حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

جليل تاري

حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

المؤلف:

جليل تاري


المترجم: أحمد الفاضل
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-529-035-X
الصفحات: ١٧٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

علىٰ الأوضاع ، وكان هذا يتمّ من خلال بعض زوجات النبي كعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر.

فقد نقل أهل السنّة رواياتٍ عديدةً أنّ النبي قال لبعض أزواجه في لحظاته الأخيرة : « إنّكنّ صواحب يوسف » (١).

لقد شبّهن بالنسوة اللواتي ابتلي بهنّ يوسف. وينقل الطبري في موضعٍ آخر : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ابعثوا إلى علي فادعوه. وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر. فاجتمعوا عنده جميعاً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انصرفوا ، فإن تلك لي حاجة أبعث إليكم (٢).

إنّ هذه الأحاديث خير شاهدٍ علىٰ هذه الدعوىٰ ، لأنها تكشف عن هؤلاء الذين حاولوا إبراز أنفسهم والتظاهر بأنّهم من المقرَّبين للنبي ، وذلك من خلال التسابق والحضور عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلعلّه يقول لهم ما يريد أن يقوله لعليٍّ عليه‌السلام أمامهم ، فبعض الأحاديث وإن لم تصرِّح

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ١٩٧ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٣١ ـ ٧٣٢ و ٧٣٥ ، الإمامة والسياسة : ٢٠ دلائل النبوة ٧ : ١٨٦ ـ ١٨٨ ، الإرشاد ١ : ١٨٣ ، ( يقول الشيخ المفيد في ذلك : حين سمع كلامهما ورأى حرص كلّ واحدةٍ منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حي قال : « اكففن فإنّكنّ كصويحبات يوسف ». ولكن عموم روايات أهل السنّة ذكرت أنّ عائشة لم تكن تميل إلى إمامة أبي بكر للصلاة حينما أمره النبي ، إلاَّ أنّ النبي أصرّ على أبي بكر ). ومن الواضح أنّ أكثر هذه الروايات وردت عن طريق عائشة.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ١٩٦ ، الإرشاد ١ : ١٨٥.

٨١

باسم عليٍّ عليه‌السلام ، واشتملت على عبارات من قبيل ، « ادعوا لي حبيبي أو خليلي » (١) ، إلاّ أنّها تشترك في التأكيد علىٰ إعراض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هؤلاء ، أو أمرهم بالانصراف. فالنبي وإن لم يقل : أخبروا علياً ليأتي ، بل يذكر تعبيراً آخر ، ولكن لم يكونوا هم المقصودين من كلامه قطعاً. وعلى أي حال فتسابق هؤلاء أمرٌ مهم يدلّ علىٰ محاولاتهم الواسعة حتى في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لإقصاء علي عليه‌السلام والسيطرة على الحكم.

٥ ـ من المحاولات الاُخرى لهذه المجموعة : ما قام به عمر ومن حوله من الحيلولة دون كتابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً كي لا يضلّوا من بعده.

فلقد كان عمر يدرك دون شكٍّ ما يهدف إليه النبي في كتابه وهو التأكيد علىٰ خلافة الإمام علي عليه‌السلام ، وعلىٰ هذا الأساس حال دون ذلك ، ولم يكن يأبه من نسبة الهجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

لقد أوردت المصادر التاريخية والحديثية العديد من الأحاديث التي ترتبط بكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مشيرةً إلى ما نسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الهجر. وقد صرح بعضها بقائل هذه الكلمة وهو عمر (٢) ، ولم يشر بعضها الآخر إلى القائل ، ولكنها اكتفت بالقول : قالوا : إنّ رسول الله يهجر (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٢٠.

(٢) السقيفة وفدك : ٧٣ ، الطبقات الكبرىٰ ١ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤ ، الإرشاد ١ : ١٨٤.

(٣) الطبقات الكبرىٰ ١ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٣٨ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٩٢.

٨٢

إنّ مجموع هذه الروايات لم يرد فيها ذكرُ شخصٍ آخر غير عمر ، فلاشك إذن أنّ عمر هو صاحب تلك الكلمة المعروفة ، ولكنّ بعض رواة أهل السنّة لم يرغب بالتصريح بقائلها ، وحاول بعض علمائهم تقليل قبح كلام عمر ، قال : أهَجَرَ ، أي اختلف كلامه بسبب المرض (١).

ولكنّه توجيه لا تساعد عليه اللغة ، وقد نقل مثل ذلك ابن منظور في لسان العرب ، حيث قال : وفي الحديث : قالوا ما شأنه أهجر ؟ أي اختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الاستفهام ، أي هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض ؟ قال ابن منظور : هذا أحسن ما يقال فيه ، ولا يجعل إخباراً ، فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان ، قال : والقائل كان عمر ولا يظنّ به ذلك (٢).

ولو قبلنا مثل هذا التوجيه فهو يعني أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعي ما يقول لما ألمّ به من المرض ، فلا قيمة لكلامه وهو على هذه الحال. فهل أن نسبة هذا الكلام لمن يقول القرآن بحقه : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ ) (٣) أقل قبحاً ممّا ذكر ؟ ومهما كان معنىٰ كلام عمر فلقد الم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيراً ، وكما جاء في بعض رويات أهل السنّة فغمّ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ١٩٣ ( الهامش ) ، والسقيفة وفدك : ٧٣ ( ضمن رواية ).

(٢) لسان العرب ١٥ : ٣٤ ( مادة هجر ).

(٣) النجم : ٣.

٨٣

وأضجره ، وقال : إليكم عنّي (١).

وفي بعضها « وتكلم عمر بن الخطاب فرفضه النبي » (٢).

ثم قال البعض للنبي : ألا نأتيك بدواةٍ وكتفٍ يا رسول الله ؟ فقال : « أبعد الذي قلتم ، لا. ولكنّي اُوصيكم بأهل بيتي خيراً » (٣).

وليس من الخفيّ سبب امتناع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكتابة بعد ما قاله عمر ، فهو حتى إذا قام بالكتابة فسيزيد عليها اُولئك الذين تجرّؤوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينسبون إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يحلو لهم ممّا يسقط الكتاب من الاعتبار عملياً.

وقد ذهب بعض المتعصبين (٤) إلى القول بأن مقصود النبي من الكتابة التأكيد على خلافة أبي بكر ، وهي دعوىٰ مضحكة. فليس هناك رواية تعرّضت للكتابة تدلّ على ذلك ولو علىٰ نحو الإشارة ، بل العكس ، فإنّ سياق الروايات والشواهد والقرائن التي تحيط بها تخالف ذلك تماماً.

فعمر الذي يفنىٰ في أبي بكر ، وقد بذل كلّ ما بوسعه ليتسنّم أبو

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٧٣٨.

(٢) الطبقات الكبرىٰ ١ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤ ، السقيفة وفدك : ٧٣ « فالنبي إذن أول رافضيٍّ بناءً على هذا المعنىٰ ».

(٣) الإرشاد ١ : ١٨٤.

(٤) البداية والنهاية ٥ : ٢٧١.

٨٤

بكر الخلافة كيف يحول دون الكتابة ؟ وهو الذي يشهر سيفه بعد ساعاتٍ ممهِّدا الطريق لخلافة أبي بكر ! ويكون على أهبة الاستعداد للهجوم حتى على بيت فاطمة عليها‌السلام ، فهل هناك عاقل يسلّم بهذه الدعوىٰ الفارغة والمضحكة ؟

٦ ـ ومن القضايا التي تؤكّد مخطّطات هذه الجماعة عملية إنكار وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل عمر ، كما أشارت لها العديد من الكتب التاريخية والحديثية (١). وكان السبب من وراء ذلك تهدئة الوضع إلى حين وصول أبي بكر ليعلن وفاة النبي ، فتراجع عمر ليوافق ما قاله أبو بكر. إن هذه الحادثة تكشف عن المخطّطات المشتركة والتنسيق المسبق بينهم.

٧ ـ أنّ خبر اجتماع السقيفة اقتصر فيه علىٰ عمر وأبي بكر وبصورة سرّية (٢). ولم يكن اُولئك الذين في بيت النبي علىٰ علمٍ بما حدث ، ولم يحاول أبو بكر وعمر إعلام المسلمين كافّةً أو وجوه القوم على الأقل بالقضية : لتتظافر الطاقات وتشترك العقول للوصول إلى حلٍّ. أوَ ليس ذلك يُنبئ عن وجود مخطّطٍ وبرنامجٍ مدبَّر يهدف إلى السيطرة على السلطة ؟

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ٤ : ٣٠٥ و ٣١١ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٤٢ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢١٠ ، البداية والنهاية ٥ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٤ ، السقيفة وفدك : ٥٥ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٣.

٨٥

محاولات النبي إحباط المؤامرات :

لقد عيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً في غدير خمٍّ خليفةً له بأمر الله ، ولم يدع فرصةً إلاَّ وأكد ذلك ، ولكن التحرّك المحموم للعديد من الجماعات التي كانت تحاول السيطرة علىٰ الحكم ، اضطرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنْ يتخذ بعض الإجراءات لتوطيد خلافة عليٍّ.

وكان من هذه الإجراءات : إعداد جيشٍ لمواجهة الروم ، وكان هذا الجيش شُكّل في الأيام الأخيرة من حياة النبي ، واختار النبي اُسامة بن زيد قائداً له وأمر وجوه المهاجرين والانصار بالالتحاق بجيش أسامة ، وكان منهم أبو بكر وعمر ، وأكد عليهم الخروج من المدينة ، والسير نحو أرضٍ استشهد على ترابها زيد بن حارثة والد اُسامة.

لقد كان النبي يتوخّىٰ من عمله هذا عدة أهداف :

الأوّل : ما ذكره الشيخ المفيد : وهو أن لا يكون في المدينة من ينازع علياً الخلافة (١). والأهم من ذلك اختيار اُسامة الشابّ الذي لم يتجاوز عمره السابعة عشرة (٢) لقيادة الجيش في وقتٍ يضمّ العسكر زعماء ومشايخ لهم قد السبق ، وممن عركتهم الحروب ، وخاضوا

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٣٢.

٨٦

بدراً واُحداً والخندق ، فكانوا علىٰ تجربةٍ عسكريةٍ عالية ، ورغم كل ذلك قدّم النبي اُسامة ليكون قائداً لهم ، وأمرهم بطاعته ، فكان هذا الاختيار رسالةً عظيمةً وواضحةً لجميع المسلمين ؛ لتحذّرهم من مغبّة التشكيك في خلافة عليٍّ عليه‌السلام وعدم طاعته بذريعة صغر السنّ.

واعترض البعض على اختيار اُسامة ، فغضب النبي واعتلىٰ المنبر ، فذكّرهم بجدارته (١) ، وعندما توفّي صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب عمر من أبي بكر عزل اُسامة عن قيادة الجيش ، ولكنّ أبا بكر أخذ بلحيته وقال له : ثكلتك اُمّك وعدمتك يابن الخطاب ، استعمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأمرني أن أنزعه ؟! (٢).

ولم يستطع الطامعون في الخلافة والزعامة الالتحاق بجيش اُسامة ، فعمدوا إلىٰ وضع العثرات في طريقة والعمل على تأخير حركتهُ وعندما شعر اُسامة بما عليه هؤلاء جاء إلى النبيّ وطلب منه أن يمكث أياماً إلى أن يعافيه الله تعالى ، فقال له النبي : « اخرج وسِر على بركة الله ». ولكن اُسامة كان يتذرّع بمرض النبي ، والنبي يكرّر أوامره بالرحيل ، ليقول في آخر المطاف : « انفذ لِما أمرتك به ». ثم اُغمي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أفاق سأل عن اُسامة والبعث وقال : « أنفذوا بعث

__________________

(١) السيرة النبوية ٤ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ ، الطبقات الكبرىٰ ١ : ١٩٠ و ٢٤٩.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٢٦.

٨٧

اُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه ». وكرر ذلك (١).

فخرج اُسامة بجيشه حتى نزلوا الجرف من المدينة (٢). ولكنّهم كانوا في تردّدٍ مستمرٍّ على المدينة ، حتى فقد النبي قواه نتيجةً للمرض ، ولم يعد قادراً علىٰ الذهاب إلى المسجد ، فذهب أبو بكر ليصلّي مكان النبي ، وشرع في الصلاة ، في هذا الحين انطلق النبي من بيته ليبطل مفعول تلك المؤامرة ، واعتمد على عليٍّ والفضل بن العباس ، فأشار على أبي بكر بالرجوع دون أن يعتني بصلاته وابتدأ صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلاة (٣). وبعد انقضاء الصلاة عاد إلى بيته ، وطلب أبا بكر وعمر وجماعةً من المسلمين ممّن حضر في المسجد وقال لهم : « ألم آمركم أن تنفذوا جيش اُسامة ؟ » ، فقالوا : بلىٰ يا رسول الله ، قال النبي : « فلِمَ تأخّرتم عن أمري ؟ » ، فجاء كلّ واحدٍ منهم بعذر ، فقال النبي : « أنفذوا جيش اُسامة » ، كرّرها ثلاث مرّات (٤).

ومن محاولات النبي الاُخرى في هذه الصدد : إرسال أبي سفيان خارج المدينة ساعياً لجمع الزكاة ، وهذا ما تدلّ عليه بعض

__________________

(١) السقيفة وفدك : ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) السيرة النبوية : ٤ : ٣٠٠.

(٣) الإرشاد ١ : ١٨٣.

(٤) الإرشاد ١ : ١٨٤.

٨٨

الروايات (١) ، وإن لم يتمَّ التعرّض لأكثر ممّا ذكر.

ومن محاولات النبي الاُخرىٰ أيضاً لإبطال المؤامرات : ما عرف بكتابة الكتاب ، ولكن وكما ذكرنا سلفاً فإنّ هذا الأمر لم يتحقق ، وذلك لما قام به البعض ، من وضع العراقيل.

وهنا سؤال ربما يطرح نفسه : لماذا لم يقدم النبي على الكتابة يوم كان سليماً معافىً لئلاّ تثار الشبهات ؟

ونجيب أولاً : أنّ هذه الحادثة فضحت الكثير من الوجوه المقنّعة ، وبيّنت مدىٰ طاعة هؤلاء للنبي وامتثالهم لأوامره.

وثانياً : كان النبي يعتقد أنّ القضية لم تعد تواجهها العقبات بعد إعداد جيش اُسامة ، ولكن دارت الدائرة وتغيّرت النتائج حينما تخلّف البعض عن الأمر ؛ وذلك لأن المخالفة المعلنة الواسعة لأوامر النبي لم تكن تعرف حتى ذلك الوقت.

وكما يذكر الشيخ المفيد ، فقد أفاق رسول الله ، فنظر إلى من حوله وكان منهم من تخلّف عن جيش اُسامة كأبي بكرٍ وعمر ، فقال « ائتوني بدواةٍ وكتفٍ لأكتب إليكم كتاباً » (٢).

__________________

(١) السقيفة وفدك : ٣٧. نعم ، ذكر البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٧٧٣ نقلاً عن الواقدي : « أجمع أصحابنا أن أبا سفيان كان حين قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حاضراً » ، أي في المدينة ، وعليه فلا يتمّ الاستدلال.

(٢) الإرشاد ١ : ١٨٤.

٨٩

لقد بذل النبي كلّ ما بوسعه لترسيخ ولاية عليٍّ عليه‌السلام. وجدير ذكره ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يقصد فرض عليٍّ عليه‌السلام على الناس ، أو القيام بعملٍ يمكن أن يؤدي إلى هذا التصور ، وإنّما كان يعمل على تأدّية الواجب الإلهي في ما يرتبط بتبليغ الرسالة على أحسن وجه ، ويُشعر الجميع بأنّ عمله هذا لم يجنِ لهم سوىٰ الخير والصلاح والهدىٰ ، وهكذا هو الحال حقاً ، فمن اهتدىٰ فلنفسه ومن ضلّ فعليها.

ولم يقصد عليٌّ الوصول إلى السلطة بأي ثمنٍ كان ، ومهما كان نوع الطريق الذي يسلكه.

فعليٌّ لم يرَ الحكومة إلاّ طريقاً لهداية البشر ، وليس من الممكن أن نلتقي الهداية والقهر والإجبار والخداع السياسي ، فكلّ ذلك يؤدّي إلى نقض الغرض.

فعليٌّ عليه‌السلام أسمىٰ من أن يطمح في الحصول على إمارة كهذه ، أو أن يضطر الآخرين على قبوله ، فإذا كانوا يرغبون به كفاهم الالتزام بوصايا نبيهم ، وإلاّ فلن يكون السعي الحثيث أشد أثراً من وصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المكررة.

ويدلّ على ذلك : ما قاله العباس ( عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعليٍّ عليه‌السلام عقب رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : اخرج حتى اُبايعك على أعين الناس ، فلا يختلف عليك اثنان ، فأبىٰ وقال : « أو منهم من ينكر حقّنا ويستبدّ علينا ؟! » ، فقال

٩٠

العباس : سترى أنّ ذلك سيكون (١).

إنّ ما نعتقده هو أنّ علياً كان أكثر درايةً وإدراكاً للاُمور من العباس ، فإذا كان المسلمون يهمّهم العمل بوصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا حاجة إلى بيعةٍ سرّية أو إلى انقلابٍ كما يعبَّر عنه اليوم ، وإذا لم يكونوا على علمٍ بممنزلة عليٍّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أنهم لا يميلون إليه فلن تُجديَ هذه المحاولات ، ولن يكون لها قيمة معنوية ، فلقد بلّغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قومه بما لم يَدَع عذراً لأحد ، وجعلهم على المحكّ ، وعلى المسلمين أن يكشفوا مدىٰ امتثالهم وطاعتهم لله وللنبي ، وهو ما يبدو واضحاً من كلام عليٍّ عليه‌السلام بعد مقتل عثمان ، وإقبال المسلمين عليه.

إنّ ما ذُكر لا يعني استسلام الإمام عليٍّ عليه‌السلام لهم والتناغم معهم واعتبارهم الحقّ ، بل صدع بالمخالفة ولم يهادِن ، ولو وجد أنصاراً لما اختار السكوت ، ولكنه لم يجد إلاّ القلائل ممّن يرون رأيه ، فلم يكن الحلّ المسلَّح خياراً يمكن أن يجني الثمار بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا كانت سيرة الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وهذا ما يتطلّب بحثاً معمّقاً ، ولا مجال لخوضه الآن.

حلول الأنصار

إنّنا ومن خلال الأبحاث الماضية ، يمكننا الإجابة عن هذا

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٧.

٩١

السؤال ، وهو : لماذا اجتمع الأنصار في السقيفة ولم تكن مجريات الأحداث خافيةً على أحد ؟ والمهاجرون والأنصار يعلمون جميعاً أنّ المدينة تعيش المخاض ، وهناك تغيّرات تلوح في الاُفق ، وسرعان ما ستشهد حوادث مهمة. إن كل ذلك كان يخيّم على المدينة ، ولكن لم يكن هناك أحد يحيط بما سيقع على نحو التفصيل ؛ لأنّ هناك جماعاتٍ وجماعاتٍ تعمل للسيطرة على الحكم.

فالقضية واضحة النتائج إذن لأنّ علياً لن يصل إلى الخلافة ما زالت هناك ملابسات بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . فهذا العباس بن عبدالمطلب ( عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان يراوده الشك ، هل سيتبوّأ عليّ مقام الخلافة ؟ وهل يرضىٰ الناس بذلك ؟ ولم تكن تساؤلاته توحي بالاستفسار عن الأجدر بهذا الموقع ، فهو لم يرَ أصلح من علي ، وطالما اقترح عليه البيعة (١). وليس هناك نصّ تاريخي يدلّ علىٰ أنّه كان يسأل عن الأولىٰ بالخلافة بعد النبي. نعم ، كان يتحرىٰ ويسأل : ماذا سيحصل بعد النبي ؟ هل أنّ الولاية ستستقرّ في بني هاشم أو لا ؟

ينقل الشيخ المفيد حواراً معبّراً يدور بين العباس والنبي ، حيث يقول العباس : إن يكن هذا الأمر فينا مستقراً بعدك فبشّرنا ، فقال النبي : « أنتم المستضعفون من بعدي » (٢). فليس السؤال عن الأكفأ ، وإنّما هل

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٧ ، الإمامة والسياسة : ٢١.

(٢) الإرشاد ١ : ١٨٤.

٩٢

أنها ستؤول إلى عليٍّ باعتباره صاحب الحقّ ؟ فلم تكن حادثة الغدير تخفىٰ على العباس ، ولكنّ تعاقب الأحداث أدّىٰ إلى أن يطرح هذا التساؤل.

وأمّا الأنصار ، أصحاب التاريخ الجهادي المشرق في مواجهة قريشٍ وردِّ كيدها إلى نحورها ، فقد كانوا يخشون عواقب الاُمور فيما إذا لم يتسنَّم عليّ عليه‌السلام الخلافة ، الأمر الذي تدعمه الأدلة والشواهد الكثيرة ، فهم يحذرون سيطرة البعض من قريش لا سيّما بني اُمية ، ممّن يلهثون خلف سراب السلطة أن يتبوّأ هذا المقام ، وعندها لم ينعم الأنصار بالراحة ، وسيطالهم الانتقام ، فعليهم البحث عن حلول. فإذا كانت المدينة موطنهم الأصلي وقد نزلها المهاجرون ضيوفاً فلهم الأولوية بطبيعة الحال في تحديد مصير السلطة على المدينة.

من هنا سارعوا بعد وفاة النبي مباشرةً إلى عقد اجتماعٍ في السقيفة ، لتدارس مستقبلهم ومستقبل المدينة ، والوصول من خلال ذلك إلى معالجاتٍ وحلولٍ بعد وفاة النبي ، وتوحيد المواقف تجاه التحدّيات التي تعصف بهم.

وإذا كانت الشواهد تحمل في طيّاتها دلالات تُنبئ بأنّ علياً لن يصل إلى الخلافة ، فمن الأفضل أن يجتمع الأنصار ليختاروا رجلاً لهذا الأمر ، فأرسلوا خلف سعد بن عبادة ليحضر اجتماعهم البيعة له ، فلو لم يكن عليّ عليه‌السلام الخليفة فمن الأولىٰ بهذا الأمر منهم ؟

٩٣

إنّ هناك شواهد كثيرة تؤيد ما ذكرناه ، وهي :

١ ـ إنّ الأنصار لم يكن لهم موقف سلبيّ من خلافة عليٍّ عليه‌السلام ، بل العكس ، وكما ينقل الطبري (١) وابن الأثير (٢) : قالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع إلاّ علياً.

وهذا الكلام ذكره الأنصار في السقيفة وبحضور أبي بكر وعمر.

يقول اليعقوبي : وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في عليٍّ عليه‌السلام (٣).

ويقول في موضعٍ آخر : قام عبد الرحمن بن عوف فتكلّم فقال : يا معشر الأنصار ، إنّكم وإن كنتم علىٰ فضلٍ ، ليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعليّ : وقام المنذر بن أرقم فقال : ما ندفع فضل من ذكرت ، وإنّ فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد. يعني علي بن أبي طالب (٤).

وهذا يعني أنّ الأنصار لم يكونوا يجهلون حادثة الغدير ، ولم يكن لهم موقف من عليٍّ ، أو أنّ الهدف من سقيفتهم إقصاءه عليه‌السلام ، إلاّ أنّهم بدا لهم الأمر واضحاً ، فهناك من يطلب السطلة بأيِّ ثمنٍ كان ، في

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ١٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

٩٤

وقتٍ لم يروا مثل ذلك من عليٍّ عليه‌السلام الذي لم يكن الخليفة في ظلّ هذه الأوضاع والظروف.

وبعبارةٍ أدق : إنّ البعض لم يسمح لعليٍّ عليه‌السلام ليتصدىٰ للخلافة. فعلىٰ الأنصار أن يهتدوا إلى سبيلٍ للخروج من النفق الذي تتّجه نحوه الاُمور.

٢ ـ إنّ مطالبة الأنصار في خطابهم للمهاجرين في السقيفة « منّا أمير ومنكم أمير » نموذج واضح لما كان يهدف إليه الأنصار ، وهو المشاركة في السلطة ، وبذلك يدرؤون عن أنفسهم خطر انتقام قريشٍ ، والتهديدات المحدقة ؛ ليشعروا بالأمن والاستقرار.

٣ ـ إنّ ما قاله الأنصار في السقيفة يكشف عن مقصودهم. جاء في روايةٍ عن القاسم بن محمد بن أبي بكر تُعبِّر عن نوايا الأنصار في اجتماعهم : ولكنّا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم (١).

وينقل الدينوري والجوهري : قال الأنصار : نشفق فيما بعد هذا اليوم ، ونحذر أن يغلب علىٰ هذا الأمر من ليس منّا ولا منكم (٢).

لقد أدركوا جيداً أنّ الطامعين في الخلافة هو اُولئك الذين حاربوا الإسلام طويلاً ، وهم الذين قتل الأنصار آباءهم وإخوانهم في تلك المعارك ، فإذا تسلّموا زمام الاُمور فسوف لا يكون الأنصار في

__________________

(١) الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٨٢ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٢ ، السقيفة وفدك : ٤٩.

(٢) الإمامة والسياسة : ٢٣، السقيفة وفدك : ٥٧.

٩٥

مأمنٍ منهم ، وليس اُولئك سوىٰ بني اُمية وأتباعهم. فالأنصار لم يراودهم الخوف من أبي بكر (١) ، ولكنّ وجوه الأنصار والواعين منهم ـ كالحبّاب بن المنذر ـ يعتقدون بأنّ المسيرة إذا قادها اليوم أشخاص كأبي بكر فسوف يؤول أمرها إلى أفرادٍ على طرف النقيض من الأنصار ، ولن يَدَعوا الأنصار يرفلون بالأمن.

إنّ القراءة المستقبلية للحبّاب بن المنذر جديرة بالتحسين ، فما تحسّب منه قد وقع علىٰ مرور الأيام ، فلم تمضِ إلاّ فترة قليلة حتى اعتلى منابر المسلمين أبناء الطلقاء ، وجرّعوا المسلمين وأهل بيت النبي عليهم‌السلام الغُصَص ، وجرّوا على الإسلام وأهله الويلات ، ولو لم يكن من فعالهم إلاّ حادثة كربلاء الفجيعة والمروعة لكفىٰ.

٤ ـ لقد كان اجتماع الأنصار في السقيفة سرّياً ، فلم يُطلِعوا أحداً على ذلك ، فإذا كانوا يبغون تعيين خليفةً للمسلمين فليس من المناسب أن يعمدوا إلى عقد اجتماعٍ خاصٍّ. وهذا يعني أنهم بعد عقدهم السقيفة تراءىٰ لهم أن يعيّنوا الخليفة ، ولكنّهم كانوا على علمٍ أنّ مثل ذلك لم يواجَهَ بقبول جميع المسلمين. ويدل عليه : ما جاء في رواية أبي مخنف (٢) مِن أنّ الأنصار قالوا : فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا : نحن المهاجرون ...

__________________

(١) الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٨٢.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

٩٦

فقد كان اجتماعهم أول الأمر وكما يظهر للبحث عن السبل الكفيلة بمعالجة أوضاعهم ، ثم آل الأمر إلىٰ اتخاذ قرارٍ يرتبط بتعيين الخليفة.

٥ ـ لقد تزعزت جبهة الأنصار بعد أن وعدهم أبو بكر بالوزارة ، وأخذ على نفسه أن لا يقضي دونهم أمراً (١) ، فلم ينطلِ كلامه على البعض ، كالحبّاب بن المنذر ، وسعد بن عبادة ، فقالوا : لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه. وما البعض كبشير بن سعد إلى أبي بكر حسداً لابن عمه سعد بن عبادة ، فكان أول من بايع أبا بكر (٢).

ولاح في الاُفق اختلاف آخر يضرب جذوره في أعماق الماضي يوم كان النزاع يدور بين الأوس والخزرج ، ليدفع الأوس إلى بيعة أبي بكر (٣) ، وحدث ما حدث.

يقول الشيخ المفيد في كلامٍ دقيق : « واتفق لأبي بكر ما اتفق ، لاختلاف الأنصار فيما بينهم ، وكراهة الطلقاء ، والمؤلّفة قلوبهم ، من تأخر الأمر ، حتىٰ يفرغ بنو هاشم ، فيستقر الأمر مقرّه ، فبايعوا أبا بكر

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٢٠ ، الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٨٢.

(٢) نفس المصدر.

(٣) تاريخ الطبري ٣ : ٢٢١.

٩٧

لحضوره المكان » (١).

إنّنا ومن مجموع ما ذكر نستنتج أن تنبّؤات الأنصار فيما يتعلق بالمستقبل وتحسّباتهم أمر طبيعي جداً ، ولكنّهم أخطؤوا التوقيت ، فليس من المناسب أن يجتمعوا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يغسّل أو يدفن بعد ، ويكشف هذا عن العجلة وفقدان النظم ، ولذلك مهّدوا الأرضية للآخرين ، ليفرضوا عليهم رؤاهم.

ومن المحتمل أن تكون الدعاية قد لعبت دورها في التأثير على الأنصار لتجعلهم يستشعرون الخوف من بني اُمية يتجاوز الحد الطبيعي. وفي المقابل لو كانوا يتحلّون بالصبر أو يصرّون على حماية عليٍّ عليه‌السلام في السقيفة ، فمن المؤكّد أنّ الجماعات الاُخرى ، لم يكن بمقدورها سلب الخلافة من عليٍّ عليه‌السلام ؛ لأنّ الأنصار كانوا يتبوَّؤن مكانةً مرموقةً في مسار الخلافة ، وخير شاهدٍ على ذلك حضور أبي بكر وعمر في سقيفتهم ، فإذا لم يكونوا يتمتّعون بهذه المنزلة المهمّة والمصيرية لم يكن ليسارع أبو بكر وعمر إليهم ، ولَما أسّسوا ذلك الأساس من هناك.

* * *

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٨٩.

٩٨

٩٩
١٠٠