منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

ارتباط صحته بالطبع لا بالوضع (١).

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه

هذا المبحث كسابقه في عدم الأثر والجدوى العملية ، ولهذه الجهة رأينا وجاهة الاقتصار على مجرد الإشارة إلى أصل البحث ببيان عبارة الكفاية ، والكلام فيه في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، كما يقال « زيد لفظ » ويقصد به نفس الزاء والياء والدال الصادر من اللافظ فعلا.

واستشكل في صحته صاحب الفصول رحمه‌الله بتقريب : ان القضية الذهنية مركبة من اجزاء ثلاثة موضوع ومحمول ونسبة كالقضية الخارجية واللفظية.

وعليه ، فان التزم بوجود الدال في القضية اللفظية أعني « زيد لفظ » وهو الموجب لانتقال صورة المدلول في الذهن ، لزم اتحاد الدال والمدلول ، إذ المدلول ليس إلا نفس موضوع القضية اللفظية وهو لفظ « زيد » ، والمفروض انه هو الدال ، فيكون الدال عين المدلول وهو ممتنع لامتناع اتحاد الحاكي والمحكي ، لأن الدلالة والحكاية من سنخ العلية واتحاد العلة والمعلول ممتنع. وان التزم بعدم الدلالة والحكاية عن ذات الموضوع باللفظ لزم تركب القضية الذهنية من جزءين النسبة والمحمول ، لعدم الحكاية عن الموضوع كي ينتقل إلى الذهن ، وتركبها من جزءين ممتنع لأن النسبة متقومة بطرفين فلا توجد بطرف واحد (٢).

وأجاب صاحب الكفاية عن هذا الاستشكال : بأنه لنا ان نختار كلا الشقين ولا يلزم أي محذور. فنلتزم بوجود الدلالة ولا يلزم محذور اتحاد الدال

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية ـ ٢٢ ـ الطبعة الأولى.

١٦١

والمدلول ، لكفاية التغاير الاعتباري بين الدال والمدلول وان اتحدا ذاتا ، وهو موجود فيما نحن فيه ، إذ في اللفظ جهتان : جهة كونه صادرا من اللافظ. وجهة كونه مقصودا له ، فهو بالجهة الأولى دال وبالجهة الثانية مدلول.

كما انه يمكن ان نلتزم بعدم الدلالة ولا يلزم محذور تركب القضية من جزءين ، لأن انتقال الذهن إلى ذات الموضوع لا يتوقف على ثبوت الحاكي عنه ، بل يتحقق بإحضار نفس الموضوع خارجا ، والحكم عليه وما نحن فيه يمكن ان يكون من هذا القبيل ، فان ذات الموضوع نفس لفظ « زيد » وقد أحضر بنفسه ، فتتحقق صورته في الذهن بواسطة ذلك. ثم يحكم عليه بواسطة اللفظ الحاكي عن معناه الّذي يكون به الحكم.

إلاّ ان هذا النحو يخرج عن كونه من استعمال اللفظ في المعنى ، لأنه إحضار لنفس المعنى (١) المقام الثاني : في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه. والأول : كقولك : « ضرب فعل ماض » قاصدا نوع هذا اللفظ ، والثاني كقولك : « ضرب » في : « ضرب زيد فعل ماض » قاصدا كل ضرب تأتي في هذا المثال لا خصوص ضرب في المثال المزبور ـ والمراد بالصنف هو النوع متخصصا بخصوصية عرضية كما اتضح بالمثال ـ.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى : انه يمكن ان يلتزم ان مثل هذا الإطلاق من باب الاستعمال والحكاية ، بان يستعمل اللفظ ويراد به نوعه بحيث يجعل حاكيا عنه ودالا عليه دلالة اللفظ على المعنى ، وان يلتزم انه من باب إحضار نفس الموضوع ـ كإطلاق اللفظ وإرادة شخصه ـ بان يكون [ يجعل ] الموضوع نفس اللفظ ويحكم عليه ، لكن لا بما هو ، بل بما انه فرد لنوعه فيسري الحكم إلى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٢

سائر الافراد ، لأنه في الحقيقة حكم على النوع. وبتقريب آخر : انه يحكم على نفس النوع الموجود في ضمن فرده بلحاظ ان وجود الفرد وجود للكلي.

هذا ثبوتا ، واما إثباتا فالأنسب بملاحظة موارد الإطلاق هو ان يكون من باب الاستعمال ، بل هناك موارد لا يمكن إلاّ ان تكون من هذا الباب كالمثال المزبور ـ أعني ( ضرب فعل ماض ) ـ لأن ضرب في نفس المثال ليس فعلا ماضيا بل هي مبتدأ ، فيمتنع الحكم عليها بأنها فعل ماض ، بل لا بد ان يلحظ فيها الحكاية (١).

المقام الثالث : في إطلاق اللفظ وإرادة مثله ، مثل : « ضرب » في : « ضرب زيد » : « فعل ماض » وقصد بها ضرب في خصوص المثال.

وهذا يتعين ان يكون من باب استعمال ، لأن المفروض فيه هو الحكم على الفرد المماثل ، وكل فرد يغاير الآخر ، فيمتنع ان يكون وجودا له ، فلا بد ان يقصد الحكاية به عن المماثل (٢).

ثم ان صحة الإطلاق في هذه المقامات الثلاثة هل ترتبط بالاستحسان والطبع أو ترتبط بترخيص الواضع وإجازته؟ ذهب صاحب الكفاية إلى الأول ، واستشهد على ذلك بأنه قد يطلق اللفظ المهمل على نوعه أو غيره فيقال : « ديز مهمل » أو : « لفظ » ، فلو ارتبط صحة الاستعمال بالوضع لزم ان يكون مثل : « ديز » من المهملات موضوعا وهو خلف فرض كونه مهملا.

هذا بيان مطلب الكفاية في كلا الأمرين (٣) ، وقد أطيل الكلام حوله ونوقش في بعض خصوصياته ، وقد تقدم ان الإطالة فيه بلا طائل فالاكتفاء بما ذكرناه متعين.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣ ـ ١٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٣

الإرادة والموضوع له

الكلام يمكن ان يقع في جهات :

الجهة الأولى : في أن الموضوع له هل هو ذات المعنى أو انه المعنى المتعلق للإرادة. وبتعبير آخر : ـ كما ورد في الكفاية ـ ان اللفظ موضوع للمعنى بما هو أو بما هو مراد؟ (١).

الجهة الثانية : في ان الوضع هل يقتضي دلالة اللفظ والكلام على تحقق الإرادة أو لا؟.

الجهة الثالثة : في ان العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى هل هي مقيدة بصورة تعلق الإرادة بالمعنى أو لا؟ ، وبتعبير آخر ان الدلالة هل تتبع الإرادة أو لا؟.

والفرق بين الجهة الأولى والأخريين هو انه لو بنى على كون الألفاظ موضوعة للمعنى بما هي مرادة لم يكن اللفظ كاشفا عن ثبوت الإرادة في الخارج ، بل لا يقتضي سوى حصول صورة المعنى المتعلق للإرادة في الذهن ، كما لو وضع اللفظ إلى نفس واقع الإرادة مستقلا ، فان استعماله لا يدل على ثبوت نفس المعنى خارجا ، لأن شأن الوضع ليس إلاّ وساطته في حصول صورة المعنى في الذهن دون دلالة الكلام على تحققه خارجا ، إذ لا تتوقف صحة الاستعمال على تحقق المعنى في الخارج.

وهذه غير نتيجة البحث في الجهتين الأخريين ، فان نتيجتهما على أحد القولين ـ أعني القول بدلالته على تحقق الإرادة والقول بالتبعية ـ هو ثبوت

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٤

الإرادة عند الكلام اما من جهة كشفه عنها أو تبعية دلالته لتحققها.

وبعبارة أخرى : ان البحث في كلتا الجهتين ممكن على كلا القولين في الجهة الأولي ، لأن الالتزام بكون اللفظ موضوع للمعنى بذاته أو بما أنه مراد لا يتنافى مع الالتزام بان الكلام لا يدل على تحقق الإرادة ، أو أن العلقة الوضعيّة انما تكون في صورة ثبوت الإرادة وانه مع عدمها لا علقة وضعية ، فالالتزام بكلا القولين في الجهة الأولى لا ينفي تحقق الكلام في الجهتين الأخريين.

وأما الفرق بين الجهة الثانية والثالثة. فواضح ، لأن مقتضى الالتزام بتبعية الدلالة للإرادة هو توقف الدلالة على ثبوت الإرادة وإحرازها بغير طريق اللفظ ، وهذا بخلاف مقتضى الجهة الثانية فان الالتزام بدلالة اللفظ على الإرادة يقتضي صلاحية اللفظ للكشف عنها وان طريق إحرازها يكون هو اللفظ ، فالجهتان يختلفان أثرا ونتيجة.

وإذ تبين الفرق بين هذه الجهات وصلاحية كل منها للبحث في عرض الأخرى ، فلا بد من تحقيق منهما على حدة.

وقد اقتصر صاحب الكفاية في كلامه على الجهة الأولى ، وقد وقع الخلط في بعض الكلمات بين الجهات ، والمهم تحقيق كل مبحث بنفسه. فنقول :

اما الجهة الأولى من جهات البحث : فقد التزم صاحب الكفاية بكون اللفظ موضوعا للمعنى بما هو لا بما هو مراد ، لاستلزام الأخير بعض المحاذير :

منها : ان الإرادة من شئون الاستعمال كاللحاظ ، فيمتنع أخذها في الموضوع له جزءا أو قيدا كامتناع أخذ اللحاظ فيه كذلك كما بين.

ومنها : لزوم التصرف في ألفاظ أطراف القضية من موضوع ومحمول ، لأنه من الظاهر ان حمل الوصف على ذات ما انما يلحظ فيه حمل الوصف الخارجي على الذات الخارجية ، فالمراد من « زيد قائم » حمل الذات المتلبسة بالقيام في الخارج على ذات زيد الخارجية ، وإذا كان الموضوع له لفظ « زيد » و « قائم » هو

١٦٥

المعنى المتعلق للإرادة كان المعنى امرا ذهنيا لتقيده بما هو ذهني وهو الإرادة ، فلا بد من الالتزام بتجريده عن الخصوصية عند الحمل وهو يستلزم المجازية بل لغوية أخذ الخصوصية في الموضوع له.

ومنها : لزوم كون الموضوع له مطلقا خاصا ، لأن الإرادة المدعى أخذها في الموضوع له انما هي واقع الإرادة لا مفهومها ، فيلزم ان يكون المعنى جزئيا ، لتقيده بواقع الإرادة وهو خلاف الوجدان والتسالم على ثبوت الموضوع له العام.

ثم انه بعد ذلك تعرض لما حكي عن كلام العلمين ـ الشيخ الرئيس والخواجة نصير الدين ـ من ان الدلالة تتبع الإرادة ، وانه لا ينافي ما التزم به من عدم الوضع للمعاني بما هي مرادة ، لأنه ناظر إلى الدلالة التصديقية وهي دلالة الكلام على إرادة المتكلم تفهيم المعنى وقصده له. لا الدلالة التصورية وهي مجرد خطور المعنى في الذهن التي هي محل الكلام. وتبعية الدلالة التصديقية للإرادة لا يكاد ينكر ، بل هو مما لا شبهة فيه كتبعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت والكاشف عن المنكشف ، لأن كشف الكلام عن تحقق الإرادة متفرع على أصل تحققها وثبوتها كما لا يخفى (١).

هذا محصل كلام الكفاية بتوضيح.

ولا يخفى عليك ان الّذي يظهر منه انه لم يتصور لفرض تبعية الدلالة للإرادة وجه سوى أخذ الإرادة في الموضوع له.

ولذا حاول ان يوجه كلام العلمين وبحمله على غير الدلالة الوضعيّة لوضوح بطلان أخذها في الموضوع بنحو لا يمكن اسناد ذلك إلى مثلهما من العلماء.

ولكن سيجيء في تحقيق الجهة الثالثة بيان إمكان فرض الدلالة الوضعيّة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٦

تابعة للإرادة من دون أخذها في الموضوع له.

ثم انه قد يورد على ما ذكره قدس‌سره من الوجه الأول : ان دخل أخذ الإرادة في الموضوع له لا ينحصر بأخذها جزءا أو قيدا كي يرد عليه ما ذكر ، بل يمكن تقريبه بنحو ما قرب دخل اللحاظ الآلي والاستقلالي في معنى الاسم والحرف من كون الموضوع له هو الحصة الخاصة ونحوه ، فلا وجه لنفيه حينئذ بما ذكر.

ومن هنا يندفع الوجه الثاني من وجوه الإشكال لترتبه على قيدية الإرادة للمعنى ، وقد عرفت عدمها وإمكان دعوى دخل الإرادة مع الالتزام بان الموضوع له هو ذات المعنى.

نعم يبقى الإشكال الثالث ، إلاّ انه ليس بمحذور ولا ضير في الالتزام به.

وعليه ، فإذا ثبت إمكان دخل الإرادة في الموضوع له ثبوتا تصل المرحلة في الكلام إلى مقام الإثبات ، وانه هل هناك ما يقتضي دخلها أو لا؟ قيل : نعم ، باعتبار ان الحكمة الداعية إلى الوضع انما هي حصول التفهيم والتفهم بواسطة اللفظ. وإذا كان المنظور في الوضع ذلك كان مقتضاه حصر الوضع في الحصة الخاصة من المعنى وهي المعنى الّذي تعلقت به إرادة التفهيم دون مطلق المعنى لعدم تحقق ملاك الوضع فيه.

هذا ما أورد به على صاحب الكفاية وهو بمقدار كونه إلزاما لصاحب الكفاية ، وجيه ، إلاّ انه حيث عرفت في الكلام حول عبارة صاحب الكفاية في المعنى الحرفي عدم تصور وجه معقول لدخل اللحاظ في الموضوع له بلا ان يكون قيدا أو جزءا للموضوع له كان دخل الإرادة في المعنى بلا ان يكون جزءا أو قيدا له كذلك.

وعليه ، فيرد ما ذكره صاحب الكفاية من المحاذير الثبوتية ، ومعه لا تصل النوبة إلى الكلام في مرحلة الإثبات لامتناع دخله ثبوتا.

١٦٧

وبالجملة : ما ذكره صاحب الكفاية متين في موضوع بحثه ، وهو أخذ الإرادة في الموضوع له. وبذلك يكون اختيارنا هو كون اللفظ موضوعا لذات المعنى وبما هو هو.

واما ما وجه به صاحب الكفاية كلام العلمين من حمله على ان الدلالة التصديقية تتبع الإرادة ، فبظني انه واضح الإشكال بلا حاجة إلى إثبات خلافه من تصريحاتهم وتكلف المشقة في نقل كلامهم. وذلك لأن تفرع الدلالة التصديقية عن الإرادة أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان كما لا يحتاج تفرع الكاشف عن المنكشف ، إليه فيبعد تصديهم بهذا الكلام إلى بيان مثل هذا الأمر البديهي ، وعلى كل فالامر سهل.

واما الجهة الثانية من جهات البحث ، فتحقيقها : أنه لا وجه لدعوى كون مقتضى الوضع هو تحقق الإرادة التفهيمية حال الاستعمال الا ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه الله ) : من ان ذلك مقتضى الالتزام بان الوضع هو التعهد ، فانه إذا كان الوضع هو التعهد بذكر اللفظ عند قصد التفهيم وتحقق إرادته كان ذكر اللفظ بمقتضى الالتزام النفسيّ والعهد الّذي أخذه الواضع على نفسه كاشفا لا محالة عن تحقق الإرادة. وإلاّ كان مخالفا لعهده وهو خلاف الأصل العقلائي (١).

ولا يخفى انه يرد عليه :

أولا : ان أصل المبنى ـ أعني كون حقيقة الوضع هو التعهد بذكر اللفظ عند قصد التفهيم ، أو بتعبير آخر : وهو التعهد بقصد التفهيم عند ذكر اللفظ ـ فاسد كما عرفت.

وثانيا : لو سلم أصل المبنى لم يثبت المدعى ، لأن التعهد المذكور انما يثبت كون قصد التفهيم سببا لذكر اللفظ ، وهذا لا ينافي ان يكون لذكر اللفظ سبب

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٠٤ ـ الطبعة الأولى.

١٦٨

آخر غير قصد التفهيم ، فلا يكون ذكره مع تعدد السبب كاشفا عن خصوص أحدها وهو التفهيم. وبتعبير آخر : ان التعهد المزبور محصله : انه متى ما قصد التفهيم ذكر اللفظ ، لا انه لا يذكر اللفظ الا عند قصد التفهيم ، ولا يخفى انه إذا ذكر اللفظ ولم يكن قاصدا للتفهيم لا يعد انه خالف تعهده ، وانما يخالف تعهده فيما لو قصد التفهيم ولم يذكر اللفظ. فلا بدّ من ثبوت المدعى بذلك من الالتزام بكون قصد التفهيم علة منحصرة لذكر اللفظ ، ولكنه لا أثر لذلك في كلام القائل. ولو التزم به تنزلا فيرد عليه :

ثالثا : ان انحصار السبب لذكر اللفظ بقصد التفهيم امر يخالف الوجدان ، لوضوح انه كثيرا ما يذكر اللفظ مع عدم قصد التفهيم كموارد الحفظ والتذكر ، أو موارد التلقين ونحوها.

وعليه ، فالمتعين هو الالتزام بعدم اقتضاء الوضع لثبوت حقيقة الإرادة عند ذكر اللفظ.

وأما الجهة الثالثة : ـ وهي الظاهرة من كلمات القوم ، والأوفق بصيغة البحث ـ فالكلام فيها من جهتين الثبوت والإثبات. اما ثبوتا فالالتزام بالتبعية معقول ـ كما تقدم في المعنى الحرفي لتوجيه كلام الكفاية ـ فيلتزم بان العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى مقيدة بإرادة التفهيم ، فلا يكون الوضع والاختصاص فعليا الا عند الإرادة ، وبدونها يكون إنشائيا وهو مما لا محذور فيه. واما إثباتا فغاية ما يقرب به الالتزام المذكور ، بأنه يتناسب مع حكمة الوضع الداعية إليه ، لأن الحكمة فيه التوسعة في طريق إبراز المقاصد والتفهيم ، وهو يقتضي تقييد الاختصاص الوضعي بصورة الإرادة التفهيمية. وقربه السيد الخوئي أيضا بأنه ضرورة حتمية لمبناه في الوضع ، وانه عبارة عن التعهد ، لأن التعهد بذكر اللفظ انما هو عند إرادة التفهيم. واما إشكال تحقق الدلالة ولو كان اللفظ صادرا من غير ذي شعور ، فقد أجيب عنه : بان ذلك ناش من الأنس الحاصل في الذهن لا

١٦٩

من الوضع.

ولا يخفى عليك ان مقتضى الالتزام بذلك هو تبعية الدلالة للإرادة بحيث لا تتحقق الدلالة الا بعد إحراز الدلالة ، ولا يكون اللفظ بمقتضى الوضع دالا على الإرادة ، ولكن جاء في تقريرات الفياض دعوى ان التزامه المزبور يستلزم كون اللفظ دالا بمقتضى الوضع على الإرادة وكاشفا عنها (١). ونحن لا نعرف أي وجه للملازمة أصلا ، بل مقتضى الوجه المزبور كما عرفت هو توقف دلالة اللفظ وحدوث العلقة الوضعيّة على تحقق الإرادة وإحرازها ، لأن إحراز المشروط يتوقف على إحراز شرطه.

ثم ان المحقق العراقي قدس‌سره بعد ان صوّر أخذ الإرادة في الموضوع له بأنحاء : منها : أن تكون مأخوذة في الموضوع له بنحو التقييد ، على ان يكون التقيد داخلا والقيد خارجا. أورد على هذا النحو : بأنه يستلزم أن يكون اللفظ موضوعا للمركب من المعنى الاسمي وهو ذات المعنى والمعنى الحرفي وهو التقيد. وهو امر ينافي سيرة الوضع بحسب الاستقراء والتتبع (٢).

وقد ذكر المقرر الفياض هذا المطلب وأورد عليه :

أولا : بان الاختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي اختلاف بالذات لا باللحاظ الاستقلالي والآلي ، فالمعنى الاسمي اسمي وان لوحظ آليا ، والمعنى الحرفي حرفي وان لوحظ مستقلا. وعليه فالإرادة معنى اسمي وان لوحظت آليا ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسمي إلى المعنى الحرفي حتى يلزم وضع اللفظ للمركب من معنى اسمي وحرفي.

إلاّ ان يكون مراده من المعنى الحرفي نفس التقيد بالإرادة لا نفس

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٠٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٩٢ ـ الطبعة الأولى.

١٧٠

الإرادة فانه معنى حرفي. ولكنه مدفوع. أولا : بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركبة أو المقيدة ، فان معانيها متضمنة للمعنى الحرفي لا محالة ، إذ كل جزء مقيد بجزء آخر والتقيد معنى حرفي. وثانيا : انه لا مانع من وضع لفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي إذ دعت الحاجة إليه ، والاستقراء على تقدير تماميته لا يدل على استحالة الوضع المزبور.

وثانيا : انه لا أساس لهذا الإيراد ، فانه مبتن على أخذ الإرادة في الموضوع له ، واما إذا لم تؤخذ فيه أبدا ، بل كانت مأخوذة في العلقة الوضعيّة فلا مجال للإيراد (١).

وأنت خبير : بان ما ذكره أولا لا وجه له ، بعد أن كان مفروض كلامه هو دخل التقيد لا نفس الإرادة ، فحمل كلامه على ذلك ـ أعني على دخل الإرادة ـ والإيراد عليه ثم إبداء احتمال إرادة دخل التقيد تصحيحا لكلامه لم يعرف له معنى محصل أصلا.

وأما ما ذكره من النقض بالوضع للمعاني المركبة ، فتماميته تبتني على دخل ارتباط الاجزاء بعضها ببعض في الموضوع له. واما بناء على كون اللفظ موضوعا لذوات الاجزاء بلا لحاظ ارتباط بعضها بالبعض والارتباط في بعض المركبات مأخوذ في موضوع الأمر لا في الموضوع له اللفظ ، فلا يتم ما ذكره. وتحقيق أحد الوجهين قد يتضح في ضمن بعض المباحث اللاحقة ، كمبحث الوضع للصحيح أو للأعم ، ومبحث مقدمة الواجب ، وشمولها ـ أي المقدمة ـ للاجزاء فانه يبتني على كون المركب هل هو ذوات الاجزاء بالأسر أو انه الاجزاء بوصف الاجتماع ، فانتظر. ثم ان العراقي قدس‌سره لم يدع استحالة ما ذكر من الوضع للمعنى المركب من معنى اسمي وحرفي بالاستقراء ، بل ان دعواه ترجع إلى استكشاف

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٠٧ ـ الطبعة الأولى.

١٧١

عدم الوضع لمثل ذلك بمعرفة مذاق الواضع بالتتبع ، فلا وجه لدعوى ان الاستقراء لا يستلزم المحالية لأنها نفي ما لم يدع. واما الإيراد الأخير وهو كون الإرادة مأخوذة في العلقة الوضعيّة لا الموضوع له ، فهو لا يعد إشكالا ونفيا لما ذكره العراقي ، لأن ما ذكره العراقي مرتب على خصوص فرض أخذ الإرادة في الموضوع له بهذا النحو ، وليس مرتبا على فرض دخل الإرادة في الموضوع له بجميع أنحائها كي ينفي بأنه تام على بعض التقادير دون بعض. فتدبر جيدا.

وضع المركبات

موضوع البحث هو تحقق وضع المركب من المادة والهيئة ، وبعبارة أخرى : تحقق الوضع للجملة التركيبية بهيئتها ومادتها. والّذي لا إشكال فيه هو تحقق الوضع للمواد ، فان المفردات موضوعة لمعانيها كلية أو جزئية ، وكذلك تحقق الوضع للهيئات ـ أعني هيئة الجملة ـ فانها موضوعة للنسبة كما عرفت.

وعليه ، فإذا ثبت الوضع لمجموع اجزاء الجملة من موضوع ومحمول ونسبة بوضع كل المادة والهيئة ، كان وضع المركب من الهيئة والمادة ـ مع غض النّظر عن أصل ثبوت المحذور فيه وعدمه ـ عديم الفائدة ولغوا محضا بلا كلام ، وهو لا يتحقق لأن الوضع من الأعمال العقلائية الملحوظ فيها ترتب الأثر وتحقق الفائدة. فلاحظ. ولا يحتاج المبحث إلى أكثر من هذا البيان لأنه بغير طائل وانما كان المقصود الإشارة إليه بهذا المقدار من الكلام.

* * *

١٧٢

علامات الحقيقة

هذا المبحث كبعض سوابقه عديم الأثر في مجال العمل ، وذلك لأن المدار في معرفة المراد من الكلام على ظهور الكلام في المعنى سواء كان حقيقيا أو مجازيا ، فان الظاهر حجة بلا كلام ، أما مجرد كون المعنى حقيقيّا فلا يجدي في الحكم بكونه مرادا من اللفظ ما لم يكن للفظ فيه ظهور.

نعم تظهر الفائدة بناء على الالتزام بأصالة الحقيقة تعبدا ، فانه يلتزم بكون المراد هو المعنى الحقيقي ولو لم يكن اللفظ ظاهرا فيه ، فتعيين المعنى الحقيقي بإحدى العلامات يكون ذا أثر على هذا البناء. لكن التحقيق عدم البناء على أصالة الحقيقة تعبدا ، وكون المدار في تعيين المراد ظهور الكلام ، وهو لا يرتبط بتعيين الحقيقة ، لأن ما يكون الكلام ظاهرا فيه يكون متبعا وان لم يكن معنى حقيقيا ، وما لا يكون ظاهرا فيه لا يبنى على إرادته وان كان معنى حقيقيا قد وضع اللفظ له.

وبهذا اللحاظ كان البحث اللازم في علامات الحقيقة بحثا سطحيا لا أكثر.

وعليه ، فنقول : قد ذكر للحقيقة والوضع علامات.

منها : التبادر ، وهو انسباق المعنى من اللفظ حال إطلاقه بلا قرينة ، فانه

١٧٣

دليل الوضع لذلك المعنى. لأن انسباق المعنى منه لا يخلو سببه ، اما ان يكون علاقة ذاتية بين اللفظ والمعنى وهي منتفية كما تقدم. أو يكون قرينة صارفة ، وهو خلاف المفروض لأن الفرض عدم القرينة ، فيتعين ان يكون السبب هو الوضع والعلاقة الجعلية ، إذ لا يتصور سبب آخر لذلك ، وذلك هو المطلوب ، ويكون التبادر على هذا علامة للوضع بطريق الإن وكاشفا عنه كشف المعلول عن علته.

ويرد على كون التبادر علامة للوضع بان ذلك يستلزم الدور ، لأن التبادر لا يحصل بدون العلم بالوضع كما هو ظاهر ، فإذا كان العلم بالوضع موقوفا على التبادر كما هو فرض علامية التبادر ، لزم الدور.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بان التبادر المفروض كونه علامة ، اما ان يراد به التبادر لدى نفس الشخص المستعلم ، واما ان يراد به التبادر لدى العالم وأهل اللغة فيكون علامة له على الوضع.

فعلى الأول : فالتبادر وان توقف على العلم بالوضع إلاّ انه العلم الارتكازي الإجمالي ، وهو حصول صورة الشيء في النّفس ارتكازا من دون التفات إليها ـ فان كثيرا من الصور تكون مخزونة في النّفس بلا التفات إليها وانما يلتفت إليها بموجبات ـ والعلم الّذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيليّ بالوضع والالتفات إليه. وعليه فالتغاير بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر بالإجمال والتفصيل وهو كاف في رفع غائلة الدور.

وعلى الثاني : فالتغاير واضح ، لأن الموقوف عليه التبادر هو العلم الحاصل لدى أهل اللغة ، والعلم الموقوف على التبادر والحاصل به هو علم المستعلم ، وتغايرهما لا يحتاج إلى تنبيه وبيان (١).

ثم ان السيد الخوئي أضاف إلى ذلك أمرين :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٧٤

الأول : أن التبادر انما يكون كاشفا عن الوضع وعلامة له في ظرفه. يعني : انه يكشف عن الوضع في زمان التبادر أما قبله فلا يكشف عن الوضع. وعليه فتبادر المعنى فعلا من اللفظ المستعمل من قبل الشارع لا يجدي في إثبات انه هو المعنى الموضوع له سابقا وفي حال الاستعمال كي يؤخذ به ويلتزم بان الشارع اراده ، فلا بد من ضم أصل عقلائي للتبادر ينفع في المقصود وهو الاستصحاب القهقرى ، فيبنى به على ثبوت الوضع من ذلك الزمان ، وهذا الاستصحاب وان كان على خلاف الاستصحابات الثابتة من الشارع لأن ملاكها اليقين السابق والشك اللاحق ، على العكس في هذا الاستصحاب لأن الشك سابق واليقين لا حق وبهذا الاعتبار سمي بالقهقرى ، فلا يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب ، لكنه ثابت ببناء العقلاء عليه في باب الوضع والظهور ، ولولاه لما قام لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص أساس ، إذ ظهورها في معنى في زماننا لا يكون دليلا على الحكم ما لم يثبت ظهورها فيه في زمان الاستعمال ، ولا مثبت لذلك سوى هذا الاستصحاب ، فعلى ثبوته تدور رحى الاستنباط.

الثاني : ـ وهو ما أشار إليه في الكفاية ـ ان التبادر كما عرفت علامة للوضع إذا كان مستندا إلى حاق اللفظ بلا انضمام قرينة إليه ، فلو شك في استناده إلى قرينة أو إلى حاق اللفظ لم يكن علامة للوضع إذ لم يعلم انه مستند إلى حاق اللفظ المقوم لكونه علامة.

والتمسك بأصالة الحقيقة ، وان الأصل ان يكون الاستعمال حقيقيا.

غير صحيح ، لأن المرجع في هذا الأصل اما ان يكون هو الشارع أو بناء العقلاء ، فان كان المرجع هو الشارع لم يصح إجراؤه ، إذ لا يثبت كون المتبادر مستندا إلى حاق اللفظ وبلا قرينة إلاّ بالملازمة كما لا يخفى ، فيكون من الأصول المثبتة وهي غير معتبرة شرعا. وان كان بناء العقلاء ، فهم انما يتمسكون بأصالة الحقيقة في مورد يشك فيه في أصل المراد وانه المعنى الحقيقي أو المجازي الناشئ

١٧٥

من احتمال نصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي ، اما مع العلم بالمراد والشك في انه معنى حقيقي أو مجازي للشك في نصب قرينة فلا يتمسكون بأصالة الحقيقة ، ولذلك اشتهر ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

وبالجملة : للشك في نصب قرينة موردان : أحدهما ما يشك فيه في أصل المراد ، فانه ينشأ من الشك في القرينة. والآخر : ما يشك في نحو المراد وانه حقيقة أو مجاز للشك في نصب قرينة. وأصالة الحقيقة تجري في الأول دون الثاني الّذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه ، فأصالة الحقيقة انما تجري لإثبات إرادة المعنى الحقيقي ، ولا تجري لإثبات حقيقة المعنى المراد (١).

منها : عدم صحة السلب وصحته ، أو صحة الحمل وعدم صحته : فان الأول علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.

ولا بد قبل تقريب ذلك من بيان المراد من صحة الحمل أو السلب ، إذ قد يتوهم عدم المعنى له ، إذ الغرض معرفة وضع لفظ لمعنى فما هو شأن المحمول والموضوع؟ والحقيقة ان المراد منه هو حمل المعنى المشكوك وضع اللفظ له على اللفظ بما له من معنى ارتكازي أو بالعكس ، بان يحمل اللفظ بما له من المعنى على المعنى المشكوك وضعه له ، فان صح الحمل كان دليلا على الحقيقة وإلاّ كان قرينة على عدم وضع اللفظ له. فالمأخوذ محمولا أو موضوعا هو اللفظ بما له من معنى ، لا اللفظ بما انه لفظ كي يقال بأنه لا معنى للحمل. وإذا تبين ذلك : فتقريب كون صحة الحمل علامة للحقيقة هو ان الحمل على نحوين :

الأول : حمل أولي ذاتي ، وملاكه الاتحاد بين الموضوع والمحمول مفهوما.

والثاني : حمل شائع صناعي ، وملاكه الاتحاد بينهما وجودا.

وعليه ، فإذا شك في لفظ كلفظ « إنسان » في انه موضوع لمعنى كـ :

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١١٤ ـ الطبعة الأولى.

١٧٦

« الحيوان الناطق » أولا ، فإذا حمل الإنسان بما له من المعنى على الحيوان الناطق أو بالعكس فقيل : « الإنسان حيوان ناطق ، أو الحيوان الناطق إنسان » بالحمل الأولي الذاتي وصح الحمل كان مقتضاه اتحاد معنى الإنسان الارتكازي مع الحيوان الناطق وانه عينه ، فيستكشف بذلك وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق. فدلالة الحمل الأولي الذاتي على الوضع لأنه بملاك الاتحاد المفهومي ، فصحته تعني اتحاد معنى اللفظ الارتكازي مع نفس المعنى الّذي يشك في وضع اللفظ له ، وذلك دليل الوضع له كما لا يخفى.

وأما الحمل الشائع الصناعي ، فدلالته على الوضع من جهة ان ملاكه الاتحاد في الوجود ، فإذا علم ان هذا الفرد وجود لمعنى معين ، فإذا حمل عليه اللفظ بما له من المعنى على الفرد بما انه وجود لذلك المعنى المعين فصحته تعني ان الفرد بما انه وجود للمعنى المعين وجود للمعنى المرتكز للفظ ، وذلك معناه اتحاد المعنيين الكاشف عن وضع اللفظ للمعنى المعين وإلاّ لما كان الفرد بما انه وجود لأحدهما وجودا للآخر. وذلك نظير حمل الإنسان لما له من المعنى على زيد بما انه وجود للحيوان الناطق ، فان صحته كاشفة عن وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق بالتقريب الّذي ذكرناه. وبذلك يظهر اختصاص دلالة الحمل الشائع على الوضع بما إذا كان الحمل بين الكلي وفرده ، أما إذا كان بين كليين متساويين أو بينهما عموم وجه فصحة حمل أحدهما على الآخر لا تكشف عن الوضع ، وذلك لأن أساس الكشف يبتني على ان الموضوع لوحظ فيه كونه وجودا للمعنى الّذي يشك في وضع اللفظ له ، وأخذ موضوعا بهذا القيد ، ولا يبتني على مجرد دلالة الحمل على الاتحاد في الوجود ، إذ قد يكون فرد واحد فردا لكليين متغايرين من جهتين لكنه بما هو فرد لأحدهما ليس فردا للآخر.

وعليه ، ففي صورة حمل أحد المتساويين على الآخر أو أحد العامين من وجه على الآخر ، لم يفرض الا بيان اتحاد الموضوع والمحمول وجودا لا غير ـ لا

١٧٧

أن الموضوع بما انه كذلك وجود للمحمول بما هو محمول ، وإلاّ لم يصح الحمل كما لا يخفى ـ. وقد عرفت انه لا يكفي في الكشف عن الوضع. وقد تعرض بعضهم لتفصيل الكلام في صور الحمل والاتحاد ، لكننا أهملناه لعدم الأثر بالتطويل.

ثم ان إشكال الدور المتقدم بيانه في التبادر يأتي هاهنا أيضا ، لأن صحة الحمل تبتني على العلم بمعنى اللفظ وإلاّ فلا يعلم صحة الحمل من عدمها ، فكون العلم بالوضع موقوفا على صحة الحمل يستلزم الدور. والإجابة عنه كما تقدم اما بالفرق بالإجمال والتفصيل بين العلم الموقوف عليه صحة الحمل والعلم الموقوف على صحة الحمل. أو بالفرق بالعالم والمستعلم. فلا نعيد.

ثم ان المحقق الأصفهاني بعد ان أشار إلى حمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازي بلا قرينة ، ذكر ان التحقيق يقضي جعل نفس الحمل والسلب علامة للحقيقة والمجاز فيما كان النّظر إلى صحة الحمل وعدمها عند العرف ، لا جعل صحة الحمل وصحة السلب علامة للحقيقة والمجاز ، لأن العلم بصحة الحمل يحتاج إلى سبب آخر من تنصيص أهل اللسان أو التبادر أو نحوهما ، فيخرج عن كونه علامة ابتدائية مستقلة ، بخلاف نفس الحمل والسلب فانه بنفسه علامة الاتحاد والمغايرة من دون توقف على امر آخر (١).

كما ان السيد الخوئي أنكر دلالة صحة الحمل بنوعية الأولي والصناعي على الحقيقة والوضع. ببيان : ان الحمل الأولي لا يكشف إلا عن اتحاد الموضوع والمحمول ذاتا ، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال ، وانه حقيقي أو مجازي ، فقولنا : « الحيوان الناطق إنسان » لا يدل إلاّ على اتحاد معنييهما حقيقة ، أما ان استعمال لفظ الإنسان فيما أريد به حقيقي أو مجازي فذلك أجنبي عن مفاد

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٨ ـ الطبعة الأولى.

١٧٨

الحمل ، فلا يدل على الوضع ، إذ قد يكون المعنى المراد باللفظ مجازيا. وهكذا الحال في الحمل الشائع ، فانه لا يكشف إلاّ عن اتحاد الموضوع والمحمول وجودا بلا نظر إلى حال استعمال المحمول في ما أريد به وانه حقيقي أو مجازي ، وظاهر ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز. وبعبارة أخرى : ـ كما قال ـ ان صحة الحمل وعدم صحته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول ، فمع اتحاد المفهومين ذاتا يصح الحمل وإلاّ فلا ، واما الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال. وبين الأمرين مسافة بعيدة (١).

وأنت خبير بضعف هذا الكلام ، فان المفروض ان المحمول هو اللفظ بما له من معنى ارتكازي وبلا قرينة ، ولا يخفى أن ذلك معناه فرض حمل اللفظ بمعناه الموضوع له المرتكز في النّفس ، لا الأعم من الحقيقي والمجازي ، كما أشار إلى ذلك المحقق الأصفهاني ، وبعد هذا الفرض في أصل الكلام في صحة الحمل لا وجه لما ذكره وقرره فانه عجيب جدا كما لا يخفى فلاحظ.

منها : الاطراد ، وبيانه : هو ان يستعمل لفظ في شيء أو يطلق عليه بلحاظ معنى ، فإذا اطرد استعمال ذلك اللفظ بلحاظ هذا المعنى بحيث صح استعماله مطلقا ومطردا بلحاظه كان ذلك علامة ودليلا على كون اللفظ موضوعا لذلك المعنى.

لكنه يشكل : بان الاطراد حاصل بالنسبة للمعاني المجازية ، فان اللفظ يستعمل في المعنى المجازي بلحاظ العلاقة المصححة ، ويطرد في جميع موارد وجود العلاقة بلحاظها ، نظير استعمال أسد في زيد بلحاظ الشجاعة ، فانه يصح استعمال لفظ أسد في غير زيد من افراد الإنسان أو غيره بلحاظ الشجاعة. فجعل الاطراد علامة الحقيقة ينتقض بالمجاز.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١١٧ ـ الطبعة الأولى.

١٧٩

وقد يدفع النقض ـ كما احتمله صاحب الكفاية (١) ـ بان الملحوظ في الاستعمال المجازي نوع العلاقة ، وبملاحظتها لا يطرد الاستعمال ، فالملحوظ في استعمال أسد في زيد علاقة المشابهة لا خصوص المشابهة بالشجاعة. وظاهر انه لا يصح استعمال لفظ أسد في كل ما شابهه بلحاظ المشابهة ، إذ لا يصح استعماله في الجبان الأبخر ولا الجبان ذي العينين وهكذا.

لكنه فاسد ببطلان أساسه : فان الملحوظ والمصحح للاستعمال المجازي هو العلاقة الخاصة لا نوعها ، كالمشابهة في الشجاعة في استعمال أسد في زيد. لا كلي المشابهة ـ وإلاّ لكان مطردا ـ ، وظاهر ان الاستعمال بلحاظ خصوص المشابهة مطرد.

ومن هنا ـ أي من الانتقاض بالاستعمال المجازي ـ زاد بعضهم قيد ، على وجه الحقيقة أو بدون تأويل ـ بلحاظ الخلاف في حقيقة المجاز ، وانه مجاز في الكلمة أو في الادعاء ـ ، فيكون الاطراد علامة الحقيقة إذا كان على وجه الحقيقة أو بلا تأويل ، فلا ينتقض بالاستعمال المجازي لأنه مطرد لكنه لا على وجه الحقيقة.

واستشكل فيه صاحب الكفاية باستلزامه الدور : لأن معرفة الحقيقة والوضع تتوقف على حصول الاطراد على وجه الحقيقة ومعرفة ذلك تتوقف على معرفة الحقيقة. فيلزم الدور (٢).

والتفصّي عن إشكال الدور في التبادر بالإجمال والتفصيل بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر لا يتأتى فيما نحن فيه ، لأنه بعد أن أخذت معرفة الحقيقة في أصل الدليل والعلامة على الحقيقة والوضع ، فلا بد من حصولها تفصيلا ، وحصول الالتفات إليها يعلم بحصول الدليل والعلامة بها إلى مدلولها ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٨٠