حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

جليل تاري

حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف

المؤلف:

جليل تاري


المترجم: أحمد الفاضل
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-529-035-X
الصفحات: ١٧٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المقدمة

إنّ دراسة رواية أبي مخنف ربّما تثير في ذهن الفرد إشكالات تتناسب وميوله الفكرية وثقافته التاريخية. وهو إمّا أن يتعاطىٰ معها ، أو يحاول الوصول إلى جوابٍ مقنعٍ وموثّق. ويختصّ هذا القسم ببيان الإشكالات والردود. وهذه الإشكالات لا يمكن أن يقال بأنّها من خلجات النفس ، بل هي في الحقيقة إثارات طرحها بعض الكتّاب السنّة (١) فيما يتعلق بروايات أبي مخنف (٢). إننا ومن أجل أن نمنح البحث بُعداً ملموساً ونقوم بدحض شبهات المؤلف ، والتي تجانب الحقيقة ، نذكر النصّ الأصليّ للإشكال ، ثم نحاول الردّ عليه ، متوخِّين الإنصاف.

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري ، تأليف يحيىٰ بن إبراهيم بن علي اليحيى ، وبإشراف الدكتور أكرم ضياء العمري ، وقد طبع من قبل دار العاصمة في الرياض سنة ١٤١٠ ه‍.

(٢) يظهر أنّ الإشكالات التي طرحها المؤلف المذكور لم تكن تمثّل شخصاً ، وإنّما هي إشكالات تعبّر عن رؤىٰ مجموعةٍ من أهل السنّة تحاول زعزعة آراء الشعية. وبما أن هذه الآراء تتطابق وما نقله أبو مخنف فقد وجّهت الإشكالات إليه.

١٠١

الاشكال الأوّل : البحث السندي :

« انفرد أبو مخنف بهذه الرواية ، وهي معلولة بغيره أيضاً ، ففي سندها ابن الكلبي الذي لا يقلّ مرتبةً عن أبي مخنف ، والرواية أيضاً منقطعة ، فراوي الحادثة عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي عميرة ، لم يدرك ذلك الزمن ، فلم يكن شاهد عيان » (١).

الردّ :

إنّ هذا الإشكال يتناول عدة اُمور نجيب عنها بالتفصيل :

أ ـ لقد أدعىٰ أنّ هذه الرواية لم ترد إلاّ عن طريق أبي مخنف.

ولكنّها دعوىٰ غير صحيحة تكشف عن عدم تتبّع المستشكل ؛ لأنّ مضمون رواية أبي مخنف بل نصها ـ مع اختلافٍ يسيرٍ ـ قد نقل من طرقٍ اُخرىٰ ، وهي :

١ ـ ما يذكره الدينوري في « الإمامة والسياسة » : وحدثنا ( أي العرياني ) قال : حدثنا ابن عفير ، عن أبي عون ، عن عبدالله بن عبدالرحمان الأنصاري رضي‌الله‌عنه ... (٢).

٢ ـ ما نقله الجوهري : أخبرني أحمد بن إسحاق ، قال : حدّثنا

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١١١.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢١.

١٠٢

أحمد بن سيّار ، قال : حدّثنا سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... (١).

٣ ـ ويقول ابن الأثير دون إشارة للسند : وقال أبو عمرة الأنصاري : لمّا قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... (٢).

إنّ هذه الطرق المختلفة تؤكد مضموناً واحداً ، وربّما كانت بعض كلماتها وعباراتها متطابقة ، وطريق مخنف لا يتعدّىٰ أن يكون أحد الطرق.

ب ـ تعرّض المستشكل إلى أبي مخنف وهشام بن الكلبي فضعّفهما. وقد تناولنا أبا مخنف والاعتماد على روايته في الفصل الأوّل بإسهاب ، وأشرنا إلى توثيقه من قبل علماء الرجال الشيعة ، كما اعتمد على ما يروي عامة مؤرّخي السنّة ، واكتفىٰ البعض منهم بنقل روايته ، وهذا ما يدلّ على اعتباره ، الأمر الذي لا يقبل الإنكار.

وأمّا هشام بن الكلبي فيمتاز بشخصيةٍ بارزةٍ ومعتمدةٍ لدىٰ علماء الرجال الشيعة ، فها هو النجاشي يقول في حقّه : المشهور بالفضل والعلم ، ويعتبره من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام والمقرّبين إليه (٣).

__________________

(١) السقيفة وفدك : ٥٤ ، شرح نهج البلاغة ٦ : ٥.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ١٢.

(٣) رجال النجاشي : ٣٣٤.

١٠٣

ولم يتركه علماء الرجال السنّة إلاّ لتشيّعه ، ولم يذكروا ضعفاً آخر على الظاهر.

يقول ابن حبّان عنه : وكان غالياً في التشيّع (١).

ويقول الذهبي : وتركوه كأبيه ، وكانا رافضيَّين (٢).

ويقول ياقوت الحموي فيه : الاخباري ، النسّابة ، العلاّمة ، كان عالماً بالنسب وأخبار العرب وأيامها ووقائعها ومثالبها ... (٣).

إنّ هذه العبارات توضّح عظمته ، فلا وجد لتركه ولابدّ من الاعتماد عليه.

ج ـ إنّ ما ادّعىٰ من أنّ عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي عميرة لا يمكن أن يكون شاهداً على الحادثة ، لأنّه لم يدرك تلك البرهة الزمنية أمرٌ صحيح جداً. فالرواية مقطوعة إذن ، ولكنّ ذلك لا يحدث أي إشكال : لأننا سنجيب عن هذا الإشكال نقضاً وحلاًّ :

الجواب النقضي :

أوّلاً : أنّ العلماء في مجال الوقائع التاريخية لا يعتنون بسند الروايات ، وهذا لا يعني قبول كلّ ما نقل أو سمع ، فإذا كان هناك

__________________

(١) كتاب المجروحين ٣ : ٩١.

(٢) ديوان الضعفاء والمتروكين ٢ : ٤١٩.

(٣) معجم الاُدباء ٢ : ٢٧٧٩.

١٠٤

تدقيق في سلسلة سند الروايات الفقهية فإن هذا الاُسلوب لا يتمّ اعتماده فيما نحن فيه ، فإذا نقل الخبر من قبل علماءٍ معروفين وموثّقين وأمكن الركون إليه عرفاً كفىٰ ذلك ، فالتأكيد على مضمون الأخبار إذن هو المعتمد بدلاً من التدقيق في السند.

ثانياً : أنّ اعتماد الدقّة والوسوسة في السند في دراسة التاريخ يعني عدم بقاء شيءٍ من التاريخ ؛ لأنّنا سنضطرّ إلى طرح مقدارٍ كبيرٍ من الأخبار التاريخية ، وعندها لا يمكن أن نقدم صورةً متكاملةً عن أحداث الماضي من خلال الأخبار القليلة الصحيحة في كتب الحديث.

ثالثاً : من الملاحظ أنّ كتب الحديث هي الاُخرىٰ تحفل بالروايات المرسلة والمقطوعة و ... فيما يرتبط بالتاريخ. ومن المناسب أن نشير إلى بعض هذه الأحاديث فيما يتعلق بالسقيفة ، والعجيب أنّ المستشكل قد اعتمد الأحاديث المرسلة للردّ على روايات أبي مخنف ، وذلك من قبيل :

١ ـ ما ورد في مسند أحمد بن حنبل (١) ، عن حميد بن عبدالرحمن ، حول ذهاب أبي بكر وعمر إلى السقيفة وكلام أبي بكر في فضل الأنصار وما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ولاية الأمر لقريش ، وتسليم سعد بن عبادة لذلك.

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١١٩٨ ح ١٨.

١٠٥

لقد اعتمد المستشكل مرّاتٍ ومرّاتٍ على هذه الرواية للإجابة على ما جاء في رواية أبي مخنف ، بينما لا تتعدّىٰ كونها مرسلة ، وكما يذكر ابن تيمية والذي يطلقون عليه شيخ الإسلام في « منهاج السنّة » ، إذ يقول : هذا مرسل حسن (١).

والغريب أنّ المؤلف المذكور يشير إلى عبارة ابن تيمية في الهامش (٢) دون أن يسأل نفسه لماذا تمسّك بهذا الحديث رغم إرساله ؟

٢ ـ إنّ المستشكل يعتمد على روايةٍ قد نقلها ابن أبي شيبة (٣) عن أبي اُسامة ... ، عن رجلٍ من بني زريق ، وهي لا تخلو من إبهامٍ في السند ، فرجل من بني زريق مجهول لا يعرف عنه شيئاً (٤).

٣ ـ نقل في « الطبقات الكبرىٰ » (٥) عن القاسم بن محمد [ بن أبي بكر الصديق التميمي ] ، وهي رواية مرسلة أيضاً ، ومع كل ذلك يعتمدها المستشكل (٦).

__________________

(١) منهاج السنّة ١ : ٥٣٦.

(٢) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٦٦.

(٣) الكتاب المصنف ٧ : ٤٣٣ ح ٣٧٠٤٠.

(٤) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١١٧ ( نعم هو يقول : إنّ ابن أبي شيبة قد نقلها عن ابن سيرين ).

(٥) الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٨٢.

(٦) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١١٨.

١٠٦

هذه نماذج من نقل الروايات المرسلة في بابٍ خاصٍّ من بين عشرات بل مئات الأبواب في التاريخ ، قد تمّ الاعتماد عليها والاستدلال بها والركون إليها من قبل اُولئك الذين يبالغون في السند ، فيما يتعلق بقضايا التأريخ.

رابعاً : ما يقوله المستشكل في مقدمة كتابه (١) : « على المؤرخ أن لا يقتصر نظره على الخبر ، بل لابد أن ينظر إلى أبعاده ، لأنّ الحكم على خبرٍ بصحةٍ أو ضعف قد يترتب عليه بالنظر إلى أبعاده إنكار حقائق ثابتة ، أو إثبات أشياءٍ تنفيها الحقائق ».

ثم يأتي بشاهدٍ من كلام مالك تأييداً لما ذكره ، حيث يقول : يقول الإمام مالك في الذين يقدحون في الصحابة : « إنّما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه ».

فالخبر وإن صح سنداً ولكنّه يعتبر ضعيفاً إذا اشتمل على اُمورٍ وقضايا غير مقبولة ، كما إذا تضمّن عيوب أحد الصحابة. فلابد من البحث في المحتوى قبل دراسة السند ، ليتضح عدم تعارضه مع تصورات البعض ، وعندها يتمّ قبوله « وبذلك يصحّحون سنده !! ».

وفي هذه الصورة يفهم بوضوحٍ مغزىٰ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، حيث يقول : « هذا مرسل حسن ».

فهو مرسل وحسن ! وهكذا ما قاله ابن عَديٍّ بحقّ أبي مخنف :

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ٩ ـ ١٠.

١٠٧

إنّما له من الأخبار المكروهة الذي لا أستحب ذكره (١).

فمعيار ضعف أبي مخنف في الحقيقة محتوى أخباره التي لا تنسجم ورؤىٰ الجماعة.

وهذا يعني أنّ دعوىٰ التدقيق في سند الأخبار التاريخية لا حقيقة لها ، وليست بالأمر الممكن ، وهي دعوىٰ لا يراد منها سوىٰ تهميش المخالفين ، بينما يعتمدون محتوىٰ الأخبار لإثبات آرائهم وعقائدهم حينما يرتبط الأمر بهم.

الجواب الحلّي :

إنّ من المحتمل سقوط كلمة « عَنْ » من سلسلة السند ، فربّما كان السند بالشكل التالي : عبدالله بن عبدالرحمن ، [ عن أبيه ] ، عن أبي عمرة الأنصاري. وهو احتمال وجيه وله ما يشابهه في الأسانيد. هذا مضافاً إلى وجود شواهد تدعمه ، فهذا ابن الأثير يقول دون أن يشير إلى سلسلة السند : قال : أبو عمرة الأنصاري (٢) ، وهو ما يكشف عن وجود نسخةٍ لديه تدلّ علىٰ أنّ الراوي إنّما هو أبو عمرة الأنصاري ، وليس عبدالله بن عبدالرحمن.

وإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحاً فمن الواضح أنّ عبدالله بن

__________________

(١) الكامل في ضعفاء الرجال : ٢٤١.

(٢) الكامل في التاريخ ١٢ : ٢.

١٠٨

عبدالرحمن إذا لم يشهد الحادثة فهو يرويها عن أبيه ، وهو عن أبي عمرة الأنصاري ( جدّه ) ، وحذف اللقب من سلسلة السند أمر ليس بالغريب.

مضافاً إلى أنّ هناك أفراداً لهم مكانة وعلمية في سلسلة سند الطرق الثلاثة ( أبو مخنف ، والجوهري ، والدينوري ) وهو شاهد معتبر على صحة محتوىٰ هذه الروايات ودقّتها ، خصوصاً في الطريق الذي يذكره من الجوهري ، إذ أنّ رواته ممّن يوثّقهم أهل السنّة ويركنون إلى رواياتهم ، كأحمد بن سيّار الذي وثّقه ابن حاتم والدارقطني (١) ، وكسعيد بن كثير حيث وصفه ابن أبي حاتم بالصدوق ، ويقول عنه : كان يقرأ من كتب الناس (٢). ويقول الذهبي : كان ثقةً ، إماماً ، من بحور العلم (٣).

ولاشكّ أنّ هذا القبيل من الأشخاص البارزين لا ينقلون كل خبر ، فما أورد من إشكالاتٍ على سند رواية أبي مخنف لا يمكن قبوله.

__________________

(١) تهذيب الكمال ١ : ٤٩٢ ـ ٤٩٣.

(٢) الجرح والتعديل ٤ : ٥٦.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٨٣ ـ ٥٨٤.

١٠٩

الإشكال الثاني : انفراد أبي مخنف في نقل خطبة سعد بن عبادة :

« باينت رواية أبي مخنف الروايات الاُخرى بذكرها لخطبة سعد بن عبادة رضي‌الله‌عنه في بداية السقيفة ، وما ذكر من أحقية الأنصار بهذا الأمر » (١).

الردّ :

أوّلاً : لقد روي نص خطبة سعد بن عبادة بطرقٍ ثلاثة ، وهي : طريق الجوهري والدينوري وابن الأثير.

وإذا كان أبو مخنف قد انفرد في نقل تلك الخطبة على سبيل الفرض ولم يتعرض لها الآخرون ، فلا يعتبر ذلك دليلاً على نفيها.

ثانياً : أنّ ما رواه أهل السنّة حول السقيفة موجز ومنقول بالمعنىٰ عادة ، سوىٰ الرواية التي تتعرّض إلى خطبة عمر فيما يرتبط بتلك الحادثة ، وهي تمتاز بأهميةٍ وخصوصية ؛ وذلك لأنّه شاهد عيانٍ ومن مرشّحي الخلافة في السقيفة ، وقد نقلها الكثير من الكتب التاريخية والحديثية المعتبرة (٢) ، فهي وثيقة على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية في

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٢.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٣ ـ ٢٠٦ ، السيرة النبوية ٤ : ٣٠٩ ، الكامل في التاريخ

١١٠

هذا المجال.

وخطبته وإن اختلفت في الجملة مع رواية أبي مخنف ، ولكنّها تتفق معها في القالب العام والمضمون. وهو ما سنتعرض له بالتفصيل لاحقاً.

إن عمر وإن لم يتعرض في خطبته لسعد بن عبادة ، ولكنّ الأرجح أنّ خطبة سعد بن عبادة الموجزة قد انتهت قبل إحاطة أبي بكر وعمر بالخبر ، والوصول الىٰ السقيفة ، فلم يوفّق عمر لسماع تلك الخطبة ليقوم بنقلها.

وأمّا أنّ الأنصار يرون أنفسهم الأولىٰ بالخلافة في الحادثة المذكورة كما رواه أبو مخنف على لسان سعد بن عبادة فهو أمر لا يداخله الشك ؛ لأنّه يبدو جلياً في كلام خطباء الأنصار في السقيفة ، ويؤكده عمر في الحديث عن الواقعة : فلمّا جلسنا قام خطيبهم فأثنىٰ علىٰ الله عزّ وجلّ بما هو أهله ، وقال : أمّا بعد ، فنحن أنصار الله عزّ وجلّ وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط منّا ... (١).

ورغم أنّ عمر لم يشر إلى الخطيب ، ولكنّه الحبّاب بن المنذر

__________________

٢ : ١١ ، أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٦ ـ ٧٦٧ ، المنتظم ٤ : ٦٤ ، صحيح البخاري ٤ : ٣٤٥ ح ٦٨٣٠ ، مسند أحمد بن حنبل ١ : ٤٩٩ ح ٣٩١.

(١) خطبة عمر حول السقيفة.

١١١

الأنصاري (١). وعلى أي حالٍ فلقد كشف حديث خطيب الأنصار عن أولوية الأنصار بهذا الأمر. وإذا كان المستشكل يقصد أنّ سعد بن عبادة لم يكن يحمل هذه الرؤية فهو تصور مرفوض ، وسوف نتطرّق لذلك بالتفصيل.

الإشكال الثالث : إنكار مخالفة الأنصار للمهاجرين الحاضرين في السقيفة :

« ما ذكره من قول الأنصار فيما بينهم لمّا أرادوا أن يولّوا سعداً : فإن أبت مهاجرة قريش ؟ فقالوا : نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون ... الى آخره ، وما ورد من ردّ سعدٍ عليهم بقوله : هذا أول الوهن » فهذا النص يصوّر لنا أنّ هناك مؤامرةً واتفاقاً مسبقاً في الردّ علىٰ المهاجرين ، وهذا باطل. والروايات الصحيحة تبيّن أنّ الأنصار ـ رضي الله عنهم ـ أرادوا بيعة سعد رضي‌الله‌عنه أولاً اجتهاداً منهم ، ولخفاء الحكم عليهم ، ولذلك لما بين لهم أبو بكر رضي‌الله‌عنه الحكم الصحيح في الولاية انقادوا له أجمعون ولم يخالف منهم أحد » (٢).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٧٦٦.

(٢) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٢.

١١٢

الردّ :

يتضمّن هذا الإشكال دعويين :

الاُولىٰ : أنّ الروايات الصحيحة تبيّن أنّ الأنصار كانوا يبغون مبايعة سعدٍ نتيجة للاجتهاد وخفاء الحكم عليهم.

الثانية : حينما وضّح أبو بكر لهم الحكم الصحيح سلّم له الجميع ، ولم يخالف منهم أحدٌ.

وكلتاهما باطلة :

أمّا دعواه الاُولىٰ التي اعتبرها مستندةً على رواياتٍ صحيحة فلا أساس لها ؛ لأنّنا لم نعثر على مثل هذه الرواية التي تقول : إنّ الأنصار قد أقدموا على هذا العمل ، لسبب خفاء الحكم والاجتهاد ، رغم البحث والتحقيق في النصوص الأصلية ، كما لم يرد في جميع الروايات التي اعتمدها المستشكل مثل هذا الأمر ، فكان عليه أن يوضّح مقصوده من الروايات الصحيحة.

نعم ، أشارت بعض الروايات إلى أنّ الأنصار قاموا بمبايعة أبي بكر بعد سماعهم خطبته ، إذ قال : نحن الاُمراء وأنتم الوزراء (١).

وهناك رواية اُخرى تقول : إنّ سعد بن عبادة صدّق أبا بكر في أنّ الأمر في قريش ، ويستفاد من قرائن هذه الرواية أنّه قد بايع أبا بكر

__________________

(١) الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٨٢ والرواية مرسلة.

١١٣

من دون أخذٍ وردٍّ (١). ولكنّ هذه الروايات تتعارض مع ما أورده أهل السنّة من رواياتٍ صحيحة ، وهذا ما سنوضّحه.

جدير ذكره أن الأنصار ، كانوا ممن يتحلىٰ بالرأي والنظر ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعتمد رأيهم في بعض الحروب (٢).

وقد أشار أبو بكر أيضاً في السقيفة إلى روايةٍ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تدلّ على عظمة الأنصار ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم : « لو سلك الناس وادياً وسلكتِ الأنصار وادياً سلكتُ وادي الأنصار » (٣).

وعلى هذا الأساس لا يمكننا تصور الأنصار وكأنّهم لا يفهمون ولا يدركون ولا يعون شيئاً ، وأنّهم كانوا ينوون بيعة سعدٍ لمجرد خفاء الحكم الصحيح ، وحينما قام أبو بكر بالكشف عن ذلك الحكم أذعن الجميع. أوَ ليس مثل هذا الكلام يجانب الحقيقة ؟! ثم ألا يعدّ ذلك تحقيراً للأنصار وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! وهل كان الأنصار على مستوىً من الجهل بحيث يشعرون بالحاجة إلى بعض كلماتٍ من أبي بكر ؟

ولو غضضنا الطرف عن كل ذلك فلم يكن في كلام أبي بكرٍ في السقيفة ما يجهله الأنصار. وينبغي أن نسأل المستشكل : ما هو الحكم

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٩٨.

(٢) يراجع : الطبقات الكبرىٰ ٣ : ٥٦٧ في الحديث عن الحباب بن المنذر.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٩٨ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٣.

١١٤

الذي كان يلفّه الخفاء وقد أظهره أبو بكر للأنصار ؟ لقد تناول في حديثه فضائل الأنصار وجهادهم ، وهي قضايا عاشوها وأحاطوا بها أكثر من أبي بكر. وأمّا أنّ أبا بكر وعمر كانت لهم قرابة سببية من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي ممّا يعلمها الجميع.

ولم يكن الأنصار يجهلون أنّ قريشاً ولاة الأمر كما جاء في مضمون روايةٍ ذكرها المستشكل (١) ، فالرواية تقول : إنّ سعد بن عبادة قد سمع ذلك فيما سبق ، فصدّق أبا بكر (٢) ، فما هو الحكم الذي خفي على الأنصار ممّا أدّىٰ إلى أن يكشف أبو بكر النقاب عنه ؟!

وأمّا دعواه الثانية والتي قال فيها : « لما بيّن لهم أبو بكر الحكم

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١١٦.

(٢) ربّما يقال : إنّ هذا الحديث سمعه أبو بكر وسعد بن عبادة دون غيرهما. والجواب : لم يكن الأمر كما يقال :

وذلك أولاً : إذا كان اتّباع هذا الحكم واجباً على الجميع فلماذا لم يبيّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للملأ ؟

وثانياً : إذا كان سعد علىٰ علم بالحديث من قبلُ فلماذا كان يحاول الوصول الى السلطة وعلى خلاف الحديث ؟

وثالثاً : لماذا لم يُطلِع سعد الآخرين عن الحديث قبل أبي بكر ؟

فهذه الدعوىٰ إذن تمثّل اتّهاماً للنبيّ بالتقصير في أداء رسالته ، واتّهام بعض الأصحاب بطلب الرئاسة وذلك من قبل اُناس يرون الطعن بالصحابة طعناً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

١١٥

الصحيح في والولاية انقادوا له أجمعون ولم يخالف منهم أحد » فمردودة وإن دعمها روايات أهل السنّة ، والتي تقول : إنّ الأنصار كانوا قد اتخذوا موقف التسليم أمام أبي بكر ، وقالوا :« نعوذ بالله أن نتقدّم أبا بكر » (١).

ورواية اُخرىٰ تقول : قال أبو بكر : يا سعد ، أنّ رسول الله قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ... فقال له سعد : صدقت (٢).

وتقتصر بعض الأحاديث على القول بأنّ الأنصار بايعوا أبا بكر.

ويرد علىٰ هذه الدعوىٰ : أنّ أحد الحديثين مرسل وقد عبّر عنه ابن تيمية « مرسل حسن » ، والثاني لا يخلو سنده من إشكال (٣) ، فليس من المناسب لاُولئك الذين يريدون تشييد صرح التاريخ على أساس الروايات الصحيحة فقط اعتماد مثل هذه الروايات ، يضاف إلى ذلك أنّ الحديثين يتعارضان تماماً والروايات المقبولة والمشهورة لدىٰ أهل السنّة وأقوال كبار مؤرخيهم ، نشير هنا إلى بعض النماذج :

١ ـ يذكر عمر في خطبةٍ معروفةٍ له في بيان حادثة السقيفة : أنّ أبا بكر قال عقب حديثٍ له : « قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٢٨٢ الحديث ١٣٣.

(٢) نفس المصدر ١ : ١٩٨.

(٣) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١١٥ ، عن الهيثمي في الزوائد مضعِّفاً أحد رجال السند.

١١٦

فبايعوا أيّهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ... فقال قائل من الأنصار : ... منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ».

فإذا كان الأنصار أعلنوا الطاعة والانقياد لأبي بكر ـ كما يذكر المستشكل ـ فلماذا كانوا يحاولون الوصول إلى الإمارة وعدم التسليم لإمارة قريش ؟

٢ ـ وإذا كان الأمر ـ حسب ما يدّعي ـ من أنّ الأنصار جميعاً ارتضوا خلافة أبي بكر بعد أن سمعوا منه الحكم الصحيح ، فما يقول عمر إذن في خطبته ؟ أم لم يتحدث عن الوضع وما آلت إليه الاُمور بعد خطبة أبي بكر ، وكلام خطيب الأنصار مطالباً بأميرين ، فقد أشار عمر إلى كلّ ذلك قائلاً : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ...

فإذا كان الأنصار قد وافقوا أبا بكر فلماذا الضوضاء وارتفاع الأصوات ؟ ولماذا كان يخشى عمر من وقوع الاختلاف ؟ أو ليس ذلك يعني أنّ الأنصار لم يكونوا يرضخون لهذه الإمارة ، أو أنّ الاختلاف كان قد دبّ فيما بينهم ؟ فما ادّعاه إذن لا يقوم على أساس.

٣ ـ يقول في تلك الخطبة : خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا ...

إنّ هذه العبارة تعكس بوضوح رؤية الأنصار وموقفهم من أبي بكر وعمر ، فهم رغم خطبة أبي بكر وعمر والآخرين لم يكونوا

١١٧

يرغبون إلاَّ ببيعة واحد منهم.

٤ ـ إنّ ما ينقله ابن أبي شيبة عن أبي اُسامة يكشف أن أبا بكر كان يقول بعد أن ذكر فضائل قريش : هلّموا إلى عمر فبايعوه ، قال : فقالوا : لا ، فقال عمر : لم ؟ فقالوا نخاف الإثرة (١).

فإذا كان الأنصار قد انقادوا لأبي بكر وكلامه فلماذا لم يأخذوا بمقترحه حينما طالبهم بمبايعة عمر.

٥ ـ ما جاء في الطبقات الكبرىٰ قال : لما أبطأ الناس عن أبي بكر قال : من أحق بهذا الأمر مني ؟ ألستُ أوّل من صلّىٰ ؟ ألستُ ، ألستُ ؟ قال : فذكر خصالاً فعلها مع النبي (٢).

وهذا الخبر يوضّح أيضاً عدم رغبة الأنصار بأبي بكر ، ممّا اضطرّه إلى بيان فضائله ليستسلم الأنصار ، وإن كان لدينا تخفّظات حول هذه الفضائل ، فهو لم يكن أول من صلّىٰ.

٦ ـ يقول ابن الأثير حول أحداث السقيفة : قال أبو بكر : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الاُمة ... فقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع إلاَّ علياً (٣).

إنّ الأنصار ـ وكما يؤكد هذا النص ـ لم يكونوا يعتقدون بوجود

__________________

(١) كتاب المصنَّف ٧ : ٤٣٣ الحديث ٣٧٠٤٠.

(٢) الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٨٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ١٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢.

١١٨

شخصٍ أولىٰ من عليٍّ عليه‌السلام ، ولم يكونوا يميلون إلى الشيخين ، ولولا التعجيل بالبيعة لشهد مسار الأحداث تغييراً كبيراً ، وهو ما يشير إليه عمر في خطبته.

٧ ـ هناك وثائق عديدة تدلّ على أنّ سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر أبداً ، وهذا ما سنبحثه قريباً ، فدعوىٰ أنّ الجميع لم يخالفوا أبا بكر ، وأنّ الأنصار بأسرهم بايعوه كلامٌ لا يصدّق في حق سعد بن عبادة علىٰ الأقل ، رغم أنّ هناك أعداداً أخرى امتنعت عن البيعة ، وما سعد بن عبادة إلاَّ كنموذج. فما نقله المستشكل من أن سعد بن عبادة صدّق أبا بكر في أنّ ولاة الأمر من قريش ، فبايع أبا بكر ليست رواية مرسلة وحسب ، بل ممّا يدحضها الواقع وتكذبها الحقائق.

٨ ـ يقول المسعودي في كلامٍ مختصرٍ وواضحٍ في وصفه للسقيفة : فكانت بينه وبين من حضر من المهاجرين في السقيفة منازعة طويلة وخطوب عظيمة (١).

وعلىٰ أساس هذه الأدلة والشواهد لا مجال لهذه الدعوىٰ. ومن العجيب غض الطرف عن كل هذه الأدلة ، فإنّ العصبية ربما جعلت صاحبها يغمض عينيه عن الحقائق !

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٤٧.

١١٩

الإشكال الرابع : إنكار اشتغال عليٍّ عليه‌السلام بتغسيل جسد النبي حين السقيفة :

« ذكرت الرواية خبراً تعارضه جُلّ المصادر الاُخرىٰ ، وهو : أنّ الخبر جاء إلىٰ عمر رضي‌الله‌عنه وعلي رضي‌الله‌عنه دائب في جهاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والروايات الصحيحة تعارض هذا الخبر ، وتؤكد أنّ جهز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبدأ به إلاّ يوم الثلاثاء ، والسقيفة كانت يوم الاثنين ، وأنّ علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه تخلّف في بيت فاطمة ، كما في رواية مالك ومعمّر والزهري. وقال ابن إسحاق : لمّا بويع أبو بكر رضي‌الله‌عنه أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وأخرجها الطبري أيضاً ، وذكرها ابن كثير في خمسة مواضع في ألفاظ مختلفةٍ ونقلها ابن الأثير » (١).

الردّ :

إنّ هذه الإشكال يتضمّن نكتةً أساسية ، وهي : أن علياً عليه‌السلام لم يكن في يوم الإثنين ـ حيث انعقاد السقيفة ـ مشغولاً بغسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكفينه ، وذلك لوجود روايات صحيحة تدلّ على أن جهاز النبي لم يتمَّ إلاَّ في يوم الثلاثاء. هذا أولاً.

وثانياً : هناك روايات دلّت علىٰ أنّ علياً كان قد تخلّف في

__________________

(١) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري : ١٢٢.

١٢٠