منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

والعلم الارتكازي الإجمالي لا يجدي في التوصل إلى المطلوب ، إذ لا يعلم به ثبوت العلامة والدليل فلاحظ جيدا. وللاعلام في المقام بعض التحقيقات أعرضنا عن ذكرها لأنه يستلزم التطويل بلا طائل ، واكتفينا بهذا المقدار لمجرد الإشارة إلى المطلب.

أحوال اللفظ

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره : انه قد ذكر للفظ أحوال خمسة : المجاز ، والنقل ، والاشتراك ، والتخصيص ، والإضمار ، والمراد من كل منها واضح لا يحتاج إلى بيان والكلام فيها في مقامين :

الأول : فيما إذا دار أمر اللفظ بينها ، كما إذا دار بين ان يكون مستعملا في هذا المعنى بنحو المجاز أو الاشتراك ، أو دار بين ان الأمر بين المجاز والنقل ، وهكذا ...

وقد ذكر لترجيح بعضها على بعض مرجحات إلاّ انها لا تغني ولا تسمن من جوع ، لعدم الدليل على الترجيح بها تعبدا ، كما انها لا توجب الجزم بالترجيح ، نعم إذا أوجب المرجح ظهور اللفظ في أحد النحوين كان ذلك النحو متعينا تحكيما لأصالة الظهور.

الثاني : فيما إذا دار امر اللفظ بين أحد هذه الأحوال وبين المعنى الحقيقي كدورانه بين الحقيقة والمجاز وانه مستعمل في المعنى الحقيقي أو المجازي (١).

وقد التزم صاحب الكفاية بحمل اللفظ على المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة. وهذا في الجملة واضح ، وانما الإشكال والالتباس في فرضه دوران الأمر بين المعنى الحقيقي وبين سائر الأحوال ، لأنه ظاهر في دوران الأمر بين الحقيقة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٨١

والمجاز ، أما دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والاشتراك والنقل فلا يتصور له معنى ، لأن المعنى المشترك حقيقي ، وهكذا المعنى المنقول فانه معنى حقيقي لأنه موضوع له اللفظ ، ومثله الحال في دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والتخصيص ، لأن التخصيص لا يوجب المجازية على بعض الآراء فلا يعد قسيما ومقابلا للمعنى الحقيقي. نعم على بعض الآراء يكون موجبا للمجازية فيصح عده قسيما للمعنى الحقيقي.

وتوجيه مراده : بأنه لا يريد من المعنى الحقيقي المعنى المقابل للمجاز ، بل يريد به المعنى الأصلي والّذي جعل اللفظ بإزائه أولا ، ففي مورد تعدد الحقيقة كمورد النقل والاشتراك والتخصيص يراد دوران الأمر بين المعنى الحقيقي الأولي والمعنى الحقيقي الثانوي وهو المعنى المنقول إليه اللفظ أو الموضوع له اللفظ ثانيا أو المعنى الخاصّ. وان كان يجدي في ردع الإشكال في العبارة ، لكنه يورد عليه :

بأنه لم يثبت حمل الكلام على المعنى الحقيقي الأولي في صورة دوران الأمر بينه وبين الاشتراك ـ وان ثبت تقديم العموم على الخصوص في مورد الشك بأصالة الظهور ، والتزم بتقديم المعنى الحقيقي الأولي في مورد احتمال النقل بأصالة عدم النقل ـ ، لعدم جريان أصالة الظهور في المقام ، لأن اللفظ لا يكون ظاهرا في أحدهما إلاّ بقرينة على تقدير الاشتراك ، فاحتماله مانع من تمامية الظهور ، كما انه لا أصل عقلائيا ينفي الاشتراك نظير الأصل النافي للنقل ـ لو سلم بجريانه ـ.

وعليه ، فالحكم بالصيرورة إلى المعنى الحقيقي مطلقا لو دار الأمر بينه وبين غيره من أحوال اللفظ لا يخلو من جزاف.

* * *

١٨٢

الحقيقة الشّرعيّة

١٨٣
١٨٤

الحقيقة الشرعية

هذا المبحث كسوابقه غير ذي ثمرة عملية كما سيتضح فيما بعد ، لذلك كان الاكتفاء بذكر مطلب الكفاية وما يتعلق به هو المتعين كغيره من المباحث المتقدمة التي لا ثمرة فيها.

وموضوع البحث : هو انه لا إشكال في وجود معان شرعية مستحدثة قد استعمل الشارع فيها ألفاظا كانت موضوعة لغة إلى معان معينة ، فهل نقل الشارع تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية ووضعها للمعاني الشرعية فتثبت الحقيقة الشرعية ، أو لم ينقلها بل كان يستعمل الألفاظ في المعاني الشرعية بنحو المجاز وبالقرينة فلا تثبت الحقيقة الشرعية؟ وذلك كلفظ « الصلاة » فانه موضوع لغة إلى الدعاء ـ كما يقال ـ وقد استعملت في لسان الشارع في الواجب الخاصّ والفعل المعهود المشتمل على اجزاء وشرائط.

فهل وضع الشارع ـ ناقلا ـ لفظ الصلاة إلى هذا الواجب المعين ، أو انه لم يضع اللفظ للفعل الخاصّ بل استعمله فيه مجازا وبالقرينة؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية ان في المسألة أقوالا ، ثم شرع بيان الحق في المسألة ، إلاّ انه قبل بيانه تعرض إلى بيان شيء دخيل في التحقيق ، وهو : ان الوضع التعييني يتصور حصوله بنحوين :

١٨٥

الأول : أن ينشأ بالقول ، ثم بعد تحققه بذلك يستعمل اللفظ في المعنى فينشأ بصورة « وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى » شأنه شأن غيره من الإنشائيات والاعتباريات ، لأنه كما عرفت امر اعتباري.

الثاني : ان ينشأ بالاستعمال ، بان يستعمل اللفظ في المعنى رأسا ، ويقصد بهذا الفعل ـ أعني الاستعمال ـ تحقق الوضع له وإنشائه بلا ان يسبق الاستعمال تصريح بالوضع أصلا. وتقريب ذلك : ان استعمال اللفظ في معنى وقصد دلالته عليه بنفسه لمكان من لوازم الوضع ، إذ بدونه لا يكون اللفظ دالا على المعنى بنفسه ، كان الاستعمال دالا بالدلالة الالتزامية على الوضع وموجبا لحضوره في ذهن المخاطب بالالتزام ، وعليه فيقصد إيجاد الوضع وتحققه خارجا بهذه الدلالة الالتزامية ، وينشأ الوضع بهذه الواسطة ، إذ لا يعتبر في المنشأ ان يكون مدلولا عليه مطابقة كالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني.

ثم انه لا بد من نصب قرينة في هذا الاستعمال ، إلاّ انها على تحقق الوضع بهذا الاستعمال لا على دلالة اللفظ على المعنى واستعماله فيه ، وبذلك اختلفت هذه القرينة عن قرينة المجاز.

والإشكال في هذا الاستعمال بأنه ليس استعمالا حقيقيا ، لأنه ليس فيما وضع له لفرض تحقق الوضع به ، ولا مجازيا لعدم كونه فيما يناسب الموضوع له ، إذ قد لا يكون اللفظ موضوعا إلى معنى آخر أو كان ولكن لا مناسبة بينه وبين المستعمل فيه.

غير وجيه ، بعد ما عرفت من إمكان ان لا يكون الاستعمال حقيقيا ولا مجازيا ، كاستعمال اللفظ في مثله ونحوه. ثم انه ادعى بعد ذلك : ان دعوى الوضع التعييني بهذا النحو غير مجازفة للتبادر ، وقد عرفت انه علامة الحقيقة. وانما لم يلتزم بالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني مع صلاحية الدليل لإثباته وهو التبادر بل هو لا يكشف عن النحو الثاني ، وانما يكشف عن أصل الوضع لا

١٨٦

كيفيته ، لوجود المانع الثبوتي عنه ، وذلك لأن النحو الأول لما كان فعلا صريحا مستقلا من الشارع وبادرة ملفتة منه. كان تحققه مستلزما لظهوره عندنا بالنقل ، إذ قد نقل إلينا من افعال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما هو أقل من الوضع أهمية. وحيث انه لم ينقل ذلك نجزم بعدم كون الوضع بهذا النحو ، ومن هنا تظهر الثمرة في تعرض صاحب الكفاية إلى بيان هذا القسم من الوضع ـ أعني الوضع بالاستعمال ـ ، فانه لو لم يثبت لم تثبت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني ، للجزم بعدم تحققه إنشاء بالقول ، إذ لو كان لبان.

وعليه ، فالوضع التعييني بالنحو الثاني ثابت بأمرين منضمين : أحدهما : التبادر المثبت لأصل الوضع ، والآخر : العلم بعدم ثبوت الوضع التعييني بالنحو الأول بعدم نقله النافي للنحو الأول والمعين للنحو الثاني. ثم انه أيد دعواه الوضع بأنه لو لم يلتزم بالوضع كانت الاستعمالات الواردة في لسان الشارع مجازية وهو ممتنع في بعض الاستعمالات ، لشرط العلاقة المصححة بين المعنى الحقيقي اللغوي والمعنى الشرعي المستعمل فيه اللفظ ، وقد لا تكون ، كما في الصلاة فانها لغة موضوعة للدعاء ولا علاقة بينه وبين المعنى الشرعي.

وما قد يدعى من وجود علاقة الجزء والكل ، إذ الدعاء من اجزاء الصلاة شرعا.

لا يفيد في صحة الاستعمال ، لأن جواز استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل انما يثبت في فرض كون الجزء أساسيا وذا أهمية في تحقيق الكل ، وليس الدعاء كذلك ، لأنه ليس من أركان الصلاة. ولو تنزل عن دعوى الوضع التعييني ، فدعوى حصول الوضع التعييني باستعمال الشارع هذه الألفاظ في معانيها الشرعية ليست دعوى جزاف ، لكثرة استعماله.

ثم انه حيث كان المراد بالحقيقة الشرعية وضع الألفاظ لهذه المعاني في شرعنا ، كان ثبوت الحقيقة الشرعية يتوقف على عدم ثبوت هذه المعاني قبل

١٨٧

شرعنا وكونها مستحدثة من قبله.

ولكن الّذي يظهر من بعض الآيات ثبوتها في الشرائع السابقة ، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ ) (١) ، وقوله تعالى حكاية عن عيسى ويحيى : ( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) (٢) ، وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (٣). وعليه ، فتكون هذه الألفاظ حقائق لغوية لا شرعية.

والتخلص من ذلك باختلاف نحو العبادات السابقة عن نحوها في شريعتنا لا يجدي. لأن الاختلاف في المصداق ـ كاختلاف الصلاة عندنا بحسب اختلاف الحالات ـ ، فانه لا يدل على اختلاف المعنى بل المعنى واحد. غاية الأمر ان المصداق في شرعنا يختلف عن المصداق في الشرائع السابقة كاختلاف المصاديق في شرعنا (٤).

هذا بيان ما ذكره صاحب الكفاية في المقام وتوضيحه. واتضح بذلك ان أساس ثبوت الوضع التعييني والحقيقة الشرعية به ركنان :

الأول : إثبات نحو آخر للوضع التعييني وهو الإنشاء بالاستعمال.

والثاني : عدم ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة.

وقد أورد على الركن الأول ـ أعني إمكان تحقق الوضع التعييني بالاستعمال ـ من جهتين :

الجهة الأولى : ان ذلك يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شيء واحد. وقد قرب ذلك بوجهين :

الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله : من ان الوضع جعل

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة مريم ، الآية : ٣١.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣.

(٤) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١ ـ ٢٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٨٨

اللفظ بحيث يحكى عن المعنى ، فالحكاية والدلالة مقصودة في الوضع وملحوظة بنحو الاستقلال ، لأن الحكاية المأخوذة فيه ليست الحكاية الفعلية التي تحصل مغفولا عنها ، بل الحكاية الشأنية. بخلافها في الاستعمال فانها ملحوظة ومقصودة على الوجه الآلي دون الاستقلالي ، لأن النّظر الاستقلالي فيه متعلق بالمعنى. واما ما به الحكاية وهو اللفظ ونفس الحكاية ، فهما متعلقان للحاظ الآلي.

وعليه ، فإذا أريد إنشاء الوضع بنفس الاستعمال لزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في شيء واحد ، وهو الدلالة ، في حين واحد (١).

ويندفع : أولا : بان حيثية الدلالة لم تؤخذ في معنى الوضع أصلا ، بل الوضع كما تقدم ليس إلاّ مجرد اعتبار العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى ، أو اعتبار اللفظ على المعنى ، أو اعتباره المعنى ، وليس للدلالة أي دخل في عملية الوضع ولم يؤخذ النّظر إليها من شرائطه كما لا يخفى.

وثانيا : لو سلم أخذ الدلالة في الوضع وتعلق النّظر والقصد الاستقلالي بها ، فلا يخفى ان متعلق اللحاظ والقصد فيه هو طبيعي الدلالة ومفهومها لا مصداقها إذ لا تلحظ الدلالة الفعلية ، إذ متعلق الوضع هو طبيعي اللفظ للمعنى. وظاهر ان الدلالة الملحوظة حينئذ هو مفهومها لا مصداقها لعدم قابلية طبيعي اللفظ بما هو طبيعي للدلالة فعلا.

كما انه من الظاهر كون الدلالة الملحوظة حال الاستعمال هي الدلالة الفعلية ، فمتعلق اللحاظ فيه هو مصداق الدلالة.

وعليه ، فلا يستلزم إنشاء الوضع بالاستعمال تعلق اللحاظين بشيء واحد ، بل اللحاظ الاستقلالي يتعلق بمفهوم الدلالة ، والآلي بمصداقها ، وهما متغايران.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث ـ ٣٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣١ ـ الطبعة الأولى.

١٨٩

وهذا هو الصحيح في الجواب ، لا ما ذكره المرحوم الأصفهاني من ان إنشاء الوضع حيث كان بالمدلول الالتزامي للاستعمال لأنه لازم الوضع ، كانت الحكاية متعلقة للحاظ الآلي في مقام يختلف عن مقام تعلق اللحاظ الاستقلالي ، فانها ملحوظة استقلالا فمرحلة التسبيب إليها بإنشاء لازمها ، وملحوظة آليا في مرحلة نفس الاستعمال وهو لازمها (١).

وذلك : لأن تعدد مرحلة تعلق اللحاظ واختلاف مقامه لا يجدي في رفع غائلة المحذور وهو اجتماع اللحاظين في شيء واحد في زمان واحد ، إذ اختلاف المرحلة لا يوجب اختلاف الزمان.

الثاني : ما ذكره المحقق العراقي رحمه‌الله : من ان الوضع لما كان جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى أو نظير ذلك ، كان اللفظ في حال الوضع متعلقا للحاظ الاستقلالي لأنه طرف الحكم والاعتبار ، وحيث ان الاستعمال جعل اللفظ حاكيا عن المعنى وفانيا فيه كان اللفظ في حال الاستعمال ملحوظا آلة نظير المرآة. إذ النّظر الاستقلالي يتعلق بالمحكي دون الحاكي. وعليه فإنشاء الوضع بالاستعمال يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في اللفظ في زمان واحد. وهو محال.

ويندفع بما قرره المحقق العراقي : من ان متعلق اللحاظ الاستقلالي في حال الوضع هو طبيعي اللفظ ، لأن الوضع جعل العلقة بين طبيعي اللفظ لا مصداقه الخاصّ. ومتعلق اللحاظ الآلي في حال الاستعمال هو مصداق اللفظ ، إذ به تكون الحكاية. وعليه فلا يلزم في إنشاء الوضع بالاستعمال اجتماع لحاظين في شيء واحد ، لاختلاف متعلق كل منهما عن متعلق الآخر (٢).

وهذا هو الوجه في الاندفاع لا ما ذكره السيد الخوئي من تأخر الاستعمال

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ـ ٣١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٣٣ ـ الطبعة الأولى.

١٩٠

رتبة عن الوضع (١).

لأن التأخر الرتبي لا يستلزم عدم اجتماع اللحاظين في شيء واحد في زمان واحد. كما انه لا يرفع المحذور بنفسه ، فان فرض تأخر أحد الضدين عن الآخر رتبة لا يسوغ اجتماعهما في شيء واحد في آن واحد. فلاحظ وتأمل.

الجهة الثانية : انه لما كان أساس صحة إنشاء الوضع بالاستعمال هو كون الاستعمال ودلالة اللفظ بنفسه على المعنى من لوازم الوضع ، فيكون الاستعمال دالا بالالتزام على الوضع وينشأ الوضع بهذه الواسطة ، لما كان أساسه ذلك كان مبتنيا على الالتزام بان قرينة المجاز جزء الدال على المعنى المجازي. إذ اللفظ لا يدل بنفسه على المعنى المجازي ، فتكون الدلالة بنفسها من لوازم الوضع.

ولكنه غير ثابت ، بل التحقيق على ان القرينة تكون على إرادة المعنى المجازي من اللفظ ، فيكون اللفظ بنفسه دالا على المعنى ، والقرينة تدل على دلالته عليه وإرادة المعنى منه ، فنفس « الأسد » في قولنا « هذا الأسد » مشيرا إلى زيد مستعمل في زيد ودال على زيد ، والإشارة ليست دخيلة في الدال بل هي تعيّن الدلالة ، والدال هو اللفظ.

وعليه ، فدلالة اللفظ بنفسه ليست من لوازم الوضع ، بل هي امر مشترك بين صورتي الوضع وعدمه. فلا يكون الاستعمال موجبا لخطور الوضع في الذهن لأنه لازم أعم. فليس إنشاء الوضع بالاستعمال من سبيل.

وأنت خبير بوهن هذا الإشكال ، فان المراد من كون دلالة اللفظ بنفسه من لوازم الوضع ، هو دلالته على المعنى بلا معونة واسطة ، كما في المجاز فانه بمعونة القرينة ، وليس المراد دلالة اللفظ ذاته ومستقلا الّذي هو امر مشترك بين الحقيقة والمجاز ، كي يرد ما ذكر.

وبالجملة : تارة يراد من « دلالة اللفظ بنفسه » دلالته على المعنى بلا

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٢٨ ـ الطبعة الأولى.

١٩١

واسطة في البين ، بإرجاع « بنفسه » إلى الدلالة لا اللفظ.

وأخرى : يراد دلالته بذاته ومستقلا على المعنى بلا اشتراك لغيره معه ، بإرجاع القيد إلى اللفظ الدال ، والمعنى الأول من خصائص الوضع ولوازمه ، إذ دلالة اللفظ على المعنى المجازي بمعونة القرينة ، والمعنى الثاني مشترك بين الوضع وغيره فهو لازم أعم للوضع. والمراد في تقريب إنشاء الوضع بالاستعمال هو الأول ، فان الغرض بالاستعمال المقصود إنشاء الوضع به ، جعل اللفظ دالا بنفسه وبلا قرينة على المعنى ، وهو من لوازم الوضع ، والإيراد المزبور يبتني على الخلط بين المعنيين واشتباه المراد منهما وتخيل انه الثاني. فلاحظ.

وأورد على الركن الثاني ـ بما هو منسوب إلى ولده (١) ـ : من ان ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يكفي في ثبوت كون هذه الألفاظ فيها حقائق لغوية ، إذ ثبوت المعاني سابقا لا يستلزم وضع هذه الألفاظ المخصوصة لها ، ونقل القرآن ليس بدليل على تحقق وضعها لها ، إذ يمكن ان يكون نقلا بالترجمة وبذكر المرادف لما كان موضوعا سابقا لهذه المعاني من الألفاظ ، كما هو شأنه في نقل المحاورات الكلامية باللغة العربية ، إذ يعلم بان التفاهم لم يكن سابقا باللغة العربية (٢).

والإيراد على هذا : بان الظاهر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين كان يلقي هذه الألفاظ بالآيات ، كان العرب يفهمون منها معانيها الشرعية ، ولم يكونوا يرونها غريبة عن أذهانهم ، ولو لم تكن معلومة الوضع لديهم ، لم يكادوا يفهمون معانيها منها ولرأوها غريبة عن أذهانهم.

مندفع : بأنه من جهة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أعلمهم قبل

__________________

(١) ولد صاحب الكفاية.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ١ ـ ٣٣ ( في الهامش ) ـ الطبعة المحشاة بحاشية المشكيني (ره).

١٩٢

نقل الآيات بهذه المعاني بأسمائها الشرعية وبحكمها في الشريعة ، ثم كان يذكر الآية استشهادا وبيانا لحكمه. وهذا لا يدل على كون هذه الألفاظ موضوعة لهذه المعاني سابقا ، فتأمل.

والمتحصل : هو ان دعوى الوضع التعييني بالاستعمال غير بعيدة ، ولو تنزل عنه فدعوى الوضع التعيني لا تخلو من وجاهة.

لكن الإنصاف انه لا طريق لدينا لإحراز الوضع التعيني الاستعمالي ، بحيث يحرز به انه قصد الوضع في أول استعمال ، إذ لا طريق لإحراز التبادر في الاستعمال الأول.

ثم انه قد ذكر لهذا المبحث ثمرة : وهي انه مع الشك في إرادة المعنى الشرعي أو غيره من اللفظ الوارد في كلام الشارع بلا قرينة تعين أحد المعنيين. يحمل اللفظ على المعنى الشرعي بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية ، وعلى المعنى اللغوي بناء على عدم ثبوتها لأصالة الحقيقة.

لكن الظاهر انه لا مورد لهذه الثمرة ـ كما أفاد ذلك المحقق النائيني ـ (١) ، فان جميع الاستعمالات الواردة في كلام الشارع ممّا يعلم بمراد الشارع فيها ، وليس هناك مورد يشك فيه في مراده كي تصل النوبة إلى ما ذكر. وبعبارة أخرى : ان الكبرى وان كانت ثابتة إلاّ ان تحقق الصغرى غير ثابت ، لعدم الشك في مورد ما وظاهر ان ذلك ينفي كون الكبرى ثمرة عملية.

وعليه ، فمبحث الحقيقة الشرعية مبحث علمي صرف ليس بذي ثمرة وأثر عملي.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر امرا آخر : وهو ان الثمرة المزبورة انما تتم في مورد العلم بتاريخ الوضع وتأخر الاستعمال عنه. واما مع الجهل بتاريخهما ، فلا أثر. إذ غاية ما يمكن ان يذكر في إثبات تأخر الاستعمال وجهان :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٣ ـ الطبعة الأولى.

١٩٣

أحدهما : أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع. وهو مردود لوجهين :

أولهما : معارضته بأصالة تأخر الوضع.

وثانيهما : انه من الأصول المثبتة ، لأن مرجع هذا الأصل إلى استصحاب عدم الاستعمال إلى حين الوضع ، ولا يخفى ملازمة ذلك لتأخر الاستعمال عن الوضع وثبوته بعده ، فثبوت تأخر الاستعمال بهذا الأصل يبتني على ثبوت الأصل المثبت. وتحقيق ذلك في أوائل التنبيه الحادي عشر من تنبيهات الاستصحاب في الكفاية فراجع (١).

الوجه الثاني : أصالة عدم النقل ، بمعنى انه يستصحب عدم النقل إلى ما قبل الاستعمال ، فانه أصل عقلائي ، وهو المسمى بالاستصحاب القهقرى ، ويثبت به تأخر الاستعمال عن الوضع وكون الوضع قبله ، وان كان ذلك بالملازمة لحجية الأصول العقلائية في لوازم مفادها.

ولكنه مردود : بان الثابت بناء العقلاء على عدم النقل مع الشك في أصل النقل ، اما مع العلم به والشك في تقدمه وتأخره فلم يثبت بناء العقلاء على استصحاب عدم النقل إلى زمان ما ، فلا دليل على حجية أصالة عدم النقل فيما نحن فيه (٢).

ومنه يعلم انه لا بد من ان يكون المراد من التبادر المستدل به على ثبوت الوضع التعييني ، هو التبادر في زمان الشارع لا في زماننا ، إذ التبادر في زماننا لا يثبت الوضع من الشارع الا بأصالة عدم النقل ، وقد عرفت عدم ثبوتها في مورد العلم بأصل النقل والشك في زمانه.

* * *

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٤

الصّحيح والأعمّ

١٩٥
١٩٦

الصحيح والأعم

موضوع البحث والكلام : هو ان الألفاظ هل هي موضوعة للصحيح من معانيها أو للأعم من الصحيح والفاسد؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية أمورا قبل الخوض في أصل المطلب ، رأى ضرورة الاطلاع عليها وتحقيقها قبل تحقيق المقصود لدخله في تحقيقه.

الأمر الأول : في تصوير النزاع. ولا يخفى ان تصويره على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح ، إذ يقال : ان الشارع هل وضع اللفظ لخصوص الصحيح أو للأعم منه ومن الفاسد؟ ولكن تصويره على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية صار محل الخلاف ، إذ لا وضع كي يقال بان الموضوع له هو الصحيح أو الأعم ـ ولا يخفى انه لو لم يمكن تصويره على القول بعدم ثبوتها واختصاص النزاع بالقول بثبوتها ، لا يكون هذا المبحث مبحثا مستقلا في مقابل المبحث السابق ـ أعني مبحث الحقيقة الشرعية ـ ، بل يكون من فروعه ومترتبا عليه ، لأنه نتيجة أحد القولين في تلك المسألة ، إذ لا يجري الكلام في هذه المسألة على كلا تقديري تلك المسألة ـ. والّذي ذهب إليه صاحب الكفاية عدم إمكان تصوير النزاع بنحو يوجب استقلال هذا المبحث عن سابقه ، وبصورة تتناسب مع علمية المبحث والنزاع ، إذ ادعى ان تصويره في غاية الإشكال.

وقد صوره بعض بما بيانه ـ كما في الكفاية ـ : ان النزاع يكون في ان

١٩٧

الأصل في الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيح أو الأعم بمعنى ان أيهما اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ابتداء ولوحظت المناسبة بينهما أولا ، ثم استعمل اللفظ في الآخر بتبعه ومناسبته ، فينزل كلام الشارع عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي فقط وعدم قرينة أخرى معينة للآخر ، بلا احتياج لقرينة معينة له بخصوصه.

وقد استشكل صاحب الكفاية هذا التصوير : بأنه ليس تصويرا للبحث العملي الّذي يتصور لكلا شقيه وجه للثبوت ، وذلك لأن إثبات كلا الشقين على هذا التصوير ، أعني كون الأصل في الاستعمال هو الاستعمال في الصحيح أو كونه الاستعمال في الأعم ، يتوقف على أمرين لا سبيل علمي لإثبات كل منهما. وهما :

أولا : ثبوت اعتبار العلاقة أولا بين المعنى اللغوي وأحد المعنيين الصحيح والأعم بعينه.

وثانيا : تنزيل كلام الشارع على ما لوحظت العلاقة ابتداء بينه وبين المعنى اللغوي ـ لو ثبت ذلك ـ بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي وعدم القرينة المعينة للمعنى الآخر ، بلا حاجة إلى قرينة خاصة معينة كغيره.

فانه لا يخفى انه ليس لدينا من الطرق المتعارفة في باب الظهورات وغيرها ما يثبت أحد هذين الأمرين ، فكيف يكون النزاع المتوقف عليهما نزاعا علميا يقصد فيه تحقيق أحد طرفيه؟! (١).

ويمكن النّظر فيما أفاده قدس‌سره : بان التقريب المزبور بأسلوبه العلمي الصناعي قد يبدو مشكل الإثبات. ولكنا نغض النّظر عن ذلك ، ونقول : ان طريق إثبات أولوية أحد المعنيين هو الظهور الثابت لأحدهما ولو كان مجازيا ، فانه لا إشكال في ظهور الكلام في أحد المعنيين ، وبضميمة عدم القول بالوضع الشرعي نعلم ان المعنى الظاهر مجازي ، فإذا ثبت الظهور ولو كان مجازيا حمل اللفظ عليه كما قد يقال بمثله في المجاز الراجح أو المشهور. فتدبر.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٨

وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لتصوير النزاع لا يتوقف الا على إثبات الأمر الأول ، ولا يعنينا التعرض إليه بشيء بعد ان اعترف مقرره بتوقفه على ما لا طريق لإثباته عادة (١).

وللمحقق النائيني وجه في رفع الإشكال في التصوير المذكور للنزاع ، وحاصله : ان طريق إثبات لحاظ العلاقة ابتداء بين أحد المعنيين بعينه والمعنى اللغوي ممكن ، وذلك لأنه ان لم تثبت الحقيقة الشرعية فثبوت الحقيقة لدى المتشرعة لا ينكر ، لتبادر هذه المعاني من الألفاظ عندنا. ولا يخفى ان الحقيقة الشرعية انما حصلت بكثرة الاستعمال من زمان الشارع إلى زمان المتشرعة ، وعليه فيلحظ ما هو المتبادر عندنا نحن المتشرعة من الصحيح أو الأعم ، فينزل كلام الشارع عليه ويبنى على ان الأصل استعماله فيه ، لأن التبادر والوضع التعيني عندنا انما حصل بتبع استعمال الشارع والمتشرعة بتبعه ، فيكشف عن الأصل في استعمالات الشارع وان كانت مجازا (٢).

وهذا الوجه ضعيف للغاية لوجوه :

الأول : انه لا وجه لاستكشاف الأصل في استعمالات الشارع بما هو المتبادر عندنا ، لأن التبادر انما نشأ من كثرة الاستعمال الناشئ من كثرة الحاجة إلى تفهيم المعنى ، ولا يبعد ان يكون الشارع قد استعملها في الصحيح مثلا ، إلاّ ان الاستعمال من قبل المتشرعة كان في الأعم بكثرة لكثرة الحاجة إلى تفهيمه ، فيتحقق الوضع التعيني لدى المتشرعة في الأعم دون الصحيح ، فالمتبادر منه معنى معين لا يكون كاشفا عن ان ذلك المعنى هو الأصل في استعمالات الشارع ، لإمكان ان يكون الأصل غيره ، لكن تبدل ذلك عند المتشرعة للحاجة الكثيرة لتفهيم غيره.

الثاني : ان الوجه المذكور على تقدير تسليمه في إثبات نحو استعمال

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٤ ـ الطبعة الأولى.

١٩٩

الشارع ، فهو لا يثبت كون الأصل فيه ذلك الاستعمال ، وان العلاقة لوحظت ابتداء بين المعنى المعين والمعنى اللغوي ، إذ يمكن ان تكون العلاقة لوحظت أولا بين غيره والمعنى اللغوي ، لكن كثر الاستعمال من الشارع في هذا المعنى لكثرة الحاجة إليه.

الثالث : انه على تقدير تسليم كشفه عن المعنى الّذي لوحظت العلاقة فيه ابتداء ، فهو لا يجدي ما لم يقم الدليل على ثبوت كون المعنى الّذي لوحظت العلاقة فيه ابتداء ، هو الأصل في الاستعمال ، وان الكلام يحمل عليه بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي وعدم القرينة المعينة للآخر. وقد عرفت انه لا طريق عادة إلى إثبات ذلك.

وبالجملة : فمن مجموع ما ذكرناه يتضح ضعف ما ذكره قدس‌سره.

وبذلك تكون النتيجة هي ما انتهى إليه صاحب الكفاية من عدم تحقق النزاع المزبور على القول بعدم الحقيقة الشرعية ، وكون هذه المسألة من متفرعات مسألة الحقيقة الشرعية.

والعجب من السيد الخوئي انه يبني على جريان النزاع بالوجه المذكور في الكفاية ، بلا تعرض لدفع ما استشكله صاحب الكفاية وكلام أستاذه النائيني (١) ، مع ان القواعد تقتضي بضرورة التعرض إلى مثل ذلك نفيا أو إثباتا كما لا يخفى.

ثم انه لو بنى على تصوير النزاع وجريانه على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية بما ذكر في الكفاية ، يتضح جريانه على الرّأي المنسوب إلى الباقلاني القائل بان الألفاظ دائما مستعملة في معانيها اللغوية وإفادة إرادة الاجزاء والشرائط بقرينة خاصة ، كما أشار إليه في الكفاية فراجعه (٢).

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٣٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٠٠