منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

عن نفس النسبة الحاصلة بين الطرفين بلا لحاظ انها معنى الحرف أو غيره.

وعليه ، فإذا ثبت بالبرهان القطعي عدم قابلية النسبة للالتفات ، فلا بد من توجيه المثال بما لا يتنافى مع مقتضى البرهان. فتدبر.

ثم انه لا ينافي ما ذكرناه من آلية المعنى الحرفي ـ النسبة ـ والغفلة عنها تعلق القصد والغرض بها نفسها حال الاستعمال ، إذ تعلق الغرض بما يكون آلة وطريقا لا يكاد ينكر كما يتعلق بالنظارة أو المرآة فيما لو قصد معرفة جنسها وكيفية كشفها.

وجه عدم المنافاة : ان تعلق الغرض بما لا يقبل اللحاظ الاستقلالي لا يقتضي تعلق اللحاظ الاستقلالي به كي يتنافى مع فرضه ليس كذلك ، بل يمكن تعلق الغرض به مع عدم انفكاكه عن الآلية وعدم الالتفات الاستقلالي ، وذلك نظير « النظارة » فان الغرض بوضعها على العينين للرؤية وان لم يتعلق بنفس الرؤية وانما تعلق بها لمعرفة جودتها ورداءتها في مقام الرؤية ، إلاّ أنها في مقام الاستعمال لا تكون ملحوظة استقلالا ، بل الملحوظ بالاستقلال انما هو المرئي وهي مغفول عنها حال الرؤية والاستعمال وان تعلق بها الغرض ، إذ الجودة والرداءة تعرف بالتجربة بالرؤية والاستعمال.

وبالجملة : إذا كان المعنى آليا وغير ملتفت إليه حال الاستعمال ، فتعلق الغرض به حال الاستعمال لا ينافي آليته وعدم لحاظه بالاستقلال ، بل الغرض يتعلق به بهذا النحو ـ أي بنحو استعماله وهو الاستعمال باللحاظ الآلي لا الاستقلالي ـ ، وبعبارة أخرى : الغرض أمر يترتب على الاستعمال بواقعه وبنحوه ، فلا يقتضي تغيير نحو الاستعمال ، إذ لا يتنافى حينئذ مع طور الاستعمال كيف ما كان. فالغرض من استعمال النظارة يترتب عليه وهو لا يكون إلاّ باللحاظ الآلي ولا يتنافى ذلك مع تعلق الغرض به.

وقد ناقش المحقق العراقي اختيار المحقق النائيني إيجادية المعنى الحرفي

١٠١

بوجوه أربعة :

الأوّل : ان المعاني التي تتصورها النّفس اما ان تكون مرتبطة بعضها ببعض أو غير مرتبطة ، فما تصورته النّفس فلا يعقل احداث الربط بين اجزائه لأنه تحصيل للحاصل. وما تصورته غير مرتبط لم يعقل احداث الربط فيه لأن الموجود لا ينقلب عما هو عليه. نعم يمكن ان ينفي ويحدث في اثره وجود آخر بخصوصية أخرى. وعليه فلو أراد المتكلم إفادة السامع مفاد : « زيد في الدار » ، فحين تلفظه بـ « زيد » يتصور السامع مفهومه مستقلا لعدم علمه بعد بالربط وبمفاد الجملة. فإذا تلفظ في اثره بـ « في الدار » فلا يخلو مدعي إيجادية الحرف من ان يلتزم بأحد أمرين : اما احداث الربط في الموجود غير المرتبط وقد عرفت امتناعه. أو احداث موجود آخر مرتبط غير المتصور الأول وهو خلاف الوجدان.

الثاني : ان الهيئات الدالة على معنى لا بد وان يكون مدلولها معنى حرفيا ، وعلى فرض كون المعنى الحرفي إيجاديا يلزم ان يكون معنى الهيئة متقدما في حال كونه متأخرا وبالعكس وهو خلف. وبيان ذلك : ان الهيئة التي تطرأ على المادة متأخرة بالطبع عن المادة التي مدلولها معنى اسمي ، وبما انها دالة عليه تكون متأخرة عنه تأخر الدال عن المدلول. وعليه فتكون الهيئة متأخرة عن المعنى الاسمي برتبتين لتأخرها عن المادة المتأخرة عن المعنى الاسمي. وبما ان الهيئة توجد معناها في المعنى الاسمي كان معناها متأخرا عنها تأخر المعلول عن علته. وعليه فالمعنى الحرفي متأخر عن المعنى الاسمي بثلاث رتب ، وبما انه مقوم لموضوعه وهو المعنى الاسمي لأنه من خصوصيات وجوده لزم كونه في رتبته فهو في نفس الوقت متأخر ومتقدم.

الثالث : انه لو التزم بإيجادية المعنى الحرفي لزم ان يكون معنى الحرف في حيز الطلب وصقعه لا في حيز المطلوب وصقعه ، لأنه يوجد باللفظ كالطلب

١٠٢

فيكون متحققا حال تحقق الطلب وظاهر تأخر الطلب عن المطلوب رتبة لعروضه عليه ، فعليه يلزم ان يكون المعنى الحرفي متقدما ومتأخرا في حال واحد ، لأنه بملاحظة كونه موجودا مع الطلب كان في رتبة الطلب ومتأخرا عن المطلوب ، وبملاحظة كونه من قيود المطلوب كان متقدما على الطلب وفي رتبة المطلوب وهو خلف.

الرابع : ان كل لفظ سواء كان ذا مدلول افرادي كـ : « زيد » ، أو ذا مدلول تركيبي ككل كلام يدل على معنى مركب تام كـ : « زيد قائم » أو ناقص كـ : « غلام زيد ». لا بد ان يكون له مدلول بالذات وهو المفهوم الّذي يحضر في الذهن عند سماع اللفظ ، ومدلول بالعرض وهو ما يكون المفهوم فانيا فيه مما هو خارج عن الذهن. وهذه الدلالة والمدلول هما المقصودان بالوضع والاستعمال وتأليف الكلام والمحاورة به دون الأول ، ولو التزم بإيجادية معنى الحرف لزم ان ينحصر مدلول الكلام بالعرض في المعاني الإفرادية التي لا يحصل بها شيء من الإفادة والاستفادة.

وذلك : لأن كل كلام لا بد ان يشتمل على نسبة ما وهي التي يحصل بها الربط بين مفرداته. فاما مفرداته فهي بما انها معان اسمية إخطارية يكون لها مدلول بالذات وهو مفهومها ومدلول بالعرض وهو ما يفنى فيه ذلك المفهوم مما هو خارج عن الذهن وهو المعنى الأفرادي. واما النسبة التي تربط تلك المفردات فهي بما انها من المعاني الحرفية الإيجادية حسب الفرض لا يكون لها إلاّ مدلول بالذات وهو الوجود الرابط بين المعاني الاسمية. وعليه لا يكون لشيء من الكلام دلالة يصح السكوت عليها ويحصل بها التفاهم أصلا وهو خلاف الضرورة والوجدان.

هذه هي الوجوه الأربعة ، وقد ذكرناها بنفس عبارة تقريرات بحثه

١٠٣

بتصرف قليل (١) ، إلاّ ان كلا منها لا يخلو عن خدش :

اما الأوّل : فلان الربط كما عرفت من خصوصيات نفس اللحاظ والتصور. وعليه فبذكر لفظ « زيد » يتحقق تصوره ولحاظه بلا أي تقيد ، وبعد ذكر « في الدار » تضاف إلى ذلك اللحاظ والوجود الذهني خصوصية ، وذلك لا يستلزم أحد المحذورين المذكورين لأنه ليس بإحداث موجود مرتبط جديد كما لا يخفى ولا إيجادا للربط في الموجود غير المرتبط ، لأن الربط من خصوصيات الوجود لا الموجود كما عرفت ، وانما هو إضافة خصوصية إلى الوجود ، فهو نظير حدوث الأوصاف على الوجود الخارجي فانها ليست إحداثا لموجود غير الأول كما انها ليست إحداثا لربط في غير المرتبط فلاحظ.

وأما الثاني : فلان المعنى الحرفي ليس مقوما لموضوعه كي يدعى انه في رتبته ، بل هو من خصوصيات وجود المعنى الاسمي الذهني وطوارئه. وعليه فلا بد من فرض وجود معنى اسمي يتعلق به اللحاظ الخاصّ فهو متأخر رتبة عن المعنى الاسمي لا محالة ، فلا يلزم تقدمه أو تأخره على نفسه بثلاث رتب.

وأما الثالث : فلأن تقدم المطلوب على الطلب انما هو في ذهن الآمر المتكلم ، وقد عرفت ان الحروف ليست بموجودة لمعانيها ومحدثة لها في ذهنه ، وانما هي موجدة لها في ذهن السامع وليس المطلوب في ذهنه متقدما رتبة على الطلب. فلا يلزم تقدم المعنى الحرفي على نفسه ولا تأخره كما ادعى ، لأنه وان كان في صقع الطلب بالنسبة إلى السامع إلاّ انه لا تقدم للمطلوب على الطلب في ذهنه ، وأما بالنسبة إلى المتكلم فهو ليس في صقع الطلب لأنه متحقق قبل التلفظ.

وأما الرابع : فلما عرفت من اختلاف دلالة الحروف عن دلالة الأسماء ،

__________________

(١) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٤٣ ـ ٤٥ ـ الطبعة الأولى.

١٠٤

فان الأسماء توجب خطور معانيها في الذهن وتحكي عن الخارج حكاية الكلي عن فرده ومصداقه وما ينطبق عليه. بخلاف الحروف ، فان دلالتها على النسبة الخارجية بواسطة النسبة الذهنية من باب دلالة الفرد عن الفرد المماثل له ، فللحرف مدلول بالعرض إلاّ انه بهذه الكيفية من الدلالة لا بكيفية دلالة الأسماء.

والمتحصل : عدم نهوض أي إيراد من هذه الإيرادات.

القول الثاني : ما اختاره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ، ومحصله : ان المعنى الحرفي والاسمي متفاوتان ومختلفان بحسب ذاتيهما وحقيقتهما ، والفرق بينهما كالفرق بين الوجود في نفسه والوجود لا في نفسه ، أعني الوجود الرابط في قبال الوجود المحمولي.

وبيان ذلك : ان الفلاسفة ـ كما قيل ـ قسموا الوجود إلى أقسام أربعة :

الأول : الوجود في نفسه ولنفسه وبنفسه وهو وجود الواجب تعالى شأنه ، فانه موجود قائم بذاته وليس معلولا لغيره.

الثاني : الوجود في نفسه ولنفسه ولكن بغيره وهو وجود الجوهر ، فانه قائم بذاته ولكنه معلول لغيره.

الثالث : الوجود في نفسه ولكن لغيره وهو وجود العرض ، فانه غير قائم بذاته بل متقوم بموضوع في الخارج ، فلا يعقل وجود عرض بدون موضوع متحقق في الخارج. ويعبر عن هذا القسم في الاصطلاح بالوجود الرابطي.

الرابع : الوجود لا في نفسه وهو المعبر عنه بالوجود الرابط في قبال الوجود الرابطي ، وهو وجود النسبة والربط ، فان حقيقة النسبة لا توجد في الخارج إلاّ بتبع وجود المنتسبين بلا استقلال لها أصلا. فهي بذاتها متقومة بالطرفين لا في وجودها. بخلاف العرض فانه بذاته غير متقوم بموضوعه ، وانما ذلك ـ أعني التقوم بموضوع ـ من لوازم وجوده وضرورياته.

وقد استدل بتحقق الوجود الرابط خارجا ، بأنا قد نتيقن بوجود الجوهر

١٠٥

كزيد والعرض كالقيام ، ولكن نشك في ثبوت العرض المقطوع وجوده للموضوع المقطوع وجوده أيضا. ومن البديهي لزوم تغاير متعلق الشك واليقين لأنهما ضدان فاتحاد متعلقهما يستلزم اجتماع الضدين في واحد وهو محال.

وعليه ، ففرض تعلق الشك في ارتباط العرض بالمعروض مع اليقين بوجودهما يكشف عن كون متعلق الشك وهو الربط والنسبة ذا وجود غير وجود الطرفين ، وبذلك يثبت تحقق القسم الرابع من الوجود خارجا.

والّذي التزم به المحقق الأصفهاني قدس‌سره : هو ان المعنى الحرفي كالوجود الرابط في كونه معنى متقوما بالطرفين لا وجود ولا تحقق له الا في ضمن طرفين وليس له وجود منحاز عن وجوديهما. إلاّ ان نقطة الاختلاف بينهما هو ان المعنى الحرفي موطنه الذهن والوجود الرابط موطنه الخارج.

بل يصح ان يقال : ان المعنى الحرفي قسم من الوجود الرابط وهو الوجود الرابط في الذهن القائم بمفهومين الّذي يعبر عنه في طي كلماته بالنسبة والربط بين المفاهيم ، دون الوجود الرابط في الخارج المعبر عنه بالنسبة الخارجية ، والّذي يشهد على ان اختياره كون المعنى الحرفي الربط الذهني ما ذكره في كتابه « الأصول على النهج الحديث » من ان الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي كالفرق بين الوجود الرابط والمحمولي. وما ذكره في نهاية الدراية من توهين تنظيرهما بالجوهر والعرض لأن العرض موجود في نفسه لغيره ، وكون الصحيح تنظيرهما بالوجود المحمولي والوجود الرابط لا الرابطي ، كما انه كان يصرح بذلك في مجلس درسه (١).

وأورد عليه المحقق الخوئي ( حفظه الله ) بوجهين :

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث ـ ٢٤ ـ ٢٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي ـ نهاية الدراية ١ ـ ١٦ ـ ١٩ ـ الطبعة الأولى.

١٠٦

الأول : انه لو سلمنا تحقق وجود للرابط والنسبة خارجا غير وجود الجوهر والعرض ، فلا نسلم وضع الحروف والأدوات لها ، لما تقدم امتناع الوضع للموجودات الذهنية والخارجية وتعين وضع الألفاظ لذوات المفاهيم والماهيات ، لأن المقصود من الوضع هو التفهيم ، والتفهيم بحصول صورة المعنى في الذهن باستعمال اللفظ ، والموجود الخارجي لا يقبل الإحضار في الذهن لأنه خلف كونه خارجيا ، والموجود الذهني غير قابل للإحضار ثانيا لأن الموجود الذهني لا يقبل وجود ذهنيا آخر.

وعليه ، فيمتنع الوضع للموجود خارجيا كان أو ذهنيا للغويته وعدم ترتب أثر الوضع عليه.

الثاني : انه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا إمكان الوضع للموجود بما هو موجود ، فلا نسلم وضع الحرف للنسبة ، لاستعماله بلا مسامحة في موارد يمتنع فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد « هل » البسيطة. فلا فرق بين قولنا : « الوجود للإنسان ممكن » و « لله تعالى ضروري » و « لشريك الباري مستحيل » ، فان كلمة « اللام » مستعملة في جميع هذه الأمثلة على نسق واحد بلا عناية في أحدها ، مع انه يستحيل فرض استعمالها في النسبة في بعضها حتى بمفاد كان التامة ، لعدم تحقق أي نسبة بين الواجب وصفاته ، لأن النسبة انما تتحقق بين ماهية ووجودها نظير « زيد موجود » ، فلاحظ (١).

ولكن الحق عدم ورود كلا الوجهين :

أما الأول : فلان امتناع وضع اللفظ للموجود مما أسسه المحقق الأصفهاني والتزم به وقربه بما تكرر من : « ان المقابل لا يقبل المقابل والمماثل لا يقبل المماثل ». إلا ان ذلك يختص بالأسماء دون الحروف ، فانه التزم بكون

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٧٦ ـ الطبعة الأولى.

١٠٧

الموضوع له فيها هو الوجود الذهني ، والإيراد المزبور يدفع بما أشرنا إليه من أن دلالة الحروف وحكايتها تختلف عن دلالة الأسماء ، فانها من قبيل دلالة المماثل على المماثل ، فلا يرد فيه المحذور.

واما الثاني : فلأنه يبتني على أخذ الموضوع له هو الوجود الخارجي ، وقد عرفت خلافه وان الموضوع له هو الربط الذهني فلا يرد عليه الإشكال ، لأن عروض النسبة بين الذات المقدسة والوجود انما يستحيل في الخارج ، وأما في الذهن وعروضها بين المفاهيم المتصورة عنهما ، فلا امتناع فيه. والربط الذهني قوامه بالمفاهيم لا بالوجودات الخارجية.

ثم انه ( حفظه الله ) استشكل في أصل تحقق قسم رابع في الخارج يعبر عنه بالوجود الرابط وحكم : بان الصحيح عدم وجود للربط والنسبة خارجا قبال وجود الجوهر والعرض ـ وعليه فينهدم أساس هذا الاختيار ، أعني اختيار وضع الحرف للنسبة ـ ، والوجه في ذلك عدم وجود الدليل عليه سوى ما ذكر من البرهان وهو غير تام ، وذلك : لأن صفتي اليقين والشك وان كانتا متضادتين فلا يكاد يمكن ان تتعلقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة. إلاّ ان تحققهما في الذهن لا يكشف عن تعدد متعلقهما في الخارج ، فان الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجا ، ومع ذلك يمكن ان يكون أحدهما متعلقا لصفة اليقين والآخر متعلقا لصفة الشك ، كما إذا علم إجمالا بوجود إنسان في الدار ولكن شك في انه زيد أو عمرو ، فلا يكشف تضادهما عن تعدد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي ، فانهما موجودان بوجود واحد حقيقة ، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق اليقين. ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك. أو إذا أثبتنا ان للعالم مبدأ ولكن شككنا في انه واجب أو ممكن ، على القول بعدم استحالة التسلسل فرضا. أو أثبتنا انه واجب ولكن شككنا في انه مريد أولا ، إلى غير ذلك. مع ان صفاته تعالى عين ذاته خارجا وعينا كما ان وجوبه كذلك.

١٠٨

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر والشك متعلق بثبوت حصة خاصة منه له ، فليس هنا وجودان أحدهما متعلق لليقين والآخر للشك ، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن فيه من جهة أخرى. وتلخص ان تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلا تعدد متعلقهما في أفق النّفس ، واما في الخارج عنه فقد يكون متعددا وقد يكون واحدا. انتهى كلامه كما جاء في تقريرات بحثه للفياض (١).

القول الثالث : ـ وهو ما اختاره المحقق العراقي ـ وقد أطال قدس‌سره في بيان دعواه ، وحاصل اختياره : ـ بعد ان قرر التغاير الذاتي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وأنكر على الرّأي القائل باتحادهما في الذات والحقيقة ، وان التغاير بينهما في مرحلة الاستعمال من جهة اللحاظ الاستقلالي واللحاظ الآلي ـ ان الحروف موضوعة للاعراض النسبية ، وهي الاعراض المتقومة في وجودها إلى طرفين ـ كالأبوة والبنوة ـ ، فلفظ « في » ـ مثلا ـ موضوعة للظرفية المتقومة بالظرف والمظروف ، و « من » موضوعة للابتداء المتقوم بالمبتدإ والمبتدأ منه.

وأفاد : بان الموضوع إلى نفس الربط والنسبة هو الهيئة التركيبية دون الحروف ، فانها موضوعة إلى المعنى النسبي المعبر عنه في الاصطلاح بالوجود الرابطي.

وبذلك يندفع ما قد يرد من : ان المعاني الإفرادية تحتاج في إفادة المعنى التركيبي الجملي إلى رابط يربط بعضها ببعض ، فإذا كان معنى الحرف نفس العرض النسبي احتاج الكلام إلى رابط يربط بعض اجزائه ببعض ، لعدم صلاحيته للربط إذا كان معناه نفس العرض ، فما الّذي يكون الرابط إذن ان

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٧٥ ـ الطبعة الأولى.

١٠٩

لم يكن الحرف؟ ، فانه بما أفاده يتبين ان ما يؤدي وظيفة الربط هو الهيئة التركيبية وقد قرّب قدس‌سره هذه الدعوى ـ كما في تقريرات بحثه ـ بما نصه : « والسيرة العقلائية حسب الاستقراء تدل على ان العقلاء لم يهملوا معنى من المعاني التي تدور عليها الإفادة والاستفادة ، من حيث جعل الطريق لها والكاشف عنها وهو الكلام. ولا يخفى ان المعاني الحرفية من أهم المعاني التي يحتاج الإنسان إلى الدلالة عليها في مقام الإفادة والاستفادة. وأيضا حسب الاستقراء والفحص عما يدل من الألفاظ الموضوعة على المعاني المذكورة ، قد وجدنا الأسماء تدل على الجواهر وجملة من الاعراض ، ووجدانا الحروف تدل على جملة الاعراض الإضافية النسبية ، ووجدنا الهيئات سواء كانت من هيئات المركبات أم من هيئات المشتقات تدل على ربط العرض بموضوعه ، مثلا لفظ « في » يدل على العرض الأيني العارض على زيد في مثل قولنا : « زيد في الدار » وهيئة مثل « عالم » و « أبيض » و « مضرب » تدل على ربط العرض بموضوع ما وكذلك بقية الحروف تدل على إضافة خاصة وربط مخصوص بين المفاهيم الاسمية » (١).

والّذي يتحصل من مجموع كلامه ، ان الهيئات موضوعة للربط والنسبة بين العرض ومحله. والحروف موضوعة للاعراض الإضافية النسبية.

وبذلك يتفق مع المحققين النائيني والأصفهاني في جهة ـ وهي جهة وضع الهيئات ـ ويختلف معهما في أخرى ـ وهي جهة وضع الحروف ـ وذلك واضح.

والّذي يرد عليه أولا : ان المعنى الحرفي إذا كان هو العرض النسبي فهو لا يفترق عن المعنى الاسمي أيضا ، إذ يكون المعنى الموضوع له لفظ « في » ولفظ « الظرفية » واحد وهو العرض النسبي ، وهو يناهض الوجدان الحاكم بثبوت

__________________

(١) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٤٩ ـ الطبعة الأولى.

١١٠

الفرق بين معنى اللفظين ، فان العرف يرى فرقا شاسعا بين معنييهما عند إلقاء الكلام إليه ، ويرى ان الاعراض التسع بجملتها النسبية من الوجودات المستقلة في ذاتها وانها من المعاني الاسمية.

وثانيا : انه لا يظهر هناك فرق ذاتي بين الاسم والحرف في المعني ، فان لفظ الابتداء لم يوضع لسوى الابتداء الّذي يكون من الاعراض النسبية والموضوع له الحرف. فما قرره للحرف من معنى لا يخلو عن مناقضة لما أفاده في صدر كلامه من وجود الفرق الذاتي بين المعنى الاسمي والحرفي.

وعلى أي حال ، فما أفاده قدس‌سره في معنى الحرف وتقريبه دون مقامه العلمي الرفيع وفكره السامي الدّقيق.

وقد أورد عليه السيد الخوئي بثبوت استعمال الحرف في موارد يستحيل تحقق العرض النسبي فيه كالواجب تعالى ، كقوله تعالى شأنه : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (١) ، ومثل : « الله عالم بكذا » فان اتصاف الذات المقدسة بالعرض النسبي مما لا إشكال في امتناعه ، فلو بنى على وضع الحرف للعرض النسبي يدور الحال في مثل هذه الاستعمالات بين الالتزام بعدم صحة الاستعمال والالتزام بمجازيته وكونه استعمالا مسامحيا ، وكلاهما خلاف الضرورة العرفية ، فان العرف لا يرى في هذا الاستعمال اية مسامحة وتجوز ، ويرى ان استعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ أيّة عناية ولا رعاية علاقة ومناسبة مما يكشف عن كون الموضوع له الحروف معنى آخر غير ما ذكره ، وإلاّ لاختلف الاستعمال حقيقة وتجوزا باختلاف موارده كما لا يخفى (٢).

إلاّ ان الإنصاف أن هذا الإيراد لا يوجب الانصراف عن الالتزام بهذا

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ٥٦.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٧٩ ـ الطبعة الأولى.

١١١

القول لأنه يرد على غيره ، وهو ما التزم به نفس المورد ـ أعني السيد الخوئي ـ كما سيتضح فيما يأتي إن شاء الله تعالى ، ولا يختص به. كما انه لا يختص بهذه الناحية ، بل هو ثابت من ناحية أخرى وهي نفس النسبة والربط فانه مما يمتنع في حق الواجب لتقومها باثنين ، ولا اثنينية بين الصفة والذات المقدسة. فلا بد من إيجاد الحل له ، وبذلك يندفع الإيراد ولا يبقى لذكره مجال. مضافا إلى ان ما يطلق في أكثر الموارد المذكورة هو الهيئة التي ترد في الصفات دون الحروف ، فانها قلّ ما تتعلق بطرفين أحدهما الذات الواجبة ، ولا يلتزم قدس‌سره بوضع الهيئة للعرض النسبي إذ يرى اختصاص ذلك بالحروف فلا يتجه الإيراد المزبور

القول الرابع : ـ وهو اختيار السيد الخوئي ( دام ظله ) ـ وقد قرره بقلمه في تعليقته على تقريراته لبحث أستاذه النائيني قدس‌سره ، فقال : « والتحقيق ان يقال : ان الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية ، بل التضييق انما هو في عالم المفهومية وفي نفس المعاني ، كان له وجود في الخارج أو لم يكن ، فمفاهيمها في حد ذاتها متعلقات بغيرها ومتدليات بها قبال مفاهيم الأسماء التي هي مستقلات في أنفسها ، توضيح ذلك : ان كل مفهوم اسمي له سعة وإطلاق بالإضافة إلى الحصص التي تحته ، سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الخصوصيات المنوعة أو المنصفة أو المشخصة. أو بالقياس إلى حالات شخص واحد ، ومن الضروري ان غرض المتكلم كما يتعلق بإفادة المفهوم على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلق بإفادة حصة خاصة منه ، كما في قولك : « الصلاة في المسجد حكمها كذا ». وحيث ان حصص المعنى الواحد فضلا عن المعاني الكثيرة غير متناهية ، فلا بد للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصص المعنى وتقيده ، وليس ذلك إلاّ الحروف والهيئات الدالة على النسب الناقصة كهيئات المشتقات وهيئة الإضافة أو التوصيف ، فكلمة : « في » في قولنا : « الصلاة في المسجد » لا تدل الا

١١٢

على ان المراد من الصلاة ليس هي الطبيعة السارية إلى كل فرد بل خصوص حصة منها ، سواء كانت تلك الحصة موجودة في الخارج أم معدومة ، ممكنة كانت أم ممتنعة ، ومن هنا يكون استعمال الحروف في الممكن والواجب والممتنع على نسق واحد وبلا عناية في شيء منها. فتقول : « ثبوت القيام لزيد ممكن » و « ثبوت العلم لله تعالى ضروري » و « ثبوت الجهل له تعالى مستحيل » فكلمة « اللام » في جميع ذلك يوجب تخصص مدخوله فيحكم عليه بالإمكان مرة وبالضرورة أخرى والاستحالة ثالثة. فما يستعمل في الحرف ليس إلاّ تضييق المعنى الاسمي من دون لحاظ نسبة خارجية حتى في الموارد الممكنة ، فضلا عما يستحيل فيه تحقق نسبته كما في الممتنعات وفي أوصاف الواجب تعالى ونحوهما » (١).

وقد ذكر الفياض في تقريرات بحثه : ان السبب في اختيار هذا القول أمور أربعة :

الأول : بطلان سائر الأقوال.

الثاني : ان المعنى المشار إليه يشترك فيه جميع الموارد الاستعمال الحرف من الواجب والممكن والممتنع. على نسق واحد ، وليس في المعاني ما يكون كذلك.

الثالث : انه نتيجة ما سلكناه في حقيقة الوضع من انه التعهد ، ضرورة ان المتكلم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه.

الرابع : موافقة ذلك للوجدان والارتكاز العرفي ، فان الناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها ، وعن إمكان تحقق النسبة بينها أو عدم إمكانها ، ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك يكذبها صريح الوجدان والبداهة. فهذا يكشف كشفا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨ ـ الطبعة الأولى.

١١٣

قطعيا عن ان الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره (١).

ولا بد من التكلم فيما ذكره من جهات :

الأولى : في انه هل يمكن تصحيح كلامه بغير إرجاعه إلى ما أفاده المحققان النائيني والأصفهاني ، بحيث يكون المراد به أمرا معقولا غير ذاك ، أو انه لا يصح إلاّ بفرض كون المراد به ذاك المعنى دون غيره.

الثانية : في بيان صحة ما رتب عليه من الأثر.

الثالثة : في بيان صحة الدليل الّذي تمسك به وعدمها.

أما الجهة الأولى : فالحق انه لا يتصور لكلامه معنى معقول غير ما أفاده المحقق النائيني ، بيان ذلك : بعد العلم بان ما ورد في تقرير الفياض من التعبير بالوضع للحصة الخاصة غير مراد قطعا ، لأن الحصة لا تخرج بالتحصص عن المفهومية الاسمية ، وانما المراد الوضع للتضييق والتحصيص ونحوهما مما هو خارج عن ذات الحصة كما هو صريح كلامه في تعليقته ـ ان التضييق من الأفعال التسبيبية التوليدية التي تتحقق بأسبابها بلا توسيط الإرادة والاختيار في تحققها ، بل الإرادة انما تتعلق بنفس السبب نظير نسبة الإحراق إلى الإلقاء ، وهو ـ أعني التضييق ـ مسبب عن الربط والنسبة بين المفهومين بلا اختيار. فالتضييق على هذا مسبب ، والخصوصية والربط سبب ، ولا يمكن حصول التضييق بدون حصول الربط والنسبة بين المفهوم ومفهوم آخر ، فما لم تحصل النسبة بين زيد والدار لا يتضيق مفهوم زيد.

وعليه ، فمراد السيد الخوئي من وضع الألفاظ الحرفية لتضييق المعاني والمفاهيم الاسمية ، ان كان هو وضعها للمسبب ـ أعني نفس التضييق ـ دون السبب فهو غير معقول ، لأن الحرف اما ان يوضع لمفهوم التضييق أو لمصداقه

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٨٤ ـ الطبعة الأولى.

١١٤

وواقعه.

ويبطل الأول ـ أعني الوضع لمفهوم التضييق ـ وضوح التباين بين ما يفهم من الحرف ومفهوم التضييق بنظر العرف ، مع استلزام الوضع له الترادف بين اللفظين في المعنى ، مضافا إلى ان مفهوم التضييق من المفاهيم الاسمية التي يتعلق بها اللحاظ أصالة واستقلالا.

ويبطل الثاني ـ أعني الوضع للمصداق ـ وجوه :

الأول : ما أشرنا إليه من امتناع الوضع بإزاء الوجود ، لكون الغرض منه تحقق انتقال المعنى عند إلقاء اللفظ ، والوجود خارجيا كان أو ذهنيا لا يقبل الانتقال ويأبى الوجود الذهني من باب ان المقابل لا يقبل المقابل أو ان المماثل لا يقبل المماثل. فيمتنع الوضع بإزاء مصداق التضييق الّذي هو فعل خارجي.

الثاني : أن الوضع كذلك لا يتلاءم مع الحكمة الداعية إلى الوضع ـ أعني وضع الحرف ـ ، إذ الغرض منه هو التمكن من تفهيم الحصة الخاصة من المفهوم الاسمي العام ، ولا يخفى ان الغرض لا يتعلق إلاّ بتفهيم ذات الحصة بلا دخل لعنوان تحصصها وتضيقها إذ لا يترتب الأثر على ذلك ، وعليه فمقتضى الحكمة وضع الحرف لنفس الخصوصية الموجبة للتضييق كي يحصل تفهيم الحصة الخاصة من مجموع الكلام وبضميمة الاسم إلى الحرف ، لا الوضع لنفس التضييق والتحصيص فإنه خارج عن دائرة الغرض والداعي.

الثالث : انه لو كان الموضوع له الحرف نفس المصداق لزم تحقق الترادف بين لفظ الحرف وبين الألفاظ الاسمية الدالة على مصداق التضييق ، فيكون لفظ : « في » مرادفا للفظ : « مصداق التضييق » وحصة منه. والوجدان قاض بعدم الترادف وكون المفهوم من أحدهما يختلف عن المفهوم من الآخر (١).

__________________

(١) هذا الإيراد لا يختص بهذا القول ، بل يجري بناء على ما التزم به النائيني أيضا ، فان لازم الالتزام

١١٥

الرابع : ان المعنى الاسمي والمفهوم العام لا يخرج عن الاسمية بالتحصص والوجود ، وإلاّ لزم ان يكون جميع المصاديق من المعاني الحرفية ، فوضع الحرف لمصداق التضييق والتحصيص لا يوجب كون المصداق من المعاني الحرفية بعد ان كان مفهومه من المعاني الاسمية. وما هو المائز بينه وبين المعنى الاسمي؟ ومجرد الوضع له لا يكون سببا لكونه معنى حرفيا ومائزا بينه وبين المعنى الاسمي كما لا يخفى.

والحاصل ، ان فرض وضعها للمسبب وهو التضييق مفهوما ومصداقا لا يعرف له وجه وجيه أصلا.

وان أراد وضعها للسبب ، أعني نفس الربط والنسبة ـ كما قد يظهر من بعض عبارة التقريرات ـ فهو عبارة أخرى عما قرره أستاذه النائيني ، ولا يكون الاختلاف بينهما الا بالتعبير والبيان.

واما الجهة الثانية : فالتحقيق ان ما رتبه على دعواه من صحة عموم استعمالات الحروف حتى في الموارد غير القابلة للنسبة والربط كصفات الباري ، بدعوى : ان الحرف على هذا موضوع للتضييق وهو يتعلق بالمفاهيم لا بالوجودات كي يتوقف ـ كالنسبة ـ على تعدد الوجود الممتنع في ذات الواجب وصفاته. غير تام ، اما مع الالتزام بان الموضوع له هو نفس السبب وهو الربط فواضح جدا ، واما مع الالتزام بان الموضوع له هو المسبب وهو التضييق ،

__________________

ـ بان الحرف موضوع لواقع النسبة تحقق الترادف بين الحرف وما يدل على واقع النسبة من لفظ : « واقع النسبة » ونحوه ، ولا إشكال في فساده. والحل : هو ان كل لفظ يشار به إلى واقع النسبة ونفس المعنى الخارجي موضوع لمفهوم كلي كمفهوم واقع النسبة أو مصداقها ونحوه ، وهكذا الحال في مصداق التضييق ، ولم يوضع للفرد الخاصّ من النسبة ، وانما الموضوع له هو لفظ الحرف فقط ، فلا يلزم الترادف حينئذ بين لفظ الحرف ولفظ المصداق ونحوه ، مما لم يوضع إلى واقع المصداق وخارجه ، بل إلى مفهومه المنطبق على كثيرين ، فلا يتفق معناه مع معنى الحرف ، فإن الأول مفهوم اسمي فلاحظ.

١١٦

فلوضوح ان المقصود من وضع الحروف للتضييق ليس وضعها لكلي التضييق ومفهومه العام الشامل لجميع الافراد ، بحيث تكون جميع الحروف مترادفة ، بل الموضوع له كل حرف تضييق من جهة خاصة للمفهوم فالموضوع له لفظ : « في » تضييق المفاهيم الاسمية من جهة الظرفية ، والموضوع له لفظ : « من » تضييقها من جهة خاصة أخرى وهي الابتداء ، وهكذا. وظاهر أن التضييق الخاصّ يتوقف على ثبوت خصوصية وارتباط بين المفهومين الاسميين بحيث ينشأ منه التضييق الخاصّ فيصح استعمال الحرف فيه ، فلا يحصل تضييق مفهوم زيد بكونه في الدار ، إلاّ بتحقق الارتباط والنسبة الخاصة بينه وبين الدار. فيعبر عن ذلك التضييق بالحرف. وعليه فاستعمال الحرف في صفات الله تعالى يتوقف على ثبوت النسبة والارتباط بين الصفة والذات كي تتحقق التضييق المعبر عنه بالحرف. فيرجع الإشكال كما هو ، ولا بد من حلّه بحل عام يرتفع به الإشكال في جميع الأقوال. وبعبارة أخرى : ان قولنا : « الوجود لله واجب » يحتاج إلى ثبوت نسبة بين الوجود والذات المقدسة تصحح فرض التضييق في الوجود ونسبته إلى الله ، كما يحتاج قولنا : « الوجود لزيد ممكن » إلى ذلك. وهذا واضح لا خفاء فيه ولا غبار عليه.

ثم انه بناء على ان يكون الموضوع له في الحروف هو التضييق يكون معنى الحرف من المعاني الإيجادية ، وهو الأمر الّذي فرّ منه مكررا مدعيا ـ في مقام إيراده على المحقق النائيني في دعواه تعين الإيجادية لعدم الإخطارية ـ ثبوت الواسطة بين المعاني الإخطارية المستقلة وبين المعاني الإيجادية وهي المعاني الإخطارية غير المستقلة التي عبر عنها بغير الإخطارية أيضا لعدم استقلالها. فانتفاء كون معنى الحروف إخطارية مستقلة لا يعين كونها إيجادية ، بل يمكن ان تكون إخطارية غير مستقلة ، بل هو المتعين وليس معناها إيجاديا.

وبالجملة : فقد التزم بان المعاني الحرفية من المفاهيم غير المستقلة وان

١١٧

الفرق بينها وبين المعاني الاسمية بالاستقلال وعدمه.

والوجه في لزوم كونها إيجادية على البناء المزبور : ان المفروض عدم وضعها لمفهوم التضييق لعدم معقوليته ، كما عرفت فهي موضوعة اما لواقع التضييق أو لسببه وهو واضع النسبة والربط.

فعلى الثاني : فإيجادية المعنى الحرفي واضحة فقد تقدم بيانها.

واما على الأول : فحيث انه لا إشكال في تحقق النسبة عند ذكر الحرف ، وقد عرفت ان النسبة سبب لحدوث التضييق فبوجودها يحدث واقع التضييق ويوجد فتحققه في ذهن السامع انما يكون بتبع تحقق النسبة والربط ، وقد عرفت إيجادية النسبة والربط وانها تحصل في ذهن السامع بنفس اللفظ فكذلك التضييق يكون إيجاديا يحصل في ذهن السامع بواسطة اللفظ باعتبار تبعية وجوده لوجود النسبة وهي معنى إيجادي كما عرفت.

كما انه لا واقع له الا في ضمن المفاهيم لأنه مسبب عن الربط والنسبة والقائم بالمفاهيم والّذي لا حقيقة له الا في ضمنها لأنه من كيفيات وجودها.

كما انه بناء على الالتزام بما ذكر يكون المعنى الحرفي من المعاني الآلية لا الاستقلالية.

وذلك : فان وضع الحرف للتضييق باعتبار كون المقصود تفهيم الحصة الخاصة من المفهوم دون المفهوم على سعته ، ظاهر في ان نفس التضييق ملحوظ آلة لتفهيم الحصة ، وإلاّ فلا يتعلق غرض مستقل به بخصوصه ، بل الغرض واللحاظ الاستقلالي متعلق بتفهيم الحصة وإفادة التضييق طريق إلى ذلك.

ولا يجدي تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الحرفي في بعض الأحيان ، لأنه وان كان ممكنا لأن الآلية ليست من لوازم التضييق التي لا تنفك عنه كما كانت من لوازم الربط والنسبة ، إلاّ انه إذا ثبت كون الأغلب بحسب مقتضى الاستعمال كون المعنى الحرفي ملحوظا آلة وطريقا لا مستقلا لم ينفع لحاظه

١١٨

الاستقلالي في بعض الأحيان في ترتب الثمرة عليه ، وهي ما سيأتي من إمكان الإطلاق في معناه ، إذ ما يأتي من الحروف يحمل علي الفرد الغالب. وهو الملحوظ آلة فلا يصح التمسك بإطلاقه.

وبالجملة : فنتيجة هذا القول عين نتيجة الالتزام بان الموضوع له هو النسبة وان الآلية من لوازم الموضوع له التي لا تنفك عنه من عدم التمسك بالإطلاق في غير مورد العلم بتعلق اللحاظ استقلالا كما هو الأمر الغالب في الحروف حيث لا يعلم تعلق اللحاظ الاستقلالي بمعناها. فتدبر جيدا.

واما الجهة الثالثة : فقد اتضح وهن ما اعتمد عليه.

أما الأول : فهو مضافا إلى وهنه في نفسه ، إذ بطلان الوجوه الأخرى لا يعني صحة هذا الوجه وتعينه ، ممنوع إذ قد عرفت تصحيح ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني والنائيني وتوجيه كلامهما بنحو لا يرد عليه أي إيراد مما ذكره السيد الخوئي أو غيره ، وقد عرفت توجه بعض ما أورده عليهما على كلامه نفسه.

وأما الثاني : فقد عرفت ان اختياره لا يصحح استعمال الحرف في جميع الموارد ، وان الإشكال الّذي وجهه على المحقق العراقي والأصفهاني من عدم صحة استعمال الحرف في صفات الباري يتوجه على مختاره أيضا.

وأما الثالث : فصدوره منه عجيب ، إذ البحث عن حقيقة المعنى الحرفي ومعرفة الموضوع له الحرف وانه التضييق أو غيره ، انما يأتي في المرتبة المتأخرة عن بيان أصل الوضع وحقيقته بحيث يكون فرض وضعه لهذا المعنى على جميع التقادير لحقيقة الوضع ، فالالتزام بمعنى خاص للوضع لا يقتضي وضع اللفظ إلى معنى معين بحيث يكون نتيجة تعيين حقيقة الوضع هو الوضع المذكور ، فالوضع للتضييق على تقدير تماميته يصلح على جميع تقادير معنى الوضع ولا يتعين ان يكون نتيجة الالتزام بمعنى معين ، وإذا لم يصح في التضييق لا يصلح

١١٩

على جميع التقادير ، ولا يقتضي كون معنى الوضع هو التعهد الوضع للتضييق ، إذ الإشكال والكلام في معقولية تعلق التعهد بذكر الحرف عند إرادة التضييق كالإشكال في معقولية اعتبار العلقة بينهما أو جعل الحرف على المعنى المذكور.

وبالجملة : الإشكال يتأتى على جميع تقادير الوضع حتى على تقدير التعهد ، ويحتاج الدعوى إلى دليل ولا يكتفي في صحتها باختيار كون الوضع هو التعهد ، إذ الإشكال في صحة خصوص التعهد المذكور.

وأما الرابع : فهو دعوى مجازفة ، إذ بعد ان عرفت ما يرد من الإشكال على المبنى المزبور ، فكيف يكون ارتكازيا؟!.

والّذي ننتهي إليه أخيرا هو الالتزام بما التزم به المحققان النائيني والأصفهاني من انه موضوع للربط والنسبة بين المفهومين الّذي هو من سنخ الوجود ، فانه مضافا إلى معقوليته في نفسه وعدم الوصول إلى أي إشكال فيه امر ارتكازي وجداني لا يحتاج إلى إقامة برهان ، وذلك فان المعنى المزبور يتبادر إلى الذهن عند إلقاء الجملة ، والدال عليه منحصر بالحرف لعدم وجود ما يصلح للدلالة عليه من اجزاء الجملة غيره ، إذ الاسم يدل على نفس المفهوم المرتبط بالآخر لا على الارتباط.

« كيفية الوضع للحروف »

ثم انه يتضح بذلك ان الموضوع له في الحروف خاص لا عام ـ كما ادعاه صاحب الكفاية (١) ـ لأن الموضوع له إذا كان عاما لم يكن معنى حرفيا بل كان معنى اسميا ، إذ كل ما يفرض كونه عاما يكون من المفاهيم ـ إذ الوجود لا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٢٠