو بلحاظ دخله في حصول الأثر كالنهي عن الفحشاء فهو جزء المؤثر ، أو بلحاظ دخله في ترتب سقوط القضاء ، فهو جزء ما يترتب عليه إسقاط القضاء والمؤثر فيه. وهكذا لو وضع لفظ « زيد » مثلا للذات وامر خارج عن حقيقتها ، فان عد ذلك الأمر جزءا انما يكون بلحاظ مقام التسمية ودخله في المسمى بلفظ « زيد ». وإذا ثبت ان الجزئية والشرطية تنتزع عن الشيء بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الوحدة بالإضافة إليه ، لم يكن للتمامية من حيث استجماع الاجزاء والشرائط تحقق في عرض التمامية بلحاظ ترتب الأثر وموافقة الأمر وإسقاط القضاء ونحو ذلك ، لأن انتزاع الاجزاء والشرائط انما يكون بلحاظ أحد هذه الأمور ، فتكون التمامية من حيثية اجتماع الاجزاء والشرائط في طول التمامية بلحاظ أحد هذه الأمور ، فلا وجه لجعلها في عرضها والبحث عن إرادة أيها ، كما وقع في كلام المحققين الأصفهاني والخوئي.

وبعد ذلك نقول : ان التمامية أمر إضافي يختلف باختلاف الجهة الملحوظة في الشيء ، فلا يكون الشيء تاما وناقصا في نفسه وبلا لحاظ أي جهة خارجية

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٣

أصلا ، من ترتب أثر أو حصول شيء منطبق على المركب كالمأمور به والمسمى ونحو ذلك. فلا يقال للصلاة ذات الركعة انها ناقصة بلحاظ ذاتها وبلا لحاظ أي شيء ، إذ هي وجود مستقل ، غاية الأمر انه غير وجود الصلاة ذات الركعتين ، وانما يقال لها انها ناقصة بلحاظ عدم حصول الأثر المترقب منها ، لعدم اجتماع جميع ما له الدخل في حصوله. أو بلحاظ عدم حصول المأمور به ومتعلق الأمر المترتب على الركعتين مثلا وهكذا.

وعليه ، فالتمامية لا يتصف بها الشيء في نفسه أصلا ، بل اتصاف الشيء بها وبالنقصان انما هو بلحاظ جهة خارجية عن الشيء يترقب حصولها من الشيء ، أو تكون ملحوظة في مقام لحاظ الوحدة والتركيب.

وأما الصحة ، فهي نحو من أنحاء التمامية ، لا التمامية بقول مطلق ، وهو التمامية من حيث ترتب الأثر المترقب لا من حيثية أخرى ، لوضوح عدم صدق الفاسد على ناقص بعض الأجزاء بلحاظ شيء أجنبي عن ترتب الأثر المترقب مع حصول الأثر ، بل يصدق عليه الصحيح بلحاظ تاميته من حيث ترتب الأثر المترقب ، وان صدق عليه النقصان من حيثية أخرى وهي حيثية الحكم أو غيرها.

وبهذا البيان يظهر ما في كلام السيد الخوئي من الضعف وعدم الوضوح. إذ اتضح تقوم التمامية بالحيثيّات المزبورة وكونها من مقومات معناها. كما يظهر ما في إطلاق الكل بان الصحة هي التمامية ، فانك عرفت ان الصحة ليست هي التمامية بقول مطلق بل التمامية من حيث ترتب الأثر المرغوب والمترقب.

والمحصل : ان هناك جهة إشكال في كلام الأصفهاني والخوئي وهي فرض التمامية من حيث استجماع الاجزاء والشرائط في عرض التمامية من الحيثيات الأخرى ، وجهة مختصة في كلام السيد الخوئي ، وهي فرض التمامية للشيء في نفسه بلا لحاظ أنّه جهة خارجية ، وجهة عامة في كلام الكل ، وهي فرض الصحة بمعنى التمامية بقول مطلق فلاحظ.

٢٠٤

ويقع الكلام بعد ذلك في الجهة الثانية : وموضوع البحث فيها تشخيص الملحوظ من افراد التمامية في معنى الصحة المأخوذة في موضوع البحث في المسألة ، وانه هل التمامية من حيث موافقة الأمر ، أو التمامية من حيث إسقاط الإعادة والقضاء ، أو التمامية من حيث ترتب الأثر التكويني ، وهو النهي عن الفحشاء ـ مثلا ـ؟.

والتحقيق : عدم إمكان إرادة الصحة بمعنى التمامية من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث إسقاط الإعادة والقضاء ، وعدم كونها من إحدى هاتين الحيثيتين محلا للبحث.

وذلك لأن الشيء لا يتصف بموافقة الأمر أو إسقاط القضاء الا بعد تعلق الأمر. فلا يمكن الالتزام بان اللفظ موضوع للشيء الصحيح من حيثية موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ، لأن المفروض أخذ المسمى في موضوع الأمر ، ويمتنع أخذ الشيء بما انه موافق للأمر في موضوع الأمر فانه خلف كما لا يخفى ، فلا بد ان يفرض المسمى مما يمكن أخذه في حيز الأمر ومما يمكن فرضه في مرتبة متقدمة عليه ، وهو غير الصحيح من إحدى الحيثيتين المزبورتين.

وعليه ، فيتعين ان يكون موضوع الكلام ومحل البحث هو الصحيح بمعنى التمام من حيث ترتب الأثر ، وانّ الموضوع له هو الصحيح بهذا المعنى أو الأعم ، إذ لا محذور فيه سوى ما يتوهم من انه يلزم أخذ ما هو خارج عن الذات فيها ، وذلك لأن الصحيح بهذا المعنى انما ينتزع عن الشيء بلحاظ ترتب الأثر عليه ، فالأثر خارج عن ذات الشيء لأنه بمنزلة المعلول لها ، وظاهر خروج المعلول عن العلة.

وعليه ، فأخذه في المسمى ولو بلحاظ تقيده ودخل التقيد به وان كان نفس القيد خارجا يلزم أخذه في الذات ، وهو خلف فرض خروجه عن ذات المؤثر.

وهو مندفع : بان خروج الأثر عن حقيقة المؤثر وتأخره رتبة عن وجود

٢٠٥

المؤثر ، لا يمنع من إمكان دخله في المسمى واعتباره في التسمية ، بان يوضع اللفظ للفعل القائم به الأثر والمترتب عليه ، إذ لا يلزم من ذلك فرض دخله في حقيقة المؤثر كي يكون خلفا.

وبعبارة أخرى : ان الخروج عن الذات والتأخر الرتبي عن المؤثر ، انما هو في مقام الوجود والتحقق ، وهو أجنبي عن مقام التسمية. فلا يمتنع ان يوضع للأثر والمؤثر لفظ واحد مع الاحتفاظ بما لكل منهما من مرتبة ووجود. لأن الدخل في المسمى لا يوجب الدخل في الذات. كما هو شأن كل لفظ موضوع لمركب ، فان كل جزء دخيل في المسمى لكنه ليس دخيلا في حقيقة الجزء الآخر كما لا يخفى. فلاحظ.

وبالجملة : الصحيح هو ملاحظة التمامية بالإضافة إلى الأثر.

ولا يخفى انه تارة يفرض كون الصحيح هو ما يترتب عليه الأثر بالفعل. وبعبارة أخرى : ما هو المؤثر ، وفي مثله لا يمكن فرض الأثر من لوازم الصحة ، بل من مقوماتها نظير المبدأ الملحوظ في إطلاق المشتق على الذات. وأخرى يكون بمعنى الحصة الملازمة لترتب الأثر ، يعني بلوغ المركب حدا يترتب عليه الأثر ، كما هو الحال في العلة التامة فان بلوغ العلة التامة بمعنى بلوغ العلة حدا يترتب عليه المعلول ، وفي مثله يصح ان يقال : ان المعلول من لوازم العلة وآثارها ، في الوقت الّذي يكون الاتصاف بالتمامية بلحاظ المعلول.

وبالجملة : تارة يراد بالصحيح ما هو المؤثر ، وأخرى يراد به وصوله إلى حد يترتب عليه الأثر. ففي الأول يكون الأثر مقوما لصدق الصحة بخلافه في الثاني فان الأثر من لوازم الصحة ، لأن الصحة منتزعة عن ذات المؤثر لا عن ترتب الأثر عليه فعلا. وبذلك ويمكن الجمع بين ما أفاده في الكفاية هنا من ان إسقاط القضاء ونحوه من لوازم التمامية ، وبين ما ذكره في مبحث دلالة النهي على الفساد من كون التمامية بلحاظ الأثر. إذ عرفت إمكان الجمع ، فلا وجه لإيراد الأصفهاني عليه هنا ، بان الأثر إذا كان ملحوظا في الصحة كان مقوما لها لا أثرا

٢٠٦

لها ، كالمبدإ في قولنا « قائم » (١). ومن الغريب انه يذكر ما ذكرناه من معنى الصحة الآخر في ذيل مطلبه ، مع انه يمكن حمل كلام الكفاية عليه.

وإذا تعين كون موضوع البحث هو الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر ، فعليك ان تعرف ان المراد بها الصحة الشأنية لا الفعلية ، بمعنى ان اللفظ ـ على القول بوضعه للصحيح ـ يكون موضوعا لما يترتب عليه الأثر لو وجد ، الّذي هو معنى الصحّة الشأنية ، لا انه موضوع لما ترتب عليه الأثر فعلا ، لأنه ـ يعنى ترتب الأثر ـ يتوقف على الوجود ، وظاهر ان اللفظ لا يوضع للفرد الموجود بل لنفس الطبيعة المأخوذة في متعلق الأمر.

وبعد هذا يقع البحث في الجهة الثالثة من جهات الكلام ، وموضوع الكلام فيها : تعيين كون المبحوث عنه ـ بعد فرض كون حقيقة الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر ـ هل هو الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر من جميع الجهات وبقول مطلق أو لا؟. بيان ذلك : انه يعتبر في ترتب الأثر على العبادة أمور : تحقق الاجزاء والشرائط ، وعدم النهي ، وعدم المزاحم ، وقصد القربة. فالكلام يقع في ان الموضوع له هل هو التام من حيث ترتب الأثر من جميع هذه الجهات وبقول مطلق ، فلا يحتاج في ترتبه عليه فعلا سوى وجوده خارجا.

أو انه التام من حيث ترتب الأثر من بعض هذه الجهات ، فيكون الموضوع له هو ما يترتب عليه الأثر لو انضم إليه سائر الجهات والوجود؟ ثم يقع الكلام في انه خصوص التام من حيث ترتب الأثر من جهة الاجزاء فقط. أو الاجزاء والشرائط ، أو الاجزاء والشرائط وعدم النهي والمزاحم؟.

والمنسوب إلى الشيخ هو تخصيص النزاع بالاجزاء ، وان الكلام في وضع اللفظ لواجدها بالخصوص أو للأعم ، وخروج الشرط عن محل النزاع ، لأن الشرط في رتبة متأخرة عن الاجزاء ، باعتبار كون الاجزاء بمنزلة المقتضي

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٧

للتأثير ، والشرط متأخر عن المقتضي بحسب الرتبة ، لأنه ما به تكون فعلية التأثير ، والفعلية انما تفرض في صورة وجود ما يقتضي التأثير كي يصير الشرط فعلي التأثير. وعليه فأخذ الشرط في المسمى مع الاجزاء يلزم فرض كونهما في رتبة واحدة ، وهو خلف (١).

وأجيب عنه : بان الاختلاف الرتبي بين المقتضي والشرط انما هو في مقام التأثير في المعلول ، وهو أجنبي عن مقام التسمية كما لا يخفى ، فلا يلزم من أخذهما معا في المسمى واعتبار اللفظ لهما نفي اختلافهما في الرتبة في مقام التأثير ، بل هما على ما عليه في ذلك المقام ، فان ذلك نظير وجود العلة والمعلول في مكان واحد أو الحكم عليهما معا بحكم واحد ، فانه لا يتنافى مع تأخر المعلول عن العلة رتبة وهذا واضح جدا (٢).

وعليه ، فلا مانع من دخول الشرائط في محل النزاع.

وأما عدم النهي وعدم المزاحم ، فقد ذهب المحقق النائيني إلى خروجهما عن مورد البحث ، لعدم إمكان أخذهما في المسمى جزما ، فلا مجال للكلام ، ببيان :

انهما فرع المسمى لفرض تعلق النهي به ووجود المزاحم له فينتفي أمره ، فلا بد من فرضه في رتبة سابقة على تعلق النهي وعدمه ووجود المزاحم وعدمه ، فيمتنع أخذ عدم النهي عنه في المسمى وكذلك عدم المزاحم له (٣).

والتحقيق : أما في عدم النهي فلا يتجه ما ذكره ، إذ تعلق النهي لا يلزم ان يكون بما هو المسمى بما هو كذلك. وبعبارة أخرى : لا يلزم ان يكون هو الاجزاء والشرائط بما انها صلاة مثلا ، بل يمكن ان يتعلق بذوات الاجزاء والشرائط بلا لحاظ تسميتها بلفظ ما ، فليس عدم النهي في نفسه في رتبة متأخرة عن المسمى ، إذ لا ملزم لفرض متعلقه المسمى كي يكون متفرعا عليه. نعم هو متفرع

__________________

(١) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٣٨ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٨

على ذوات الاجزاء والشرائط ، لكنه لم يفرض بعد كونها هي المسمى فانه محل كلامنا ، فتدبر.

وأما بالنسبة إلى عدم المزاحم ، فان أريد من المزاحم هو المزاحم لنفس الشيء بلحاظ انه متعلق لأمر أقوى داعوية فيزاحم نفس العمل الآخر ، فلا يتجه ما ذكره أيضا ، إذ لا يتوقف فرض المزاحم على تحقق التسمية كي يكون عدمه فرع المسمى ، إذ المزاحمة تتعلق بنفس العمل ، وهو ذوات الاجزاء والشرائط بلا توقف على كونها مسماة بلفظ ما أصلا. فلا مانع من أخذ عدم المزاحم في المسمى. وان أريد به المزاحم لأمر الشيء ، فالإزالة مزاحمة لأمر الصلاة لا نفس الصلاة. كان ما ذكره وجيها ، لأن المزاحمة على هذا المعنى متفرعة على تحقق الأمر ، لأنه موضوع المزاحمة ، والمفروض ـ كما أشرنا إليه ـ ان الأمر يتعلق بالمسمى. فتكون المزاحمة متأخرة عن التسمية ، فيمتنع ان يؤخذ عدم المزاحم في التسمية لاستلزامه أخذ المتأخر في مرحلة سابقة عليه. إلاّ انه بعد تصور المعنى الأول للمزاحمة ، لنا ان نلتزم به وبلازمه من كون أخذ عدم المزاحم في المسمى موضوع الكلام. ولعله هو الّذي يظهر من كلامه هاهنا ، حيث فرع المزاحمة على المسمى رأسا ورتب عليها انتفاء الأمر ، فانه ظاهر في كون طرف المزاحمة هو الفعل المسمى لا أمره. فلاحظ.

وأما قصد القربة ، فقد نفي المحقق النائيني دخوله في محل النزاع أيضا ، بتقريب : انه متأخر عن المسمى برتبتين ، لأنه متأخر عن الأمر وهو واضح ، وهو ـ أي الأمر ـ متأخر عن المسمى لتعلقه به ، فلا يعقل ان يؤخذ في المسمى فانه خلف (١).

وأنت خبير بان هذا البيان لا يجدي في نفي إمكان أخذ قصد القربة في المسمى ، لأن ما هو متأخر عن المسمى برتبتين هو واقع قصد القربة ، لأنه هو المتفرع عن الأمر والمتأخر عنه. والّذي يراد أخذه في المسمى هو مفهوم قصد

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٩

القربة ، وهو لا يتفرع على الأمر كي يتأخر عن المسمى.

وعلى هذا ، فلا مانع من أخذ قصد التقرب في المسمى من هذه الجهة ، وانما الإشكال من جهة أخرى ، وهي عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، فانه ينافي أخذه في المسمى ، لأن المفروض كون الأمر متعلقا بالمسمى ، وان تعيين المسمى لأجل تشخيص متعلق الأمر. فيمتنع ان يكون المسمى هو الفعل بجميع جهاته حتى قصد القربة ، لامتناع ان يكون الفعل بقيد قصد القربة متعلقا للأمر.

لكن هذا يختص بالرأي القائل بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر الأول ، أما من لا يلتزم بذلك ويرى إمكانه فلا إشكال لديه في إمكان أخذ قصد القربة في المسمى. فتدبر جيدا.

تنبيه : بعد ان عرفت أن الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر المترقب لا مطلقا ، تعرف ان الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف الأنظار والحالات ، إذ قد يختلف النّظر في الأثر فيكون الأثر المترقب بنظر شيئا خاصا ويكون غيره بنظر آخر ، فترتب أحدهما دون الآخر موجب لاتصافه بالصحّة بالإضافة إلى أحد النظرين ، وبالفساد بالإضافة إلى النّظر الآخر ، كما أنه قد يختلف ترتب الأثر المترقب بحسب الحالات ، فيترتب على الشيء في حالة دون أخرى ، فيكون صحيحا بالإضافة إلى حالة وفاسدا بالإضافة إلى الأخرى.

وهذا هو مراد صاحب الكفاية رحمه‌الله.

وهل يترتب على كونهما إضافيين أو غير إضافيين ثمرة عملية ، أو لا يترتب فيكون كلاما علميّا محضا؟. هذا ما لم نتوصل إليه بعد ، ولم نعرف مدى النتيجة العملية التي تلمس بتحقيق أحد النحوين.

الأمر الثالث : في تصوير القدر الجامع بين الافراد الصحيحة ، وبين الافراد الصحيحة والفاسدة. وقبل الخوض في أصل المطلب يجدر بناء التعرض لحل ما قد يظهر من التهافت في عبارة الكفاية ، حيث حكم صاحبها قدس‌سره في هذا المطلب بلابديّة تصوير الجامع على كلا القولين ، في الوقت الّذي لا

٢١٠

يجزم بكون الموضوع له في ألفاظ العبادات عاما ، بل يلتزم به من باب الاستظهار واستبعاد كونه خاصا لبعض الجهات المبعدة ، كما يلاحظ في المطلب الّذي يعقب هذا ، والّذي موضوعه تعيين عموم الموضوع له أو خصوصه (١) ، مع كون لزوم تصوير الجامع ولا بديته فيما نحن فيه مترتب على الجزم بان الموضوع له عام.

وقد حاول المحقق النائيني توجيه كلام الكفاية ـ وان لم يصرح بذلك في التقريرات ـ : بان ضرورة تصوير جامع للافراد الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة لا تترتب على الالتزام بعموم الموضوع له ، بل لا بد من تصوير الجامع ولو التزم بان الموضوع له خاص.

أما على الالتزام بعموم الموضوع له ، فضرورة تصوير الجامع لا تحتاج إلى بيان ، فانه لتعيين الموضوع له ، إذ الموضوع له يكون هو الجامع على الالتزام المزبور.

وأما على الالتزام بان الموضوع له هو الخاصّ وانه هو الافراد الخاصة الجزئية ، فلأن الوضع لها يستدعي لحاظها وتصورها بأجمعها ، ولا يمكن ذلك لعدم تناهيها أو حصرها ، وعليه فلا بد من فرض جامع لها مشير إليها يكون واسطة في الوضع للافراد ، ويكون الحكم الوضعي على الافراد بواسطة ذلك الجامع (٢).

وأنت خبير بان هذا لا يصلح رافعا وحلا لما يظهر في عبارة الكفاية من التهافت وان كان في نفسه تاما ـ ، لأن الظاهر من عبارة الكفاية ان الكلام في تعيين الجامع الّذي حكم بلا بدية تصويره ، انما هو لأجل تعيين الموضوع له ومن جهة فرض وضع اللفظ له ، كما هو ظاهر جدا من إيراد صاحب الكفاية على كون الجامع للأعم هو معظم الاجزاء ، بأنه يستلزم ان يكون الشيء الواحد داخلا في المسمى تارة وخارجا عنه أخرى ، فانه صريح في ان الكلام في تعيين المسمى كما انه في تعيين الجامع ، وان فرض الجامع فرض المسمى ، لا ان البحث في مقامين كما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤ ـ ٢٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٢١١

هو ظاهر المحقق النائيني.

وعليه ، فالحكم بضرورة تعيين الجامع وتصويره المساوق للمسمى لا بد وان يلائم مع عدم جزمه بعموم الموضوع له ، بغير هذا البيان ، فانه غير مفيد في رفع الإشكال في العبارة.

والّذي أراه حلا للمشكلة : ان صاحب الكفاية أخذ الموضوع له أمرا مفروغا عنه على القول بالوضع للصحيح أو للأعم. فحكم بضرورة ولا بدية تصوير الجامع مترتبا على ذلك ، وقد علق اللابدية على كلا القولين ، والمفروض انه لا قائل بالوضع للخاص والافراد.

وبعبارة أخرى : حكم باللابدية معلقا ومرتبا على كلا الادعاءين والقولين ، وليس من أحد من المختلفين من يلتزم بخصوص الموضوع له ، فالحكم باللابدية أشبه بالحكم الشرطي والبنائي ، لا الجزمي الفعلي ، وعليه فلا تهافت. فلاحظ.

وبعد هذا فيقع الكلام في المهم في المقام.

وقد ذهب المحقق النائيني إلى إمكان الالتزام بما لا تصل النوبة معه إلى تصوير الجامع على كلا القولين وحصول النزاع في الوضع لأيهما ، وهو الالتزام بوضع لفظ العبادة كالصلاة للمرتبة العليا من مراتبها بالخصوص ، وهي المرتبة الواجدة لتمام الاجزاء والشرائط. وكون الاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي أو الأعم منها من باب الادعاء والتنزيل.

فالموضوع له على كلا القولين هو المرتبة العليا ، وأما باقي المراتب الصحيحة أو الأعم فيستعمل اللفظ فيها من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد ، كما في بعض الاستعمالات. أو من باب اكتفاء الشارع به والمشاركة في الأثر كما في مثل صلاة الغرقى ، إذ لا يصحّ استعمال اللفظ فيها من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، لفقدان جل الاجزاء والشرائط لو لم يكن كلها. نعم استعمال لفظ الصلاة في فاسد صلاة الغرقى من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد المنزل منزلة التام الاجزاء والشرائط من باب الاكتفاء في مقام الامتثال ، فبعد البناء على كون

٢١٢

الصحيح فردا للطبيعة من جهة الاجزاء يصح تنزيل الفاقد منزلته أيضا ، ولا يكون من سبك مجاز في مجاز كما لا يخفى. نعم هذا الكلام لا يجري بالنسبة إلى القصر والإتمام ، لأنهما بالقياس إلى المرتبة العليا في عرض واحد ، إذ ليس الأمر بأحدهما تنزلا وفي فرض عدم التمكن من الآخر ، بل كل منهما تام الاجزاء والشرائط ، ولكن الأمر فيهما سهل فانه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط. وعلى ما ذكره قدس‌سره يبطل نزاع الأعمي والصحيحي رأسا ، لأن ثمرة النزاع كما سيجيء إن شاء الله تعالى صحة التمسك بالإطلاق عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته على القول بالأعم لو تمت مقدمات الحكمة ، لصدق المسمى على الفاقد ، وعدم صحته على القول بالصحيح لإجمال الخطاب وعدم صدق المسمى على الفاقد. وهذا الكلام لا يتأتى على ما ذكره قدس‌سره ، لأنه بعد الالتزام بان الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا وكون إطلاقها على غيرها من المراتب من باب المسامحة والتنزيل لا الحقيقة ، يكون اللفظ مستعملا في المرتبة العليا دائما ، والقائل بالأعم انما يلتزم باستعماله في غير الصحيح هاهنا والتنزيل ، فصحة التمسك بالإطلاق على القول بالأعم بالادعاء انما تثبت في صورة إحراز ثبوت الادعاء والتنزيل وملاحظتهما ، إذ اللفظ مستعمل في المرتبة العليا وإرادة غيرها تكون بواسطة تنزيلها منزلة المرتبة العليا ، ولا طريق لدينا إلى إحراز تحقق التنزيل وإرادة الأعم بهذه الواسطة. وعليه فلا يمكن التمسك بالإطلاق في نفى اعتبار جزئية شيء أو شرطيته ، لأن اللفظ المطلق مستعمل في المرتبة العليا ولم يثبت إرادة الأعم ادعاء كي يتمسك بإطلاقه فيكون مجملا ، لفرض دخل الجزء أو الشرط لو كان دخيلا في المأمور به واقعا في المرتبة العليا كما لا يخفى.

ثم انه قدس‌سره استشهد على ما أفاده بالوجدان العرفي وقرّبه ونفى البعد عنه ، بأنه أمر عرفي ليس في مقام فهم المفاهيم امر أوضح منه. فاختياره هذا المذهب ليس لإمكانه ثبوتا ، بل لقيام الوجدان عليه إثباتا. ولعله لأجل كون الطريقة العرفية في الوضع للماهيات المخترعة جارية على الوضع لأقصى ما

٢١٣

يتصوره المخترع من المراتب والجامع للاجزاء والشرائط بكاملها ، ثم يستعمل اللفظ في غيرها من المراتب مسامحة وادعاء.

هذا تقرير ما أفاده قدس‌سره نقلناه بأغلب عباراته مع بعض التوضيح (١).

والّذي يؤاخذ به هذا المسلك ، ويرد عليه بوضوح : ان افراد المرتبة العليا كثيرة وليست متعينة ومنحصرة في خصوص القصر والإتمام ، كما نبه عليه قدس‌سره ، فان صلاة الصبح ، والظهر ، والمغرب ، والصلاة اليومية ، وصلاة الآيات ، وصلاة العيدين ، كلها في عرض واحد بالقياس إلى المرتبة العليا ، فان الأمر بكل منها في عرض الأمر بالأخرى وليس تنزيلي كصلاة الغريق بالنسبة إلى صلاة غيره.

وعليه ، فلا بد لنا من فرض جامع لهذه الافراد يكون اللفظ موضوعا بإزائه ، ولا يكون ما أفاده قدس‌سره موجبا للتخلص من مرحلة تصوير الجامع وكون وصول النوبة إلى تصويره بعد التنزل عنه. ومن العجيب منه انه قدس‌سره غفل عن ذلك وانتبه إلى ورود الاستشكال في خصوص القصر والإتمام وحلّه بان تصوير الجامع بينهما سهل وممكن كما تقدم.

وعلى كل فالالتزام بما أفاده قدس‌سره لا يغني عن لزوم تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة. فيقع الكلام حينئذ في مقامين :

المقام الأول : في ثبوت الجامع للافراد الصحيحة ، وقد ذكر في تصويره وجوه :

الوجه الأول : ما جزم به صاحب الكفاية من وجود جامع حقيقي مقولي بسيط للافراد الصحيحة ، إلاّ انه ليس لدينا طريق إلى تعيينه بالاسم ومعرفة حقيقته ، وانما الثابت هو وجود جامع بسيط مقولي متحد مع الافراد وجودا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٢١٤

وخارجا. والدليل على ذلك ، هو ما نراه من ترتيب بعض الآثار على العبادة كترتيب النهي عن الفحشاء على الصلاة ، والّذي يقتضيه قانون السنخية الثابت في باب العلية هو كون المعلول والأثر الواحد لا يصدر إلاّ عن علة واحدة ومؤثر واحد ، واستحالة صدور الواحد عن متعدد بما هو متعدد يعني دخل الخصوصيات المفردة في التأثير. وعليه فمقتضى وحدة الأثر المترتب على الصلاة مثلا وقانون السنخية ، هو ان يكون المؤثر في الأثر الخاصّ هو جهة جامعة بين الافراد ، بحيث يستند تأثير الفرد إلى وجودها فقط بلا دخل خصوصيته فيه ، إذ يلزم بذلك صدور الواحد عن متعدد وقد عرفت امتناعه. وعليه فلا بد من فرض جامع يكون هو المؤثر والموضوع له ، إذ لا يمكن فرض المؤثر كل فرد بخصوصه. ثم ان عدم معرفة حقيقة هذا الجامع وحده لا يضير فيما نحن فيه ، إذ يمكن التوصل إلى الوضع له بواسطة بعض العناوين المشيرة إليه بلحاظ آثاره ، كعنوان الناهي عن الفحشاء في الصلاة.

ثم ان صاحب الكفاية قدس‌سره ـ و ـ بعد ان ذكر هذا المطلب ، تعرض إلى ذكر إيراد الشيخ الأنصاري قدس‌سره على تصوير الجامع للافراد الصحيحة والرد عليه.

أما الإيراد ، فبيانه : ان الجامع المفروض اما ان يكون مركبا أو بسيطا.

فعلى الأول : لا يتصور ان يكون جامعا للافراد الصحيحة ، إذ كما يفرض جامعا يختلف صحة وفسادا بحسب الحالات ، ولا يكون صحيحا مطلقا وفي جميع الحالات. فيمتنع كونه جامعا للافراد الصحيحة.

وعلى الثاني : اما ان يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له.

ويرد على الالتزام بالأول وجوه :

أحدها : لزوم الخلف ، بأخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الطلب في متعلق الطلب ، لأن عنوان المطلوب انما يتحقق وينتزع عن الشيء بعد تعلق الطلب

٢١٥

به ، إذ قبله لا يكون الشيء مطلوبا ، والمفروض كون الجامع هو المأخوذ في متعلق الأمر ، لأنه المسمى ، فيلزم أخذ المطلوب في متعلق الطلب ، وهو خلف لأنه فرض المتأخر في رتبة سابقة عليه.

ثانيها : استلزامه حصول الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ المطلوب ، وهو ممنوع إذ لا ترادف عرفا بينهما ، كما هو ظاهر.

ثالثها : استلزامه عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته وجريان الاشتغال. وذلك لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في المحصل لا في المأمور به ، لأن المأمور به أمر بسيط معلوم لا إجمال فيه ، فلا يكون الشك في جزئية شيء شكا في المأمور به ، إذ ذلك خلف كونه بسيطا غير ذي اجزاء ، فيرجع الشك إلى المحصل والمحقق للامتثال ، ومقتضاه جريان قاعدة الاشتغال ولزوم الاحتياط ، وذلك يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة ممن يلتزم بالوضع للصحيح غالبا ، وهذا الأخير يرد على الالتزام بالثاني ، لأنه يرتبط ببساطة الجامع بلا خصوصية كونه عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له (١).

وأما الرد : ـ فهو بعد اختيار كونه بسيطا وانه ملزوم المطلوب لا عنوانه ـ ان جريان قاعدة الاحتياط فيما كان المأمور به أمرا بسيطا ، انما يكون في المورد الّذي يكون وجود ذلك الأمر البسيط منحازا عن وجود الاجزاء والشرائط ومسببا عنها ، بحيث يكون الشك فيها شكا في المحصل والفراغ حقيقة ، كما قد يقال في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء أو الغسل. واما في المورد الّذي يكون وجوده بوجود الاجزاء والشرائط وليس له وجود مستقل منحاز عن وجودها ، كان الأصل الجاري عند الشك هو البراءة لا الاشتغال ، لأن الشك في الحقيقة شك

__________________

(١) ـ حمل السيد الأستاذ ( دام ظله ) عبارة الكفاية ـ في الدورة المتأخرة ـ على إرادة الجامع الحقيقي ، وانه ردّ الشيخ ، بان الجامع لا ينحصر فيما فرضت ، من المركب ، والبسيط العنواني ، بل يمكن فرض الجامع الحقيقي المدلول عليه بالآثار وهو المتحد مع الخارج.

٢١٦

في المأمور به ، لأن المأمور به في الحقيقة والنتيجة هو الاجزاء والشرائط والأمر متعلق بها حقيقة ، لأنه يتعلق به بلحاظ وجوده ، والمفروض ان وجوده وجود الاجزاء والشرائط. فالشك في جزئية شيء شك في المأمور به ، ويكون الشك المذكور موجبا للإجمال في نفس المأمور به لا في محققه ، وهو مورد أصالة البراءة. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن نسبة الجامع البسيط إلى الاجزاء والشرائط نسبة الكلي إلى الفرد ، وعليه فوجوده بوجودها وليس له وجود منحاز عن وجودها ، فالشك في جزئية شيء شك في المأمور به ، لأنه يشك في دخالة هذا الشيء في وجود المأمور به ، فيشك في تعلق الأمر به والمرجع في مثل الحال إلى البراءة.

وعليه ، فلا يلزم من الالتزام ببساطة الجامع ، الالتزام بجريان قاعدة الاشتغال عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته ، دون البراءة المنافي لما عليه المشهور من القول بالبراءة مع القول بالصحيح.

هذا بيان ما قرره صاحب الكفاية رحمه‌الله في تصوير الجامع وما يتعلق به من الإشكال والرد ، والّذي يتلخص : انه يلتزم بوجود جامع بسيط حقيقي متحد مع الافراد خارجا ، ولا طريق إلى معرفته بحدوده وانما يشار إليه بعنوان مشير منتزع عن مقام ترتب الأثر ، كعنوان الناهي عن الفحشاء ، والدليل على ذلك وحدة الأثر المترتب على الافراد (١).

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني بوجوه :

الأول : انه لا يتصور وجود جامع ذاتي مقولي لافراد الصلاة ، وذلك لأن الصلاة مؤلفة من عدة مقولات متباينة كمقولة الكيف ومقولة الوضع ومقولة الفعل ونحوها. وليست اجزاء الصلاة من مقولة واحدة ، وعليه فلا يمكن فرض جامع مقولي لمرتبة واحدة من مراتب الصلاة فضلا عن فرض الجامع لجميع مراتب الصلاة المتنوعة ، ووجهه : ما تقرر في محله ، من ان المقولات أجناس عالية

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤ ـ ٢٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٧

فلا جنس لها وفرض الجامع فيما نحن فيه مساوق لفرض جنس أعلى من المقولات يكون جامعا بينها ، وهو خلاف المقرر الثابت. ويمتنع ان يكون المركب نفسه مقولة برأسها لاعتبار الوحدة والبساطة في المقولات.

الثاني : أن فرض الجامع البسيط المقولي المتحد مع الافراد خارجا ، يلزم منه فرض اتحاد البسيط مع المركب ، وكون المركب وجودا للبسيط وهو ممتنع ، ولو فرض وحدة المقولة في جميع الاجزاء. وذلك لأن المفروض ان وجود الجامع بوجود الافراد الخارجية ، والفرد الخارجي مؤلف ومركب من اجزاء ، فيلزم ان يكون البسيط متحدا مع المركب وموجودا بوجوده ، وهو ممتنع ، لأنه خلف كونه بسيطا. ولأن معنى البسيط ما لا جزء له ، فاتحاده مع الاجزاء يلزم ان يكون ذا جزء ، وذلك أشبه باجتماع المتناقضين ان لم يكن بعينه ، ونتيجة كل من هذين الوجهين عدم معقولية الجامع البسيط المقولي. ولو تنزل عن ذلك والتزم بمعقوليته ، فيرد الوجه ...

الثالث : الّذي يرجع إلى المطالبة بالوجه الإثباتي والدليل على ثبوت مثل هذا الجامع إذ معقوليته لا تعني تحققه وثبوته. والإشكال فيما ذكره لإثباته من وحدة الأثر المترتب على الافراد الكاشف عن وحدة المؤثر وانه جهة جامعة حقيقية بين الافراد. بان ما يكشف عن وحدة المؤثر حقيقة انما هو وحدة الأثر ذاتا وحقيقة إما شخصا أو نوعا ، واما وحدة الأثر بالعنوان وتعدده حقيقة فلا يكشف الا عن وحدة المؤثر بالعنوان لا وحدته بالحقيقة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الأثر المترتب وهو النهي عن الفحشاء ليس أثرا واحدا بالحقيقة والذات ، بل هو أثر واحد عنوانا ، لاختلاف أنحاء الفحشاء المنفية بالصلاة من كون بعضها من الصفات كالرياء والشرك النفسيّ ونحوهما ، وبعضها من الأفعال كالغصب ونحوه ، وتغاير أنحاء الفحشاء يوجب تغاير نحو النهي عنها ونفيها وحقيقته ، فحقيقة النهي عن الغصب تختلف عن حقيقة النهي عن الرياء والشرك ومغايرة لها ، وانما يجمعهما عنوان واحد وهو عنوان النهي عن الفحشاء ،

٢١٨

كما ان كل مرتبة من مراتب الصلاة تؤثر في النهي عن مرتبة من مراتب الفحشاء وتختلف عن المرتبة التي تؤثر فيها مرتبة أخرى من الصلاة.

وعلى الجملة : فالنهي عن الفحشاء أثر واحد عنوانا لا حقيقة ، لاختلاف أنحائه حقيقة باختلاف مراتب أنحاء المنكر والفحشاء ، وعليه فلا يكشف عن وحدة المؤثر حقيقة ، بل عنوانا وهو عنوان الناهي عن الفحشاء.

الرابع : ان كل ما يفرض جامعا للصحيح يمكن فرضه جامعا للأعم ، وذلك لأن الجامع المفروض يفرض اتحاده مع ذات الاجزاء والشرائط ، بلا لحاظ جهة إضافتها إلى الفاعل وصدورها من المكلف ، لأن هذه الجهة اعتبارية ، ولا يعقل دخل الاعتبارية في فرض الجامع المقولي ، إذ يمتنع تأثير الأمر الاعتباري في أمر حقيقي واقعي ، وإذا فرض ان الملحوظ ذات الاجزاء والشرائط ، فهي في نفسها قابلة للصحة والفساد بلحاظ اختلاف حالها ، إذ لم تقيد بصدورها من الفاعل المكلف بها كي تلازم الصحة ، فالجامع المفروض لها المتحد معها قابل لأن يكون جامعا للأعم في الوقت الّذي يكون جامعا للصحيح (١).

وقد أضاف المحقق النائيني إيرادا خامسا ، يتلخص : في ان الغرض انما هو تصوير جامع للافراد الصحيحة يدركه العرف ويتوصل إليه لفرض كونه هو المسمى والمأمور به ولا بد من ان يفرض المسمى والمأمور به امرا عرفيا وجدانيا يتوصل إليه الذهن العرفي ، لا ان يكون طريق إثباته قاعدة فلسفية لا يعرفها العامة ولا تدركها أذهان العرف لأول وهلة ، فلا يجدي تصوير الجامع بالطريق المزبور ، بل لا بد من تصويره بنحو عرفي قريب إلى الذهن (٢).

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكر ، عدم وجاهة ما ذكره صاحب الكفاية وعدم تماميته.

وقد ذكر السيد الخوئي هذه الإيرادات بترتيب آخر لا يخلو عن إشكال

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٢١٩

من الناحية العلمية ، لأنه قدم الإيراد الثالث على الأولين ، ثم ذكر الأولين بنحو التنزل عن الإيراد الأول (١) ، ولا يخفى انه بعد تسليم عدم ورود الثالث ، وان الواحد بالعنوان كاشف عن وحدة المؤثر بالحقيقة ، لا وجه للإيراد بعد ذلك بما هو مقتضى الأولين من عدم معقولية الجامع ، لحصول التصادم بين الأمرين والعلم بعدم تمامية أحدهما ، وهذا بخلاف النحو الّذي ذكرناه وذكره المحقق الأصفهاني في ترتيب ذكر الإيرادات. فتدبر ، والأمر سهل.

الوجه الثاني ـ من وجوه تصوير الجامع ـ أن يفرض للافراد الصحيحة جامع عنواني لا حقيقي مقولي كعنوان الناهي عن الفحشاء ويكون اللفظ موضوعا بإزائه ، ولا يرد عليه المحاذير السابقة الواردة على الجامع المقولي.

إلاّ ان تصويره بذلك يشكل من وجوه :

الأول : لزوم الترادف بين لفظ الصلاة وعنوان الناهي عن الفحشاء ، وهو غير متحقق عرفا.

الثاني : لزوم كون استعمال اللفظ في الذات المعنونة بالعنوان مسامحيا ومجازيا لأنه موضوع للعنوان لا المعنون ، فاستعماله في المعنون يكون استعمالا له في غير ما وضع له. مع ان العرف لا يرى أي مسامحة وعناية في استعمال اللفظ في المعنون.

الثالث : لزوم إجراء قاعدة الاشتغال عند الشك في جزئية شيء للمأمور به ، لأن المأمور به انما هو العنوان الانتزاعي ، وهو يتحصل ويتحقق بالاجزاء والشرائط جمعا ، فيكون الشك في جزئية شيء مستلزما للشك في في تحققه وحصوله عند عدم الإتيان به ، فيكون المورد من موارد الاحتياط لقاعدة الاشتغال لا من موارد البراءة. وبعبارة أخرى : لما كان العنوان الانتزاعي انما ينتزع عن مجموع الاجزاء والشرائط ولا يحصل بحصول أول جزء ويكون

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٤٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٠