منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الجملة الخبرية تحتمل الصدق والكذب هو هذا المعنى ، وإلاّ فنفس مدلول الجملة غير قابل للصدق والكذب. بخلافه في الإنشائية فانه لا يحتمل فيه ذلك.

ويتلخص الفرق بين هذا الالتزام وبين الالتزام الآخر في امرين :

الأول : ان الموضوع له على هذا الالتزام هو قصد الحكاية عن ثبوت النسبة. واما الموضوع له على الالتزام الآخر فهو نفس النسبة أو ثبوتها المحكي عنه.

الثاني : ان قصد الحكاية على الالتزام الآخر يكون بمنزلة داعي الداعي للاستعمال ، إذ الداعي الأول للاستعمال هو تفهيم النسبة وإيجاد صورة النسبة في الذهن ، وهذا التفهيم والإبراز ، تارة يكون بداعي الحكاية عنه ، وأخرى يكون بداعي الاستهزاء ـ مثلا ـ فداعي الحكاية يكون داعيا إلى التفهيم الّذي هو داع للاستعمال.

واما على هذا الالتزام فهو الداعي الأولي للاستعمال والتكلم ، إذ يوضع الكلام لأمر آخر غيره ، فلاحظ (١).

والكلام مع السيد الخوئي يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في تمامية ما ساقه سببا للعدول من تعريف المشهور للجملة الخبرية واختيارهم في الموضوع له الجملة وعدم تماميته ، والحق انه غير تام.

أما الوجه الأول : فلأن المراد من كون دلالة الجملة الخبرية تصديقية ليس انها بإلقائها توجب الإذعان بالنسبة ، بل ان مدلولها أمر لو تعلق به العلم كان تصديقيا ، بخلاف مدلول المفردات فانه لا يتعلق به الإذعان أصلا.

ويشهد لما ذكرناه : انهم لا يلتزمون بان دلالة الجملة الإنشائية تصديقية ، حتى من يلتزم بما التزم به السيد الخوئي من وضع الصيغ الإنشائية للطلب ونحوه.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٨٥ ـ الطبعة الأولى.

١٤١

فانه لو كان المراد من الدلالة التصديقية ما ذكره من حصول العلم بمدلولها بإلقائها لم يصح الالتزام به إلاّ بالالتزام بالوضع لتفهيم النسبة لا نفس النسبة ، والالتزام بذلك يقتضي الالتزام بتصديقية الدلالة في الجملة الخبرية والإنشائية ، وقد عرفت انهم لا يلتزمون بذلك في الجملة الإنشائية ، فيكشف عن كون المراد من الدلالة التصديقية معنى غير ما ذكر ، وهو ما بيناه.

وأما الوجه الثاني : فلأنه ـ مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في أصل المبنى. وتقريبه بنحو آخر أوجه منه وان لم يسلم عن الإشكال أيضا ، وهو جعل متعلق التعهد ذكر اللفظ لا المعنى فراجع ـ منقوض بالوضع للمفردات ، فان الذوات والطبائع التي توضع بإزائها الألفاظ غير اختيارية للواضع المتعهد ، فيمتنع الوضع له بمقتضى كون الوضع هو تعهد المعنى عند ذكر اللفظ ، لاستلزامه تعلق التعهد بأمر غير اختياري وهو ممتنع.

وبتعبير آخر : ان متعلق التعهد ان كان لا بد ان يكون نفس الموضوع له فلا بد ان يكون اختياريا ، انتقض ذلك بالوضع للمفردات من الذوات والطبائع ونحوهما. وان لم يلزم ان يكون هو الموضوع له ، بل متعلقه قصد تفهيم المعنى ، وذلك يصحح كون المعنى هو الموضوع له كما هو المفروض ، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه ـ أعني الجملة الخبرية ـ ، فيكون المتعهد به قصد الاخبار عن ثبوت النسبة والموضوع له نفس ثبوت النسبة ، كما كان المتعهد به في لفظ : « زيد » لذاته قصد تفهيم الذات والموضوع له نفس الذات ، فلاحظ جيدا.

الجهة الثانية : في صحة ما اختاره معنى للجملة الخبرية والإنشائية وعدم صحته.

والحق عدم تماميته أيضا.

أما عدم صحة ما اختاره للجملة الخبرية من معنى ، وهو كونه قصد الحكاية عن ثبوت النسبة وانها موضوعة لإبراز هذا القصد دالة عليه وعلى كون

١٤٢

المتكلم في مقام الاخبار. فلوجهين :

الأول : تخلفه في بعض الصيغ الخبرية غير المستعملة في قصد الحكاية عن مدلولها ، كجملة : « أن زيدا قائم » في قول القائل : « سمعت أن زيدا قائم » ، فان مجموع الجملة اخبار عن السماع بقيام زيد إلاّ ان جملة : « ان زيدا قائم » غير مقصود بها الحكاية عن ثبوت النسبة بين : « زيد » و: « قائم » ، بل هي دالة على ثبوت النسبة فقط ، وهي بهذا اللحاظ كانت متعلقا للسماع ، وبهذا الاعتبار صح الاخبار عن السماع بها. لأن متعلق السماع هو النسبة والمقصود الحكاية عن السماع بها ، فلو لم تكن دالة على النسبة لم يتم الكلام ، إذ ليس ما يدل على النسبة غيرها ، وكقوله « أخبرني بكر بان عمرا قائم » ، وهو يعلم بكونه زيدا ، فانه ليس بصدد الاخبار عن قيام عمرو ، مع ان جملة « ان عمرا قائم » مستعملة في معناها قطعا.

وكالاستعمالات الكنائية ، فان المقصود الحكاية عن اللازم دون الملزوم مع دلالة الجملة على الملزوم فلو لم تدل على الملزوم وهو ثبوت النسبة الملزومة لنسبة أخرى المقصود الحكاية عنها لما صحت الكناية.

والحاصل : ان من الجمل الخبرية ما لا يستعمل في قصد الحكاية ، بل لا يدل إلاّ على النسبة ، فمقتضى الالتزام المذكور عدم كونها من الجمل الخبرية مع انها كذلك بلا كلام وتوقف.

يضاف إلى ذلك ، أولا : ان نتيجة الوضع لمعنى هو حكاية اللفظ عنه وتفهيمه به وإبرازه به ودلالته عليه ، فلو كان الموضوع له الجملة الخبرية هو قصد الاخبار كان مدلولها ذلك بحيث يكون المحكي بها هو قصد الحكاية ، وذلك مخالف لما عليه الوجدان والعرف ، فان العرف يرى ان مدلول الجملة الخبرية هو ثبوت النسبة لا قصد الاخبار عنها ، فيرى ان المتكلم حكى عن ثبوت النسبة لا انه حكى قصد الحكاية عن ثبوت النسبة ، بل هذا المدعى يمكن ان يستفاد

١٤٣

من كلامه هو ، حيث صرح بان المتكلم يقصد الحكاية عن ثبوت النسبة بالجملة.

وثانيا : ان الدليل الّذي ساقه لاختيار هذا الوجه هو دعوى انه يستفاد عند إطلاق الجملة الخبرية كون المتكلم في مقام الاخبار وانه يقصد الحكاية. ونظير هذا موجود في استعمال الألفاظ المفردة ، فان المتكلم إذا أطلق اللفظ المفرد يفهم انه في مقام تفهيم معناه وإبرازه ، فلما لم يلتزم في المفردات بأنها موضوعة لقصد تفهيم المعنى كما التزم بذلك في الجملة الخبرية؟ ، وانما التزم بأنها موضوعة لذات المعنى لكن مقيدة بتعلق الإرادة والقصد.

ولو أراد ان يلتزم بان الموضوع له في المفردات هو قصد التفهيم والإبراز كما لا تأباه بعض عبارات بعض تقريراته (١) ، للزم ان يلتزم ان الدلالة في باب المفردات تصديقية أيضا كما في باب الجمل ، لوحدة الملاك وهذا مما لا يلتزم به.

فيكشف ذلك عن ان ما استند إليه في إثبات مدعاه غير مجد وانه لازم أعم للوضع فلا يكشف عن الوضع.

وثالثا : ان النسبة المقصود تفهيمها معنى من المعاني التي تحتاج إلى وضع شيء لها ، فإذا كانت الجملة موضوعة لقصد تفهيمها فما هو الموضوع لها؟.

الثاني : ان المتصور في قصد الحكاية الموضوع له الصيغة أمور ثلاثة : أحدها : التصميم والعزم على الاخبار. ثانيها : كون المتكلم بصدد الاخبار وفي مقام الحكاية. ثالثها : كونه قاصدا الحكاية والاخبار بهذه الجملة بحيث يكون الاخبار والحكاية داعيا لذكر الجملة. ومراد القائل هو الثالث دون الأولين ، لأنه يذهب إلى انه بالقصد المذكور يكون الكلام خبرا وفردا من افراد الاخبار ، مع انه قد لا يترتب مباشرة على أصل العزم أو كونه في مقام الاخبار استعمال الصيغة الخبرية بل يستعمل الصيغة الإنشائية ولا يكون اخبارا بلا كلام. فالمتعين هو

__________________

(١) بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول ١ ـ ٥٩ ـ الطبعة الأولى.

١٤٤

الثالث ، فانه المساوق لاستعمال الجملة الخبرية وبه تكون الجملة من افراد الاخبار ، ومصداقا للخبر. ولا يخفى ان الداعي ما يكون بوجوده الذهني سابقا وبوجوده الخارجي لاحقا مترتبا على الشيء بلا فصل. فإذا كانت الحكاية المأخوذة في معنى الجملة الخبرية من قبيل الداعي فلا بد من فرض كون الحكاية عن ثبوت الجملة للنسبة امرا يترتب على الجملة في نفسه كي يكون داعيا إلى الاستعمال ، ويكون الاستعمال بلحاظه ، وهذا انما يتلاءم مع الوضع لنفس ثبوت النسبة لا لقصد الحكاية ، إذ بعد فرض كون القصد هاهنا بمعنى الداعي فلا بد ان يفرض مدلول الجملة أمرا غير القصد يكون مدعاة للاستعمال وموضوعا للقصد.

وقد يقال : إذا كان الموضوع له هو قصد الحكاية عن ثبوت النسبة كان ثبوت النسبة قيد الموضوع له ، فصح ان يكون داعيا ولو بلحاظ دلالة الكلام عليه بالالتزام وبتبع دلالته على المقيد به وهو نفس القصد.

لكنه غير وجيه : لأن ما أخذ قيد الموضوع له هو ثبوت النسبة بنحو الإطلاق وبلا تقييده بنسبة خاصة. والداعي الباعث للاستعمال هو تفهيم النسبة الخبرية الخاصة ، لوضوح تفاوت أنحاء النسب وتفاوت الجمل في الدلالة عليها ، فنحو النسبة المدلول عليها بجملة : « قام زيد » غير نحو النسبة المدلول عليها بجملة : « زيد قائم » أو « ان زيدا قائم ». فالمدلول عليه بالالتزام هو كلي النسبة وهو لا يصلح للداعوية ، فلا يمكن فرض كون الداعي الحكاية عن النسبة الخبرية الخاصة إلاّ بفرض قابلية الكلام بنفسه لتفهيمه في مرحلة سابقة على الداعوية ، وهو يقتضي الوضع لثبوت النسبة.

ومن هنا تتضح تمامية الإيراد على الوجه المزبور ـ أعني الوجه في وضع الجملة الخبرية ـ بأنه نرى بالوجدان بأنه عند إطلاق جملة : « زيد قائم » نفهم معنى آخر غير نفس المعاني الإفرادية وهو ثبوت النسبة بينهما. والدال منحصر

١٤٥

بالهيئة التركيبية وذلك يقتضي وضعها لذلك.

إذ الجواب عنه : بان الدلالة على ذلك انما كان بواسطة الدلالة على قصد تفهيم النسبة ، إذ تصور ثبوت النسبة يكون مع ذلك قهريا للعلم بقصد تفهيمه. فلا دلالة لانسباق ثبوت النسبة على الوضع له لأنه يتلاءم مع الوضع لقصد الحكاية عن ثبوتها.

لا يتجه بعد ما عرفت من ان القيد المأخوذ والمدلول عليه بالالتزام ـ لو تم الوجه المزبور ـ هو كلي النسبة ، والمتبادر عند إطلاق الجملة ثبوت النسبة الخاصة والتبادر علامة الوضع ، إذ لا مقتضى سواه في المقام.

نعم ، الإيراد عليه : بان المراد بالإبراز ان كان مفهومه ، فيلزم الترادف بين الهيئة وبين لفظ الإبراز وهو باطل كما لا يخفى ، وان كان مصداقه ، فهو مما لا يلتزم به القائل لأنه لا يرى صحة الوضع للموجود الخارجي لعدم قابليته للانتقال الذهني الّذي هو غاية الوضع ، لأن الانتقال يتعلق بالمفاهيم لا بالمصداق.

غير وجيه : لأن الإبراز الوارد في التعبير غالبا لم يؤخذ في الموضوع له ، بل الموضوع له هو القصد ، والإبراز بمنزلة الداعي للوضع ، فاللام في قوله : « وضع لإبراز ... » لام التعليل لا لام الإضافة والملك. ومثله الحال في الإبراز في الجمل الإنشائية ، إذ قد توهم بعض عباراته انه هو الموضوع له بمعنى كونه طرفا للعلقة الوضعيّة ، ولكن مراده انه الموضوع لأجله ، إذ لا معنى لكون الإبراز طرفا للعلقة الوضعيّة ، مع انه لا يوجد إلاّ بالاستعمال. فالاستعمال موجد للإبراز لا كاشف عنه فتدبر.

ولكن يرد عليه نظيره بالنسبة إلى قصد الحكاية الّذي فرضه موضوعا له ، فيقال ان المراد ان كان هو مفهوم قصد الحكاية لزم صحة الترادف بين الهيئة وقصد الحكاية وهو باطل جزما ، لعدم صحة وضع أحدهما موضع الآخر. وان كان هو واقع قصد الحكاية فهو خلاف ما التزم به القائل من لزوم كون الوضع

١٤٦

للمفاهيم.

واما عدم صحة ما اختاره للجملة الإنشائية من معنى ـ الّذي يتلخص في ان الجملة الإنشائية موضوعة بقصد إبراز الصفات النفسانيّة الحاصلة في النّفس من تمن وترجّ واستفهام واعتبار ، فهي موضوعة لواقع هذه الصفات لا لمفهومها ، بمعنى ان الواضع تعهد بأنه متى ما كان في نفسه إحدى هذه الصفات ذكر الهيئة الخاصة بها ، ولذلك يكون الإتيان بالجملة الإنشائية موجبا للعلم بحصول هذه الصفة في نفس المتكلم فيرتب عليه آثارها ، وليس موجبا للتصور والخطور ، فانه من شأن المفاهيم لا الوجودات ـ فلوجهين :

الأول : ان ذلك انما يتم في غير ما إذا كانت المادة موضوعة لمفهوم الصفة النفسانيّة الموضوع لها الهيئة نظير : « ملكت » ، فان الهيئة تدل على الاعتبار القائم بالنفس ، والمادة تدل على الملكية ، وهي غير مفهوم الصفة النفسانيّة ، أعني الاعتبار كما لا يخفى ، فالمجموع من الهيئة والمادة يدل على اعتبار الملكية.

وأما فيما إذا كانت المادة موضوعة لمفهوم الصفة النفسانيّة مثل : « اعتبرت » ان قصد بها الإنشاء أو : « أتمنى » المقصود بها إنشاء التمني ، فلا يتم ما ذكر ، لأن معنى الكلام ـ بمقتضى ما ذكر بملاحظة المجموع من الهيئة والمادة ـ اعتبار الاعتبار وتمني التمني ولا ريب في فساده ولا يلتزم به القائل مع انه لازم قوله.

وهكذا لا يتم ما ذكر فيما كان المنشأ لفظا غير المقصود اعتباره مثل « بعت » ، فان المقصود اعتبار الملكية ، والصيغة بمادتها وهيئتها انما تدل على اعتبار البيع ولا معنى له ، إذ البيع من الأفعال التكوينية الخارجية لا من الاعتباريات ، لأنه يدل على إيجاد التمليك ويشير إلى صدور التمليك عن البائع ، وهو امر تكويني ليس باعتباري ، وبعبارة أخرى : التمليك بلحاظ جهة الصدور ليس اعتباريا كالملكية كما لا يخفى.

١٤٧

الثاني : ان لازم هذا الاختيار ان لا يكون للجملة الإنشائية مدلول تام جملي في عالم المفهومية والتصور ، بل لا يكون هناك الا مفهوم المادة الأفرادي. بيان ذلك : ان الصيغة إذا كانت موضوعة لواقع الصفة النفسانيّة ، وهي ـ مثلا ـ الاعتبار القائم بالنفس ، كان وجود الصيغة كاشفا عن ذلك الواقع وموجبا للعلم به بلا خطوره في الذهن ، لفرض كونه موجودا وهو لا يقبل التحقق في الذهن. وعليه فليس في الجملة الإنشائية ما يتعلق به التصور والانتقال سوى مفهوم المادة وهو ما تعلق به الاعتبار. مثلا قول الآمر « صل » يكشف بهيئته عن اعتبار الصلاة في عهدة المكلف ويوجب العلم به ، والمادة توجب الانتقال إلى مفهوم الصلاة وتصوره.

وإذا لم يكن للجملة الإنشائية مفهوم جملي تام ، بل ليس لها إلاّ مفهوم افرادي ، خرج بابها عن باب استعمال الألفاظ الموجب لخطور المعنى في الذهن والانتقال إليه ، إذ يكون حال الهيئة حال الكاشف التكويني عن الصفة ، فلو فرض وجود الكاشف تكوينا عن الصفة غير الهيئة اللفظية وأتى به مع لفظ : « صلاة » لم يكن ذلك من باب الاستعمال أصلا ، بل المستعمل ليس إلاّ لفظ الصلاة في مفهومه. ومثله لو فرض وجود الكاشف الجعلي غير اللفظ بان يتعهد الشخص بأنه متى ما اعتبر شيئا رفع يده وذكر اسم ذلك الشيء ، فان رفع اليد وذكر اسم ذلك الشيء لا يكون من باب الاستعمال في الصفة النفسانيّة ، بل هو أجنبي عنه بالمرة ، فالحال كذلك في الجملة الإنشائية فانها تكون ـ على هذا القول ـ خارجة عن باب الاستعمال وأن المستعمل فيه ليس إلاّ مفهوم المادة كالصلاة ونحوها. فلاحظ جيدا وتدبر.

فالتحقيق : ان الموضوع له الجملة والهيئة التركيبية خبرية كانت أو إنشائية هو نفس النسبة بين الموضوع والمحمول التي يصح التعبير عنها في الجمل الاسمية بلفظ الاتحاد ، فيقال في « زيد قائم » : « زيد وقائم متحدان » ، وهذه النسبة

١٤٨

يعرض عليها الثبوت وعدم الثبوت ، والإيجاب والسلب ، والاخبار والإنشاء ، بمعنى انه ان قصد بالجملة الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع المقرر لها كانت الجملة خبرية ، وان قصد بها إيجاد معناها وهو النسبة في وعائه المناسب له كانت الجملة إنشائية ، ومدلول الجملة والمستعمل فيه في كلا الحالين واحد وهو النسبة. فالمستعمل فيه : « أنت حر » أو « زوجتي طالق » اخبارا وإنشاء واحد وهو النسبة لا يختلف في حال الاخبار عنه في حال الإنشاء.

فالاخبار والإنشاء خارجان عن الموضوع له والمستعمل فيه في الجملة الخبرية والإنشائية ، بل هما من أطوار الاستعمال وأنحائه. ولعل مراد المشهور ما ذكرناه من الوضع لنفس النسبة التي يعرض عليها الثبوت وعدمه (١) ـ لا الوضع لثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، لوضوح ان أداة السلب في الجملة الخبرية انما ترد على نفس النسبة القائمة بين الموضوع والمحمول ، لا ان الهيئة المركبة من المجموع من الموضوع والمحمول وأداة السلب موضوعة للاثبوت النسبة ، إذ وجود النسبة بين الموضوع والمحمول في الجملة السلبية مما لا يكاد ينكر ـ من دون أخذ الاخبار والإنشاء في الموضوع له والمستعمل فيه. ويشهد لذلك انهم لا يفرقون بين الجملة الخبرية والإنشائية الا في كون المتكلم في مقام الاخبار وعدمه.

ومن هنا يظهر المراد مما قرر من ان الخبر ما كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه دون الإنشاء ، فان الجملة الخبرية إذا كانت هي الجملة المستعملة في

__________________

(١) لم يبت ـ سيدنا الأستاذ ( مد ظله ) ـ في الدورة اللاحقة بهذا الأمر ، وان أوكل تحقيقه إلى مجال آخر ، وانما كان همّه نفي ما ذهب إليه السيد الخوئي من معنى الجملة الخبرية.

والّذي يبدو لي هو اعتبار الثبوت في مدلول الجملة الإيجابية ، لأن المفهوم من الجملة وقوع النسبة وثبوتها لا مجرد النسبة ، والدال منحصر بالهيئة ، إذ لا دال آخر في البين يدل على الثبوت. ولعله مما يدل على ذلك ان النسبة بين المحمول والموضوع ليست أمرا تصديقيا. نعم ثبوتها أمر تصديقي يقبل التصديق. واما السلبية ، فهي أيضا مستعملة في ثبوت النسبة ، وحرف السلب يتوجه إلى مدلول الهيئة ، فهو ينفي الثبوت ، ولا محذور في ذلك. ( منه عفي عنه ).

١٤٩

النسبة بقصد الحكاية عن ثبوتها في الواقع ، فلا بد ان يكون الملحوظ هو الواقع ، فاما ان تكون النسبة في الواقع مطابقة للنسبة الكلامية أولا تكون ، بخلاف الإنشاء ، إذ ليس المقصود منه الحكاية عن الواقع كي يكون الواقع منظورا فيه وتلحظ المطابقة له وعدمها.

ولا يخفى ان هذا الرّأي في الجملة الخبرية والإنشائية هو الأمر الارتكازي لمعناها والمتبادر من الجملة كما يشهد له ملاحظة الاستعمالات العرفية بلا كلام ، كما انه سالم عن جميع المحاذير السابقة وشامل لجميع موارد الاستعمال بلا استثناء.

نعم ، تبقى هناك موارد لا تدخل في الاخبار ولا الإنشاء ، وهي ما أشرنا إليه مما لا يكون المبدأ من الأمور الاعتبارية ، بل كان من الأمور التكوينية ولم يكن القصد هو الحكاية عن تحققه كالتمني والترجي ، فان الجملة في هذه الموارد لا تكون خبرية ، إذ ليس المستعمل فيه هو النسبة بقصد الحكاية عن ثبوتها. ولا إنشائية ، إذ لم تستعمل النسبة بقصد إيجادها المعنى في عالمها ، إذ هي لا تقبل الإيجاد والاعتبار ، بل وجوده يدور مدار تحقق أسبابه التكوينية ، مع ان المقرر انه لا واسطة بين الإنشاء والخبر في الجمل ، بل يمكن ان يقرب هذا الكلام إيرادا على ما اخترناه أو اختاره المشهور في معنى الإنشاء ، وذلك ببيان : انه من المسلم ان موارد التمني والترجي من الإنشائيات ، ومن الواضح انها أمور حقيقة توجد بأسبابها التكوينية ولا توجد باللفظ والاستعمال ، وبضميمة ان الإنشاء في جميع موارده بمعنى واحد يكشف عن بطلان المختار وصحة الالتزام به ، بأنه عبارة عن إبراز الصفة النفسانيّة غير قصد الحكاية.

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بد من التكلم فيها من جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في تصحيح الارتباط الحاصل بين معنى الحرف ومعنى الجملة المدخولة للحرف. إذ لا إشكال في وجود الربط بين معنى « ليت » ومعنى

١٥٠

الجملة التي تدخل عليها ، والمفروض ان معنى الجملة ـ وهو النسبة ـ معنى حرفي آلي لا يقبل التقييد والإطلاق ، فلا يصح ربطه بشيء ، فلا بد من الكلام في تصحيح هذا الارتباط الحاصل.

الجهة الثانية : في بيان معنى نفس الحرف.

الجهة الثالثة : في تصحيح صدق الإنشاء بالمعنى المختار أو المشهور على الجملة.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها موكول إلى محله في مبحث الواجب المشروط ، فان أساس البحث هناك في هذا الشأن وتصحيح رجوع القيد إلى الهيئة ، لأنه ـ أي الواجب المشروط ـ نتيجته ارتباط أداة الشرط بالهيئة ، وقد صحح ذلك بجهات ، كالالتزام بعموم الموضوع له كما التزم به صاحب الكفاية (١) ، والالتزام بعدم آلية المعنى الحرفي وإمكان استقلاله في اللحاظ كما ذهب إليه السيد الخوئي (٢) ، والالتزام برجوع القيد إلى المادة المنتسبة لا نفس النسبة كما اختاره المحقق النائيني (٣) ، وليس الكلام في ذلك محله هاهنا ، بل يتضح الحال في مبحث الواجب المشروط فانتظر.

وأما الجهة الثانية : فالتحقيق ان يقال : ان الموضوع له الحرف هو النسبة بين التمني والمتمنى ـ بالفتح ـ ( الأمنية ) لأن تعلق التمني بشيء لازمه تحقق نسبة بين التمني وما تعلق به ، فاللفظ موضوع إلى هذه النسبة ، وهو أمر مرتكز عرفا كما انه الأقرب إلى معنى الحرف لتوفر جهات المعنى الحرفي فيه من الآلية والإيجادية ونحوهما. خصوصا بعد وضوح بطلان ما التزم به المحقق صاحب

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٢١ ـ الطبعة الأولى.

بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول ١ ـ ٣٠٨ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٠ ـ الطبعة الأولى.

١٥١

الكفاية من وضعها إلى مفهوم التمني كلفظ : « التمني ». وما التزم به السيد الخوئي من وضعها إلى نفس الصفة النفسانيّة أو إبرازها. فلاحظ.

وأما الجهة الثالثة : فقد عرفت انه لا إشكال في إمكان كونها من الإنشائيات بناء علي ما التزم به صاحب الكفاية من معنى الإنشاء ، لقابلية كل شيء اعتباريا كان أو تكوينيا لوجود إنشائي.

وهكذا الحال بناء على ما التزم به بعض ، من كون الإنشاء استعمال اللفظ لا بقصد الحكاية وان لم يكن بقصد الإيجاد ، لوضوح عدم تأتي قصد الحكاية في جمل التمني والترجي.

وانما الإشكال في ذلك بناء على المذهب المشهور ، لأن التمني من الأمور الواقعية التابع وجودها لأسبابها التكوينية ، سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق ، ولا يكون للاستعمال دخل في وجودها أصلا كي يقصد به إيجادها في عالمها.

وعليه ، فصدق الإنشاء عليها يتوقف على تصور وجود اعتباري لها غير وجودها الحقيقي التكويني ، ويمكن تقريب ثبوت مثل هذا الوجود لها بأمور : ـ وهي لو تمت لدلت أيضا على صحة الالتزام بالوجود الإنشائي في هذه الموارد ـ.

الأول : ما يلاحظ في الاستعمالات والمحاورات العرفية العقلائية التي هي الحكم في مثل هذه الأمور من عدم صدق التمني الا بعد الكلام وصدور الجملة ، فيقال للشخص انه تمنى بعد صدور الجملة ، فانه ظاهر في ان للتمني معنى عندهم يتحقق بالجملة ، وليس هو إلاّ الوجود الاعتباري ، ولذا لا يقال انه للتفهيم إذا لم يصدر منه ما يدل على الاستفهام النفسيّ.

الثاني : ان الفعل المشتق من التمني يسند عرفا إلى الفاعل ، بنحو نسبة صدورية المرادف في الفارسية لـ : « تمني كرده يا مى كند » ، مع انه إذا كان الملحوظ في المعنى الاشتقاقي هو الصفة النفسانيّة لم يصح اسناد الفعل إلى الفاعل بإسناد صدوري ، لأن نسبة الصفة النفسانيّة نسبة حلولية المرادف في الفارسية

١٥٢

لـ : « تمني شده » لا صدورية ، كغيرها من الصفات النفسانيّة مثل العلم. فلا بد ان يكون الملحوظ في الإسناد المزبور معنى للتمني يتناسب مع الإسناد الصدوري وهو الوجود الاعتباري.

الثالث : انه لا إشكال في انه يطلق لفظ التمني على نفس الكلام الصادر. وهذا لا يصح إلاّ بملاحظة ان التمني يوجد بوجود اعتباري عقلائي باللفظ ، فيصدق لفظه على الجملة من باب صدق لفظ المسبب على السبب وهو متعارف.

ولا يمكن توجيهه : بان صدقه بملاحظة انكشاف الصفة النفسانيّة باللفظ ، فيصدق على الجملة من باب صدق لفظ المنكشف على الكاشف.

لأن مثل هذا الاستعمال غير متعارف ، ولا إشكال في عدم صحة صدق اللفظ الموضوع لمعنى على لفظ آخر كاشف عن ذلك المعنى.

والمتحصل : انه من ملاحظة مجموع ما ذكرنا يحصل الجزم بان للتمني وجودا آخر غير وجوده الحقيقي يتحقق باللفظ ، فيصدق الإنشاء بالمعنى المشهور على جملة التمني بهذا الاعتبار. فتدبر جيدا.

هذا بالنسبة إلى حروف التمني والترجي.

وأما حروف النداء ، مثل : « يا ». فالتحقيق فيه : ان النداء ان كان معناه هو التصويت بقصد جلب توجه المخاطب المراد في الفارسية لـ « صدا كردن » ، كان حرف النداء بمجرد حصوله محققا للنداء باعتبار انه صوت في هذا المقام ـ أعني في مقام جلب توجه المخاطب ـ بلا ان تصل النوبة إلى تعيين وضعه إلى معنى ، بل لا أثر لذلك. وان كان معناه جلب توجه المخاطب فقط أمكن البحث في الموضوع له لفظ النداء بحيث يفهم منه ان المتكلم في مقام جلب التوجه. والتحقيق ان يقال : انه موضوع كسائر الحروف للنسبة الحاصلة بين جلب التوجه والمنادى والربط القائم بهما ، فانه لا إشكال في حصول نسبة وربط بينهما حين يكون المتكلم في مقام جلب التوجه وقاصدا تحقيق هذا الأمر.

١٥٣

وأما الاستفهام : فكونه من المعاني الإنشائية الحاصلة بالاستعمال مما لا إشكال فيه ، لوضوح عدم صدقه قبل الكلام الاستفهامي ، فانه لا يقال للشخص انه استفهم الا بعد الكلام وإنشائه المعنى. وأما حروف الاستفهام ، فهي موضوعة للنسبة الحاصلة بين المتكلم وبين المعنى المقصود فهمه فانها تحصل بمجرد كونه في مقام طلب الفهم.

ولا يخفى أن المخاطب عند إلقاء الكلام المشتمل على حرف النداء أو الاستفهام أو التمني ونحوها لا يوجد في ذهنه نسبة مماثلة للنسبة الحاصلة في ذهن المتكلم كسائر الحروف ، لفرض تقوم النسبة المزبورة بالمتكلم لأنه أحد طرفيها دون النسب بين المفاهيم التي هي مدلول الحروف الأخرى ، كما انه لا تحصل في ذهنه نفس تلك النسبة لامتناع تعلق اللحاظ بنفس الموجود بما هو موجود ، وانما تحصل في ذهنه صورة تلك النسبة فيرتب عليه الأثر لو كان له أثر.

ومن جميع ما ذكرنا يتحصل ان الحروف بأسرها موضوعة لأنحاء النسب والربط ، وبذلك كانت معانيها متقومة بالآلية والإيجادية كما تقدم تفصيله.

يبقى الكلام في الأسماء الملحقة بالحروف ، كأسماء الإشارة وضميري المخاطب والغائب ، وتعيين الموضوع له فيها وبيان عمومه أو خصوصه.

وقد التزم المحقق الخراسانيّ رحمه‌الله بان الموضوع له فيها عام كالحروف لا خاص ، بدعوى : ان الموضوع له فيها انما هو المعنى الكلي الّذي تتعلق به الإشارة والتخاطب ، وتشخصه الحاصل عند الإشارة انما ينشأ من طور الاستعمال ، ونفس الإشارة أو التخاطب لاستدعاء كل منهما الشخص ليس مأخوذا في الموضوع له. فالموضوع له لفظ : « هذا » انما هو المفرد المذكر ، والمستعمل فيه هو ذلك أيضا ، وهو وإن تشخص بالاستعمال ، إلاّ انه لأجل كونه من شئون الاستعمال حيث كان بالإشارة وهي لا تكون الا إلى الشخص ، لا المستعمل فيه.

١٥٤

وبالجملة : أسماء الإشارة موضوعة لمعاني يشار إليها بها من دون أخذ الإشارة والتشخص الخارجي في الموضوع له ، كما لم يؤخذ اللحاظ في معنى الحرف والاسم (١).

ويرد على ما ذكره ـ بحسب النّظر الأولي ـ وجهان :

الأول : ان الإشارة الخارجية إنما تتعلق بالفرد دون الطبيعة والكلي بما هو كلي ، وعليه فيمتنع ان تكون أسماء الإشارة موضوعة ليشار بها إلى معانيها مع الالتزام بان معانيها كلية.

ولا مجال لتوهم إمكان إرادة الفرد من اللفظ وان كان موضوعا للكلي ـ فيمكن دعوى تعلق الإشارة بمعنى اسم الإشارة بهذا الاعتبار لأن الفرد يكون على هذا معنى اسم الإشارة في مرحلة الاستعمال ـ كسائر الألفاظ الموضوعة للطبائع ، فانه يمكن إرادة الفرد منها كقولك : « أكلت الخبز » و « دخلت السوق » ، إذ الأكل والدخول انما يتعلقان بفرد الخبز والسوق لا بالطبيعة.

لأن ذلك ـ أعني دعوى إرادة الفرد من اللفظ ـ خلاف المدعى أيضا ، إذ المدعى ان المستعمل فيه عام كالموضوع له.

مضافا إلى انه ممنوع في نفسه ، فان اللفظ الموضوع للطبيعة لا يستعمل في الفرد في أي مورد كان لاستلزامه شيوع المجاز في المحاورات ، لكثرة إرادة الفرد من اللفظ مع انه غير الموضوع له ، فالالتزام باستعمال اللفظ فيه التزام بالمجاز في جميع هذه الموارد وهو خلاف الوجدان ، لذلك التزم القوم في مثل هذه الموارد بان المستعمل فيه ليس هو الفرد ، بل هو الكلي لكن بلحاظ انطباقه على هذا الفرد وبتطبيقه على الشخص المعين ، فذكر اللفظ الموضوع للمعنى الكلي وإرادة الفرد يكون من باب الإطلاق لا من باب الاستعمال في الفرد ، فلا يكون

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٥

الاستعمال مجازيا ، لأنه فيما وضع له وهو الكلي.

وبالجملة : ففيما نحن فيه الإشارة الحسية لا تتعلق بالكلي لعدم قابليته لها ، بل كل ما يشار إليه فهو فرد لتقومه بالوجود ، ففرض كون المعاني ـ وضعا واستعمالا ـ كلية ينافي فرض تعلق الإشارة بها ، لأن ما تتعلق به الإشارة هو الفرد وهو ليس بمعنى اسم الإشارة لا وضعا ولا استعمالا كما عرفت تحقيقه.

الثاني : ما قد يستشعر من كلام المحقق الأصفهاني ، وهو : انه لا إشكال في عدم إرادة الإشارة الناشئة من قبل وضع اللفظ لمعنى والمساوقة لبيان المعنى باللفظ ـ كما يقال المعنى المشار إليه ، أو أشرنا إلى ذلك فيما تقدم ، فان المراد المعنى المبين وبيان المعنى ـ ، لأنه أمر عام وثابت في جميع الألفاظ الموضوعة ولا يختص بأسماء الإشارة ، وانما المراد معنى آخر لا تحقق له في غير لفظ ولا تقتضيه طبيعة الوضع ، وهو ـ كما يظهر من ذيل كلامه وتعبيره باستلزام الإشارة التشخص الخارجي ـ الإشارة الحسية لأنها هي الموجبة للتشخص الخارجي. ولا يخفى ان هذه الإشارة الحسية ليست من آثار اللفظ وخصوصياته التكوينية ، وإلاّ كان كل لفظ كذلك. بل لا تتحقق باللفظ إلاّ بالجعل والاعتبار. وعليه فلا بد من تحقق الإشارة الحسية بلفظ اسم الإشارة من اعتبار الإشارة وأخذها في الموضوع له ، إذ لا يمكن تحققها بدونه (١). وللمحقق الأصفهاني في المقام كلام لا يخلو عن غموض أخذه المقرر الفياض وصاغه بعبارة أخرى (٢). إلاّ انه لم يؤد المطلب بتمامه ولعله لم يصل إلى فهم مراده ، ولما لم يكن في التعرض إلى تفصيل ذلك أثر فيما نحن فيه ، فالإعراض عنه أولى وأجدر ، وفي الإشارة إلى ذلك كفاية.

ثم ان المحقق الأصفهاني بعد ان استشكل في كلام صاحب الكفاية ، قال :

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٩٠ ـ الطبعة الأولى.

١٥٦

« بل التحقيق ان أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلق الإشارة به خارجا أو ذهنا بنحو من الأنحاء ، فقولك هذا لا يصدق على زيد مثلا إلاّ إذا صار مشارا إليه باليد أو بالعين مثلا ، فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه ولفظ هذا هو الفرق بين العنوان والحقيقة ، نظير الفرق بين لفظ الربط والنسبة ، ولفظ من وفي وغيرهما ، وحينئذ فعموم الموضوع له لا وجه له أصلا ، بل الوضع حينئذ عام والموضوع له خاص كما عرفت في الحروف » (١). وتابعة على هذا الاختيار السيد الخوئي ، إلاّ انه خص الموضوع له بما تعلقت به الإشارة الخارجية كما هو صريح تقريرات الفياض (٢).

والّذي يرد على هذا الاختيار وجهان :

أولهما : وهو جدلي ، انه يستلزم الوضع إلى الموجود بما انه موجود ، وذلك لأن الإشارة لا تتعلق الا بالموجود ، فإذا كان الموضوع له هو المعنى المقارن للإشارة إليه كان معنى اسم الإشارة هو الموجود لا المفهوم ، والوضع للموجود ـ وان لم يتضح لدينا امتناعه إلاّ انه ـ مما يلتزم بامتناعه كلا المحققين.

وثانيهما : انه إذا كان الموضوع له هو المعنى المقارن للإشارة الخارجية ـ كما يلتزم به السيد الخوئي ـ امتنع استعمال اسم الإشارة في الكليات والأمور الذهنية ، لامتناع تحقق الإشارة الخارجية إليها ، مع ان استعمال اسم الإشارة في الكليات والأمور الذهنية مما لا يحصى بلا تجوز ولا مسامحة ، فيقال : « هذا الكلي كذا وذاك كذا » و: « المعنى الّذي في ذهنك لا أقصده » وغير ذلك من الأمثلة. هذا مع انه قد يستعمل لفظ الإشارة في المعنى الخارجي بلا انضمام إشارة خارجية إليه ، كما لو لم يكن المتكلم قاصدا اطلاع غير المخاطب على ارتباط الحكم

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٩١ ـ الطبعة الأولى.

١٥٧

بالمشار إليه ، فيأتي بلفظ الإشارة بلا ان يضم إليه الإشارة الخارجية ، فيقول : « هذا عالم أو جاهل ». ولا يخفى انه لا يرى في هذا الاستعمال تجوز ومسامحة ، مع ان لازم مختاره ان يكون مثل هذا الاستعمال مسامحيا.

والتحقيق ان يقال : اما في اسم الإشارة. فالموضوع له لفظ الإشارة هو نفس الإشارة الذهنية ، وبيان ذلك بعد ذكر أمرين :

الأول : في بيان معنى الإشارة الذهنية ، والمراد بها هو توجه النّفس نحو المعنى الحاضر بنحو توجه يختلف عن أصل التصور واللحاظ ، فانه قد يكون هناك معاني كثيرة متصورة ، إلاّ انه قد يتوجه إلى بعضها بسنخ توجه ويحكم عليه بحكمه ، ولا نستطيع التعبير عن حقيقة هذا التوجه باللفظ ، إلاّ انه يمكن تقريبه بتشبيهه بالإشارة الخارجية إلى المعنى الخارجي ، فان نحو الإشارة الذهنية كالإشارة الخارجية بالعين مثلا في اشتمالها على خصوصية تختلف بها عن أصل التوجه والتصور ، كاشتمال الإشارة بالعين على خصوصية تختلف عن أصل النّظر.

الثانية : ان كلا من الإشارة الذهنية والخارجية فعل من الأفعال ، إلاّ انه يختلف عن سائر الأفعال بان الالتفات والتوجه لا يتعلق به بنفسه ، بل يتعلق بما جعل طريقا إليه وآلة لتعيينه ـ أعني المعنى المشار إليه ـ ، فالالتفات المتعلق بالإشارة بما هي إشارة طريقي وآلي لا استقلالي ، وانما التوجه الاستقلالي يتعلق بنفس المعنى ، بخلاف سائر الأفعال كالقيام والأكل والشرب ونحوها ، فانه يتعلق بها اللحاظ الاستقلالي لا الآلي.

إذا تبين ذلك فنقول : ان اسم الإشارة موضوع لنفس الإشارة الذهنية ، فيكون ذكر اللفظ كاشفا عنها وموجبا للعلم بها ، فينتقل منها إلى المشار إليه ـ كما ينتقل الذهن إلى المشار إليه بالإشارة الخارجية بمجرد رؤيا الإشارة الخارجية ـ ، وهذا المعنى ـ أعني الإشارة الذهنية ـ من المعاني الآلية كما تقدم ، وبذلك شابه اسم الإشارة الحروف. وهذا المعنى لاسم الإشارة معنى معقول وارتكازي تصوره

١٥٨

مساوق للتصديق به فانه قريب إلى الأذهان ، فلا يحتاج إلى إقامة برهان.

وأما ما قيل في تقريب دعوى السيد الخوئي : من ان مقارنة استعمال اسم الإشارة للإشارة باليد أو العين أمر ارتكازي في الاستعمالات ولا ينفك عن الاستعمال فيكشف ذلك ان كون الموضوع له هو المعنى حال مقارنته للإشارة الخارجية.

فهو لا يكشف عن المدعى ولا يدل عليه بعد ما عرفت ، وذلك لأنه من المتعارف في الاستعمالات اقتران اللفظ بما يرادف معناه من الأفعال الخارجية لو كان له مرادف ، فان رفع الرّأس إلى أعلى في استعمال كلمة : « فوق » وتشبيه المتكلم حركات من ينقل عنه بعض الأفعال من جلوس وأكل وشرب ، أمر لا يكاد يخفى ، وعليه فإذا كان اسم الإشارة موضوعا للإشارة الذهنية ولم يكن في الخارجيات ما يصلح للتعبير عنها غير الإشارة الخارجية لكونها من سنخ واحد كان من الطبيعي انضمام الإشارة الخارجية للفظ الإشارة مثل : « هذا ».

وبالجملة : فالاستعانة باليد والعين وغيرهما من أعضاء الجسم في تأكيد الكشف عن المعاني عند استعمال اللفظ الموضوع إلى المعنى امر متعارف ، ولا يكون دليلا على الوضع للمعنى بقيد المقارنة للفعل الخارجي. فلاحظ.

* * *

١٥٩

استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له

هذا البحث لا أثر له في المجال العملي أصلا ، وقد أطال القوم فيه ، ولكنه تطويل بلا طائل ، لذلك رأينا الاقتصار على بيان مطلب الكفاية لا أكثر. فنقول :

ان موضوع النزاع ، هو ان صحة استعمال اللفظ فيما يناسب المعنى الموضوع له هل هي أمر يرجع إلى الطبع والذوق أم انه أمر يرجع فيه إلى الواضع؟ فان رخص فيه الواضع صح وإلاّ لم يصح ، سواء كان سليما وغير مستهجن لدى الطبع والذوق أو كان لم يكن كذلك. وأما على الأول فالامر على العكس ، فان صحة الاستعمال تدور مدار جريانه على طبق الذوق والطبع ، فان حسنه الطبع صح وان لم يرخص الواضع ، وان استهجنه الطبع لم يصح وان رخص الواضع وأجاز. وهو الّذي اختاره صاحب الكفاية موكلا تعيينه إلى الوجدان ، وانه يرى ان صحة الاستعمال كذلك أمر يرتبط بالطبع ولا دخل للواضع فيه أصلا ، وان الوجدان قد يحسن استعمال كذلك لم تثبت فيه إجازة الواضع ـ كما يمثل له باستعمال لفظ « حاتم » في الكريم مع انه يعلم بان أب حاتم أو غيره ممن وضع لفظ حاتم لذاته لم يتصور استعمال هذا اللفظ في غير ولده فضلا عن تحقق الإجازة منه ، بل لعل المرتكز في وضع الاعلام الوضع لنفسه دون غيره من الذوات بحيث يمنع ارتكاز استعماله في غير ذات ، مع ان صحة هذا الاستعمال لا يختلف فيها اثنان ـ. وقد يقبح استعمال كذلك وان ثبتت فيه إجازة الواضع ، كما يمثل له ـ وان نوقش في المثال ـ باستعمال لفظ : « العذرة » في الأكل بلحاظ علاقة الأول ، فان هذه العلاقة ثابتة لغة في الاستعمالات المجازية ، مع وضوح عدم صحة مثل هذا الاستعمال في المثال المزبور. وليس ذلك إلاّ من جهة

١٦٠