حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

جليل تاري

حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

المؤلف:

جليل تاري


المترجم: أحمد الفاضل
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-529-035-X
الصفحات: ١٧٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وقد أورد ياقوت الحموي هذه العبارة في معجم الاُدباء أيضاً (١).

فالحاصل : هو أنّ أكثر علماء السنّة لا يقولون بوثاقته ، اعتماداً على قول يحيى بن معين. ورغم قولهم بأنه متروك إلاّ أنّ ما ذكره ابن النديم والحموي أدىٰ إلى اعتماد روايته من قبل كبار مؤرّخي أهل السنّة ، ولعلّ سبب ذلك هو انحصار طريق أخبار العراق ، والتي تمثل أساساً التغيّرات العظيمة في تاريخ الإسلام بروايات أبي مخنف. فما ذهب إليه أهل السنّة من القول بأنّه متروك ربّما يعود إلىٰ ما جاء في نهاية كلام ابن عدي ، حيث أنّ الأخبار والحقائق التي وردت في روايات أبي مخنف لم ترق للبعض ، فقابلوها بالكراهية ؛ لأنها لم تنسجم ومتبنّياتهم.

مذهب أبي مخنف :

هناك عدة آراء بالنسبة إلى مذهب أبي مخنف.

فالظاهر من عبارة الشيخ الطوسي في الفهرست والنجاشي تشيّعه ، وذلك لسكوتهم عن الحديث حول مذهبه. وصرّح الشيخ عباس القمّي ، وأغا بزرك الطهراني ـ وكما مر ـ بتشيّعه لاشتهار ذلك. ولكن السيد الخوئي لم يتطرق لذلك في معجم رجال الحديث ، واكتفى بتوثيقه. ولم يتعرّض أكثر علماء أهل السنّة إلى تشيّعه ولم

__________________

(١) معجم الاُدباء ٥ : ٢٢٥٢.

٢١

يذكره ابن قتيبة وابن النديم في الشيعة ، مع عقد بابٍ في كتاب كلٍّ منهما للشيعة (١).

ويعتقد ابن أبي الحديد أنّ أبا مخنف من المحدّثين ، وممّن يرىٰ صحة الإمامة بالاختيار ، وليس من الشيعة ، ولا معدوداً من رجالها (٢).

ويقول صاحب قاموس الرجال بهذا الصدد بعد نقد ودراسة الأقوال : يسكن إلى ما يرويه ، لأنّه غير متعصب ، وقريب الأمر منّا ، وأمّا إماميّته ظاهراً فغير معلوم (٣).

وعلى هذا الأساس فإنّ البحث حول مذهبه أمرٌ لا جدوىٰ فيه ، ولكنّ الذي يتراءىٰ من خلال التدقيق في نصوص روايات أبي مخنف ، والأبحاث التي كانت موضع اهتمامه ، من قبيل بحث السقيفة ، والشورىٰ ، ومعركة الجمل ، وصفّين ، ومقتل الإمام الحسين وغيرها عدم إمكان إنكار ميوله الشيعية.

نعم ، من الممكن العثور على اُمورٍ في رواياته لا تنسجم تماماً وأفكار الإمامية في بعض الحالات النادرة ، ولكن لا يمكن غضّ الطرف عن الظروف والأوضاع الاجتماعية السائدة في عصره ، بحيث

__________________

(١) قاموس الرجال ، التُستَري ٨ : ٦٢٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ١ : ١٤٧.

(٣) قاموس الرجال ، التُستَري ٨ : ٦٢٠.

٢٢

كان الأئمة ربما اعتمدوا التقية أيضاً ، فطرحوا قضايا تتماشىٰ ورُؤىٰ العامة. كما لا يمكن تجاهل هذه النكتة ، وهي أنّه كان فرداً معتدلاً ، ولذا يمكن مشاهدة رواياته في أغلب كتب أهل السنّة.

وعلى أيِّ حالٍ فإنّ عظمة أبي مخنف في التأريخ لا تُنكر ، فقد نهل من عطائه عامة المؤرّخين شيعةً وسنّة ، وبما أنّ علماء رجال الشيعة قد اتفقوا على توثيقه والاعتماد على رواياته فإنّ التدقيق في محتوىٰ رواياته يساعد علىٰ كشف الكثير من قضايا وأحداث العهد الإسلامي الأوّل.

* * *

٢٣
٢٤

منهج دراسة رواية أبي مخنف

إنّ التعرّف على صحة محتوىٰ روايات أبي مخنف أو سقمها ليس أمراً سهلاً ؛ وذلك لأنه من الأعمدة الأساسية لنقل الروايات التأريخية ، ولا يمكن تصحيح رواية بمجرد نقل راوٍ آخر لها ؛ لأنّ عموم رواة التأريخ كهشام الكلبي والواقدي والمدائني وابن سعد وغيرهم لم يعاصروه وكانوا عيالاً عليه. إنّ المنهج الذي يعتمده هذا الكتاب بعد البحث والدراسة هو مقارنة محتوىٰ رواية أبي مخنف بالعديد من الكتب التأريخية المهمة والمعتبرة ، سواء تلك التي سبقت كتاب الطبري ، أو التي أعقبته ، أو الروايات الواردة فيه ، لنصل من خلال مجموع ما جاء في هذه الكتب إلى قرائن تدلّ على صحة ما نقل عن أبي مخنف أو عدم صحته.

وقد تم اختيار كتبٍ معتبرةٍ ومعروفةٍ ومقبولةٍ عموماً كانت قد تعرضت لهذا البحث ، وهي في الغالب لمؤلّفي أهل السنّة ، وقد ارتأينا

٢٥

أن نتعرض للحديث عنها إجمالاً (١). ولكن قبل أن نشير إلى ما كتب قبل الطبري ينبغي أن نتناول كتاب تاريخ الطبري ؛ وذلك لما يمثّل من محوريةٍ في هذا البحث.

تأريخ الطبري :

إنّ هذا الكتاب الذي يحمل اسم ( تأريخ الاُمم والملوك ) أو ( تاريخ الرسل والملوك ) هو من تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، ( المولود سنة ٢٢٤ ه‍ ) في آمل من طبرستان ( مازندران ) ، وطاف البلدان طلباً لمختلف العلوم ، ليستقر به المقام في بغداد ، وتوفّي هناك سنة ( ٣١٠ ه‍ ) (٢).

لقد كان من أعاظم علماء العصر في الفقه والتفسير والتأريخ ، لا سيّما وأنّ كتابيه في التفسير والتأريخ كانا موضع اهتمامٍ بالغٍ من قبل علماء الفنّ.

ينقل الطبري في تأريخه الكثير من الروايات عمّن سبقه من

__________________

(١) بما أنّ التفصيل لا يناسب هذا الكتاب ، من هنا يمكن للقارئ مراجعة كتب الفهرست لابن النديم ، والفهرست للشيخ الطوسي ، والذريعة لأغا بزرك الطهراني ، وتاريخ التراث لفؤاد سزكين ، وقاموس الرجال للتستري ، منابع تاريخ اسلام ( مصادر تاريخ الاسلام ) بالفارسية لرسول جعفريان.

(٢) مقدمة تأريخ الطبري لأبي الفضل إبراهيم ١ : ١٠.

٢٦

الرواة ، وكان العديد من كتب السابقين في حوزته ، واستطاع أن يستفيد منها كثيراً. وبما أنّ بعض هذه الكتب لفَّها الضياع على مرّ الأيام ، وليس بالإمكان العثور عليها اليوم فلا طريق إليها سوىٰ كتاب تأريخ الطبري. من هنا يحتلّ الكتاب أهميةً بالغة ، فعلىٰ سبيل المثال ( مقتل الحسين ) لأبي مخنف ، والذي يعدّ نادراً في مجاله هو أحد النماذج البارزة لهذا الأمر ، حيث نقل في تأريخ الطبري بصورة روايات متناثرة (١).

إنّ تأريخ الطبري يتضمّن موضوعاتٍ وأبحاثاً ترتبط ببدء الخلقة ، والحديث عن آدم ، وحتى النبي الخاتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم يتعرض لوقائع وأحداث كلّ سنةٍ مند السنة الاُولىٰ للهجرة وإلىٰ سنة ( ٣٠٢ ه‍ ) بصورة تجزيئية.

إنّ منهج الطبري في نقل الوقائع التأريخية ـ وكما يذكر في مقدمته (٢) ـ هو النقل من عدّة رواةٍ حول موضوعٍ خاصٍّ مع ذكر السند ...

وقد استطاع ـ كما هو واضح ـ أن يرجّح مجموعةً خاصةً من الروايات من بين الكمّ الكبير من الروايات ليأتي بها في كتابه وفقاً

__________________

(١) جمعت هذه الروايات في كتاب تحت عنوان « وقعة الطفّ » من قبل المحقق الفاضل الشيخ اليوسفي الغروي.

(٢) تأريخ الطبري ١ : ٧ ـ ٨.

٢٧

لرؤاه. ومن هنا فهو لم يتعرض إلى روايةٍ واحدةٍ ترتبط بغدير خم.

إنّ الرواة الذين ينقل عنهم الطبري ليسوا بدرجةٍ واحدةٍ من الوثاقة والاعتبار ، شأنه في ذلك شأن غيره من المؤرّخين ، كابن إسحاق وأبي مخنف والمدائني والزهري والواقدي ، فلكلٍّ طريقته الخاصة واتجاهه في نقل أخبار التأريخ ، ومن هنا نجده يروي عن أشخاص من قبيل سيف بن عمر الوضّاع الكذّاب (١).

إنّ الطبري وإن كان من أهل السنّة ولكن يحتمل وجود نزعة شيعيةٍ لديه في أواخر أيام حياته.

كتب ما قبل الطبري التي تمّ اعتمادها في هذا البحث ، وهي :

١ ـ السيرة النبوية لابن هشام :

وهو في الأصل لابن إسحاق. ويعدّ من الكتب الأساسية ، فلم يسبقه كتاب في مجال السيرة كما عليه من الشمول. وقد لخّصه عبدالملك بن هشام ( المتوفّى سنة ٢١٣ أو ٢١٨ ه‍ ) ، كما قام بحذف أقسام ادّعىٰ عدم وجود علاقةٍ لها (٢) ، وأضاف بعض القضايا الاُخرىٰ

__________________

(١) كتاب عبدالله بن سبأ ، تأليف العلامة العسكري ، وقد تعرّض لنقد روايات سيف بن عمر.

(٢) السيرة النبوية ، ابن هشام ١ : ٤ ( وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق ممّا ليس

٢٨

ليطلق عليه اسم ( السيرة النبوية لابن هشام ).

٢ ـ المغازي للواقدي :

تأليف محمد بن عمر الواقدي (١٣٠ ـ ٢٠٧ ه‍ ). كان عثماني الهوى. درس في المدينة ، وسافر سنة ( ١٨٠ ه‍ ) إلى بغداد ، فعيّنه المأمون قاضياً في بغداد ، وبقي في هذا المنصب حتى الوفاة. اختصّ بالمغازي والفتوحات ، وكان له تتبّع كبير في ما يرتبط بالروايات من الهجرة حتى وفاة النبي ، وقد وفّق لتقديم تفصيلاتٍ دقيقةٍ فيما يتعلق بحروب النبي ، وذلك عبر اعتماد دراساتٍ ميدانية.

٣ ـ الطبقات الكبرىٰ :

تأليف محمد بن سعد ( ١٦٨ ـ ٢٣٠ ه‍ ) المشهور بكاتب الواقدي ، وهو سنّي متعصّب ، بصري الأصل ، انتقل إلى بغداد بعد فترةٍ قصيرة ، وأخذ ينهل العلم من الواقدي باعتباره كاتباً له. ويتعرض المجلّدان الأوّلان من الكتاب إلى سيرة النبي ، وأمّا بقية المجلدات فتتطرّق إلى حياة الصحابة والتابعين. ويعدّ الكتاب من المصادر المهمة في هذا المجال.

٤ ـ تأريخ خليفة بن خيّاط :

هو من كبار مؤرخي القرن الثالث الهجري. كان سنّي المذهب ،

__________________

لرسول الله فيه ذكر ... وأشياء بعضها يشنّع الحديث وبعض يسوء بعض الناس ذكره ).

٢٩

ذكره ابن كثير بقوله :« من أئمة التأريخ » (١) , ويعتبر كتابه من أقدم الكتب التأريخية التي تعرضت للأحداث ، وفق طريقة التقويم الزمني.

٥ ـ الإمامة والسياسة :

ينسب هذا الكتاب لابن قتيبة الدينوري ( ٢١٣ ـ ٢٧٦ه‍ ).وهو من اُدباء أهل السنّة ومؤرخيهم في القرن الثالث الهجري. ولد في بغداد ، وتولّىٰ قضاء منطقة الدينور لفترةٍ من الزمن. والكتاب رغم الشكوك التي تحوم حول نسبته إلى ابن قتيبة ولكنه دون شكٍّ من كتب القرن الثالث الهجري القيّمة.

٦ ـ أنساب الأشراف :

وهو لأحمد بن يحيى البلاذري (١٧٠ إلى ١٨٠ ـ ٢٧٩ ه‍ ). ويعدّ المؤلّف من أعاظم مؤرخي القرن الثالث الهجري ورجاليه. كان سنّي المذهب عباسي الهوىٰ. وقد ألّف كتابه متعرضاً فيه لتأريخ العهد الإسلامي ، معتمداً طريقة الأنساب والاُسَر.

٧ ـ تأريخ اليعقوبي :

ألّفه أحمد بن أبي يعقوب ، إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح. توفّي ( سنة ٢٨٤ ه‍ ) ، وهو من مؤرّخي الشيعة ، ويعتبر كتابه من أقدم ما وصلنا فيما يرتبط بالتأريخ العام.

__________________

(١) منابع تاريخ اسلام ( مصادر تأريخ الإسلام ) فارسي : ١٢١.

٣٠

كتب ما بعد الطبري التي تمّ اعتمادها في هذا البحث :

١ ـ السقيفة وفدك :

ألّفه أبو بكر الجوهري ( المتوفّى ٣٢٣ ه‍ ) ، ولكنّه فقد ، فبقيت بعض الأقسام المهمة منه تحتفظ بها الكتب الاُخرىٰ ، فقد كان ابن أبي الحديد يمتلك هذا الكتاب ، فنقل منه الكثير في شرح نهج البلاغة ، وتمكّن الشيخ محمد هادي الأميني من جمعه من المصادر المختلفة ، وطبعه تحت عنوان « السقيفة وفدك ».

٢ ـ مروج الذهب :

لعلي بن الحسين المسعودي ( المتوفّى ٣٤٦ ه‍ ). ومن المحتمل أن يكون من الإمامية الاثني عشرية ، ولكنّ ذلك لا يمكن إثباته من خلال كتابه مروج الذهب وإن بدت عليه ميوله الشيعية.

ويمتاز الكتاب بأهميةٍ كبرىٰ ، وذلك لما بذله المؤلّف من جهود ، وما قام به من أسفارٍ للبحث والتحقيق. وقد تعرّض لأبي مخنف كثيراً في كتابه.

٣ ـ الإرشاد :

للشيخ المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ ه‍ )، وهو متكلّم فقيه، ومؤرّخ شيعي مشهور. يتطرّق الكتاب إلى حياة أئمة الشيعة ، ويتضمّن إلى جانب ذلك قضايا عديدة من السيرة. ويمتاز ما نقله من أحداثٍ بقيمةٍ علميةٍ

٣١

يجعله مصدراً معتبراً لدىٰ علماء الشيعة ، وذلك لما تتحلّىٰ به شخصية الشيخ من إحاطةٍ ومكانةٍ علميةٍ وتقوىٰ.

٤ ـ المنتظم في تأريخ الملوك والاُمم :

تأليف ابن الجوزي ( ٥٠٨ ـ ٥٩٧ ه‍ ) ، وهو من كبار المفسّرين والوعّاظ والمؤرّخين في القرن السادس الهجري. وكان كتابه مرجعاً للمؤلّفين بعده.

٥ ـ الكامل في التأريخ :

لابن الأثير ( ٥٥٥ ـ ٦٣٠ ه‍ ) ، وقد اعتمد فيه طريقة رائعة ، جعلته موضع استفادة عشّاق التأريخ. ويمتاز بدقةٍ فائقةٍ في جمع الأحداث ونقلها.

٦ ـ البداية والنهاية :

لابن كثير ( ٧٠١ ـ ٧٧٤ ه‍ ). وهو من تلامذة ابن تيمية (١). وقد فصّل الكتاب في بعض الأبحاث ، كالسيرة ، وتعرّض للآراء نقداً ودراسة.

الجدير بالذكر أنّ الكتب المذكورة تمثّل بعض مصادر هذا البحث ، هذا بالإضافة إلى المصادر الحديثية للفريقين ، فمن المصادر الحديثية لأهل السنّة : « صحيح البخاري » و « مسند أحمد بن حنبل ».

ومن كتب الحديث الشيعية : « الكافي » و « بحار الأنوار ». كما تمّت

__________________

(١) تعتبر أفكار ابن تيمية مبادئ الفكر الوهابي.

٣٢

مراجعة بعض الكتب التي تتعلق بموضوعاتٍ خاصة.

ويمكن القول بأنّ المنهجية المعتمدة في هذا الكتاب وإن كانت مضنيةً واستغرقت وقتاً طويلاً إلّا أنّها يمكن أن تكون مفتاحاً معتمداً للبحث في العديد من القضايا التأريخية.

* * *

٣٣
٣٤

٣٥
٣٦

المقدمة

لقد كان للرؤىٰ العقيدية فيما يرتبط بالسقيفة دور في الإحجام عن نقل هذه الواقعة بصورةٍ كاملةٍ عادةً من قبل المحدّثين ، ولم يَحُلْ هذا دون وجود أشخاصٍ ـ ولحسن الحظّ ـ عملوا على عرضها بصورةٍ تفصيلية ، ليكون ما رووه من أهم مصادر تلك الحادثة وأكثرها اعتباراً ، فمن ذلك : رواية أبي مخنف (١) ، ورواية الجوهري (٢) ، ورواية الخليفة الثاني (٣) ، ورواية الدينوري (٤) ، ورواية ابن الأثير (٥).

وقد كانت رواية أبي مخنف ـ والتي حظيت بالاهتمام وامتازت بالاستحكام والاعتبار ـ محور بحث السقيفة في هذا الكتاب ، ويختص القسم الثاني ببيان النصّ الكامل لها.

__________________

(١) تأريخ الطبري ٣ : ٢١٨.

(٢) السقيفة وفدك : ٥٤ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٥.

(٣) صحيح البخاري ٤ : ٣٤٥ حديث ٦٨٣٠.

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ٢١.

(٥) الكامل في التأريخ ٢ : ١٢.

٣٧

نص رواية أبي مخنف في حادثة السقيفة

حدثنا هشام بن محمد ، عن أبي مخنف ، قال : حدّثني عبدالله بن عبدالرحمن ابن عمرة الأنصاري : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قُبِض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : نُولّي هذا الأمر بعد محمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله سعد بن عبادة ، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض ، فلما اجتمعوا قال لابنه أو بعض بني عمّة : إنّي لا أقدر لشكواي أن اُسمِع القومَ كلّهم كلامي ، ولكن تَلَقَّ منّي قولي فأسمعهموه ، فكان يتكلّم ويحفظ الرجل قوله ، فيرفع صوته فيسمع أصحابه.

فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : يا معشر الأنصار ، لكم سابقةٌ في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ، إنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله لبث بضع عشرة سنةً في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان ، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل وكان ما كانوا يقدرون علىٰ أن يمنعوا رسول الله ولا أن يُعزُّوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عمُوا به ، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة ، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ، فكنتم أشدَّ الناس

٣٨

على عدوّه منكم ، وأثقله على عدوّه من غيركم ، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً ، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً ، حتى أثخن الله عزَّ وجلَّ لرسوله بكم الأرض ، ودانت بأسيافكم له العرب ، وتوفّاه الله وهو عنكم راضٍ ، وبكم قرير عين استبدّوا بهذا الأمر فإنّه لكم دون الناس.

فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفِّقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدو ما رأيت ، ونوليك هذا الأمر ، فإنّك فينا مًقْنعٌ ولصالح المؤمنين رضا.

ثم إنّهم ترادّوا الكلام بينهم ، فقالوا : فإن أبت مهاجرة قريش ؟ فقالوا : نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأوّلون ، ونحن عشيرته وأولياؤه ، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده ؟ فقالت طائفة منهم : فإنّا نقول إذاً : منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ ، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبداً. فقال سعد بن عبادة حين سمعها : هذا أول الوهن !

وأتى عمر الخبر ، فأقبل إلى منزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأرسل إلى أبي بكر ، وأبو بكر في الدار ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام دائب في جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إليّ ، فأرسل إليه : إنّي مشتغل ، فأرسل إليه أنه قد حدث أمرٌ لابدّ لك من حضوره ، فخرج إليه ، فقال : أما علمت أنّ الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ، يريدون أن يولُّوا هذا الأمر سعد بن عبادة ، وأحسنهم مقالةً من يقول :

٣٩

منّا أمير ومن قريش أمير !

فمضيا مسرعين نحوهم ، فلقيا أبا عبيدة بن الجرّاح ، فتماشوا إليهم ثلاثتهم ، فلقيهم عاصم بن عديّ وعويم بن ساعدة ، فقالا لهم : ارجعوا فإنّه لا يكون ما تريدون ، فقالوا : لا نفعل ، فجاؤا وهم مجتمعون.

فقال عمر بن الخطاب : أتيناهم ـ وقد كنت زوَّرت كلاماً أردت أن أقوم به فيهم ـ فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدأ المنطق ، فقال لي أبو بكر : رويداً حتى أتكلّم ثم انطلق بعد بما أحببت. فنطق ، فقال عمر : فما شيء كنت أردت أن أقوله إلاَّ وقد أتى به أو زاد عليه.

فقال عبدالله بن عبدالرحمٰن (١) : فبدأ أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه : ثم قال : إنّ الله بعث محمداً رسولاً إلى خلقه ، وشهيداً على أمّته ؛ ليعبدوا الله ويوحّدوه ، وهم يعبدون من دونه آلهةً شتّى ، ويزعمون أنها لهم عنده شافعةٌ ، ولهم نافعة ، وإنما هي من حجرٍ منحوت ، وخشبٍ منجور.

ثم قرأ : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (٢) وقالوا : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا

__________________

(١) هو راوي الخبر.

(٢) يونس : ١٨.

٤٠