حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

جليل تاري

حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

المؤلف:

جليل تاري


المترجم: أحمد الفاضل
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-529-035-X
الصفحات: ١٧٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بيت فاطمة.

وفي مقام الجواب نقول : إنّ أصل دعوىٰ المستشكل باطلة ، وإنّ دليليه مردودان ، وقبل الخوض في دحض ما ذكر لابد من توضيح المقصود من جهاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن كان غسله وتكفينه فلاشك أنّ علياً عليه‌السلام قام بذلك ومعه العباس بن عبدالمطلب ، والفضل بن العباس ، وغيرهم من المقرَّبين ، وهي قضية بديهية لا تحتاج إلى دليل ، ولكنّنا نكتفي بنقل بعض النصوص على سبيل المثال :

١ ـ صرّح ابن هشام في « السيرة النبوية » (١) : أنّ علياً عليه‌السلام تولّىٰ غسل النبي.

٢ ـ ذكر البلاذري في « أنساب الاشراف » (٢) رواياتٍ عديدةً تبيّن أنّ علياً عليه‌السلام قام بتغسيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . وفي روايةٍ تؤيد ما جاء في رواية أبي مخنف : بينا المهاجرون في حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قبضه الله ، وعليّ بن أبي طالب والعباس متشاغلان به ، إذ جاء معن بن عديّ وعويم بن ساعدة فقالا لأبي بكر : ... هذا سعد ابن عبادة الأنصاري في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يبايعوه (٣).

__________________

(١) السيرة النبوية ٤ : ٣١٢.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٧٤٧ ـ ٧٤٨ و ٧٥٢ و ٧٦٤.

(٣) أنساب الأشراف ٢: ٧٦٢.

١٢١

٣ ـ ينقل ابن الجوزي في « المنتظم » (١) قضية تغسيل النبي من قبل الإمام عليٍّ عليه‌السلام بصورة كاملة.

٤ ـ ويتعرض اليعقوبي (٢) لشعر عتبة بن أبي لهب حول عليٍّ عليه‌السلام حيث يقول :

ومَن جبريلُ عَونُ له في الغسلِ والكفنِ

٥ ـ ويذكر ابن الأثير أيضاً : أن الذي ولي غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : علي عليه‌السلام والعباس والفضل وقثم ابنا العباس واُسامة بن زيد وشقران (٣).

فلا مجال للشك إذن في أنّ علياً عليه‌السلام كان قد تولّىٰ غسل النبي بنفسه ومعه بعض المقربين ، ولا أظنّ أنّ المستشكل أو أي محقّقٍ آخر له أدنىٰ معرفةٍ بالتاريخ الإسلامي يمكنه إنكار هذه الحقيقة. والآن وبعد ملاحظة هذه النكتة نتعرض لنقد ودراسة دليلَي المستشكل :

أمّا دليله الأوّل القائل : بأنّ الروايات الصحيحة تثبت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتمّ جهازه إلاَّ يوم الثلاثاء ، وأنّ ما ورد في رواية أبي مخنف من أن علياً قام بجهازه يوم الاثنين ـ أي يوم السقيفة ـ غير

__________________

(١) المنتظم ٤ : ٤٤ ـ ٤٥ و ٤٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ١٥.

١٢٢

مقبول ، ويتعارض مع الكثير من المصادر.

فيرد عليه : إنّنا قمنا بمراجعة المصدر الذي ذكره المستشكل في الهامش ، وهو كتاب « سيرة ابن هشام » فلم نعثر على روايةٍ تقول : إنّ جهاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبدأ به إلاَّ يوم الثلاثاء. نعم ، جاء في هذا الكتاب : لمّا بويع أبوبكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الثلاثاء (١).

وهو النص الذي نقله المستشكل عن ابن إسحاق ، ونقله الطبري وغيره أيضاً.

إنّ هذه العبارة تثبت وعلى خلاف ما يدّعي المستشكل أنّ الناس قد أحسُّوا بعد بيعة أبي بكر في يو الثلاثاء بتجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبلوا علىٰ ذلك ، ولم تتحدث عمّا قاموا به ، فالفرق واضح لأهل الفنّ بين النصّ الذي ادّعاه المستشكل الذي يقول : « إنّ جهاز النبي لم يبدأ به إلاَّ يوم الثلاثاء » ، وبين النصّ الأصلي لخبر ابن أسحاق وابن هشام وغيرهم حيث يقول : « لمّا بويع أبو بكر أقبل الناس علىٰ جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الثلاثاء ».

وهو ما يدعوا إلى الأسف. إنّنا ومن خلال ملاحظة النصّ الأصلي للخبر نجد : أنّ ما جاء في الخبر يقول : إنّ الناس قد أقبلوا بعد بيعة أبي بكر في يوم الثلاثاء على جهاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تتحدث عن

__________________

(١) السيرة النبوية ٤ : ٣١٢.

١٢٣

مشاركتهم وحضورهم ، وإذا كان من البديهي أنّ علياً عليه‌السلام تولّىٰ غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكفينه ودفنه فمن أين عرف أنه عليه‌السلام قصّر في جهاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أوكل ذلك إلى وقتٍ آخر ؟ فهل أنّ التفات الناس إلى جهاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الثلاثاء يدل علىٰ أنّه عليه‌السلام لم يقم بتغسيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الاثنين ؟ وإذا كان هناك أشخاص يعتقدون بوجود أعمالٍ أولى من تغسيل النبي وتكفينه ودفنه ، وكانوا يناورون في السقيفة للوصول إلى السلطة ، فلم يكن لدىٰ عليٍّ عليه‌السلام أمرٌ له من الأهمية كتغسيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكفينه ودفنه ، فليس هناك عذر بالنسبة له يستدعي التأخير ، وهذا ما يمكن فهمه من بعض الروايات ، فقد قال بعض الأنصار لعليٍّ عليه‌السلام : لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا عليّ قبل بيعته لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان فقال علي عليه‌السلام : « أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا اُجهِّزه ، وأخرج إلى الناس اُنازعهم في سلطانه ؟ » (١)

وما ورد في رواية : أنّ الزهراء عليها‌السلام خاطبت من وراء الباب عمر ومن معه ممّن هجموا على بيتها لأخذ البيعة من عليٍّ عليه‌السلام : « تركتم رسول الله جنازةٌ بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم » (٢).

__________________

(١) السقيفة وفدك : ٦١ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ٦ : ١٣ ، الإمامة والسياسة : ٣٠.

(٢) الإمامة والسياسة : ٣٠.

١٢٤

وهناك عبارات لبعض المؤرخين تؤكد هذا الأمر ، يقول المسعودي : كانت بينه ( سعد بن عبادة ) وبين من حضر من المهاجرين في السقيفة منازعة طويلة وخطوب عظيمة ، وعلي والعباس وغيرهم من المهاجرين مشتغلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودفنه (١).

ويقول ابن هشام : أتىٰ آت إلىٰ أبي بكر وعمر ، فقال : إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، قد انحازوا إليه ... ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته لم يفرغ من أمره (٢).

وتعني هذه العبارة : أنّ تجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بُدئ به ، ولكنّه لم يَنتهِ حتى ذلك الحين.

هذه إحدىٰ صور ما نقله ابن هشام ، ولكنّه في عبارةٍ اُخرىٰ يقول : فلمّا فُرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء ... (٣).

وهي لا يمكن أن تدلّ علىٰ ما يدّعي المستشكل ؛ لأنّها تقول : « فلمّا فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء » ، بينما يقول المستشكل : لم يتم تجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ في يوم الثلاثاء.

والفرق واضح بين العبارتين ، فلا تدلاّن على معنىً واحد ، وإنّما بينهما نوع تعارض.

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٤٧.

(٢) السيرة النبوية ٤ : ٣٠٧.

(٣) نفس المصدر ٤ : ٣١٤.

١٢٥

والغريب في البين ما قام به المستشكل من جعل العبارة الثانية لابن هشام مصدراً له ، ولعلّه لو اعتمد على عبارته الاُولىٰ لكان الأمر أهون.

هذا ، مضافاً إلىٰ أنّ خبر ابن هشام وابن إسحاق له ما يعارضه ، وذلك من قبيل الروايات التي تقول : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دفن في عصر الاثنين ، أو ليلة الثلاثاء. فإذا قبلنا هذه الطائفة من الروايات فإنّ خبر ابن هشام الدالّ على انتهاء تجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الثلاثاء لا يمكن الاعتماد عليه ؛ وذلك لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دفن قبل ذلك.

وهناك اختلاف كبير بالنسبة إلى يوم دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأقوال والروايات ، والقطع في هذا المجال أمر مشكل جداً ، وليس أمامنا سوىٰ ترجيح قولٍ على آخر وذلك باعتماد بعض القرائن.

فها هو الشيخ المفيد يعتقد بأنّ دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في يوم الاثنين (١) ، وتؤكد بعض الروايات كرواية عائشة أنّه قد دفن ليلة الثلاثاء ، وتقول : ما علمنا بدفن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى سمعنا صوت المساحي ليلة الثلاثاء في السحر (٢).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٨٩ « وكان ذلك في يوم الاثنين » ، ويضيف «أنه لمّا تمّ لأبي بكر ما تمّ وبايعه من بايعه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يسوّي قبر رسول الله بمسحاةٍ في يده ، فقال له : إنّ القوم قد بايعوا أبا بكر».

(٢) المنتظم ٤ : ٤٩ ، الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٣٠٥ ونقل عن عائشة روايات اخرى تدلّ على أن النبي دفن ليلة الأربعاء.

١٢٦

وذكر البعض كابن الأثير أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دفن يوم الثلاثاء (١) وأشار البعض إلى ليلة الأربعاء (٢).

فالراجح من وجهة نظرنا هو القول بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دفن في يوم الاثنين أو ليلة الثلاثاء ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله توفّي ظهر يوم الاثنين (٣) ، فغسّله الإمام علي عليه‌السلام وكفّنه هو وبعض من معه وصلىٰ عليه وحده ، ولم يشاركه معه أحد في الصلاة عليه (٤) ، ثم صلّىٰ عليه المسلمون فرادى (٥) ، ثم قال عليٌ عليه‌السلام وبمساعدة اُولئك الذين أعانوه في غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدفن الجسد الطاهر له صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) ، ليعودوا بعد ذلك إلى بيت فاطمة عليها‌السلام ، واستقرّ بهم المقام هناك ، فلم يخرجوا منه معلنين بذلك اعتراضهم علىٰ غصب الخلافة (٧).

والتحق بهم عددٌ من كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٥.

(٢) السيرة النبوية ٤ : ٣١٤.

(٣) كما جاء في رواية أبي مخنف وأثبتناه في الفصل الثالث.

(٤) الإرشاد ١ : ١٨٧ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٥٥ ، الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٥) نفس المصدر.

(٦) المنتظم ٤ : ٤٩ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٥٧ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢١٣ نقلاً عن ابن إسحاق.

(٧) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٩ ، عن أبي نضره.

١٢٧

لنفس السبب (١).

وفي يوم الثلاثاء عقب البيعة العامة لأبي بكر (٢) ، وبأمر الخليفة الأوّل ذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة (٣) لأخذ البيعة من المجتمعين بأيِّ شكلٍ كان (٤).

إنّ من الثابت امتناع عليٍّ عليه‌السلام وبني هاشم وجمعٍ من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبعه عن البيعة (٥) ، فهدّد عمر بحرق البيت على من فيه (٦) ، فقيل له : أنّ فيها فاطمة عليها‌السلام ، فقال : وإن !! (٧).

وتذكر بعض المصادر التاريخية : أنّ فاطمة تكلّمت مع الرافضين للبيعة بعد تهديد عمر ، وأعلمتهم بما قاله ، فجعلتهم يختارون الخروج

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

(٢) تاريخ خليفة بن خيّاط : ٦٣ ، مروج الذهب ٢ : ٣٠١ ، المنتظم ٤ : ٦٤ نقلاً عن ابن إسحاق.

(٣) السقيفة وفدك ، ٥٠ و ٦٠.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٩ و ٧٧٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٦ ، السقيفة وفدك : ٦٠.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤ ، مروج الذهب ٢ : ٣٠١ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٤ نقلاً عن الزهري.

(٦) أنساب الأشراف ٢ : ٧٧٠ ، الإمامة والسياسة : ٣٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢.

(٧) الإمامة والسياسة : ٣٠.

١٢٨

من البيت ، فانصرفوا وذهبوا وبايعوا أبا بكر (١).

ولكن بما أنّ عموم الرافضين كانوا من بني هاشم فلم يبايعوا ما دام عليٌّ لم ييايع (٢).

ويعتقد أكثر المؤرخين أنّ علياً لم يبايع حتى رحلت فاطمة إلى بارئها (٣). من هنا يقوىٰ في النفس أنّ عمر قام بتهديده (٤) ، وأخرجوا علياً عليه‌السلام إلى المسجد ، وهدّدوا بضرب عنقه إن لم يبايع (٥).

ولكنّ أبا بكر أحجم عن إجبار عليٍّ عليه‌السلام ؛ وذلك لوقوف فاطمة عليها‌السلام إلى جنبه (٦) ، فخرج عليه‌السلام من المسجد فلحق بقبر رسول الله و ... (٧).

والمقصود من ذكر هذه الحادثة : الإشارة إلى أنّ المصادر التاريخية لم تتطرق إلى اليوم الذي وقعت فيه هذه الأحداث بشكلٍ

__________________

(١) السقيفة وفدك : ٣٨.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٠١ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٤ ، نقلاً عن الزهري.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٧٧٠ ، طريق المدائني عن عائشة ، مروج الذهب ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٠ و ١٤.

(٤) لتأييد هذا الكلام يمكن الرجوع لكتاب « مأساة الزهراء » للعلامة السيّد جعفر مرتضى العاملي ، حيث ذكر بعض الروايات الدالة على ذلك.

(٥) الإمامة والسياسة : ٣٠.

(٦) نفس المصدر : ٣١.

(٧) نفس المصدر.

١٢٩

دقيق ، ولكنّها اكتفت بالقول بأنها وقعت بعد السقيفة ، فإذا كانت قد حدثت بأسرها يوم الثلاثاء وأنّ الإمام عليه‌السلام قد ذهب بعد خروجه من المسجد إلى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا يعني إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دفن قبل يوم الثلاثاء.

فعلى ما يذهب إليه الشيخ المفيد فإنّ الدفن قد كان يوم الاثنين ، وعلى رواية عائشة ليلة الثلاثاء.

ووفقاً لما ينقله اليعقوبي (١) من القول بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد توفّي في شهر آذر (٢) فمن الأرجح أن يكون دفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تمّ ليلة الثلاثاء ، وذلك لقصر النهار في ذلك الشهر ، لاسيما وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد توفّي في وسط يوم الاثنين. وعلى أيِّ حالٍ فلا فرق بين القولين.

ويتّضح من خلال الردّ على الدليل الأوّل للمستشكل ، جواب الدليل الثاني ، حيث قال : إنّ علياً عليه‌السلام تخلّف في بيت فاطمة عليها‌السلام بعد جهاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودفنه ، فلم يتوانَ في غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكفينه ودفنه ، وقد ذكرنا عدة أدلةٍ لإثبات هذه الدعوىٰ.

ومن المناسب أن نسأل المستشكل : ما هو دليله على أنّ علياً قد تخلّف في بيت فاطمة عليها‌السلام قبل غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجهازه ودفنه ؟! وإذا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٣.

(٢) آخر شهرٍ من فصل الخريف في السنة الهجرية الشمسية.

١٣٠

كان عليّ قد تخلّف في بيت فاطمة قبل غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اعتراضاً على بيعة أبي بكرٍ أو للقيام بجمع القرآن ـ كما يذهب البعض ـ (١) فمن الذي قام بغسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

ثم ماذا جرىٰ على جنازة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طوال هذه الفترة خصوصاً على القول بأن علياً لم يبايع حتى وفاة فاطمة عليها‌السلام كما هو الرأي الأشهر ؟

فهل بقيت دون غسلٍ وكفنٍ ودفنٍ حتى ذلك الوقت ؟ وإذا كان قد تم تجهيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلى يَدِ مَن ؟

الإشكال الخامس : اختلاف أبي مخنف مع الآخرين في ذكر بعض الأسماء :

« ممّا يدلّ على عدم ضبط أبي مخنف أيضاً إيراده بعض الأسماء لم ترد عند غيره مثل عاصم بن عديّ ، حيث جعله أحد الرجلين الذين لقيا أبا بكر وعمر. والصحيح أنّه معن بن عدي » (٢).

الردّ :

لقد جاء في رواية أبي مخنف وخطبة عمر بن الخطاب : أنّ أبا بكر وعمر وأبا عبيدة الجراح عندما مضوا إلى السقيفة لقيهم شخصان

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٧٧٠ ، السقيفة وفدك : ٦٤.

(٢) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٣.

١٣١

فحاولا ثنيهم ، إلاّ أنّهم أصرّوا على الذهاب ولم يعتنوا بما قالا ، ولم يتعرض عمر في خطبته (١) لاسمهما ، واكتفى بالقول : حتى لقينا منهم رجلان صالحان.

وأمّا في رواية أبي مخنف فقد أُشير إلى أنّهما « عويم بن ساعدة » و « عاصم بن عدي ». وقد لاحظنا من خلال البحث والتحقيق في المصادر أنّ أحدهما « عويم ابن ساعدة » قطعاً ، وأمّا الآخر فهو معن بن عدي ، كما يذكر عادة ، ولم يورد اسم « عاصم بن عدي » سوىٰ أبي مخنف ، فرواية أبي مخنف تعارض الروايات الاُخرى في هذا الاسم.

والذي يُرجَّح في المقام هو معن بن عدي ؛ لأنّ جُلّ النصوص الروائية والتاريخية إن لم يكن كلّها تؤكّد علىٰ هذا الاسم ، فالإشكال واردٌ على أبي مخنف ، إلاَّ أنّ بعض الروايات تشير إلى أنّ شخصاً أخبر أبا بكر وعمر باجتماع الأنصار في السقيفة ، هو معن بن عدي (٢) ، وعلى هذا الأساس فقد كان جاء سابقاً إلى أبي بكر وعمر وأعلمهما بخبر السقيفة ، فكيف أمكنه أن يلتقي بهما في الطريق ثانيةً ويحذِّرهما من المضيّ إلى السقيفة ؟!

وبالنتيجة : لا يستبعد ما ذكره أبومخنف من أنّ الشخصين هما :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ١٠٧٣.

(٢) السقيفة وفدك : ٥٥ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٤ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٣ يقول : « إذ جاء رجل يسعىٰ ».

١٣٢

عويم بن ساعدة وعاصم بن عدي لا معن بن عدي ، لأنّه قد جاء قبل ذلك ، والله العالم.

الإشكال السادس : انفراد أبي مخنف بذكر خطبةٍ لأبي بكرٍ في السقيفة :

« شذّت رواية أبي مخنف بذكر خطبةٍ لأبي بكر ، لم تذكر مثلها المصادر الاُخرى لفظاً ومعنىٰ » (١).

الردّ :

لا شك أنّ أبابكر قد ألقى خطبةً طويلةً في السقيفة ؛ لأنّ عمر يقول في خطبته : أردت أن أتكلّم وقد زوّرت [ في نفسي ] مقالةً قد أعجبتني اُريد أن اُقدّمها بين يدي أبي بكر ، ... فتكلّم وهو كان أعلم منّي وأوقر ، فوالله ما ترك من كلمةٍ أعجبتني من تزويري إلاَّ قالها في بديهته أو مثلها أو أفضل (٢).

وفي رواية أحمد عن حميد بن عبدالرحمن : فتكلم أبو بكر ، ولم يترك شيئاً اُنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلاّ

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٣.

(٢) خطبة عمر حول السقيفة.

١٣٣

وذكره (١).

وفي روايةٍ لابن أبي شيبة عن طريق أبي اُسامة : قال أبو بكر : يا معشر الأنصار ، إنّا لا ننكر حقّكم (٢).

إنّ كلّ هذه النصوص تؤكد وجود خطبةٍ مفصّلةٍ لأبي بكر في السقيفة ، إن اكتفت بنقل معنىٰ كلام أبي بكر عادة اقتصرت على ذكر مقاطع من هذه الخطبة ، وأمّا رواية أبي مخنف فقد ذكرتها بصورة دقيقةٍ ومفصّلة ، وهي لا شك تمتاز بأهميّةٍ بالغةٍ علىٰ المستوىٰ التاريخي ؛ لأنّه يحاول نقل جزئيات الواقعة كما حدثت. فلا يمكن مقارنة رواية أبي مخنف بالروايات الاُخرى التي اقتصرت على نقل معنىٰ كلام أبي بكر ، هذا مضافاً إلى أنّ بالإمكان مشاهدة نص خطبة أبي بكر في السقيفة في كتاب الإمامة والسياسة (٣) ، والكامل في التاريخ (٤) لابن الأثير ، والسقيفة وفدك للجوهري (٥) ، فقد نقلها كلّ واحدٍ منهم بطريقٍ خاصٍّ.

فدعوىٰ أنّ ما ذكره أبومخنف من خطبةٍ لأبي بكر ، وأنّها لم تنقل في مصدرٍ آخر لفظاً ومعنىٰ باطلة لا أساس لها.

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٩٨.

(٢) المصنَّف ٤٣٣ : ٧ حديث ٣٧٠٤٠.

(٣) الإمامة والسياسة : ٢٣ ـ ٢٤.

(٤) الكامل في التاريخ ٢ : ١٣.

(٥) السقيفة وفدك : ٥٦ و ٥٧.

١٣٤

الإشكال السابع :حول نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما أورده من قول أبي بكر للأنصار : « وفيكم جلّة أزواجه » أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا لا يصحّ من أبي بكر ، إذ أنّ عامة أزواجه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من قريش ، بل إنّه لم يثبت بسندٍ صحيحٍ زواجه من الأنصار قطّ » (١).

الردّ :

أولاً : لاشك أنّ معظم زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كُنّ من قريشٍ وليس من الأنصار.

وأمّا معنىٰ الجملة المذكورة فلا ينسجم وما فهمه المستشكل ، وهو أمرٌ يثير الدهشة والاستغراب ، لاسيما وأنّه عربيّ إذ أنّ نصّ هذه الجملة : « وجعل إليكم هجرته وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه » فإذا قرأنا كلمة « جلّة » بضمّ الجيم فمعنى الجملة : وجعل إليكم هجرته وبينكم وفي مجتمعكم ( المدينة ) معظم نساء رسول الله وأصحابه.

وإذا قرأت بكسر الجيم ، فمعنى الجملة : وجعل إليكم هجرته وبينكم وفي مجتمعكم ( المدينة ) معظم نسائه وأصحابه الأجلاّء » ، فلا

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٤.

١٣٥

اختلاف في المعنى علىٰ كلا القراءتين ؛ لأنّ النكتة الأساسية تكمن في كلمة « فيكم » وتعني « بينكم » ، وليس « منكم ». فإذا كان معناها « منكم » فالمطلوب أن يقول : ومنكم جلّة أزواجه وأصحابه ، ولكنّ الذي ورد : « وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه » فعلىٰ المستشكل أن يقرأ قواعد العربية ثانيةً ليعرف الفرق بين « فيكم » و « منكم ».

وثانياً : إنّ رواية « الإمامة والسياسة » و « السقيفة وفدك » للجوهري والتي تتطابق مع نصّ رواية أبي مخنف لم يرد فيهما جملة « وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه ». ولكنّها ذكرت في كتاب الكامل لابن الأثير (١) ، ووضعت بين قوسين ، واُشير في الهامش إلى أنّها ليست من نصّ رواية أبي مخنف ، وقد أضافها الطبري وفقاً لما يقتضيه سياق الجملة.

فإذا كان الأمر بهذه الصورة فالإشكال مردود من أصله ؛ لأنّ العبارة ليست من رواية أبي مخنف ، وما يمكن أن يورد عليها من إشكال فهو يتوجّه إلى الطبري.

الإشكال الثامن : إنكار المخاصمة بين الحباب بن المنذر وعمر :

«الكلام الطويل والمخاصمة الحادّة بين عمر والحبّاب بن المنذر

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٣.

١٣٦

لم ترد في روايةٍ سوىٰ رواية أبي مخنف ، بل إنّ الروايات الاُخرى ذكرت ما يعارض ذلك ، كما في رواية الإمام أحمد من قول الأنصار بأجمعهم : نعود بالله أن نتقدّم أبابكر » (١).

الردّ :

لقد تعرض العديد من الكتب التاريخية لما دار من حوارٍ بين الحبّاب بن المنذر وعمر ، فمن هنا لا يمكن إنكار أصل هذه القضية ، كما لا يمكن إنكار ما قاله الحبّاب من المنذر : « أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ».

نعم ، يبقىٰ الكلام في وقوع المخاصمة هل وقعت بينهما ، أو أنّ الاُمور انتهت بسلامٍ بعد قبول الأنصار ، كما يقول المستشكل ؟

إنّنا ومن أجل توضيح أصل القضية نذكر بعض النصوص التاريخية والروائية كنموذج :

١ ـ روىٰ صاحب الطبقات الكبرىٰ عن القاسم بن محمد قال : فقام حبّاب بن المنذر ـ وكان بدرياً ـ فقال : منّا أمير ومنكم أمير ... ، فقال له عمر : إذا كان ذلك فمت إن استطعت (٢).

إنّ هذا الخبر يبيّن كلام الحبّاب بن المنذر والمخاصمة بينه

__________________

(١) مرويات أبي مخنف : ١٢٤.

(٢) الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٨٢.

١٣٧

وبين عمر.

٢ ـ ما رواه النسائي قال : قالت الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير ، فقال عمر : سيفان في غمد ؟ إذاً لا يصلحان (١).

إنّ هذا المقطع من الخبر يشابه إلى حدٍّ بعيد ما نقله أبو مخنف مع فارق ، وهو أنّ هذا الخبر لم يتطرق إلى القائل ، بينما أشار أبو مخنف وغيره إلى أن قائل هذا الكلام إنّما هو الحبّاب بن المنذر.

٣ ـ يقول عمر في خطبته أيضاً : قال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوّفت الاختلاف (٢).

إنّ كلام عمر هذا يوضّح مدىٰ حصول الاختلاف ، فبعد كلام خطيب الأنصار ارتفعت الأصوات ، ممّا جعل عمر يخبر عن احتمال ظهور التشتّت والاضطراب ، من هنا ـ وكما ذكرنا في ردّ الإشكال الثالث ـ يتَّضح أنّ الأنصار لم يذعنوا لأبي بكر وعمر دون نقاش ، بل حدث خصام حادّ وحوارات مطوّلة.

وقد أجبنا عن الرواية التي اعتمدها المستشكل ، والتي تدلّ على أنّ الأنصار انقادوا بأسرهم لأبي بكر ، فهي بالإضافة إلى الإشكال السندي الذي يرد عليها تتعارض مع الروايات الصحيحة لأهل السنّة.

__________________

(١) فضائل الصحابة : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) خطبة عمر حول السقيفة.

١٣٨

٤ ـ نقل في كتاب الإمامة والسياسة (١) والسقيفة وفدك للجوهري (٢) الحوار الحادّ بين الحبّاب بن المنذر وعمر ، ولم يكتفِ ابن الأثير (٣) في الكامل بنقل هذا الحوار ، وإنّما أورد نصّ ما ذكره أبو مخنف ، إذ قال أحدهما للآخر « قتلك الله ».

ويشير كتاب الإمامة والسياسة بالإضافة إلى ذلك إلى منازعةٍ كانت قد حصلت في حياة رسول الله بين الحبّاب بن المنذر وعمر.

٥ ـ يروي الطبري عن سيف بن عمر : لمّا قام الحباب بن المنذر انتضىٰ سيفه ... فحامَله عمر فضرب يده فندر السيف فأخذه (٤).

ويتضح من مجموع ما ذكر : أنّ الروايات الاُخرى لا تعارض رواية أبي مخنف وحسب ، بل تؤيدها.

وإذا كان هناك كلام عن التعارض فلابد أن يقال : إنّ ما بيّنته الروايات الاُخرىٰ يتعارض مع رواية أحمد التي استدلّ بها المستشكل ، وليس مع رواية أبي مخنف.

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٢٥.

(٢) السقيفة وفدك : ٥٨.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ١٣.

(٤) تاريخ الطبري ٣ : ٢٢٣ ( وإن كنّا لا نعتمد علىٰ روايات سيف ، ولكنّ المستشكل استدلّ بها في كتابه للطعن بروايات أبي مخنف عدة مرات ).

١٣٩

الإشكال التاسع : إنكار تهديد الأنصار للمهاجرين

« قول الحبّاب بن المنذر وتهديده في إجلاء المهاجرين من المدينة كما ورد في رواية أبي مخنف ، تعارض ما ورد في القرآن الكريم من مدح الإنصار ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (١) ، فكيف يتفق الإيثار في هذه الآية مع الإثرة في الرواية ؟ وكيف يجمع بين المحبة والبغض ، والاُخوة والعداوة ؟ وفي الحقيقة أنّ المطّلع علىٰ حال الأنصار لا يمكن أن يدور في عقله صدق هذا القول كما ورد في هذه الرواية ، ولكنّ هذا كذب من لا يحسن الصدق » (٢).

الردّ :

أوّلاً : لاشكّ في فضائل الأنصار ، وأنّهم انفتحوا علىٰ إخوتهم المهاجرين بكل حبٍّ ووفاء ، وأنّ عملهم هذا تجاه المهاجرين لم يقصدوا منه سوىٰ رضا الله ، وإدخال السرور على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأكرم. ومن الواضح أنّ هذا الحبّ والإيثار متفرّع على إخلاص

__________________

(١) الحشر : ٩.

(٢) مرويات أبي مخنف في تاريخ : ١٢٤.

١٤٠