تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

في المقام الثاني في وقوع التعبد به وعدمه ؛ وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من بيان حكم الشك في الحجية ، وانّه هل يحتاج إلى تأسيس الأصل لصورة الشك أم لا؟

والتحقيق ، على ما يقتضيه النظر الدقيق : عدم الاحتياج إليه.

بيانه : انّ الحجة وما هو طريق بالحمل الشائع إنّما يكون إذا أحرز التعبد ، وبدونه لا يصدق على التعبد واقعا الحجة والطريق حقيقة وان كان يصدق عليه انشاء ، حيث انّ الأثر المرغوب من الحجة ليس إلاّ ما هو أثرها عقلا : من وجوب متابعته ، والحركة على وفقه عملا ، وتنجيز الواقع عند الاصابة والعذر عنه ، وتحقيق موضوع التجرّي عند الخطأ ، بحيث لو لا تلك الآثار لم يتحقق مصداق الحجة بالحمل الشائع ؛ ومن المعلوم انّ العقل لا يحكم بتلك الآثار إلاّ عند احراز التعبد لا بدونه ، فإذا كان كذلك فيعلم : انّ موضوع هذه الآثار متقوّم بالعلم ، بل يكون موضوعا لها ، وبمجرد الشك يحصل القطع بانتفاء الموضوع فتنتفي تلك الآثار بالقطع بلا حاجة إلى الأصل وتأسيسه ؛ كما هو كذلك بالنسبة إلى كل حكم أخذ العلم في موضوعه ولم يكن يترتّب على نفس الواقع.

وأمّا ما أورد الاستاذ دام ظله (١) في بعض كلماته على الشيخ قدس‌سره (٢) ـ المنكر (٣) لاستصحاب البراءة عن التكليف لعدم الأثر له إلاّ عدم الاشتغال وعدم الاطاعة عقلا وهو يترتّب على مجرد الشك في التكليف بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بلا حاجة إلى الأصل ـ : بأنّ الاستصحاب مقدّم على قاعدة البراءة العقلية ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٥ ؛ درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢٠٨ ، والطبعة الحجرية : ١٢٥ في التعليق على قول الشيخ : « وموضوع البراءة في السابق » ؛ درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، والطبعة الحجرية : ١٧٨ في التعليق على قول الشيخ : « واما اذا لم يكن العدم مستندا ».

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٩ ـ ٦٠ ؛ ٣ : ٣٩ ـ ٤٠ ؛ ٣ : ٢١٩.

(٣) جملة معترضة طويلة.

٦١

ففيه :

انّه في مقابل مثل الشيخ (١) المنكر لاستصحاب كلّ ما لم يكن له إلاّ الأثر العقلي ومنه استصحاب البراءة ؛ بأنّ الاستصحاب لا يحتاج إلى الأثر فيما كان نفس المستصحب بنفسه ممّا يقبل الجعل كما في عدم التكليف ، حيث انّه يقبل ذلك باعتبار استمراره بعدم تبديله بوجود التكليف ، وإذا كان كذلك فيترتّب عليه الأثر العقلي لعدم التكليف إذا كان موضوعه أعمّ من العدم الواقعي والاستصحابي. وامّا فيما نحن فيه [ فهو ] في مقام بيان انّ مثل هذه الآثار المذكورة عقلا للحجة لا يحتاج إلى الأصل بل يكفي فيها مجرد الشك للقطع بانتفاء موضوعها بمجرده.

كما انّ ما أورده عليه أيضا في الحاشية (٢) في هذا المقام في مقابل قوله قدس‌سره بعدم (٣) الحاجة إلى أصالة عدم الحجية في نفي آثار الحجة : بأنّ الاستصحاب مقدّم على [ القاعدة ] (٤) فهو أيضا في قبال مثل الشيخ (٥) القائل بكون الآثار مشتركة بين الواقع والمشكوك [ و ] بأنّه على تقدير اشتراك الآثار بينهما كما في قاعدة الطهارة واستصحابها لا مجال إلاّ للاستصحاب ، لحكومته عليها فيما كان المورد مجرى لهما لا في مثل ما ذكرنا من كون الآثار المذكورة للمعلوم لا للواقع بنفسه ، فانّه لا مجال حينئذ للاستصحاب لترتيب هذه الآثار.

مع انّ الشيخ قدس‌سره لم يصر بصدد بيان الآثار العقلية المذكورة التي عرفتها ، بل بصدد بيان آثار اخرى ؛ ولكنك ستعرف انّ تلك الآثار ـ التي صار قدس‌سره بصدد بيان

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٥.

(٢) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٨١ ، والطبعة الحجرية : ٤٣.

(٣) فرائد الاصول ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٤) في الاصل المخطوط ( قاعدة ).

(٥) فرائد الاصول ١ : ١١٢ و ١١٥.

٦٢

انّها تترتب على مجرد الشك ـ أجنبية عن التعبد ولم تكن من آثاره وجودا وعدما كي يحتاج إلى الأصل.

فإن قلت : على ما ذكرت من كون الآثار المذكورة منتفية بمجرد الشك لأخذ العلم في موضوعها المقطوع الانتفاء به ، فكيف يجري الاستصحاب في طرف الوجود عند الشك في الحجية مع العلم بها ، مع اشتراطه بكون الآثار مترتبة على المستصحب؟

قلت : قد عرفت عدم الحاجة في الحاجة في الاستصحاب إلى الأثر لو كان المستصحب بنفسه ممّا يتطرّق إليه يد الجعل كما في المقام ، حيث انّ الحجية قابلة للجعل بنفسها فيجري فيها الاستصحاب ، وعند ذلك يكون التعبد محرزا ومصداقا للحجية حقيقة فيترتب عليه الآثار العقلية المذكورة ، لكون موضوعها أعم من أن يكون محرزا وجدانا أو تعبدا.

ومما ذكرنا : من كون الحجية قابلة للجعل ظهر صحة جريان الاستصحاب في طرف العدم أيضا ، لكون طرفي الشيء متساوية الأقدام في القبول للجعل وعدمه ؛ إلاّ أنّ ما ذكرنا من عدم جريانه في المقام إنّما هو بلحاظ نفي الآثار المذكورة ، لكونها للعلم بالتعبد وجودا وللشك فيه عدما ، لا للواقع بنفسه ؛ كما انّه لو كان الاثر لخصوص الواقع لما كان مجال إلاّ للاستصحاب ؛ كما انّه كذلك على التحقيق لو كانت الآثار مشتركة للحكومة.

ثم اعلم : انّ في مورد الشك في التعبد بالأمارة امورا قد توهّم ترتّبها وجودا على وجود التعبد ، وعدما على عدمه ، لا بدّ من الإشارة إليها ودفع توهّم ترتبها على المقام.

منها : جواز استناد الحجية وكذا الحكم المظنون إلى الشارع ، الذي هو من عمل الجارحة ولكن لسانا عند العلم بالتعبد وحرمته عند الشك فيه امّا مع

٦٣

استصحاب عدمه أو بمجرد الشك فيه.

وفيه :

أولا : انّ جواز استناد الحكم المظنون إلى الشارع لا يكون من آثار التعبد بالظن واقعا ولا من آثار احرازه كي يكون عدم جوازه من آثار عدمه واقعا أو عدم احرازه كما في حجية الظن في زمان الانسداد على تقرير الحكومة ، بل على الكشف أيضا لو كان المنكشف مجرد جعل الحجية على ما هو التحقيق من كون الأحكام الوضعية قابلة للجعل فانّ في هذه الصور كانت الحجية مع عدم جواز استناد الحكم المظنون إليه تعالى ، بل عدمه لا يكون ملازما لعدمها أيضا كما لو دلّ دليل على جواز استناد المشكوك بل على جواز الافتراء بالنسبة إليه تعالى فانّه لا يثبت حجية المشكوك أو المقطوع عدمها كما لا يخفى ؛ فإذا لم تكن الحجية مستتبعة لجواز الاستناد ولا عدمها لعدمه فكيف يصح تأسيس الأصل لهذا الأثر؟

وثانيا : هب انّ الجواز يكون مع الحجية وعدمه مع عدمها ، بل مع الشك فيها بناء على كون جعل الحجية راجعا إلى جعل الحكم التكيفي كما على القول بعدم مجعوليتها ، إلاّ انّه ليس من آثارها وجودا وعدمه ، بل الجواز من آثار كون الاستناد الذي هو العمل اللساني صدقا مع العلم بالتعبد أو كذبا وافتراء مع العلم بعدمه بل مع الشك فيه ، فيكون التعبد المعلوم موجبا لتحقيق موضوع الجواز وهو صيرورة الاستناد معنونا بعنوان الصدق ، والعلم بعدمه والشك فيه موجبا لتحقق موضوع عدم الجواز وهو صيرورة الاستناد معنونا بعنوان الكذب والافتراء ؛ ومجرد الملازمة العقلية بين الموضوعين لا يوجب كون أثر أحدهما أثرا للآخر كي يؤسس الأصل فيه بلحاظه.

فظهر مما ذكرنا : انّ وجه حرمة الاستناد مع الشك في التعبد هو كونه من مصاديق الكذب والافتراء ، ولكنه يشكل صدقهما عليه ، حيث انّ الظاهر تحققهما

٦٤

عرفا مع العلم بالعدم لا بمجرد الشك ، فحينئذ لا وجه للتمسك في حرمة استناد المشكوك بقوله تعالى : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (١) الدالّ على التوبيخ على الافتراء ، لما عرفت من عدم تحققه مع الشك.

الاّ ان يقال : انّ قضية المقابلة أن يكون الكلام في قوة أن يقال : « أو لم يأذن لكم بل على الله تفترون » فيكون ما عدى المأذون فيه داخلا في الافتراء سواء علم بالعدم أو شك فيه.

ولكنه يدفع : بأنّه يصح التمسك باطلاق الآية لو لم تكن مسوقة لمورد الغالب وهو الاستناد إليه تعالى مع العلم بالخلاف كما هو ديدنهم وربّما يشهد عليه ظهور لفظ الافتراء وصدرها.

وامّا الرواية التي تمسك بها الشيخ قدس‌سره (٢) على حرمة الاستناد مع الشك وهو قوله عليه‌السلام في عداد القضاة من أهل النار : « ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم » (٣) فالظاهر منها انّ استحقاق هذا القاضي للعقوبة لأجل تصدّيه ما ليس له من الحكومة وجلوسه مجلس القضاوة ؛ ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية اخرى : « لا يجلس هذا المجلس إلاّ نبي أو وصي نبي أو شقي » (٤) فلا يدلّ على حرمة الاستناد بغير العلم.

والحاصل : انّ الأدلة الدالة على حرمة الكذب والافتراء لا تدل على حرمة الاستناد مع الشك للشك في كونها مصداقا لهما فيكون التمسّك من قبيل التمسك

__________________

(١) سورة يونس : ٥٩.

(٢) فرائد الاصول ١ : ١٢٦.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ١١ الباب ٤ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

(٤) الكافي ٧ : ٤٠٦ كتاب القضاء والاحكام ، باب ان الحكومة انما هي للامام عليه‌السلام ، الحديث ٢ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٦ الباب ٣ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، وفيه : « قد جلست مجلسا لا يجلسه الاّ ... ».

٦٥

بالعام في الشبهات المصداقية.

نعم لو تمسك فيه بمثل قوله عليه‌السلام « ولا تقولوا ما لا تعلمون » (١) ونظائره بناء على حمل القول على [ الاسناد ] (٢) لسانا لا على مجرد الرأي فيدل على حرمة ارتكاب الشبهات المصداقية في خصوص المقام ، فله وجه.

كما انّه لو تمسك بأدلة الكذب على حرمة ما هو لازم الاستناد ظاهرا الذي يسمى لازم الفائدة للخبر وهو علم المخبر بمضمون الخبر حيث انّ ظاهر الخبر يدلّ على الاخبار عن علمه بمضمونه أيضا ، لكان كذلك.

إلاّ انهما ـ مع انهما لا يجديان في إدراج استناد الحكم مع الشك بأنّه منه تعالى إليه تحت الافتراء والكذب حتى يتمسك بأدلتهما على حرمته ـ غير مجد في كونه أثرا للتعبد المشكوك ولا للشك فيه ؛ غاية الأمر لكان مثل هذه الأدلة دالة على حرمة موضوع آخر سواء كان هو الكذب والافتراء أو المشتبه بهما يكون ملازما للعلم بعدم التعبد أو الشك فيه ، ولا يكون أثره أثرا للتعبد وجودا وعدما كي يحتاج إلى تأسيس الأصل في مشكوكه.

ومنها : الالتزام قلبا بعقده على كون الحكم المظنون بالظن المشكوك الاعتبار حكم الله في حقه وغيره بدون عمل خارجا على طبقه. والكلام فيه :

تارة : في تحقق موضوعه مع الشك ؛ وقد عرفت انّه يتحقق معه في المخالفة الالتزامية للتكليف المعلوم بل مع العلم بعدمه فكيف مع الشك.

__________________

(١) هذا التعبير غير موجود في المصادر الروائية. ويحتمل ان المصنف قد جرى قلمه اشتباها هنا ، فاراد الاشارة الى مثل قوله تعالى : « أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ » البقرة : ٨٠ أو الى « أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ » الاعراف : ٢٨ فبدل ان يقول : « بمثل قوله تعالى ... الخ » قال : « بمثل قوله عليه‌السلام ... الخ ». كما يحتمل انه اراد به مضمون قوله عليه‌السلام في روايات سابقة « حرام عليكم ان تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا » أو « من دان الله بغير سماع من صادق » ونحوها ما يكون بهذا المعنى.

(٢) في الاصل المخطوط ( الاستناد ).

٦٦

واخرى : في حكمه وفي انّه حرام أم لا.

ووجه حرمته على القول به ؛ امّا من جهة كونه مخالفة التزامية للتكليف الواقعي المنجّز في مورد المشكوك التعبد ؛ وقد عرفت سابقا عدم ايجاب التكليف إلاّ الموافقة العملية فقط بحيث لا يبقى منه معه تبعة أصلا ، وقد مرّ وجه ذلك.

وامّا من جهة كونه تشريعا ، حيث انّ الالتزام والعقد قلبا على كون المشكوك حكم الله يندرج في موضوع التشريع الذي هو من أفعال القلب وهو ممّا يستقل العقل بحرمته واستحقاق العقوبة عليه بلا استتباع لحكم مولوي من قبل الشارع ، بل تكون الأدلة النقلية الدالة على حرمته ارشادية حيث انّ التشريع تصرّف في ما هو سلطان المولى من جعل الأحكام وتشريعها ، وهو بنفسه ممّا يوجب استحقاق الذم والعقاب لكونه هتكا للمولى نظير التجرّي ، فيكون حكمه حكم الاطاعة والمعصية في عدم استتباع حكم العقل بالوجوب واستحقاق العقوبة في الاول والحرمة واستحقاق العقوبة في الثاني الوجوب والحرمة الشرعيين ولو بناء على تسليم الملازمة ، لأنّ المناط في استكشاف الحكم المدّعى به من باب الملازمة تحقق ملاكه في البين من إيراثه الرجاء للمثوبة لواحد والخوف عن العقوبة لآخر والقرب لثالث على اختلاف مراتب العبيد بحيث لولاه لما كان في البين واحد من هذه ، بخلاف ما لو كانت بدونه ، فحينئذ لا يبقى ملاك للحكم المولوي فكيف يتحقق بدونه كما في المقام؟ فانّ التصرف في سلطنة المولى يوجب بنفسه استحقاقا بلا حالة منتظرة وتبعية لنهيه ، فلو كان منه نهي لحمل على الارشاد ، فلا وجه للتمسك بالأدلة الشرعية على حرمة التشريع شرعا.

وكيف كان سواء قلنا بحرمته عقلا أو شرعا فلا ربط له بالتعبد وجودا وعدما ـ بأن يكون جواز الالتزام من آثار التعبد المعلوم وحرمته من آثار مقطوع الانتفاء منه أو مشكوكه ـ لعين ما عرفت في الاستناد حيث انّ التعبد يوجب انتفاء كون

٦٧

الالتزام موضوعا للتشريع والقطع بعدمه ، وكذا الشك فيه يوجب كونه مصداقا له ؛ ومجرد الملازمة بينهما في ذلك لا يوجب كون الحرمة المترتّبة على أحدهما أثرا للآخر كي يؤسّس الأصل فيه بلحاظه.

ومنها : العمل خارجا على طبق الظنّ المشكوك الاعتبار ويكون ذلك مع الالتزام بالحكم المظنون تارة ، وبدونه اخرى ، فعلى الأوّل فالظاهر بل المقطوع عدم تغيّر العمل الملتزم بحكم له عمّا هو عليه واقعا من المصلحة والمفسدة ، ولا يوجب ذلك فيه مبغوضية ولا حرمة شرعية لو لم يكن بنفسه كذلك ، والحاكم في هذا الباب هو الوجدان ، وهو بعد المراجعة إليه يحكم بأنّ العقل الذي يكون ذا مصلحة ومحبوبا لنا لا يصير مبغوضا بمجرد اتيان العبد به ملتزما بأنّه واجب مع عدم علمه بوجوبه ، أو ملتزما بحرمته ، وان كان نفس ذاك الالتزام قبيحا ، لما عرفت من كونه من المآثم القلبية.

وما عرفت من عدم إحداثه قبحا في الفعل لا ينافي مع ما هو التحقيق من كون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبار ، حيث انّه ليس كلّ وجه من الوجوه المحسنة أو المقبحة كما عرفت في مبحث التجري.

وأمّا الفعل على طبق الظن بلا التزام على طبقه :

فان لم يكن مخالفا لدليل معتبر من أمارة أو أصل فلا بأس فيه.

وان كان مخالفا لأحدهما :

فان كان مخالفا للأمارة فيدور حرمة العمل مدار مطابقتها للواقع ، وبدونها فلا يترتب عليه إلاّ محذور التجري على ما هو التحقيق من كون حجيّة الأمارات من باب الطريقية وعدم مصلحة في مؤداها بسببها غير المصلحة الواقعية ومفسدته.

وان كان مخالفا لأصل من الاصول المثبتة للتكليف : فعلى تقدير اصابته

٦٨

للواقع فلا اشكال في استحقاق العقوبة ، وعلى تقدير خطئه عنه فيبتني ذلك على القول بالموضوعية في ذلك الأصل كما في الاستصحاب على احتمال ذكر في السابق.

وعلى القول الآخر من عدم كون المصلحة في العمل على طبق غير المصلحة الواقعية فليس فيه إلاّ التجري أيضا.

وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام الشيخ قدس‌سره (١) فانّه مع ذهابه في الاصول والأمارات إلى ما ذكرنا من عدم إيراثهما المصلحة في مؤداهما حكم (٢) فيما نحن فيه باستحقاق العقاب في العمل على طبق الظن المشكوك الاعتبار اذا خالف الأمارات أو الاصول مطلقا بلا تقييده بصورة مصادفتهما للواقع ، فراجع.

إذا عرفت ما ذكرنا من عدم ترتب الآثار المذكورة في كلام الشيخ قدس‌سره من حرمة العمل والالتزام والاستناد على عدم التعبد أو الشك فيه وترتب الآثار المهمة من وجوب الاطاعة وتنجيز الواقع والعذر عنه بمجرد الشك بلا احتياج إلى الأصل ، (٣) ظهر عدم الثمرة في تأسيس الأصل فيما نحن فيه ، فلا طائل في ذكر سائر ما ذكر من الاصول ، ولا إطالة أيضا في التعرض لدلالة ما ذكر من الأدلة من الآيات والأخبار على عدم وجوب العمل بالظن ، بل على عدم جوازه وعدمها بعد ما عرفت من كفاية الشك فيه وانّ عدم الحجية على طبق الأصل.

فالمهم في هذا الباب بيان ما خرج أو قيل بخروجه من هذا الأصل من الامور غير العلمية التي اقيم الدليل على اعتبارها بالخصوص مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الموجب للرجوع إلى الظن مطلقا وهي أمور :

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١١٧.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٣٧٣.

(٣) فرائد الاصول ١ : ١٢٨.

٦٩

منها : الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الكتاب والسنّة وهي على قسمين :

الأول : ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ ، وتشخيص مجازاتها عن حقائقها ، وتشخيص ظواهرها عن خلافها.

والثاني : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم بعد إحراز ظهور كلامه عند احتمال إرادته خلاف ذلك ، فنقول في هذا القسم :

انّ الكلام الملقى إلى المخاطب :

امّا أن يقطع بما اريد منه ، فلا شبهة في الأخذ بالمقطوع وحمل الكلام عليه.

وأمّا ان يشك في المراد منه ، فحينئذ :

فامّا أن يكون للكلام مع ما يحفّ به بحسب متفاهم العرف ظهور في معنى ، بأن يكون بينهما نحو اتحاد بحيث يكون اللفظ قالبا له عرفا ويكون القاؤه عين القائه ، لكونه وجودا لفظيا له ، بلا تفاوت بين كون الظاهر هو المعنى الحقيقي أو المجازي أو غيرهما ، كما في استعمال اللفظ في اللفظ على ما حقق في محله من عدم كون ذاك الاستعمال حقيقة ولا مجازا ، وكما في الغلط بعد القرينة على تعيين المراد.

وامّا ان لا يكون له ظهور عرفا بالمعنى المذكور بحيث يتحيّرون في معناه عند إطلاقه لكونه مجملا عندهم ذاتا كما في المشترك بلا قرينة ، أو عرضا كما فيما احتف الكلام بما لم ينعقد معه ظهور في معناه الحقيقي ولا المجازي من حال أو مقال موجب للاجمال الذي يعبّر عن الشك فيه بالشك في قرينية الموجود.

وهذا القسم الظاهر انّ العقلاء [ يتعاملون ] (١) معه معاملة المجمل ، ولا

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( يعاملون ).

٧٠

يبنون على أصالة الحقيقة في هذه الصورة تعبدا مع اجمال اللفظ. وامّا ما عن الأردبيلي (١) من العمل على أصالة الحقيقة تعبدا فالظاهر إرادته غير هذا القسم.

وأمّا القسم الأول : وهو ما كان للفظ فيه ظهور في البين فالشك في إرادة المتكلم فيه يكون :

تارة : من جهة الشك في وجود القرينة الصارفة وعدمه.

واخرى : من جهة احتمال إرادة خلاف الظاهر لحكمة داعية إلى اخفاء المراد ، مع القطع بعدم نصب القرينة في البين.

وثالثة : من جهة كلا الاحتمالين.

ويكون الظهور في الأوسط قطعيا ، وفي الطرفين ظاهريا بالنسبة إلى الصادر من المتكلم معلقا على عدم وجود قرينة صادرة من المتكلم مع كلامه وان كان قطعيا بالنسبة إلى معلوم الصدور منه كما لا يخفى.

نعم الظاهر بل المقطوع بناء العقلاء على العمل بظهور الكلام قطعيا كان أو احتماليا معلقا على عدم وجود القرينة في الصور الثلاثة ولو لم يحصل قطع بالمراد كما هو ديدنهم في مقام الاحتجاج واللجاج في المحاورات من كلّ من الموالي والعبيد بالنسبة إلى الآخر.

فتوهّم اشتراط العمل بحصول القطع بالمراد ، مخالف للسيرة المستمرة من العقلاء.

إلاّ أنّ الكلام : في انّ بناءهم في مورد الشك في احتفاف الكلام بالقرينة على عدمها أولا ثم البناء على العمل بالظهور ثانيا؟ وبعبارة اخرى : يبنون أولا على أصالة عدم القرينة احرازا لصغرى الظهور ثم يعملون به ثانيا؟

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٧١

أو كان بناؤهم على العمل بالظهور والبناء عليه فقط بلا بناء آخر منهم ، ما لم يقطع بخلافه ، وان كان الشك في إرادته من جهة الشك في الشك في احتفاف الكلام بما يكون قرينة على خلافه؟

والظاهر هو الثاني ، حيث انّ الظاهر انّ بناء العقلاء في المحاورات في صورة الشك في وجود القرينة فقط كبنائهم في الصورتين الأخيرتين بلا اختلاف منهم من حيث العمل ، والبناء في الصور الثلاثة ، أو تعدد بنائهم في صورة كون الشك في المراد ناشئا من الاحتمالين ، بل بناء واحد منهم في جميع الصور ؛ ومن المعلوم انّ البناء في غير صورة الشك في الاحتفاف ليس على أصالة عدم القرينة ، للقطع بعدمها حينئذ.

فمن جهة عدم جريانها في صورة الشك من جهة الاختفاء للحكمة ، وعدم تعدد البناء في صورة الشك من جهته ، ومن جهة احتمال الاحتفاف ، ومن جهة عدم مغايرة صورة الشك في الاحتفاف فقط مع غيرها عملا وبناء ، يظهر انّ الأصل المتّبع في المحاورات مطلقا هو أصالة الظهور المنطبق على أصالة الحقيقة تارة ، وعلى أصالة الإطلاق اخرى ، وأصالة الظهور في غيرهما ثالثة ، وقد يعبّر عنها بأصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص والتقييد رابعة لو كان الشك فيه ناشئا من جهتها ، فيتوهم انّ مرجعها إلى الأصل العدمي مطلقا كما في كلام الشيخ قدس‌سره (١) ، مع أنّه كما عرفت غير صحيح امّا مطلقا أو على نحو الإطلاق كما لا يخفى.

ونظير المقام قاعدة المقتضي والمانع على تقدير كونها قاعدة متّبعة في صورة إحراز المقتضي والشك في المانع ، فانّ الظاهر انّ بناءهم على مجرد تحقق

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٧٦.

٧٢

المقتضى ( بالفتح ) بعد احراز المقتضي ولو كان الشك فيه ناشئا من جهة الشك في المانع بلا بناء منهم على عدمه أولا ثم البناء على ثبوت المقتضي ثانيا.

فان قلت : ما ذكرت أولا من عدم الاختلاف في الموارد من حيث العمل والبناء إنّما يجدي في كون المرجع هو أصالة الظهور مطلقا لا أصالة عدم المانع لو لم يكن أصل عدمي في صورة كون الشك في المراد من جهة الشك في اختفاء القرينة فقط وهو بمكان من الامكان لصحة اجراء أصالة عدم المانع عن إرادة الظهور وهو الحكمة الموجبة لاختفائه.

قلت : انّ الحكمة هي مجرد احتمال لتصحيح مقام الثبوت على تقدير عدم الارادة ولم يكن منها في مقام الاثبات عين ولا أثر ، بل المتحقق في مقام الاثبات هو الظهور المقطوع به فهو المعوّل.

فان قلت : انّ ما ذكرت من كون المرجع هو أصالة الظهور في صورة الشك في الاحتفاف أيضا ـ مع كونه تعليقيا غير مقطوع به ـ يوجب البناء على الحقيقة أيضا في صورة احتفاف الكلام بما لم ينعقد معه ظهور أصلا ، لتحقق مثل هذا الظهور فيه أيضا المعلق على عدم شيء في البين.

قلت : على تقدير تسليم عدم الفرق من حيث الظهور التعليقي يكون الفرق هو السيرة وبناء العقلاء في صورة الشك في وجود القرينة لا الشك في قرينية الموجود ، وهو المتّبع في مباحث الألفاظ.

ثم الظاهر بناء العقلاء على العمل بالظهور تعبدا ما لم يقطع بحجة معتبرة على الخلاف بلا تفاوت في إفادته الظن أو لا ، بل الظاهر انّه كذلك ولو كان ظن غير معتبر على الخلاف.

ويدل عليه صحة الاعتذار والاحتجاج لدى المخالفة واللجاج بمجرد الظهور اللفظي من كلّ من الموالي والعبيد بالنسبة إلى الآخر ، فانّهم يحتجون بمجرد

٧٣

الظهور بلا اصغاء منهم إلى الاعتذار بأنّه ما أفاد الظن أو كان الظن غير المعتبر على خلافه ؛ ومن المعلوم انّ المتّبع في ما نحن فيه هو طريقة العقلاء كما هو واضح.

فمن هنا ظهر انّه لو كان ظن معتبر على الخلاف عند العقلاء يتوقفون عن العمل على ذاك الظهور في العرفيات من جهته ، لا يوجب ذلك التوقف في الشرعيات ما لم يحرز انّه حجة عند الشرع أيضا ، لكون كبرى حجية الظهور ما لم يقطع بحجة على خلافه مسلّمة ، غاية الأمر تكون الغاية حاصلة عند العرف دون الشرع ، فلا بدّ من العمل بالكبرى حينئذ.

والحاصل : انّه بعد كون الظهور حجة تعبدية من العقلاء فلا بدّ من متابعته ما لم تقم حجة قطعية على خلافه.

وتوهّم : انّ التعبد من العقلاء غير معقول ، بل بناؤهم على العمل عليه بمجرد الكشف فلا يتّبع مع الظن على خلافه ، مدفوع :

بأنّ عملهم على الظن الشخصي الحاصل من الظهور أيضا يكون تعبدا منهم ، حيث انّ الظن ليس كالقطع بحجة بنفسه ، بل لا بدّ من التعبد ، غاية الأمر التعبد من العقلاء لا يصح بلا مصلحة وحكمة في البين وامّا معها فيصحّ ، فلو كان مثل تلك المصلحة على خلاف الظن فيصحّ التعبد به أيضا وان لم يعلمها بعينها ، وان كنّا نعلم انّها حينئذ غير الرجحان الاعتقادي بعد احراز التعبد بالظهور منهم مطلقا.

ثم انّ حال القرينة المنفصلة حال القرينة المتصلة في وجوب الحمل على الحقيقة مع العلم بعدمها والشك فيها وعدم الحمل عليه مع العلم بها.

نعم الفرق هو انّه مع القرينة المتصلة لم ينعقد للكلام ظهور إلاّ في المعنى المجازي أو فيما بقي بعد التخصيص مثلا ، بخلافه مع القرينة المنفصلة فانّه ينعقد

٧٤

معها ظهوره في المعنى الحقيقي وفي العموم مثلا ، غاية الأمر تكون القرينة المنفصلة حجة أقوى على الخلاف فلا بدّ من العمل بها دون ظهور الحقيقة أو العموم.

ويثمر ذاك الفرق في القرينة المجملة المراد ، المشكوك قرينيتها ، فانّه لا بدّ من العمل بالظهور في القرينة المنفصلة دون المتصلة كما في قوله : « لا تكرم زيدا » مع التردد فيه بين زيد العالم وغير العالم ، فانّه لا بدّ من الأخذ بالظهور في « أكرم العلماء » حتى بالنسبة إلى زيد في المنفصلة دونه في المتصلة ، كما لا يخفى.

ثم بعد ما عرفت من حجية الظواهر فاعلم : انّه قد اختلف فيها في موضعين :

الأول في حجيتها بالنسبة إلى غير من قصد افهامه بالكلام.

ويظهر من المحقق القمي قدس‌سره (١) في آخر مسألة حجية الكتاب عدم حجيتها بالنسبة [ إليهم ] (٢) وانحصارها بالنسبة إلى من قصد افهامه به.

ومنشأ الفرق هو كون حجية الظهور من باب الظن النوعي بحيث لو خلّي الكلام وطبعه لأفاد الظن بالمراد ، وهو إنّما يحصل بالنسبة إلى المقصود بالفهم حيث انّه لا بدّ من القاء الكلام إليه على وجه لا يقع في خلاف المراد بحيث لو فرض وقوعه فيه لكان امّا :

لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف الكلام من القرينة ، أو لغفلة من المتكلم في القائه على وجه يكفي بالمراد ؛ وأصالة عدم الغفلة فيهما هو المتّبع عند العقلاء بالاتفاق. وهذا بخلاف من لم يقصد افهامه فانّ وقوعه في خلاف المراد لا ينحصر فيما ذكر ، لاحتماله نصب القرينة الكافية بالنسبة إلى المخاطب وقد اختفت بالنسبة إليه ؛ ولا دليل على البناء على أصالة عدم القرينة في دفع هذا الاحتمال.

__________________

(١) القوانين المحكمة ١ : ٤٠٣ قبل قوله : « قانون : قالوا القرآن متواتر ... » بقليل.

(٢) في الاصل المخطوط ( اليها ).

٧٥

وفيه : مع ما عرفت من البناء على الظواهر تعبدا وعدم ابتنائه على حصول الظن بالمراد ، ان الشك في المراد لغير من قصد افهامه يكون :

تارة : مع القطع بعدم نصب القرينة ، وكان الشك لأجل احتمال اختفائها لحكمة في اختفائها.

واخرى : للشك في نصبها وعدمه ، مع القطع بتساوي حاله مع المخاطب المقصود بالفهم بأن يكون هو شاكا في ذلك أيضا ، فيكون شك غيره من جهة كونه شاكا أيضا.

وثالثة : من جهة اختصاصه بسبب الشك ، باحتماله نصب القرينة للمخاطب واختفائها عنه.

ومن المعلوم حجية الظهور لغير المقصود بالفهم في الصورتين الأوليين بلا فرق بينه وبين المخاطب ، مع انّ خصوصية عدم كونه مقصودا بالفهم يقتضي الفرق فيهما ، وإذ ليس فلا خصوصية فيه في الصورة الثالثة أيضا ، غاية الأمر اختصاصه بجهة من الشك غير متحقق لغيره ، ومجرد ذلك لا يوجب التوقّف عن الظهور بعد تحققه بلا حجة على خلافه.

نعم لو كان مناط حجية الظواهر والبناء على كونها مرادا للمتكلم لزوم نقض الغرض لو لا إرادته ذلك مع عدم نصب القرينة لكان لتوهم الفرق مجال ، ولكن المعلوم انّ المناط هو السيرة وبناء العقلاء وهو ليس إلاّ متعلقا بالظهور المحرز مع عدم حجة معلومة على الخلاف وان كانت أسباب الشك في المراد كثيرة ومنها الشك في الاختفاء بالنسبة إلى خصوص غير من قصد افهامه وهو لا يوجب الفرق كما يظهر بالمراجعة إلى بنائهم على العمل بالظهور مطلقا في الأقارير والوصايا وغيرها ، كما لا يخفى.

الثاني : في حجية ظواهر الكتاب.

٧٦

فانّه ذهب جماعة من الأخباريين إلى عدم حجيتها من دون ورود التفسير وكشف المراد عن الحجج صلوات الله عليهم.

وما قيل أو يمكن أن يقال في وجه ذلك بملاحظة الأخبار الناهية وغيرها امور : بعضها راجع إلى منع الصغرى من عدم تحقق ظهور يكون حجة عند العقلاء في الكتاب ، وبعضها راجع إلى منع الكبرى من عدم حجية ظهوره تعبدا مع كونه على وجه يعتبر في غيره.

الاول : المنع عن الأخذ بظهور الكتاب تعبدا ، وان كانت الحكمة عدم وقوع الكتاب محلا للأنظار وعدم تطرّق الاختلاف فيه في فهم المراد ، وهذا هو المنع في الكبرى.

الثاني : انّ المنع من جهة اشتمال القرآن على عظيم المطالب ونفائسه وقصور غير أهله ، كيف وقد تحيّر الأفاضل في فهم بعض كلمات الأوائل لاشتماله على نكات دقيقة ومعاني نفيسة فكيف بكلام الخالق جلّت عظمته.

ويدل عليه قول الصادق عليه‌السلام : « ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال » (١) ؛ وعنه عليه‌السلام : « انّ الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتى والله ما ترك شيئا يحتاج اليه العباد » (٢) ؛ ولما ذكرنا استدعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام فهم القرآن بقوله : « صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل » (٣) ؛ ويدل عليه قول الصادق عليه‌السلام لأبي حنيفة في مرسلة [ شبيب ] (٤) : « ما ورّثك الله من كتابه

__________________

(١) الكافي ١ : ٦ باب الرد الى الكتاب والسنّة وانه ليس ... الخ الحديث ٦.

(٢) الكافي ١ : ٦ باب الرد الى الكتاب والسنّة وانه ليس شيء من الحلال ... الخ الحديث ١.

(٣) بحار الانوار ٦٩ : ٩٢ ؛ المفردات في غريب القرآن : ٢٥٥ العمود ٢.

(٤) في الاصل المخطوط ( شعيب ) ، وفي الوسائل ( شبيب ) بن أنس. راجع المصدر.

٧٧

حرفا » (١) ؛ وفي رواية زيد الشحّام ردّا على قتادة : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (٢) ، إلى غير ذلك من الروايات الدالة على علوّ مطالبه وقصور عقول الرجال عن الوصول إليها.

الثالث : ما ادعاه السيد الصدر (٣) من نزول القرآن على طرز جديد واصطلاح خاص سواء كان للاختلاف في الوضع مع اللغة العربية ، أو لأجل اشتماله طريقة خاصة من الاستعمال من اشتماله على مجازات بلا قرينة وعلى تخصيصات وتقييدات كذلك.

الرابع : طروّ العلم الاجمالي بطروّ تلك العوارض امّا بقرائن حالية متصلة مانعة عن انعقاد الظهور للقرآن أو بقرائن منفصلة موجبة لعدم حجية ما كان ظاهرا بنفسه

والفرق بين هذا الوجه وسابقه هو ارتفاع المنع بانحلال العلم الاجمالي فيه دون سابقه.

هذا مع المنع عن العلم الاجمالي في السابق رأسا.

والجواب :

امّا عن الوجوه الراجعة إلى منع الصغرى :

امّا عن الوجه الاول : فبأنّ اشتمال القرآن على عظيم المعاني ونفائس المطالب واصول أحكام الأشياء ممّا يختلف [ فيه ] (٤) اثنان أو يحتاج إليه إنسان

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٠ الباب ٦ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٣٦ الباب ١٣ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥ ؛ الكافي ٨ : ٣١٢ الحديث ٤٨٥.

(٣) شرح الوافية ( مخطوط ) : ١٤٠ ـ ١٤٦ ، من مخطوطات مكتبة السيد المرعشي في قم ، برقم ٢٦٥٦.

(٤) في الاصل المخطوط ( اليه ).

٧٨

لا ينافي ظهور بعض الكلمات واشتمالها على معاني واضحة والمنع عن العمل بالظاهر ، مع انّه على تقدير تسليم ذلك يكون مثل ذلك من بطون القرآن غير المنافية مع ظهوره.

وامّا عن الثاني : فبعد العلم بعدم طرز جديد كما يظهر من قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) (١) يدفعه اشتماله على المواعظ والنصائح والقصص والحكايات والاحتجاجات على أهل الكتاب وغيره المنافية مع نزول القرآن على وضع جديد لا يعرفه أهل اللسان كما لا يخفى ؛ ويظهر ذلك من موارد ارجاع الأئمّة عليهم‌السلام أصحابهم إلى الاستدلال بظواهر الكتاب والاستشهاد بها في موارد كثيرة ، فراجع الفرائد. (٢)

وأمّا عن الثالث : فبأنّ العلم الاجمالي إنّما كان من أول الأمر بين أطراف معلومة وهي الموارد والمظان التي يمكننا الفحص عنها والظفر بما فيها من المخصصات والنواسخ وغيرها من الطوارئ.

وبعبارة اخرى : إنّما كان العلم الاجمالي بين أطراف بحيث لو تفحصنا عن مظان مخصصاتها لظفرنا بها ، فإذا تفحصنا عن طوارئ بعض الآيات في مظانّها لخرج ذاك البعض عن أطراف العلم الاجمالي سواء ظفرنا بمخصصاتها مع القطع بعدم مخصص آخر أم لم نظفر بها.

امّا على الاول : فواضح.

وامّا على الثاني : فللكشف عن عدم دخول ذاك البعض في اطراف العلم الاجمالي ، وإلاّ لظفرنا بطوارئه ؛ وبعبارة اخرى : كان اطراف العلم معنونة بعنوان كالعلم بغنم موطوءة في البيض واشتبهت بالسود وبعد الفحص ينكشف عدم كون

__________________

(١) سورة يوسف : ٢.

(٢) فرائد الاصول ١ : ١٤٥ ـ ١٤٩.

٧٩

المتفحص عنه داخلا في ذاك العنوان كما لو انكشفت السود عن البيض.

فان قلت : يعلم اجمالا بوجود الطوارئ في غير ما هو بأيدينا من الأخبار المعتبرة ايضا ، ولا يرتفع ذلك بالفحص في الأخبار المعتبرة.

قلت : مضافا إلى عدم تحقق علم اجمالي بالطوارئ في غير الأخبار المعتبرة ، انّه على تقدير التسليم إنّما يجدي لو علم بمخالفة ما تضمّن منها المخصص والمقيد مثلا مع الأخبار المعتبرة مضمونا ، ومع احتمال الموافقة في مثل تلك الأخبار لا يحصل علم اجمالي بأزيد من المقدار المعلوم بين الأخبار المعتبرة كما لا يخفى.

فان قلت : لو لم يعلم بوجودها في ضمنها بالخصوص فلا أقل من كونها من اطراف الاجمالي أيضا ، امّا بكون العلم الاجمالي ابتداء بين جميع الأخبار بلا علم في خصوص الأخبار المعتبرة فقط ، وامّا بعلم اجمالي كبير بين الجميع ولو مع الاجمالي الصغير في خصوص المعتبرة منها فمع هذا العلم لا يجدي الفحص في خصوص الأخبار المعتبرة ، لبقاء العلم معه أيضا ، وإلاّ لما أثر قبل الفحص أيضا.

قلت : مضافا إلى عدم تسليم العلم الاجمالي مضافا إلى العلم الاجمالي بين المعتبرة أولا وإلى عدم بقائه بعد الفحص والظفر بما كان بينها من المخصصات ثانيا ، انّه على تقدير التسليم مع بقائه بحاله بعد الفحص أيضا لا يجدي في التوقف والمنع عن العمل بالظواهر بعده كما كان كذلك قبله ، للفارق ، وهو كونه قبل الفحص من قبيل الشبهة المحصورة ، لكون الشبهة معه كثيرا في الكثير ، بخلافه بعد الفحص فانّه من قبيل الشبهة غير المحصورة لكون الشبهة معه قليلا في الكثير.

والحاصل : انّه بعد الفحص في الأخبار المعتبرة والظفر بالمخصصات الموجودة بينها لا مانع عن العمل بالظواهر من جهة العلم ، فتدبّر.

وامّا المنع الكبروي : فعلى تقدير تسليمه ، لا بدّ من حمل الأخبار الناهية

٨٠