حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

جليل تاري

حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

المؤلف:

جليل تاري


المترجم: أحمد الفاضل
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-529-035-X
الصفحات: ١٧٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ ) (١) ؛ فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم ، فخصّ الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه ، والإيمان به ، والمؤاساة له ، والصبر معه على شدّة أذى قومهم لهم ؛ وتكذيبهم إياهم ؛ وكلُّ الناس لهم مخالف ، زارٍ عليهم ، فلم يستوحشوا لقلّة عددهم وشنف الناس لهم ؛ وإجماع قومهم عليهم ؛ فهم أوّل من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول ؛ وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ؛ ولا ينازعهم ذلك إلاَّ ظالم ، وأنتم يا معشر الأنصار ، من لا ينكر فضلهم في الدين ، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله ، وجعل إليكم هجرته. وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه ؛ فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا [ أحدٌ ] (٢) بمنزلتكم ؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ، ولا نقضي دونكم الأمور.

قال : فقام الحُباب بن المنذر بن الجموح ، فقال : يا معشر الأنصار ، أملكوا عليكم أمركم ؛ فإنّ الناس في فيئكم وفي ظلّكم ، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولن يصدر الناس إلاَّ عن رأيكم ، أنتم أهل العزّ والثروة ، وأولوا العدد والمنعة والتجربة ، ذوو البأس والنجدة ، وإنّما ينظر الناس إلى ما تصنعون ، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ،

__________________

(١) الزمر : ٣.

(٢) أثبتناه من (ب).

٤١

وينتقض عليكم أمركم ، [ فإن ] أبىٰ هؤلاء إلاَّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير.

فقال عمر : هيهات ، لا يجتمع اثنان في قرن (١) ! والله لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيها من غيركم ، ولكنّ العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم وولي أمورهم منهم ، ولنا بذلك علىٰ من أبىٰ من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين ، من ذا ينازعنا سلطان محمدٍ وإماراته ، ونحن أولياؤه وعشيرته ؟ إلاّ مدلٍ بباطل ، أو متجانف لإثم ، ومتوِّرط في هلكة !

فقام الحُباب بن المنذر فقال : يا معشر الأنصار ، أملكو على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولّوا عليهم هذه الاُمور ، فأنتم والله أحقُّ بهذا الأمر منهم ، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممّن لم يكن يدين ، أنا جذيلها المحكَّك ، وعذيقها المرجَّب ! أما والله لئن شئتم لنعيدنّها جذعةً ؛ فقال عمر : إذاً يقتلك الله ! قال : بل أياك يقتل !

فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ، إنّكم أوّل من نصره وآزر ، فلا تكونوا أوّل من بدّل وغيّر.

__________________

(١) وفي بعض الروايات : « لا يجتمع سيفان في غمد ». السقيفة وفدك : ٥٨ ، الإمامة والسياسة : ٢٥.

٤٢

فقام بشير بن سعد أو النعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار ، إنّا والله لئن كنّا أولي فضيلةٍ في جهاد المشركين ، وسابقة في هذا الدّين ما أردنا به إلاّ رضا ربنا وطاعة نبينا ، والكدح لأنفسنا ، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضاً ، فإنّ الله وليّ المنّة علينا بذلك ، ألا إنَّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من قريش ، وقومه أحقّ به وأولى ، وأيمُ اللهِ لا يراني الله اُنازعهم هذا الأمر أبداً ، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم !

فقال أبو بكر : هذا عمر ، وهذا أبو عبيدة ، فأيّهما شئتم فبايعوا ، فقالا : لا والله لا نتولّى هذا الأمر عليك ، فإنّك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار ، وخليفة رسول الله على الصلاة ؛ والصلاة أفضل دين المسلمين ، فمن ذا ينبغي له أن يتقدّمك أو يتولّىٰ هذا الأمر عليك ! أبسط يدك نبايعك ، فلمّا ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحُباب بن المنذر : يا بشير بن سعد ، عقّتك عقاق (١) ، ما أحوجك إلى ما صنعت ! أنفست على ابن عمّك الإمارة ؟! فقال : لا والله ، ولكنّي كرهت أن اُنازع قوماً حقّاً جعله الله لهم.

ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد ، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ، وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرّةً

__________________

(١) سعد بن عبادة رئيس قبيلة الخزرج وابن عم بشير بن سعد.

٤٣

لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيما نصيباً أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم.

قال هشام : قال أبو مخنف : فحدّثني أبو بكر بن محمد الخزاعي ، أنّ أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك ، فبايعوا أبا بكر ، فكان عمر يقول : ما هو إلاَّ أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر.

قال هشام ، عن أبي مخنف : قال عبدالله بن عبدالرحمن : فأقبل الناس من كلّ جانبٍ يبايعون أبا بكر ، وكادوا يطؤون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد : اتّقوا سعداً لا تطؤوه ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ! ثم قام على رأسه ، فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضدك ، فإخذ سعد بلحية عمر فقال : والله لو حصصتُ منه شعره ما رجعت وفي فيك واضحة ، فقال أبو بكر : مهلاً يا عمر ! الرفق هاهنا أبلغ. فأعرض عنه عمر.

وقال سعد : أما والله لو أنّ بي قوّةً ما أقوى على النهوض لسمعت منّي في أقطارها وسككها زئيراً يجحرك وأصحابك ! أما والله إذاً لألحقنّك بقومٍ كنت فيهم تابعاً غير متبوع ! احملوني من هذا المكان ، فحملوه ، فأدخلوه في داره.

وتُرك أياماً ، ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع قومك ، فقال : أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي ، واُخضّب سنان رمحي ،

٤٤

وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ، فلا أفعل ، وأيمُ الله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى اُعرض على ربّي ، وأعلم ما حسابي.

فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر : لا تدعه حتى يبايع ، فقال له بشير بن سعد : إنّه قد لجّ وأبى ، وليس بمبايعكم حتى يُقتل ، وليس بمقتولٍ حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته ؛ فاتركوه فليس تركه بضارّكم ، إنّما هو رجلٌ واحد ، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه.

فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ويحجّ ، ولا يفيض معهم بإفاضتهم ، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه‌الله.

* * *

٤٥
٤٦

٤٧
٤٨

المقدمة

إنّ لكلّ حادثةٍ تقع في طول التأريخ جذورها فيما سبقها من أحداث ، وربما اعتبرت نتيجةً لتلك الأحداث.

وحادثة السقيفة وإن كانت حدثاً طارئاً « وفلتةً » ، ولكنّها دون شكٍّ جاءت على أثر عوامل مختلفةٍ في الماضي أدّت إلى بلورتها.

لقد تعرضت رواية أبي مخنف لأصل واقعة السقيفة ، ولكنّها لم تتناول أسبابها رغم أهميتها وحساسيتها.

وبعبارة أدّق : إنّ ما نقله لنا الطبري من كتاب السقيفة لأبي مخنف كان قد اقتصر على هذا المقدار وحسب ، وربما أمكن الإحاطة بزوايا تلك الواقعة فيما لو وصلنا الكتاب.

من هنا يسعىٰ طالب الحقيقة للتعرّف على أسباب نشوء هذا الحدث قبل التعرّض لأصل القضية ، كما ستثير المعرفة الإجمالية لأحداث زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لاسيّما واقعة غدير خم ، إشكالاً أساسياً في

٤٩

الفكر ، لأن حديث الغدير من الروايات المتواترة (١) التي أجمع الفريقان على أصلها ، وهي كالتالي : لقد أمر النبي في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة للسنة العاشرة من الهجرة وبعد أداء أعمال حجة الوداع بحَطِّ الرحال في مكانٍ يعرف بغدير خم ، فألقىٰ خطبةً طويلةً ، قم قال : « من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ». وهي واقعة لا يداخلها الشك والترديد ، خصوصاً مع صراحة كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقرائن الكثيرة الحالية والمقالية الواضحة التي تدلّ على أنّ المراد من المولى الولاية والخلافة ، وليس من الممكن أن يراود الباحث المنصف الشك في هذا المجال ، مع وجود الكمِّ الكبير من الأدلة والشواهد الجليّة. فماذا حصل إذن لينسىٰ الناس كلّ شيءٍ بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يمض على الغدير أكثر من شهرين وبضعة أيام ؟ والأهم من ذلك لماذا اجتمع الأنصار قبل غيرهم لتعيين الخليفة ، وهم السبّاقون إلىٰ الإسلام ، وممّن بذل الغالي والنفيس في سبيل نشر هذا الدين ؟

والأنكىٰ من ذلك ، ما ورد في العديد من روايات الفريقين (٢) : أنّ العباس ( عمّ النبيّ ) كان يطلب السؤال من النبي في آخر لحظات

__________________

(١) ذكرت جميع طرق الرواية في كتاب الغدير للعلاّمة الأميني : ج ١.

(٢) فمن روايات الشيعة في الإرشاد ١ : ١٨٤ ، ومن أهل السنّة في الطبقات الكبرى ١ : ٢٤٥ ، والإمامة والسياسة : ٢١ ، والسقيفة وفدك : ٤٥ ، وتأريخ الطبري ٣ : ١٩٢ و ١٩٣.

٥٠

حياته « فيمن يكون هذا الامر ؟ فإن كان فينا علمنا ذلك ، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا ». فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل علياً خليفةً له وبأمر الوحي فما معنى هذا السؤال ومن قبل أقرب الناس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

إذن فهو سؤال يمتاز بأهمية قصوىٰ وأساسية ، ويستدعي جواباً موثقاً ومقنعاً ، ولا يمكن الاقتصار على عباراتٍ إنشائيةٍ وأدبية ، وهو ما يتطلب إلقاء نظرةٍ على بعض حوادث ما بعد البعثة حتى السقيفة ، ليتمّ عرض جذور هذه الواقعة ، ثم نقد ودراسة ما رواه أبو مخنف حول السقيفة.

٥١

حوادث ما بعد البعثة إلى الغدير

١ ـ أدلة هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة :

لقد واجه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ فجر الدعوة أعداءً أشداء من قريش ، ولم تكلَّل أعماله الجبّارة إلاّ باعتناق عددٍ قليلٍ من هؤلاء الإسلام ، ومن الطبقات المستضعفة في المجتمع غالباً ، فيما وقف أصحاب المال والسلطان مقابل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكل ما اُوتوا من قوة ، فلم يدّخروا وسعاً للحرب علىٰ الإسلام والقضاء عليه وتضييق الخناق على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حين لم يجد الرسول بدّاً من تحريض المسلمين على الهجرة إلى بقاعٍ اُخرىٰ.

ولم يتوانَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن دعوته ، ولم يدَعْ فرصةً إلاّ وسخّرها لحركته ، ومن هنا التقىٰ ببعض وجوه يثرب ( المدينة ) فدعاهم إلىٰ الإسلام ، فاستجابوا له وبايعوه فيما عرف ببيعة النساء ، والتي ربما سمّيت بذلك ؛ لأنها بيعة لا تتضمّن الحرب والقتال (١).

وأخيراً صمَّم مشركو قريش على قتل النبي للقضاء على الإسلام ، فأعلمه الوحي بمخطّطهم ، فقرّر الخروج من مكة سرّاً في

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ٢ : ٧٣.

٥٢

دياجير الليل والهجرة إلى المدينة ، وأمر علياً بالمبيت في فراشه صلى‌الله‌عليه‌وآله لئلاّ يعلم مشركو قريش بخروجه ، وأبدىٰ عليٌّ استعداده ليضحي بنفسه حفاظاً على روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورقد في فراش الرسول بقلبٍ مطمئنٍّ دون أن يساوره الشك أو الخوف ، فهو المعبّأ بالإيمان ، وقد ألقىٰ بنفسه في مهاوي الردىٰ، في وقتٍ يعلم بأنّ أسنّة الأعداء ستطاله بعد لحظات (١) ، وبذلك تمكّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الهجرة إلى المدينة.

٢ ـ حوادث ما بعد الهجرة ، ودور الأنصار في الذبّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة فاستقبله الأنصار هو وأصحابه بحفاوةٍ بالغة ، معلِنِين استعدادهم لمواجهة غطرسة المشركين ، ولم يألوا جهداً في هذا السبيل ، وقد أثنىٰ القرآن على تضحياتهم وإيثارهم في سورة الحشر (٢) ، يذودون عن الإسلام ، ويدكّون قلاع المشركين ، ويخوضون غمار الحرب الدامية ، كل ذلك من أجل الدعوة الإسلامية وانتشارها.

وتمكّنت هذه الثلة في مواجهةٍ غير متكافئةٍ بمعركة بدرٍ أن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ٣٧٢ ، التفسير الكبير ٦ : ٥٠.

(٢) الحشر : ٩ ، من قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ).

٥٣

تحصد (٧٠) شخصاً من رؤوس الشرك (١). واستشهد في تلك المعركة (١٤) من المسلمين ، كان منهم (٨) من الأنصار (٢). ولم تُطوَ صفحة معركة بدرٍ حتى بدت معالم معركة أُحد ، وتمكّن المسلمون من قتل (٢٣) من المشركين ، ولكنّ تهاون بعض المسلمين ممّن كانوا على تلّ « عينين » أدّىٰ إلى شهادة (٧٠) من المسلمين (٣). وهكذا كانت محطات التأريخ تشهد في كلّ فترةٍ معركةً كبرى ، غزوةً كانت أم سرية. وفي السنة الخامسة للهجرة (٤) أعاد أعداء الإسلام كافة قواهم وإمكاناتهم ، فجنّدوا عشرة آلاف مقاتلٍ ليقضوا على الإسلام ، فحاصروا المدينة ( موطن الأنصار ) ، وهيمن الخوف والفزع على المدينة ، وانجلت غبرة معركة الخندق ( الاحزاب ) بانتصار الإسلام ، وذلك بفضل بطولات الإمام عليٍّ عليه‌السلام وشجاعته ، وضربته التاريخية التي أردت بطل العرب عمرو بن عبدود صريعاً.

وكان للعاصفة والمطر الشديدين كامل الأثر في تزلزل قلوب الأعداء ، فاضطرّوا إلى فكّ الحصار عن المدينة (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) الكامل في التاريخ ١ : ٥٣٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨.

(٤) الكامل في التاريخ ١ : ٥٦٨.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠.

٥٤

وكانت النتيجة أن خاض النبي بعد هجرته إلى المدينة (٧٤) معركةً بين غزوةٍ وسريةٍ طوال عشر سنوات (١) ، وقد قامت هذه الحروب على سيوف وأشلاء الأنصار.

ويمكن القول بأن انتصار الإسلام وانتشاره كان في ظلّ جهود الأنصار ، وهو الاسم الذي أطلقه عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لمواقفهم ونصرتهم للدين.

إن الإسلام كان يأخذ بالتزايد يوماً بعد آخر ، فقد أدرك البعض عظمة الإسلام فاتخذه ديناً له ، وأسلم آخرون حين شعروا باقتداره ، أو لما كانوا يرون من مصالح تتحقق عبر اعتناق هذا الدين.

وفي السنة الثامنة من الهجرة فتحت مكة على يد المسلمين ، وبسط الإسلام نفوذه في الجزيرة العربية ، عندها لم يجد أهل مكة حيلةً سوىٰ دخول هذا الدين بعد أن وقفوا حيارى أمام عظمة الجيش الإسلامي (٢).

في هذا الوقت بلغ عدد المسلمين الذروة من الناحية الكمية ، وخلافاً للجانب الكيفي ، فلم يكن هناك سوىٰ ثلّةٍ آمنت من الأعماق واستسلمت لأمر ربها ونبيها ، وفي المقابل نجد كماً كبيراً من مسلمي المصالح.

__________________

(١) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٥ ـ ٦ ( ٢٧ غزوة و ٤٧ سرية ).

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٠ ( وأسلمت قريش طوعاً وكرهاً ).

٥٥

إنّ تزايد عدد المسلمين لم يجعل الأنصار المجموعة المسلمة الوحيدة في جزيرة العرب ، بل تحوّلوا إلى أقلّية في وسط جموع كبيرة من المسلمين.

ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يشيد بالأنصار ويقف إلى جانبهم ، وذلك لموافقهم الخالدة في ساعات العسرة ، هذا بالإضافة إلى تجذّر الإسلام والإيمان في أعماقهم ، فهم الذين عاشوا في كنف النبي سنوات ونهلوا من نمير علمه.

وقد أوصىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم قائلاً : « إنّهم كانوا عيبتي التي أويت إليها ، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم » (١).

فكانوا نتيجةً لرعاية النبي وحمايته لهم يشعرون بالمعاد والسند.

كيفية إبلاغ الوحي خلافة الإمام علي عليه‌السلام :

بعد نزول سورة ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ ) (٢) سُمع كلام من النبيّ يُنبئ بدنوِّ أجَله (٣) ، كما صرح بذلك في خطبة له في حجة الوداع ، ولوّح

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٤ : ٣٠٠ ، الطبقات الكبرىٰ ١ : ٢٥٠ و ٢٥١ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٢١ ، نهج البلاغة ، الخطبة (٦٨) : ٥٢.

(٢) النصر : ١.

(٣) الطبقات الكبرىٰ ١ : ١٩٢ و ١٩٣.

٥٦

في اُخرىٰ (١). وكان ذلك الأمر يثير هذا السؤال : من الذي سيخلف النبي في الأخذ بزمام أمور المسلمين ؟ وماذا سيحصل ؟ يظهر أن كل حزبٍ وجماعةٍ كانت ترغب في أن يكون خليفة الرسول منها ، وربما كانت ترىٰ نفسها أكثر أهليةً لهذا الأمر من غيرها ، وهكذا كانت تفكر.

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان قد تحدث حول أهلية عليٍّ عليه‌السلام وخلافته في المجالس والمواطن المختلفة (٢) ، إلاّ أن هذا الكلام كان يقتصر في الأعم الأغلب على اجتماعات محدودة جداً ، وأمّا في غدير خمٍّ فكان الوحي الإلهي أزال جميع تلك المخاوف ، وأمر النبي لينصب علياً خليفةً له علىٰ رؤوس الأشهاد.

لقد كان النبي بعد نزول الوحي يبحث عن فرصةٍ مناسبةٍ ليقوم بتبليغ ذلك إلى الناس ، ولكنّ إحاطته بتفصيلات المجتمع الإسلامي في تلك الفترة حالت دون الإبلاغ ، فهو لم يرَ الوضع مناسباً ، وكان يسعىٰ لتمهيد الأرضية أو حصول فرصةٍ أكثر مناسبةً لهذا الأمر ليتمكن من إبلاغ الوحي الإلهي.

وجدير ذكره أنّ الوحي الإلهي كان قد طرح قضية خلافة عليٍّ بشكل كلّي ، وكان النبي على علم بكيفية إبلاغها (٣). فما ورد في

__________________

(١) نفس المصدر : ١٨١.

(٢) كحديث الطائر ، والمنزلة و ...

(٣) الميزان في تفسير القرآن ٦ : ٤٤.

٥٧

بعض الروايات (١) من تأخير النبي إبلاغ الوحي لا يعني تقصيره في إبلاغ ما أمره الله به ، وكما يقول الشيخ المفيد حول هذا الأمر أيضاً : كان قد تقدم الوحي إليه في ذلك من غير توقيت له ، فأخّره لحضور وقت يأمن فيه الاختلاف منهم عليه ، وعندما وصلوا غدير خمٍّ نزلت آية التبليغ (٢).

إنّ قضية نزول الوحي على النبي سابقاً وإيكال إبلاغ ذلك إلى وقتٍ مناسبٍ يمكن فهمها بوضوحٍ من آية التبليغ نفسها ؛ وذلك لأن الآية تقول : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) ثم تهدّد ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (٣) , إذن لابد من نزول شيء على النبي يتطلب أن تقول الآية : ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ). ويتراءَىٰ من التهديد في الآية أنّ النبي أجّل ذلك إلىٰ وقتٍ آخر لأسبابٍ ودوافع ، وتقول الآية أيضاً : ( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ).

إنّ التدقيق في الآية وطريقة النبي في إبلاغ الوحي يدعوان إلى هذا السؤال : ماذا كان يجري في المجتمع الإسلامي آنذاك ؟ وما هو الوضع الحاكم بين المسلمين ، والذي كان يفرض تأخير إبلاغ الوحي من قبل النبي ؟

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٦٠ ، بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٥ ، جامع الأخبار : ١٠.

(٢) الإرشاد ١ : ١٧٥.

(٣) المائدة : ٦٧.

٥٨

والجواب علىٰ هذا السؤال يِّبَدد الكثير من التصورات ، ويضعنا على مسار الواقع الاجتماعي والسياسي للمسلمين في تلك الفترة.

ونحن نجيب علىٰ السؤال ، ونتناول قضايا سياسية اجتماعية مهمة ترتبط بذلك الوقت :

١ ـ وجود أعدادٍ كبيرةٍ من المسلمين الجدد :

إنّ عدد المسلمين وإن بلغ ذروته في أواخر عهد الرسالة ولكنّ الأغلب كانوا من المسلمين الجدد ، وليس معناه أنّ المسلمين الذين يتحلَّون بعقيدةٍ قويةٍ وراسخةٍ كانوا قليلين ، نعم لم يكونوا شيئاً يذكر بالقياس إلى الجموع الكبيرة من المسلمين. ولم يترسّخ الإسلام بعدُ في نفوس المسلمين الجدد (١) ، فقد أسلم البعض منهم وهو يرىٰ في الإسلام طريقاً لتحقيق مآربه ، فيما اضطرّ البعض الآخر حينما شعر بأنه لم يعد سوىٰ أقلّية ، ولم يتمكن فريق ثالث من مواجهة الإسلام بعد أن خارت قواه في حروبه ضدّ الإسلام فاختار منهجاً آخر ، ومن هؤلاء أبو سفيان وأتباعه طلقاء فتح مكة.

إنّ إبلاغ هذا الأمر العظيم وسط هذه المكونات لا يخلو من تعقيداتٍ كما هو واضح.

__________________

(١) وذلك للروايات التي تقول : ارتد الناس بعد وفاة النبي ، كالرواية التي ينقلها ابن إسحاق « ارتد العرب ». السيرة النبوية لابن هشام ٤ : ٣١٦.

٥٩

٢ ـ المنافقون في الوسط الإسلامي :

إنّ إحدىٰ العقبات الكبرىٰ التي كانت تعترض طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مدة دعوته : وجود المنافقين في وسط المسلمين ، وكانت هذه المجموعة التي تتظاهر بالإسلام وتبطن الكفر تتحيَّن الفرص لتوجيه ضربةٍ للإسلام ، كما كانت سبباً لظلال الآخرين ، وقد تطرق إليها القرآن في سورةٍ عديدة : كالبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والانفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والاحزاب ، والفتح ، والحديد ، والحشر ، والمنافقون ، وتناولتهم السور بأشد العبارات ، وقد تكررت كلمة النفاق ومشتقاتها (٣٧) مرة في القرآن.

لقد اعتزل هؤلاء المعركة في اُحد ، وكانوا يشكّلون ثلث المسلمين فيها بقيادة عبدالله بن اُبيّ ، ممّا أدّىٰ الى الفرقة في جيش المسلمين ، فنزلت فيهم سورة المنافقين (١).

ومن المناسب الإشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا ثلث المسلمين في وقتٍ لم يدخل الكثير في الإسلام ، ولم يصبح الدين قوياً ، كما لم تكن هناك رغبة في إخفاء العقيدة. فإذا كان الأمر هكذا فكم سيكون عددهم حين يشتد عود الدين ويأخذ بالانتشار ؟

وكان النبي يعاني من هذه المجموعة. وهي دون شكٍّ قد كانت معه في حجة الوداع ، ولم تكن ترضى بخلافة عليٍّ عليه‌السلام من

__________________

(١) وهو ما أشارت إليه تفاسير الفريقين.

٦٠