حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

جليل تاري

حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

المؤلف:

جليل تاري


المترجم: أحمد الفاضل
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-529-035-X
الصفحات: ١٧٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وإطاعة المهاجرين لله ورسوله ، فإذا أحسَّ الأنصار بأنّ عدداً من المهاجرين يحاولون وعلى خلاف الوحي الإلهي ووصية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يرتبط بالخلافة السيطرة على الحكم ، وإقصاء أهل البيت عليهم‌السلام والغلبة على الأنصار عندها لا يكون هناك موضع للمحبة بالنسبة إلى هؤلاء الأفراد ، بل لا عجب إذا حلّ البغض في الله محلّ الحبّ.

ثانياً : هل يمكن أن يلخّص الأنصار في الحبّاب بن المنذر ؟ وهل أن جميع المهاجرين يتلخّصون في الثلاثة فقط ، بحيث إذا أطلق أحد الأنصار كلاماً على واحدٍ من المهاجرين يقال : إنّ هذا لا ينسجم مع ما دلّت عليه الآية التي أكدت علىٰ إيثار الأنصار وحبّهم للمهاجرين ؟ إذن فكلام فردٍ من الأنصار لا يقلّل من فضيلة الأنصار أبداً ، وكما شوهد في السقيفة ، فلم يلقَ كلام الحبّاب بن المنذر استقبالاً من قبل الآخرين. كما أنّ موقف الأنصار من بعض المهاجرين الذين ادّعوا القرابة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّهم تركوا جسده المطهّر مسجّىٰ ، وأخذوا يبحثون عن السلطة والصراع في السقيفة من أجل الخلافة لا يعكس موقفهم تجاه جميع المهاجرين ، وما قصده الحباب بن المنذر إنما هم اُولئك الذين حضروا السقيفة ؛ لأنّه يقول : لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه ... فإن أبوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد (١).

فلا شكّ إذن أنّ الحبّاب بن المنذر أراد بعض الأشخاص الذين

__________________

(١) نص رواية أبي مخنف حول السقيفة.

١٤١

كانوا في السقيفة ، إذ أنّ غيرهم لم يكن هناك ، كما أن أعداداً كبيرةً من المهاجرين لم يوافقوا على ما جرى في السقيفة (١).

ثالثاً : أنّ المقصود من الآية ليس كما يدّعي المستشكل ؛ إذ أنها تبيّن حقيقةً تاريخيةً حدثت في زمنٍ خاصٍّ ، فلقد هاجر جمع من المسلمين إلى المدينة المنورة ، فاستقبلهم أهل المدينة بحفاوةٍ بالغةٍ وآثروهم على أنفسهم ، هذا هو الذي تشير إليه الآية ، وليس المراد منها بلا شكٍّ عدم وقوع مشاجرةٍ أو عداءٍ بين كلّ واحدٍ من المهاجرين والأنصار إلى الأبد ؛ وذلك لأنّه وبناءً على هذا التصور ستُنتقض الآية بعددٍ كبيرٍ من الأمثلة ، وذلك من قبيل ما حدث من نزاعاتٍ بين بعض المهاجرين والأنصار في عهد الخلفاء الثلاثة ، ومنها حادثة قتل عثمان ، والحروب الدامية في فترة خلافة الإمام عليٍّ عليه‌السلام ، كالجمل والنهروان وصفّين ، فقد كان في تلك الجبهتين عدد من المهاجرين والأنصار. أو لم يكن هؤلاء المهاجرون والأنصار يتقاتلون في تلك المعارك ، فيريق البعض منهم دم البعض الآخر ، فهل هناك مجال لمثل هذا الفهم الساذج للقرآن الكريم ؟ وأيّ استدلالٍ ضعيفٍ قد تمسّك به المستشكل ؟!

__________________

(١) يراجع : تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤ والكتب التاريخية الاُخرىٰ حول الخلاف على بيعة أبي بكر.

١٤٢

الإشكال العاشر : إنكار اختلاف الأوس والخزرج في السقيفة :

« ما ذكره من قول الأوس : لئن وليتها الخزرج عليكم مرةً لا زالت لهم ... إلىٰ آخره فكأنّه يريد بهذا أن يبيّن أنّ الأوس ما بايعوا أبا بكر إلاّ تخلّصاً من ولاية الخزرج عليهم ، لا اقتناعاً منهم بفضل أبي بكر وسابقته رضي‌الله‌عنه ، وهو بهذا يعيد إلى الأذهان تركيبة المجتمع قبل الإسلام ، وأنّ تربية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم وما ورد عنهم من بذلهم الأنفس والأموال في سبيل الله كانت وقتيةً وقد زالت ولا أثر لها ! وهذا من أعظم الفرية والانتقاص لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولصحابته الكرام الذين فدوا دينهم بأنفسهم وأموالهم وأهليهم.

وقد اتضح من الروايات الصحيحة بيان حال المجتمع الذي ربّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم ما أن سمعوا حكم الله حتى انقادوا له أجمعين ، ولم يكن مع أبي بكر جيش ولا حرس يخيفهم به ، فهو فرد أمام مجموعةٍ كبيرةٍ » (١).

الردّ :

أوّلاً : ليس هناك من ينكر جهود النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله الصادقة لتربية البشر وما قام به من عمل للقضاء علىٰ المخاصمات القبلية التي

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٤ و ١٢٥.

١٤٣

كانت قد تجذّرت في تلك الأوساط ؛ ليعلمهم أن لا فضل لأحدٍ أو لقبيلةٍ إلاَّ بالتقوىٰ ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) (١).

ولا شكّ أنّ النبي قد بذل الغالي والنفيس في هذا الطريق ، فأدّىٰ الرسالة وصدع بما أمر وبلّغ ما اُنزل إليه من ربه ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ المُبِينُ ) (٢) ، ولكن هل امتثل البشر تلك الأوامر بصورة كاملةٍ ليقضىٰ على العصبيات تماماً ؟ الحقيقة إنّ محاولات النبيّ الأطهر صلى‌الله‌عليه‌وآله استطاعت القضاء على ظاهرة الحروب وإراقة الدماء بين القبائل ، ولكنّ المنافسات القبلية بقيت ، فلم يكن بالإمكان إزالتها آنذاك ، بل ربّما لم تكن المصلحة في القضاء عليها بشكلٍ كامل.

إنّ عصبية القوم والقبيلة لها قصة تطول في الواقع الجاهلي وليس نسيانها بالأمر الهيّن ، وهي ظاهرة لا تزال تعشّش في نفوس البشرية في الميول القومية والقبلية والحزبية ، ولن تنفكَّ عن الإنسان حتى الموت.

وليس هذا ممّا يعاب عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو قد بلّغ الرسالة على أحسن ما يرىٰ ، ويبقىٰ الإنسان وموقفه ( وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٣).

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) النور : ٥٤ والعنكبوت : ١٨.

(٣) الكهف : ٢٩.

١٤٤

فكما أنّ ضلالة البعض وعدم طاعتهم لأوامر الله والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعدّ نقصاً على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ مَن أسلموا ليسوا في درجةٍ واحدةٍ من الإيمان ، فهناك من بلغوا القمة ، وفي المقابل تجد البعض في أدنىٰ درجات الإيمان ، وهذا لا يؤثّر علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو يعتبر نقصاً ، فقابليات الأفراد وجهادهم وجهودهم وإمكانياتهم ليست بمستوىٰ واحد. وبعبارةٍ اُخرىٰ أنّ كلّ شخصٍ يرتوي من بحر المعنوية المترامي الأطراف بمقدار وسعه.

وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء المهاجرين أم الأنصار لم يكونوا في درجةٍ واحدةٍ من الإيمان ، وهو ما صرّح به القرآن ، فبعض الأعراب قد أسلموا فقط ولم يدخل الإيمان في قلوبهم (١).

ومن الواضح أنّ التغلّب على العصبيات القومية والقبلية لا يتأتّىٰ إلاّ عبر إيمان راسخٍ وتقوىٰ عالية. فإذا لم يستطع الفرد الوقوف بوجه عصبيته القبلية نتيجة لضعف إيمانه فما علاقة ذلك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ولماذا يواخذ عليه ؟!

هذا ، مضافاً إلىٰ وجود العديد من روايات أهل السنّة التي تؤكّد ارتداد المسلمين بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأعظم ، فعن عائشة : « لما توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ارتدّ العرب ». فإذا لم يعد ارتداد المسلمين عن الإسلام نقصاً بالنسبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف تعتبر أدنىٰ الميول القبلية لبعض

__________________

(١) الحجرات : ١٤.

١٤٥

المسلمين إشكالاً في تعاليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

ثانياً : لو لم نقبل ـ على سبيل الفرض ـ رواية أبي مخنف لأنّها تمسّ تعاليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث تنسب العصبية إلىٰ الأوس ـ وهم الذين ربّاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المنزّه عن العصبية ـ ولكن من المناسب أن نلقي نظرةً على خطبة أبي بكر في السقيفة ـ والتي نقلتها الروايات الصحيحة لأهل السنّة ـ للتعرّف على مدىٰ تأثّره بتعاليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله . يحاول عمر في خطبته المعروفة حول السقيفة نقل كلام أبي بكر في أحقّية قريشٍ في الخلافة ، حيث يذكر أن أبا بكر قال : « ولن يُعرف هذا الأمر إلاَّ لهذا الحيِّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ».

أليس هذا القول تفضيلاً ؟! وهل أنّ نسب قريشٍ ودارها سبب لأفضليتها على الآخرين ؟ ألم يكن أبو بكر قد تزوّد من تعاليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعيش حتىٰ الآن فكرة أفضلية النسب والدار ؟! ألم يقرأ القرآن حيث يقول : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) (١) ؟!

وفي روايةٍ ينقلها ابن أبي شيبة عن أبي اُسامة : أنّ أبا بكر خاطب الأنصار في السقيفة قائلاً : ولكن لا ترضىٰ العرب ولا تقرّ إلاَّ على رجلٍ من قريش ؛ لأنّهم أفصح الناس ألسنةً ، وأحسن الناس وجوهاً ، وأوسط العرب داراً ، وأكثر الناس سجيّة (٢). فماذا نقول إذن ؟

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) المصنَّف ٧ : ٤٣٣.

١٤٦

إنّ كلام أبي بكر تُهيمن العصبية القبيلة ، وليس هناك في الكلام ما يدلّ علىٰ الأفضلية في الإيمان والتقوىٰ. فإذا كان أبو بكر ـ صاحب الفضائل التي لا تعدّ كما يدّعي بعض أهل السنّة ، والذي قالوا فيه أيضاً : إنّه أفضل الناس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هذا هو حاله ، فماذا ينتظر من الأوس والخزرج ؟

إنّ المستشكل يذكر في المقطع الأخير من إشكاله أمراً يثير الدهشة ، إذ يقول : اتضح من الروايات الصحيحة بيان حال المجتمع الذي ربّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم ما أن سمعوا حكم الله حتىٰ انقادوا له أجمعين !

وقد أبطلنا هذه الدعوىٰ فيما مضىٰ ، ونتناول الآن ما ذكره من كلام أبي بكر « حكم الله » ، ونسأله : كيف جهلت كلّ تلك المجموع من الأنصار حكم الله ولم يطّلع عليه سوىٰ أبي بكر ؟! وكيف لم يبيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الحكم الإلهي للناس في وقتٍ كان مأموراً بتبليغ الأحكام الإلهية ؟! إلاَّ أنّ أبا بكر علم بالحكم الإلهي فبيّنه للأنصار ! أليس هذا الكلام يُعدّ إتهاماً للنبي الأكرم بالتقصير في أداء الرسالة وبيان أحكامها ؟! وكيف يمكن أن يجهل عليّ وفاطمة عليهما‌السلام ـ وهم أهل بيت الوحي ـ وبنو هاشم وأعاظم صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الحكم ، بل يمتنعون عن قبول بيعة أبي بكر ؟! هل أنّ ما بيّنه أبو بكر هو حكم الله حقاً ، أو أنّه ينطلق من الميول والآمال ؟

١٤٧

الإشكال الحادي عشر : انفراد أبي مخنف في نقل مخاطبة أبي عبيدة :

« لم ترد مخاطبة أبي عبيدة رضي‌الله‌عنه للأنصار إلاَّ في رواية أبي مخنف » (١).

الردّ :

لقد كان أبو عبيدة بن الجراح قد ذهب مع أبي بكر وعمر إلى السقيفة وحضر ذلك الاجتماع ، وقد اقترح أبو بكر علىٰ الناس في البداية مبايعة عمر أو أبي عبيدة ، وهو ما يكشف عن دوره المهمّ في ذلك الاجتماع ، وعلىٰ هذا الأساس فليس من المستبعد أن يكون قد تحدّث في المجلس ، وقد أشرنا سابقاً إلىٰ أنّ عموم روايات السقيفة نقلت بإيجازٍ وبالمعنىٰ ، فعدم نقل الآخرين لا يمكن أن يكون دليلاً على تضعيف رواية أبي مخنف ، والتي تعرّضت للقضايا بالتفصيل ، هذا مضافاً إلىٰ أنّ أبا مخنف لم ينفرد في نقل كلام أبي عبيدة ، فقد نقله الدينوري في الإمامة والسياسة (٢) ، وابن الأثير في الكامل (٣) ، واليعقوبي في تاريخه (٤) بالنصّ.

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٥.

(٢) الإمامة والسياسة : ٢٥.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ١٤.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٣.

١٤٨

الإشكال الثاني عشر : إنكار المخاصمة بين سعد بن عبادة وعمر :

« أجمعت الروايات علىٰ أنّ عمر قال : « قتل الله سعداً » ، ومقصوده بذلك كما ورد في كتب غريب الحديث ( دفع الله شره ) ، إلاَّ أنّ رواية أبي مخنف شذّت عن غيرها بذكرها تلك المخاصمة والمجادلة الحمقىٰ بينهما ، وقد جاءت الروايات بضد ذلك كما هو واضح من متونها » (١).

الردّ :

أولاً : لقد تطرق العديد من الكتب الروائية والتاريخية إلىٰ هذه المخاصمة وبصراحة ، وذلك من قبيل :

١ ـ ما رواه صاحب أنساب الأشراف (٢) من أنّ عمر قال في سعد : اقتلوه فإنّه صاحب فتنة.

٢ ـ ويقول اليعقوبي (٣) : قال عمر : اقتلوا سعداً ، قتل الله سعداً.

٣ ـ ويفهم هذا المعنىٰ أيضاً من سياق خطبة عمر (٤) ، فقبل أن

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٥.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

(٤) خطبة عمر حول السقيفة.

١٤٩

يتكلّم عمر كادت جموع الناس أن تطأ سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعداً ، فقال عمر : قتل الله سعداً.

٤ ـ وذكر الدينوري (١) هذه المخاصمة وكلمة « اقتلوه قتله الله » وإن لم ينسبها إلىٰ قائلها ، ولكنّ المجمع عليه أنّه عمر. والعبارة صريحة جداً لا تقبل أيّ لونٍ من التوجيه والتفسير.

ثانياً : أنّ جملة « قتل الله سعداً » لها معنىٰ حقيقيّ تدلّ عليه ، فإذا اُريد منها معنىٰ آخر غيره فعلىٰ المتكلّم أن يضع نصب عينه أمرين :

الأوّل : وجود علاقةٍ بين المعنىٰ الحقيقي والمجازي.

والثاني : إقامة قرينةٍ صارفة.

وهنا لا يوجد أيّ تناسبٍ وعلاقةٍ بين المعنىٰ الحقيقي للجملة وما ذكره المستشكل ، فالمعنىٰ الحقيقي لها نوع دعاء ، بينما المعنىٰ المدّعىٰ من قبل المستشكل يخالفه تماماً ، كما لم تقم أيّ قرينةٍ تصرف الكلام عن المعنىٰ الحقيقي إلى المجازي ، ولم يُنقل في كتابٍ روائيٍّ أو تاريخي وجود مثل هذه القرينة الصارفة ، وليس من المعلوم وجود هذا القبيل من التوجيه المضحك.

والظاهر أنّ المستشكل وأصحاب هذا التوجيه حسبوا أنّ سعد بن عبادة قد بايع أبا بكر في السقيفة ، ولم يكن له موقف مخالف ، ولكنّهم تصوروا خطأً ، فإنّ مخالفة سعد بن عبادة الشديدة لأبي بكر

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٢٧.

١٥٠

وعمر قد تناولها الكثير من الكتب الروائية والتاريخية ، وسيأتي تفصيل ذلك في ردّ الإشكال الثالث عشر.

الإشكال الثالث عشر : إنكار امتناع سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر :

« إن القارئ والمطلع على الروايات التي ساقها المحدثون المؤرخون ، يعلم أنه لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار ، لم يبايع أبا بكر الصديق ، وأن سعد بن عبادة قد بايع في السقيفة. إلاَّ أن رواية أبي مخنف خالفت غيرها بما أوردته من رسالة أبي بكر الى سعد ( رضي الله عنهما ) بشأن البيعة ، ورفض سعد بن عبادة ذلك ، وتهديدهم ، وفي الاخير عدم الاعتراف بخلافة أبي بكر ، وترك الصلاة خلفه والحج معه. فواعجبا وهل مبايعة سعد أو مخالفته ، تؤثر في ولاية أبي بكر الذي أجمعت الأمة على تقديمه واتباعه !

وهل كان شغل أبي بكر مبايعة سعد ، حتىٰ يلاحقه ويشدد عليه ! ومع ذلك كله فإن مخالفة سعد رضي‌الله‌عنه لم ترد من طريق صحيح ، بل الذي ورد خلاف ذلك وهو مبايعته كما مضى بيانه » (١).

الردّ :

إنّ الدعوىٰ الاُولىٰ للمستشكل تقول : إنّه لم يبقَ أحد من

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٥ ـ ١٢٦.

١٥١

المهاجرين والأنصار لم يبايع أبا بكر.

ولكنّنا نقول : يتّضح من الروايات التي نقلها المحدِّثون والمؤرِّخون حول السقيفة أنّ هناك عدداً كبيراً من صحابة الرسول سواء من المهاجرين أم الأنصار امتنعوا عن بيعة أبي بكر بعد حادثة السقيفة ، وهنا نشير إلى بعض النماذج :

١ ـ يقول عمر في خطبته المعروفة حول السقيفة : « وخالف عنّا علي عليه‌السلام والزبير ومن معهما » ، فعليّ وجميع بني هاشم والزبير وآخرون خالفوا أبا بكر وعمر.

٢ ـ ويقول اليعقوبي : وتخلّف عن بيعة أبي بكر قومٌ من المهاجرين والأنصار ومالوا مع عليّ بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبدالمطّلب والفضل بن العباس والزبير بن العوامّ بن العاص وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي وأبو ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر والبَرّاء بن عازب واُبيّ بن كعب (١).

٣ ـ ويصرّح المسعودي أيضاً بأنّ أحداً من بني هاشم لم يبايع حتىٰ ماتت فاطمة عليها‌السلام (٢) ، وهو ما ينقله ابن الأثير أيضاً (٣).

إنّ ما ذكرناه كان على سبيل المثال ، وهناك الكثير ممّن خالفوا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٠١.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ١٤.

١٥٢

بيعة أبي بكر ، تناولتهم كتب التاريخ (١).

ويكفي إلقاء نظرةٍ إجماليةٍ علىٰ المصادر التاريخية ، بالإضافة إلىٰ ما ذكر لإثبات بطلان دعوىٰ المستشكل ، حيث يقول حول بيعة أبي بكر « أجمعت الاُمّة علىٰ تقديمه واتّباعه ».

أيّ إجماعٍ هذا الذي لم يدخل فيه عليّ عليه‌السلام وآل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكافّة بني هاشم ؟!

وأيّ إجماعٍ هذا الذي خالفه كبار صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كسلمان الفارسي وأبي ذرّ والمقداد وعمار و ...

ولسنا بصدد الحديث عن نهاية قصة الرافضين للبيعة ، فقد تعارضت الكتب في هذا الموضوع كثيراً ، ولكن يمكن القول بأنّ بعضهم قد بايع نتيجةً للتهديد (٢) ، فيما كان التطميع طريقاً لبيعة آخرين (٣) واضطرّ البعض للبيعة إثر الإجبار (٤).

ولم يرضخ عليّ للضغط والإكراه ولم يبايع أبا بكر (٥).

__________________

(١) يراجع : كتاب « عبدالله بن سبأ » تأليف العلاّمة العسكري.

(٢) السقيفة وفدك : ٣٨.

(٣) نفس المصدر : ٣٧.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٩ و ٧٧٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٦ ، السقيفة وفدك : ٦٠.

(٥) الإمامة والسياسة : ٣٠.

١٥٣

إنّ اعتقاد عليٍّ بأنّه أحقّ بالخلافة وعدم بيعته لأبي بكر في البداية أمر لا يقبل الشكّ ، وربّما كان ذلك قد أجمع عليه تقريباً ، وإن ذهب البعض إلىٰ أنّه عليه‌السلام وإن لم يبايع في الفترة الاُولىٰ ولكنّه بايع بعد مدة ، والقول المشهور أنّه بايع بعد شهادة فاطمة الزهراء عليها‌السلام (١).

ولا بد أولاً من توضيح المقصود من بيعة عليٍّ عليه‌السلام.

فإذا كان المراد منها الاعتراف بأبي بكر كخليفة للرسول فينبغي أن يقال : إنّ علياً لم يبايع أبا بكر كخليفة للرسول قطّ ، والسبب في ذلك : أنّه لم يعتبره خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو الخليفة الحقّ ، ولم يداخله الشكّ في ذلك أبداً.

فنسبه البيعة بهذا المعنىٰ إليه عليه‌السلام ظلمٌ كبير ؛ لأنّ هذا العمل إقرارٌ بالخطأ.

وأمّا إذا قصد من البيعة عدم المواجهة والرفض والتدخّل في شؤون الخلفاء ، وفي مقابل المواكبة والتعاون في حلّ مشاكل المسلمين ، والحيلولة دون انحراف المجتمع الإسلامي مهما أمكن ، فيقال : إنّ علياً عليه‌السلام منذ الوهلة الاُولىٰ التي بايع فيها الناس أبا بكر وكما يقول سلمان مخاطباً إياهم : عملتم وما عملتم (٢) اختار العزلة

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٧٧٠ ، مروج الذهب ٢ : ٣٠١ ، الكامل في التاريخ ١ : ١٠ و ١٤.

(٢) انساب الاشراف ٢ : ٧٧٦ ( كرداذ وناكرداذ ).

١٥٤

في بيت فاطمة عليها‌السلام بعد أن دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وذلك حفاظاً على الإسلام ومصالح المسلمين. فلم يصدر منه عمل مناوئ ، وإذا كان هناك من حاول تحريك الآخرين للقيام بمثل هذا الفعل ، وذلك من قبيل عتبة بن أبي لهب والذي طالب بني هاشم بالنهوض في خطبةٍ حماسيةٍ له ، فإنّ علياً أمره بالسكوت (٢) ، وكان أبو سفيان يحرّض بني عبد منافٍ على الثورة المسلّحة فطرده عليّ عليه‌السلام (٣).

نعم ، إنّ الذين لم يكونوا يحسنون الظنّ إنّما هم الخلفاء الذين كانت بيعتهم فلتة (٤) ، فهم يتصورون أن الناس سيقبلون على علي عليه‌السلام ، وكانوا يحتملون أنه سيطالب بحقه فبادروا إلىٰ الهجوم علىٰ بيت فاطمة عليها‌السلام ، وأتوا به إلىٰ أبي بكر قسراً ، وطلبوا منه البيعة ، ولكنه أبىٰ قائلاً : « أنا أحق بهذا الأمر منكم » (٥).

__________________

(١) السيرة النبوية ٤ : ٣٠٧ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٧٦ عبّر الجميع « اعتزل عليٌ » ، وابن الأثير الكامل في التاريخ ، يقول في نقل خطبة عمر : « وأنّ علياً والزبير ومن تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة » ، ويقول الإمام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة الخطبة ٣ ( الشقشقية ) : « فرأيت أنّ الصبر علىٰ هاتا أحجىٰ ».

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٧٧٣ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٦.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٦ ، السقيفة وفدك : ٤٤ ( يقول أبو بكر : إنّ بيعتي كانت فلتة ).

(٥) الإمامة والسياسة : ٢٨ ـ ٢٩.

١٥٥

وأخيراً أدرك الخلفاء بعد زمنٍ حقيقة عليٍّ عليه‌السلام ، وأنّه على استعدادٍ للتضحية بحقّه من أجل بقاء الإسلام ، وأنّه سيشارك جاهداً لحلِّ مشاكل المجتمع الإسلامي.

فالخلفاء توصّلوا إذن إلىٰ خطئهم ، فغيّروا اُسلوب تعاملهم معه عليه‌السلام ، ولم يعترف عليّ بأنّهم خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهنا يتضح مغزىٰ كلام أبي بكرٍ في اللحظات الأخيرة من حياته :« وددتُ أنّي لم أكن كشفت عن بيت فاطمة » (١) ؛ وذلك لأنّه شعر فيما بعد بفداحة ما قام به من عمل ، إذ لم يكن في ذلك فائدة وبالنسبة له ، ولم تكن هناك ضرورة لذلك ، ولم يجنِ منه سوىٰ غضب فاطمة (٢) التي يغضب الله ورسوله لغضبها (٣).

فالبيعة بمعناها الأوّل لم يقدم عليها عليّ. وأمّا بمعناها الثاني فقد كان عليه‌السلام منذ البداية يحسّ بأنّ واجبه الديني يفرض عليه مداراة الخلفاء والاعتزال ، وعدم مواجهتهم أو التعرض لهم.

__________________

(١) السقيفة وفدك : ٧٣ ، والإمامة والسياسة : ٣٦.

(٢) الإمامة والسياسة : ٣١ وفيه : ( فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلىٰ فاطمة فإنّا قد أغضبناها ) ، وفي البداية والنهاية ٥ : ٢٧٠ : ( تعتب وتغضب ولم تكلّم الصدّيق حتىٰ ماتت ) ، الغدير ٧ : ٢٢٦ ـ ٢٣١.

(٣) الإمامة والسياسة : ٣١ ، الغدير ٧ : ٢٣١ ـ ٢٣٥ ، روىٰ ٥٩ طريقاً لهذه الرواية.

١٥٦

اتضح ممّا مرّ كيفية بيعة عددٍ من أصحاب رسول الله ، ولكن بقي هناك شخصٌ لم يبايع أبا بكر ـ والظاهر أنه قد لجّ في ذلك ـ وهو سعد بن عبادة. وتؤكد الكتب التاريخية الكثيرة أنه لم يبايع أبا بكر وعمر ، وخرج إلىٰ الشام ، وقتل هناك بصورةٍ مثيرةٍ للشكوك.

وأمّا الدعوىٰ الثانية للمستشكل فهي : أنّ سعد بن عبادة بايع أبا بكر في السقيفة ! وأنّ رواية أبي مخنف خالفت غيرها ، وأنّ مخالفة سعد لم ترد من طريق صحيح ، بل الذي ورد خلاف ذلك وهو مبايعته ، وعدم تأثير بيعة سعد على ولاية أبي بكر.

إنّنا ومن أجل إبطال دعوىٰ المستشكل نكتفي بنقل بعض الشواهد :

١ ـ روىٰ البلاذري عن المدائني : أنّ سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر ، وخرج إلى الشام ، فبعث عمر رجلاً وقال : ادعُه إلىٰ البيعة واختل له ، وإن أبىٰ فاستعن بالله عليه ، فقدم الرجل الشام ، فوجد سعداً في حائطٍ بحوارين ، فدعاه إلىٰ البيعة فقال : لا اُبايع قرشياً أبداً ... ، فرماه بسهمٍ فقتله (١).

٢ ـ ويقول المسعودي : خرج سعد بن عبادة ولم يبايع ، فصار إلىٰ الشام ، فقتل هناك في سنة خمس عشرة (٢).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٧٧٤.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٠١.

١٥٧

٣ ـ وقال ابن الجوزي (١) : بايع أبا بكر المهاجرون والأنصار كلُّهم غير سعد بن عبادة.

ثم ينقل ما ذكره ابن إسحاق ، حيث يقول : فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم و ... إلى آخره.

وهو شبيه بما نقله أبو مخنف في روايته.

٤ ـ وجاء في كتاب السقيفة وفدك للجوهري (٢) : لم يبايع أحداً لا لأبي بكر ولا لعمر ولا لغيرهما.

وأشار إلىٰ ما رواه أبو مخنف من عدم مشاركته في صلاتهم ...

٥ ـ ينقل الدينوري (٣) نصّ عبارات أبي مخنف الدالة على عدم صلاة سعد بصلاتهم ... ثم يقول عنه : ولي عمر بن الخطاب ، فخرج إلىٰ الشام ، فمات بها ، ولم يبايع لأحد.

٦ ـ ويتعرض ابن الأثير (٤) إلىٰ عدم مبايعة سعد ، وإصراره على ذلك إلىٰ آخر لحظةٍ من حياته.

٧ ـ ويشير ابن سعدٍ (٥) إلىٰ جواب سعدٍ لرسول أبي بكر والذي

__________________

(١) المنتظم ٤ : ٦٧.

(٢) السقيفة وفدك : ٥٩ ـ ٦٠.

(٣) الإمامة والسياسة : ٢٧.

(٤) الكامل في التاريخ ٢ : ١٤.

(٥) الطبقات الكبرىٰ ٣ : ٦١٦.

١٥٨

طالبه بالبيعة ، حيث قال : والله لا اُبايع ...

مع وجود كل هذه الشواهد ، هل يمكن القول بأن أبا مخنف قد انفرد برواية عدم مبايعة سعد ؟

وهل أنّ المستشكل لم يوفّق حقاً للتعرّف علىٰ شاهدٍ واحدٍ من هذه الشواهد ، أو أنّه أغمض عينيه عن الحقائق ؟

وكيف أنّه اعتمد في بداية إشكاله علىٰ كلام المؤرّخين والمحدّثين ، ولم يسعَ لدعم دعواه بروايةٍ صحيحة ، بينما يحاول هنا البحث عن مثل ذلك ؟

وهل أنّ ما جاء في جميع هذه الكتب الروائية والتاريخية لا يتّسم بالاعتبار في وقتٍ يعتبر الرواية المرسلة التي نقلت في مسند أحمد بن حنبل صحيحة يمكن العمل بها ؟!

فبالإضافة إلىٰ ما ذكرناه سابقاً من معارضة هذه الرواية للروايات الصحيحة عند أهل السنّة ، فإنّ الروايات التي اعتمدها المستشكل (١) لا تصرّح ببيعة سعدٍ سوىٰ رواية مسند أحمد (٢) وهي أيضاً لا تشير إلى بيعته ، بل تقتصر على القول بأنّ سعداً صدّق كلام

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١١٢ ـ ١١٨.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٩٨.

١٥٩

أبي بكر ، وقد أثبتنا سابقاً عدم صحة هذه الرواية.

وأمّا ما قاله من عدم وجود تأثيرٍ لمبايعة سعد على ولاية أبي بكر فنقول : إنّ سعد بن عبادة زعيم قبيلة الخزرج ، فبيعته وعدمها تمتاز بأهميةٍ دون شك ، وهو على الأقلّ أحد الصحابة السابقين ، فكيف يتعامل اُولئك الذين يعتقدون بقداسة جميع الصحابة في حين لم يراعوا اعتقادهم هذا في حقّ سعدٍ ولم يعتبروه شيئاً ؟ وماذا كان الموقف من سعدٍ لو كان من أوائل المبايعين ؟

* * *

١٦٠