منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

يقبل العموم والسعة ـ ، وقد عرفت ان المعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم بل من سنخ الوجود وان المفاهيم معان اسمية. وبتقريب آخر : ان تصور كون الموضوع له عاما انما يكون بلحاظ الوضع للجامع بين الوجودات الخاصة ، وهو ـ أي الجامع ـ غير متحقق ولا يتصور فيما نحن فيه إلاّ بإلغاء خصوصية الطرفين ليكون الجامع كلي الوجود ، إذ مع ملاحظة الطرفين يكون كل وجود مباينا للوجود الآخر لأنه فرد آخر وكل فرد بخصوصيته مغاير للفرد الآخر. ولا يمكن تجريده عن الطرفين والوضع للكلي ، لتقوم المعنى بهما كما عرفت.

وبالجملة : ان لوحظ الطرفان انعدم الجامع ، وان لم يلحظ لم يكن الجامع من المعاني الحرفية فلا وجه لوضع الحرف له ، لأن المعنى الحرفي متقوم بالطرفين كما عرفت.

ثمرة المبحث :

وقد قررت بأنه مع الالتزام بعموم الموضوع له في الحروف يتصور الإطلاق والتقييد في معانيها ويظهر ذلك في موردين : أحدهما : الواجب المشروط ودوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة. والآخر : في مفهوم الشرط والاستدلال على ثبوته بإطلاق أداة الشرط ـ كما يقرر في محله ـ. وهذا بخلاف ما لو التزم بخصوص الموضوع له فانه لا يكون قابلا للإطلاق والتقييد ، فيعلم بعدم رجوع القيد إلى الهيئة ، كما لا يمكن التمسك في إثبات المفهوم بإطلاق الأداة لعدم ثبوت الإطلاق فيها. وقرّرت بنحو آخر : وهو انه مع الالتزام بآلية المعنى الحرفي لم يصح الإطلاق فيه لاقتضاء الإطلاق والتقييد اللحاظ الاستقلالي لأنه حكم على الطبيعة وهو يقتضي لحاظ المحكوم عليه بالاستقلال.

وقد نوقش في التقرير الأول : بان خصوصية الموضوع له لا تنفي صحة

١٢١

التقييد ، إذ العموم والإطلاق الأفرادي هو الّذي لا يتصور في الخاصّ دون الإطلاق الأحوالي فيمكن التقييد والإطلاق فيه بلحاظ الأحوال.

وفي التقرير الثاني : بأنه كثيرا ما يكون المعنى الحرفي ملحوظا بالاستقلال وأثرا للحكم بنفسه. وعليه فلا تظهر الثمرة بلحاظ الجهتين.

والتحقيق : انه مع الالتزام بان معاني الحروف إيجادية ومن سنخ الوجود يمتنع تصور الإطلاق والتقييد فيها ، لا من جهة خصوصية الموضوع له أو آليته ، بل من جهة ان الإطلاق من شأن المفاهيم ، لأن الإطلاق عبارة عن السعة في الصدق ، والتقييد التضييق في الصدق وهذا شأن المفاهيم ـ كلية كانت أو جزئية ـ دون الوجود غير القابل للصدق على شيء بالمرة ، بل ليس هو إلاّ نفسه. مضافا إلى انه يكون آليا ولا يتصور ان يكون استقلاليا في حال من الأحوال كما عرفت تحقيقه ، فالثمرة موجودة كما لا يخفى.

هذا كله بالنسبة إلى الحروف الداخلة على المفردات.

وأما الحروف الداخلية على الجمل كحروف التمني والترجي والاستفهام وغيرها فقد اتفق الجميع ـ تقريبا ـ على ان معانيها إنشائية إيجادية ، وقال بذلك من لا يلتزم بإيجادية معنى الحرف ووجه ذلك بان الجملة تكون بدخولها إنشائية.

وعليه ، فلا بد في تحقيق الحال فيها من معرفة مدلول الجملة الإنشائية وأختها الخبرية ، فنقول :

* * *

١٢٢

الإنشاء والإخبار

ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله ان الفرق بين الجملة الإنشائية والجملة الخبرية كالفرق بين الاسم والحرف في كونه خارجا عن دائرة الموضوع له ، فان كلا منهما موضوع للنسبة إلاّ انها ان قصد بها الاخبار كانت خبرية وان قصد بها إيجاد النسبة كانت إنشائية من دون أن يكون قصد الاخبار وقصد الإيجاد دخيلا في الموضوع له (١).

والّذي يظهر انه رحمه‌الله أخذ الموضوع له في الجملة الخبرية والإنشائية ونفس الاخبار والإنشاء مفروغا عنه ، وجهة الإشكال هو الفارق بينهما وان الإنشاء والاخبار دخيلان في معنى الجملة الخبرية والإنشائية أو لا؟ فأناط اللثام عن ذلك بما عرفت.

ولأجل تحقيق الحال ينبغي الكلام في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق معنى الاخبار والإنشاء.

والمقام الثاني : في تحقيق معنى الجملة الخبرية والإنشائية.

اما المقام الأول ، فتحقيق الكلام فيه : أن الاحتمالات المذكورة في معنى الإنشاء أربعة :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٢٣

الأول : انه إيجاد المعنى باللفظ في نفس الأمر.

الثاني : انه إيجاد المعنى باللفظ بالعرض ، فلا يخرج عن حقيقة الاستعمال ، بل هو الاستعمال ـ كما يتضح فيما بعد ـ.

الثالث : انه إيجاد المعنى باللفظ في وعائه المناسب له.

الرابع : انه إبراز الصفات النفسانيّة باللفظ.

أما القول الأول : فهو مختار صاحب الكفاية وقد أسهب في بيانه في الفوائد ، وبيانه بتصرف : ان الإنشاء إيجاد المعنى في نفس الأمر لا الحكاية عن ثبوته وتحققه في موطنه من ذهن أو خارج ، بخلاف الخبر فانه الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه ، والمراد من وجوده في نفس الأمر هو ما لا يكون بمجرد فرض فارض ، لا انه ما يكون بحذائه شيء في الخارج. فملكية المشتري للمبيع لم يكن لها أي ثبوت قبل إنشاء التمليك وانما ثبوتها لا يعدو الفرض كفرض إنسانية الجماد أو جمادية الإنسان ، ولكن بعد إنشائها حصل لها نحو ثبوت وخرجت عن مجرد الفرض وان لم يكن لها ما بإزاء في الخارج.

وبعبارة أخرى : ان المعنى بالإنشاء يوجد بوجود إنشائي ويحصل له نحو تقرر في عالم الإنشاء ، وهذا الوجود الإنشائي من سنخ الاعتباريات ، وإذا كان الإنشاء هو إيجاد المعنى باللفظ بنحو وجود فعبر عنه بالوجود الإنشائي لم يختص الإنشاء بالمعاني الاعتبارية كالملكية ونحوها ، بل يعم المعاني الحقيقية الواقعية كالتمني والاستفهام فيمكن إنشاء الصفات النفسانيّة الواقعية كما يمكن إنشاء الأمور الاعتبارية ، إذ لم يعتبر في حقيقة الإنشاء إيجاد نفس المعنى في عالمه كي يتوقف في إمكان إنشاء مثل التمني من الأمور الواقعية لتبعية وجودها للأسباب التكوينية دون الإنشاء ، بل الإنشاء يتحقق ولو لم يكن للصفة الحقيقية وجود في الخارج أصلا ويترتب عليه آثاره لو كانت. كما انه لا يعتبر في الوجود الإنشائي ترتب أثر شرعي أو عرفي عليه ، ولذلك لو أنشأ المعنى الواحد بلفظ

١٢٤

واحد مكررا لا يخرج كل منها عن الإنشاء ، وان لم يترتب على الأول أثر غير التأكيد في المورد القابل للتأكيد ، بل يوجد المعنى بكل إنشاء بوجود إنشائي مستقل غير الآخر ، ولا يكون من قبيل إيجاد الموجود كي ينفي كونه إنشاء كما تخيله الشهيد رحمه‌الله في القواعد (١) ونفي كون العقد المكرر إنشاء لعدم حصول الإيجاد به. ونظيره صدوره ممن لا يترتب على قوله أثر شرعا وعرفا كالمجنون إذا تأتى منه القصد ، فانه لا يخرج عن الإنشاء وان كان لغوا.

وبالجملة : فالإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائي اعتباري غير إيجاده في عالمه المناسب له من اعتبار وواقع ولذلك كان خفيف المئونة ولا يتوقف على ترتب أثر عقلائي عليه ، كما انه يصلح لأن يسري في الصفات الحقيقية الواقعية ، ولا تتوقف صحته على ثبوت تلك الصفات في نفس الأمر والواقع في عالمها الخارجي (٢).

ثم انه رحمه‌الله ذكر في فائدة أخرى ان الفرق بين الإنشاء والاخبار من جهتين :

إحداهما : ان مفاد الإنشاء مفاد كان التامة لا مفاد كان الناقصة كما هو مفاد الخبر.

ثانيتهما : ان مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد ان لم يكن ومفاد الخبر يحكى به بعد ان كان أو يكون.

هذا ملخص ما أفاده قدس‌سره (٣). والّذي يتحصل منه انه يريد بالإنشاء إيجاد المعنى باللفظ بوجود إنشائي من قبيل الاعتباريات. فليكن على ذكر منك.

__________________

(١) الشهيد الأول محمد بن مكي. القواعد والفوائد ١ ـ ١١٢ ـ قاعدة ٨٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول ـ ٢٨٥ ـ المطبوعة ضمن الحاشية.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول ـ ٢٨٩ ـ المطبوعة ضمن الحاشية.

١٢٥

وأما القول الثاني : فهو الّذي اختاره المحقق الأصفهاني ، وادعى انه مراد صاحب الكفاية بتقرير إليك نصه : « ان المراد من ثبوت المعنى باللفظ ، اما ان يراد ثبوته بعين ثبوت اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض ، واما ان يراد ثبوته منفصلا عن اللفظ بآلية اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى كل منهما بالذات ، لا مجال للثاني إذ الوجود المنسوب للماهيات بالذات منحصر في العيني والذهني وسائر أنحاء الوجود من اللفظي والكتبي وجود بالذات للفظ والكتابة. وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى. ومن الواضح أن آلية وجود اللفظ وعليته لوجود المعنى بالذات لا بد من أن يكون في أحد الموطنين من الذهن والعين ، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقف على حصول مطابقه في الخارج أو مطابق ما ينتزع عنه. والواقع خلافه إذ لا يوجد باللفظ موجود آخر يكون مطابقا للمعنى أو مطابقا لمنشإ انتزاعه ، ونسبة الوجود بالذات إلى نفس المعنى مع عدم وجود مطابقه أو مطابق منشئه غير معقول. ووجوده في الذهن بتصوره لا بعلية اللفظ لوجوده الذهني والانتقال من سماع الألفاظ إلى المعاني لمكان الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى مع ان ذلك ثابت في كل لفظ ومعنى ولا يختص بالإنشاء ، فالمعقول من وجود المعنى باللفظ هو الوجه الأول ، وهو ان ينسب وجود واحد إلى اللفظ والمعنى بالذات في الأول وبالعرض في الثاني ، وهو المراد من قولهم : ان الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر وانما قيدوه بنفس الأمر مع ان وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضا بالعرض ، تنبيها على ان اللفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود المعنى تنزيلا في جميع النشئات ، فكأن المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لا ينفك عنه في مرحلة من مراحل الوجود. والمراد بنفس الأمر حد ذات الشيء من باب وضع الظاهر موضع المضمر.

فان قلت : هذا المطلب جار في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون

١٢٦

اختصاص بالإنشائيات.

قلت : الفرق ان المتكلم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة في موطنها باللفظ المنزل منزلتها ، وقد يتعلق غرضها بإيجاد نفس هذه النسبة بإيجاد اللفظ المنزل منزلتها ، مثلا مفاد : « بعت » اخبارا وإنشاء واحد وهي النسبة المتعلقة بالملكية وهيئة « بعت » وجود تنزيلي لهذه النسبة الإيجادية القائمة بالمتكلم والمتعلقة بالملكية ، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجا بوجودها التنزيلي الجعلي اللفظي فليس وراء قصد الإيجاد بالعرض وبالذات أمر آخر وهو الإنشاء. وقد يقصد زيادة على ثبوت المعنى تنزيلا الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضا وهو الاخبار ، وكذلك في صيغة افعل وأشباهها فانه يقصد بقوله « اضرب » ثبوت البعث الملحوظ نسبة بين المتكلم والمخاطب والمادة فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعلي التنزيلي اللفظي فيترتب عليه إذا كان من أهله وفي محله ما يترتب على البعث الحقيقي الخارجي مثلا. وهذا الفرق بلحاظ المقابلة بين المعاني الخبرية والإنشائية ، فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في معانيها ، فانها كالإنشائيات من حيث عدم النّظر فيها الا إلى ثبوتها خارجا ثبوتا لفظيا ، غاية الأمر انها لا يصح السكوت عليها بخلاف المعاني الإنشائية المقابلة للمعاني الخبرية. وهذا أحسن ما يتصور في شرح حقيقة الإنشاء. وعليه يحمل ما أفاده أستاذنا العلامة لا على انه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدمة فانه غير متصور. ومما ذكرنا في تحقيق حقيقة الإنشاء تعلم ان تقابل الإنشاء والاخبار ليس تقابل مفاد كان التامة ومفاد كان الناقصة ، نظرا إلى ان الإنشاء إثبات المعنى في نفس الأمر والاخبار ثبوت شيء لشيء تقديرا وحكاية. وذلك لأن طبع الإنشاء كما عرفت لا يزيد على وجود المعنى تنزيلا بوجوده اللفظي وهو قدر جامع بين جميع موارد الاستعمال ، فان القائل بعت اخبارا أيضا يوجد معنى اللفظ بوجوده العرضي اللفظي والحكاية غير متقومة بالمستعمل فيه ، بل خارجة

١٢٧

عنه فهي من شئون الاستعمال ، بل الفرق انهما متقابلان بتقابل العدم والملكة تارة بتقابل السلب والإيجاب أخرى ، فمثل : « بعت » وأشباهه من الجمل المشتركة بين الإنشاء والاخبار يتقابلان بتقابل العدم والملكة ، لأن المعنى الّذي يوجد بوجوده التنزيلي اللفظي قابل لأن يحكى به عن ثبوت في موطنه ، فعدم الحكاية والتمحّض فيما يقتضيه طبع الاستعمال عدم ملكة ، ومثل « افعل » وأشباهه المختصة بالإنشاء عرفا يتقابلان تقابل الإيجاب والسلب ، إذ المفروض ان البعث الملحوظ نسبة بين أطرافها نظير البعث الخارجي ، غير البعث الملحوظ بعنوان المادية في سائر الاستعمالات كما سمعت منا في أوائل التعليقة ، فمضمون صيغة « اضرب » مثلا غير قابل لأن يحكى به عن ثبوت شيء في موطنه بل متمحض في الإنشائية ، وعدم الحكاية حينئذ من باب السلب المقابل للإيجاب ». هذا نصّ ما أفاده قدس‌سره في تعليقته على الكفاية وهو واضح لا يحتاج إلى توضيح (١). والكلام فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في صحة نسبة الوجه المذكور إلى صاحب الكفاية ، والتحقيق عدم الصحة لأنه خلاف ما هو الصريح لكلام صاحب الكفاية ، من ان المراد من نحو الوجود هو الوجود الاعتباري بحيث يكون الإنشاء من سنخ الاعتبار ، فنسبة إرادة الوجود بالعرض الساري في الجمل الخبرية والإنشائية إلى صاحب الكفاية لا وجه لها ، خصوصا بملاحظة ما يصرح به من ان هذا النحو من الوجود لا يتحقق بالجملة الخبرية.

وأما ما ذكره من الوجه في حمل كلام صاحب الكفاية على ذلك فهو لا يفي بذلك ، إذ لم يدع صاحب الكفاية ان المعنى يوجد بالذات بالإنشاء بوجود حقيقي مقولي كي يرد عليه ان الوجود بالذات ينحصر في الحقيقي والذهني.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١١٣ ـ الطبعة الأولى.

١٢٨

والحقيقي لا يكون إلاّ إذا كان له ما بإزاء في الخارج أو له منشأ انتزاع له ما بإزاء وهو غير متحقق فيما نحن فيه. والذهني علته التصور لا اللفظ وهو سار في جميع الاستعمالات دون خصوص الاستعمال الإنشائي.

بل قد عرفت انه يريد من نحو الوجود الحاصل للمعنى بالإنشاء نحو وجود اعتباري ، فلا يرد عليه ما ذكر إذ الاعتبار خفيف المئونة ، وتحقق الوجود الاعتباري مما لا ينكره قدس‌سره ، كما انه يظهر بأنه لا وجه لحمل « نفس الأمر » على إرادة حد ذات الشيء وان اللفظ وجود للمعنى في جميع النشئات ، خصوصا بملاحظة تعرض صاحب الكفاية في كلامه إلى بيان المراد منه وانه إخراج الشيء عن مجرد الفرض. فتدبر.

الجهة الثانية : في تحقيق صحة هذا الوجه في نفسه وان لم يكن مرادا لصاحب الكفاية. والحق انه غير وجيه لوجهين :

الأول : انه لو كان الإنشاء هو إيجاد المعنى باللفظ بلحاظ ان وجود اللفظ وجود للمعنى بالعرض ، بقيد ان لا يكون الغرض الحكاية عن الخارج أو الذهن ، بل الغرض كان في نفس هذا الوجود العرضي للمعنى ، لزم ان تكون الجملة الخبرية غير المستعملة بقصد الحكاية ، بل بداعي استمرار ارتكاز مدلولها في ذهن المخاطب بتكرارها بلا ان يقصد بها الحكاية ، إذ ليس الداعي الا عدم شرود هذا المعنى من ذهن المخاطب ، لزم ان تكون مثل هذه الجملة إنشاء على هذا القول ، مع انها لا تعد في العرف من الجمل الإنشائية كما لا يخفى.

الثاني : ان كون الإنشاء هو إيجاد المعنى عرضا بوجود اللفظ يبتني إمكانه الثبوتي على ثبوت كون الوضع هو تنزيل اللفظ منزلة المعنى ، فيكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، وبذلك يكون وجوده وجودا للمعنى بالعرض ، إذ المنزل نحو وجود للمنزل عليه بالعرض والمسامحة ، فيمكن تصور ان يكون الإنشاء هو هذا النحو من إيجاد المعنى. ولكنك عرفت عدم ثبوت هذا المعنى

١٢٩

للوضع والمناقشة فيه وعدم ارتضائه حتى من المحقق الأصفهاني نفسه ، وكون الوضع هو اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى أو اعتبار اللفظ على المعنى أو غيرهما. ولا يخفى ان اللفظ لا يكون على هذا وجودا بالعرض للمعنى ، إذ طرف العلقة الوضعيّة لا يكون وجودا بالعرض لطرفها الآخر ـ نظير طرفي السلسلة المشدودين بها فان أحدهما لا يكون وجودا للآخر بالعرض ، والوضع كذلك فانه عبارة عن ربط اللفظ والمعنى برابط وجعل كل منهما طرفا للارتباط ـ ، وإلاّ لكان المعنى وجودا بالعرض للفظ ، ولا يلتزم به أحد.

وبالجملة : فأساس هذا المعنى للإنشاء وهو كون اللفظ وجودا للمعنى بالعرض غير ثابت فلا : تتجه دعوى ان الإنشاء هو هذا النحو من إيجاد المعنى وأما ما ذكره صاحب الكفاية : فالالتزام به يتوقف على نفي المحذور فيه ثبوتا وإثباتا.

اما المحذور الثبوتي : فلم يتعرض أحد إلى بيان محذور ثبوتي فيه ، ولعله لأجل عدم اهتمامهم فيما ذكره رحمه‌الله أو صرفه إلى معنى غير ما ذكرناه. نعم يمكن استفادة دعوى المحذور الثبوتي في الجهة الثانية في البحث ممن يدعي ان الجمل الإنشائية لها من المعنى ما لا يتلاءم مع تفسير الإنشاء بما فسره به صاحب الكفاية ، فتنقيح وجهة النّظر فيه نوكلها إلى الجهة الثانية.

وأما المحذور الإثباتي : فمعرفة وجوده وعدمه تتوقف على ذكر القولين الآخرين ومعرفة أيها التام ، فان في بطلان الأقوال الأخرى ومعقولية قول الآخوند مؤيدا له وترجيحا للالتزام به كما لا يخفى.

وأما القول الثالث : فهو المشهور في تفسير الإنشاء ، ومحصله كما أشرنا إليه : هو أن الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ في عالم الاعتبار العقلائي ، بمعنى ان المعنى الاعتباري في نفسه يوجد له فرد حقيقي بواسطة اللفظ ، فيكون إلقاء اللفظ سببا للتحقق اعتبار العقلاء للمعنى. فالإنشاء هو التسبيب

١٣٠

باللفظ إلى الاعتبار العقلائي للمعنى. فيتفق مع قول صاحب الكفاية في انه إيجاد للمعنى بنحو وجود وفي عالم آخر غير عالم اللفظ أو الخارج أو الذهن. لكنه يختلف عنه في ان وجوده على اختيار صاحب الكفاية نحو وجود إنشائي من سنخ الاعتباريات بحيث يختلف عن سائر الاعتباريات ، فالملكية بإنشائها بـ : « ملكت » توجد ـ على اختيار صاحب الكفاية ـ بوجود إنشائي اعتباري غير وجودها الاعتباري في نفسها وفي وعائها المفروض لها. واما على هذا القول فهي توجد بوجودها الاعتباري الثابت لها في حد ذاتها ، وتتحقق في وعائها المقرر لها وهو عالم الاعتبار العقلائي.

والثمرة الفقهية المترتبة على كلا القولين تظهر فيما يحرر من بطلان الصيغة مع التعليق ، وانه يعتبر في صحة العقد أو نفوذه تنجيزه ، ويستثنى من ذلك ما إذا كان التعليق قهريا فانه لا يضر التعليق عليه وعدمه ، بل لا ثمرة فيه بعد ان كان قهريا وذلك كالتعليق على رضا المالك في بيع الفضولي ، فان الأثر بحسب اعتبار العقلاء انما يترتب مع رضا المالك فالإنشاء لا ينفذ الا على تقدير الرضا.

وجه ظهور الثمرة في هذا المبحث : انه إذا التزم بان معنى الإنشاء ما هو المشهور من انه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى في عالم الاعتبار العقلائي ، يتصور حينئذ قهرية تعليق هذا على أمر ما ، كما لو كان الاعتبار العقلائي متوقفا على شيء ـ نظير المثال السابق ـ ، واما لو التزم بان معناه ما اختاره صاحب الكفاية من انه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائي ، فلا يتصور فيه قهرية التعليق على شيء لأنه مرتبط بنفس المنشئ ـ بمعنى ان هذا الوجود الإنشائي وان كان عقلائيا إلاّ انه بقصد الإنشاء فارتباطه بالمنشئ ـ لا بالعقلاء كي يتوقف عندهم في بعض الصور على شيء ما ، لأن ما يقصد إيجاده ليس هو المعنى في وعائه الاعتباري العقلائي ، بل المقصود إيجاده هو المعنى

١٣١

بوجود إنشائي غير وجوده في وعائه المقرر له من اعتبار أو غيره ، وذلك لا يتوقف على شيء من رضا المالك ونحوه كما لا يخفى.

وبالجملة : فلو التزم بما هو المشهور أمكن تحقق مصداق لصورة التعليق القهري ، بخلاف ما لو التزم بمختار صاحب الكفاية ، فيلتزم ببطلان العقد مع التعليق ـ على القول بالبطلان مع التعليق ـ مطلقا بلا استثناء. فلاحظ ثم انه قد يستشكل في الالتزام بما هو المشهور من جهتين :

الأولى : انه يلزم اختصاص الإنشاء بما كان وعاؤه الاعتبار كالعقود والإيقاعات ، لمعقولية التسبيب لإيجادها واعتبارها من العقلاء. ولا يشمل ما كان من الأمور الحقيقية الواقعية التكوينية التي لها ما بإزاء في الخارج ، كبعض الصفات النفسانيّة مثل التمني والترجي والطلب والاستفهام ، لأن وجودها في وعائها تابع لتحقق أسبابها التكوينية سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق ، إذ ليست هي من الاعتباريات التي تدور مدار الاعتبار وجودا وعدما ، فلا معنى للتسبيب لإيجادها باللفظ كما لا يخفى. مع ان عدها من الإنشائيات وكون صيغها من الجمل الإنشائية مما لا ينكر ويخفى.

الثانية : ان معرفة تحقق الاعتبار العقلائي تكون بترتيب الآثار من العقلاء عليه ومعاملته معاملة الثابت حقيقة لو تصور له ثبوت حقيقي. ومع عدم ترتب الأثر عليه يعلم بعدم الاعتبار ، لأنه يلغو مع عدم ترتيب الأثر.

وعليه ، فيلزم عدم تحقق الإنشاء في المورد الّذي يعلم بعدم ترتيب الأثر ، لعدم تحقق قصد التسبيب من المنشئ مع علمه بعدم تحقق المسبب ، والمفروض تقوم الإنشاء بقصد التسبيب للاعتبار العقلائي. وذلك يستلزم خروج موارد متعددة عن الإنشاء مع عدها عرفا إنشاء بلا كلام.

منها : الإنشاء المكرر والصيغ المتكررة ، لوجود المعنى في عالم الاعتبار بأول إنشاء ، فلا يوجد بالإنشاء الثاني والثالث ، إذ لا يوجد المعنى في عالم

١٣٢

الاعتبار العقلائي مرة ثانية مع فرض ثبوته للغوية الاعتبار ثانيا.

ومنها : بيع الغاصب ، فانه يعلم بعدم ترتيب الأثر على إنشائه.

ومنها : بيع الفضولي مع علمه بعدم لحوق الإجازة ، فان العقلاء لا يعتبرون الملكية بأثر إنشائه.

ومنها : بيع غير المقدور تسليمه عادة.

ومنها : المعاملة الغررية.

وغير هذه الموارد مما لا يترتب الأثر العقلائي على الإنشاء مع صدقه عرفا ، ولذلك يقال : لا يصح إنشاء الغاصب أو المجنون أو الصبي وهكذا.

ولا يخفى ان هاتين الجهتين لا تردان على مختار صاحب الكفاية ، إذ الإنشاء على مختاره إيجاد المعنى باللفظ بوجود إنشائي لا في وعائه المقرر له من اعتبار أو غيره ، فيمكن تحقق هذا الإيجاد وقصده بلا توقف على تحققه في عالم الاعتبار العقلائي كي ينتفي في مورد لا يتحقق فيه الاعتبار من العقلاء. ولغويته مع عدم الأثر العقلائي ولا تنفي صحة تحقيقه. كما انه يمكن ان يطرأ على الصفات الحقيقية ، إذ يمكن ان توجد بوجود إنشائي غير وجودها الحقيقي وفي وعائها المقرر لها ، فلا يقال : ان تحقق هذه الصفات في وعائها تابع للأسباب التكوينية ولا يرتبط باللفظ والاعتبار ، إذ ليس المقصود بإنشائها تحققها في وعائها بل تحققها بتحقق إنشائي اعتباري في غير وعائها. وقد أشرنا إلى ذلك في بيان كلامه ، وقد تعرض هو إلى الإنشاء المكرر باعتبار. فراجع (١).

وقد تفصى (٢) عن الإشكال من الجهة الأولى ـ أعني اختصاصه بالاعتباريات ـ بان معنى الإنشاء ليس هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد إيجاده

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول ـ ٢٨٧ ـ المطبوعة ضمن الحاشية.

(٢) المتفصي هو المدقق الشيخ هادي الطهراني ( قده ).

١٣٣

في عالم الاعتبار ، بل استعماله لا بقصد الحكاية ، سواء قصد به الإيجاد أو لم يقصد ، فالمأخوذ في معنى الإنشاء هو عدم قصد الحكاية لا قصد الإيجاد.

واما الإشكال من الجهة الثانية ـ أعني لزوم خروج بعض الإنشائيات عن الإنشاء ـ فقد أجيب عنه في مورد الصيغ المكررة بالالتزام فيما لا يقبل التأكيد والشدة والضعف كالملكية ، بلغوية الإنشاء الآخر وانه لا يعد إنشاء. وفيما يقبل الشدة والضعف كالطلب ونحوه ، بان الإنشاء الآخر تأكيد للأول بحيث يكون كل منهما دالا على مرتبة ما من الإرادة والطلب فيتأكد ولا يكون لغوا (١).

وأما بيع الغاصب فقد أجيب عن الإشكال به بما ذكره الشيخ في بعض كلماته في المكاسب : من ان الغاصب وان علم بعدم ترتب الأثر العقلائي على تمليكه لعدم كونه مالك المال ، إلاّ انه حيث يكون في مقام الإنشاء يدعي لنفسه الملكية ويبنى على انه هو المالك ومن له حق التصرف من باب الحقيقة الادعائية. وعليه فيترتب عليه ما يترتب على المالك من إمكان قصد الإيجاد ولو لم يتحقق الإيجاد حقيقة. وهذا الجواب لا يتأتى في بيع الفضولي لأنه لا يدعي لنفسه الملكية كالغاصب ، فيبقى الإشكال من جهته على حاله ، كما يبقى الإشكال في الموارد الأخرى.

والتحقيق انه يمكن دفع الإشكال في سائر الموارد ، بان يقال : انه ليس المراد من الإنشاء هو استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى في عالمه على ان يكون إيجاد المعنى بمنزلة الداعي ـ ويراد من القصد معنى الداعوية ـ ، كي يقال باقتضاء ذلك ترتب الإيجاد على الإنشاء مباشرة وفعلا كما هو شأن كل داع ، فانه سابق بوجوده التصوري متأخر بوجوده العيني الخارجي ومترتب فعلا على

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول ـ ٢٨٧ ـ المطبوعة ضمن الحاشية.

١٣٤

الفعل. فيقع الإشكال حينئذ في بعض الموارد الإنشائية لتخلف الإيجاد عن الإنشاء ، بل المراد به استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى في وعائه المقرر له. والمقصود به ان يكون المنشئ بإنشائه في هذا المقام وبهذا الصدد ـ لا أن يكون غرضه ذلك ـ فينشئ ما يقتضي الإيجاد لو انضم إليه سائر ما له دخل في تحقق المعنى ، فان كان ذلك ثابتا حال الإيجاد أو لم يكن هناك ما يتوقف ترتب الأثر على انضمامه تحقق المعنى فعلا ، وإلا روعي في تحققه ثبوت ما له دخل فيه ، فالإنشاء ليس دائما علة تامة لترتب الأثر وللإيجاد كي يرد الإشكال المذكور ، بل قد يكون جزء العلة للإيجاد فيترتب عليه الأثر مع انضمام سائر ما له دخل في التأثير ، ويوجد المعنى المنشأ في وعائه بعد انضمامها ، فالتعبير بالقصد في تفسير الإنشاء بلحاظ تأثيره ودخالته في ترتب الأثر اما بنفسه أو مع غيره وإطلاق القصد في مثله متعارف لا بلحاظ انه علة تامة لتحققه كي يشكل عند تخلف الأثر في صدق الإنشاء ، ولو عبّر بأنه استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى كان أوضح. واندفاع الإشكال ـ على هذا التوجيه لكلام المشهور ـ في موارد الجهة الثانية واضح.

أما في الإنشاء المتكرر فلان المنشئ العاقل انما ينشئ ثانيا بقصد تحقق المعنى في عالم الاعتبار لو لم يكن الإنشاء الأول كافيا في تحققه لاحتمال تحقق الخلل فيه. ولا يفرق في ذلك بين ما يقبل الشدة والضعف فيؤكد وما لا يقبل كما لا يخفى.

وأما في بيع الغاصب والفضولي ، فلأنهما ينشئان ما يقتضي الإيجاد لو انضم إليه رضا المالك فيتحقق منهما القصد بالمعنى الّذي ذكرناه ويكونان في مقام الإيجاد. وهكذا الحال في سائر موارد الإشكال.

نعم لا يندفع بهذا التوجيه الإشكال من الجهة الأولى ، فان الإنشاء يختص بما كان المعنى المنشأ من المعاني الجعلية الاعتبارية لا الواقعية التكوينية

١٣٥

كالتمني وغيره ، إذ لا معنى لجعلها واعتبارها ، بل وجودها يتبع أسبابها التكوينية اعتبرها معتبر أولا. والتوجيه المزبور لم ينظر فيه إلى هذه الجهة من الإشكال ، بل النّظر فيه متركز على الجهة الأخرى.

وعلى أي فلا ضير في خروج الصيغ الدالة على التمني وغيره مما يشاكله عن الإنشاء وليس هو بمحذور فسيأتي تحقيق الحال فيها.

وإذا تبين عدم ورود أي إشكال في الوجه المشهور للإنشاء دار الأمر بينه وبين مختار صاحب الكفاية.

والّذي يقرب الالتزام به ويبعد مختار صاحب الكفاية : انه لا دليل لما ذكره صاحب الكفاية إثباتا ، بل هو وجه ثبوتي صرف لا شاهد له في مقام الإثبات ، بل ظاهر المرتكز من ان المنشئ ينشئ نفس المعنى قاصدا إيجاده في وعائه المناسب له بحيث يرى نفسه بمنزلة موجد السبب للأمر التكويني ، لا انه ينشئه لإيجاده في عالم غير عالمه ثم يترتب عليه وجوده في عالمه الخاصّ.

ظاهر ذلك إثبات الرّأي المشهور ونفي رأي صاحب الكفاية ، وبذلك يترجح التفسير الثالث على التفسير الثاني (١).

__________________

(١) لا يخفى انه قد وقع الاتفاق على ان للإنشاء نحو ثبوت قبل تحقق شرائط فعليته ، فللحكم ثبوت قبل تحقق شرط الفعلية ، وهو المعبر عنه بالحكم الكلي في قبال عدمه ، وللملكية نحو وجود بمجرد الإنشاء قبل فعليتها واعتبارها من العقلاء أو الشارع ، وهذا أمر وجداني يعترف به كل أحد على الاختلاف في المراد في الإنشاء.

وهذا ما نعبّر عنه بالوجود الإنشائي وبملاحظة هذه الجهة يمكن ان ننفي سائر الأقوال في الإنشاء.

اما القول الأول : فمقتضاه انعدام الإنشاء بتصرم اللفظ ، لأن ما به وجود المعنى هو اللفظ والمفروض تصرمه ، الّذي ينافي ما قلناه من وجود المنشأ بنحو مستمر.

واما قول المشهور : فلان ثبوته يتوقف على تحقق الاعتبار العقلائي أو الشرعي في وعائه المناسب له. وهذا قد يتوقف على شرائط خاصة ، فإذا لم تتوفر لم يتحقق الاعتبار للمنشإ وهو خلاف للوجدان ،

١٣٦

وأما القول الرابع : ـ فهو الّذي التزم به السيد الخوئي ( دام ظله ) ـ وهو كون الإنشاء إبراز ما في النّفس من الصفات من اعتبار أو غيره بواسطة اللفظ (١).

وقد قرب مدعاه بنفي ما ذهب إليه المشهور ، بدعوى ان الاعتبار الشخصي بيد المعتبر نفسه فلا يناط باللفظ ، والاعتبار العقلائي يتوقف على استعمال اللفظ في المعنى فلا بد من تشخيص المعنى. هذا مع ان من الأمور الإنشائية ما لا يقبل الاعتبار كالتمني والترجي ونحوهما من الصفات الحقيقة.

ولا يخفى ان توقف الاعتبار العقلائي على استعمال اللفظ في معنى لا يلازم فرض الإنشاء كما ذكره ، إذ يمكن ان يفرض ان معنى الهيئة هو قصد الإيجاد كما التزم في الهيئة الخبرية بان معناها قصد الحكاية ، فإذا استعملت الهيئة الإنشائية في قصد الإيجاد ترتب عليه الاعتبار العقلائي ، فلا يلزم فرض الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ. فتدبر.

وقد خلط في مقام تعريفه بين المقام الثاني ـ أعني معنى الجملة ـ والمقام الأول ، حيث ادعى ان الصيغ الإنشائية وضعت لإبراز الصفات الموجودة في النّفس وان الأثر انما يترتب عليها مع إبرازها لا عليها فقط ولو لم تبرز. والّذي يستفاد من كلامه ان الشخص يتحقق منه الاعتبار ـ مثلا ـ ثم يبرزه بالصيغة. فالإنشاء عنده هو نفس الاعتبار أو ان الاعتبار مقوم للإنشاء.

ولذلك يرد عليه :

__________________

ـ لصدور البيع والتمليك عند عقد الفضولي مع الجزم بعدم تحقق الإجازة فضلا عن عدم تحققها فعلا.

واما القول الرابع : فان مقتضاه انه لو رفع المنشئ يده عن اعتباره يرتفع المنشأ ، مع ان إجازة المالك تتعلق ببيع الفضولي وعدمه ولو مع رفع الفضولي يده عما أنشأه ، فلو لم يكن الوجود الإنشائي غير الاعتبار الشخصي لم يكن معنى صحيح لتعلق الإجازة بالبيع الفضولي إلا وجود لشيء حال الإجازة على بعض الأقوال.

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٩٣ ـ الطبعة الأولى.

١٣٧

أولا : ان الاعتبار الشخصي وان التزم به بعض الأكابر ، إلا انه لا أساس له ولا وجه بعد إمكان التوصل إلى الاعتبار العقلائي باللفظ مباشرة كما هو مقتضى الرّأي الثالث المشهور ، إذ لم يثبت فيه أي محذور ، فالاعتبار الشخصي بعد هذا يكون لغوا محضا وليس بذي أثر. نعم لو فرض امتناع الاحتمال الثالث وثبوت المحذور فيه أمكن دعوى صحة الاعتبار الشخصي من باب انه يكون موضوع الاعتبار العقلائي ، لكن عرفت انه لا محذور فيه.

وثانيا : ان معنى الاعتبار هو بناء المعتبر على ما اعتبره ، فيقال عند اعتبار العقلاء الملكية لزيد انهم بنوا على انه مالك وانهم يرونه مالكا. ونحو ذلك من التعبيرات المرادفة ، وعليه فاعتبار الشخص زيدا مالكا ـ عند إرادة بيعه شيئا ـ معناه انه بنى على انه مالك وبعد ذلك يبرز هذا الاعتبار باللفظ.

وهذا المعنى يخالف الوجدان والضرورة ، فان الشخص قبل التلفظ بالصيغة لا يبني على ان زيدا مالك ولا يرتب آثار الملكية عليه في نفسه ولا ينظر إليه نظر المالك بل هو يقصد تمليكه بالصيغة بحيث يبني على مالكيته بعد ذكرها لا قبله كما لا يخفى.

وثالثا : ان من المعاني الإنشائية ما لا يقبل الجعل والاعتبار أصلا كالإنفاذ ، فان نفوذ المعاملة معناه تأثيرها وترتب الأثر المرغوب عليها ، والتأثير غير قابل للاعتبار لما قرر في منع جعل السببية ونحوها من الأمور الانتزاعية ، من انها ان جعلت بنفسها بلا جعل المسبب كان ذلك منافيا للسببية ، لأن معناها تحقق المسبب عند وجود السبب ، وان جعل المسبب استغني عن جعلها بجعله لتحققها قهرا لانتزاعها عن وجود المسبب عند وجود السبب. والنفوذ مثل السببية من الأمور الانتزاعية ، بل هو في معناها لأنه عبارة عن تأثير العقد في المسبب ، فاعتباره ممتنع ، بل المجعول انما يكون هو الأثر وينتزع من جعله التأثير والنفوذ. ولا يخفى ان إجازة المعاملة الفضولية قد تكون بلفظ : « أنفذت » ، وهو ـ أعني

١٣٨

الإنفاذ ـ لا يقبل الاعتبار كما عرفت ، فيلزم أن لا تكون إنشاء على هذا التفسير مع ان كون الإجازة من الإنشائيات مما لا يخفى.

واما لو كانت بلفظ القبول مثل : « قبلت » فالإيراد لا يتأتى ، إذ قد يدعى بان الاعتبار تعلق بنفس المسبب ، والمنشأ هو نفسه لا التأثير والسببية. بدعوى : ان القبول عرفا في معنى الإقرار الإقرار بالتمليك الحاصل وجعل طرفه نفسه لا المنشئ الفضولي ، فيكون إنشاء التمليك مباشرة.

وبالجملة : من مجموع ما ذكرنا ومما سيأتي من الإشكال على معنى الصيغة الإنشائية يحصل الجزم بعدم صحة هذا الاختيار. هذا مع انه ( حفظه الله ) لم يتعرض لنفي ما ذكره صاحب الكفاية وإبطاله ، وانما تعرض لنفي المذهب المشهور خاصة ، وهذا على خلاف أسلوب التحقيق.

فالمتعين في معنى الإنشاء من بين الآراء هو الرّأي الثالث المشهور بين الاعلام لارتكازه في الأذهان.

هذا كله في الإنشاء. واما الاخبار فلا خلاف في معناه ، وانه هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد الحكاية عن ثبوته في موطنه ووعائه من ذهن أو خارج.

وأما المقام الثاني : فتحقيق الكلام فيه : انه قد نسب إلى المشهور دعوى كون الموضوع له الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها في الخارج ، فمدلولها ثبوت النسبة في الخارج أو لا ثبوتها. فالثبوت معنى الجملة الإيجابية وعدم الثبوت معنى الجملة السلبية.

وأورد السيد الخوئي على ذلك بوجهين :

الأول : ان مقتضى كون مدلول الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها حصول العلم بثبوتها أو عدمه بمجرد إطلاق الجملة ، مع ان الوجدان قاض بعدم ذلك ، وانه لو لا القرائن الخارجية أو الاطمئنان الشخصي بصدق المخبر لا يحصل العلم من الجملة لو خليت ونفسها ، بل لا يحصل الظن.

١٣٩

والتفصي عنه بان وضع الجملة لثبوت النسبة أو لا ثبوتها لا يقتضي سوى تصوره وانتقال الذهن إليه عند إطلاق الجملة كالوضع للمفردات ، إذ العلم الّذي يقتضيه الوضع انما هو العلم التصوري لا التصديقي. وحصول تصور ثبوت النسبة أو لا ثبوتها عند إطلاق الجملة لا يكاد ينكر من أحد.

مندفع : بما تقرر من ان دلالة الجملة على معناها تختلف عن دلالة الألفاظ المفردة ، فان دلالة الألفاظ المفردة تصورية ، ودلالة الجملة تصديقية ، والتصديق يعتبر فيه العلم والإذعان ، فمقتضى وضع الجملة لثبوت النسبة ـ بضميمة كون دلالتها على معناها تصديقية ـ حصول العلم التصديقي بثبوت النسبة في الخارج عند إطلاق الجملة ، وقد عرفت عدم حصوله.

الثاني : ان الوضع كما عرفت تحقيقه عبارة : عن التعهد بشيء عند ذكر اللفظ ، ولا يخفى ان التعهد لا بد ان يتعلق بأمر اختياري يمكن فعله للمتعهد ، وعليه فيمتنع الوضع لثبوت النسبة ، لأن مقتضاه تعهد الواضع ثبوت النسبة في الخارج عند ذكر الجملة ، وثبوت النسبة ليس من الأمور الاختيارية فلا يصح تعلق التعهد به.

ولأجل ورود هذين الإشكالين عدل عن اختيار المشهور إلى اختيار كون الموضوع له الجملة الخبرية قصد الاخبار عن ثبوت النسبة والحكاية عنها ، وهو امر اختياري يمكن تعلق التعهد به ، كما ان الدلالة تكون تصديقية ، إذ بإطلاق الكلام وإلقائه يعلم بان المتكلم يقصد الحكاية والاخبار.

فيمكن الالتزام بهذا الرّأي بلا ورود المحذورين السابقين ، واختيار كون الموضوع له الجملة الإنشائية إبراز الصفات النفسيّة من طلب أو تمن أو اعتبار شيء ، فالصيغ الخبرية والإنشائية تتفقان في كون الموضوع له هو إبراز شيء ، وان لهما دلالة تصديقية إلا انهما يختلفان ، في ان موضوع الإبراز في الخبرية امر يحتمل فيه التحقق وعدمه ويحتمل فيه الصدق والكذب ، والمنظور في ما يقال من ان

١٤٠