تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

من الموارد المؤدّية إلى العلم التفصيلي بالحكم مع لزوم مخالفته كذلك.

فان قام (١) إجماع على جواز المخالفة أو نصّ قاطع عليها كذلك مع ما عرفت من عدم قابلية حكم العقل بوجوب اتّباع القطع التفصيلي فلا بدّ من التصرّف في إحدى المقدّمات المؤدّية إليه بوجوه من التصرفات كلّ في مورد خاصّ من مثل أن يقال بالتخصيص في عموم كون ثمن الميتة سحتا ، والحكم بجواز بيعه في صورة الاشتباه ، والحكم بملكية ثمنه حيث انّ الملكية قابلية للجعل من قبل الشارع.

وكذا الحال في مسألة الودعي والتداعي فانّه يخصص عموم حرمة مال الناس لغيرهم وعدم ملكيته لهم بصورة الاشتباه ؛ ومثل ان يقال في مسألة الائتمام :

بعدم مانعية الحدث إلاّ أن يعلم بصدوره من شخص خاص ، أو بمنع شرطية صحة صلاة الإمام لصلاة المأموم ، بل الشرط مجرد إحراز المأموم انّ الإمام يصلي على نحو لا يخلّ بما يجب عليه ظاهرا ولو ظهر بعد ذلك خلافه ، إلى غير ذلك من التصرفات. والحاصل : انّه بعد التصرف في احدى المقدمات المؤدية إلى القطع من العمومات والاطلاقات فلا علم تفصيلي يلزم مخالفته.

وأمّا ان لم يقم اجماع أو نص على جواز المخالفة فيتبع العمومات ويجتنب مخالفة العلم التفصيلي الناشئ منها كما لا يخفى.

هذا كله بحسب ما يتراءى من لزوم مخالفة العلم التفصيلي الناشئ من العلم الاجمالي في تلك الموارد ، وقد عرفت عدم لزومه أصلا.

وأمّا الكلام في حرمة مخالفة العلم الاجمالي بالتكليف بنفسه بدون أن ينشأ منه العلم التفصيلي وعدمها ، وبعبارة اخرى : في وجوب موافقته وعدمه ، فامّا الموافقة الالتزامية فقد عرفت عدم لزومها في العلم التفصيلي فكيف في العلم الاجمالي ، وأمّا الموافقة العملية فقد عرفت انّ العلم الإجمالي يقتضيها لو لا

__________________

(١) هذا وشقه الآخر الآتي بقوله : « واما ان لم يقم اجماع » جواب لقوله : « فما يتراءى » قبل عدة سطور.

٤١

الترخيص الشرعي في مخالفته والاقتحام في أطرافه في العلم بالحرام ولو لا الإذن في الترك في العلم الاجمالي بالواجب ؛ وأمّا الكلام في وقوع ذلك شرعا وعدمه فيتوقف على شمول أدلة الاصول العملية لأطراف العلم الاجمالي وعدمه ويأتي التكلم في ذلك في الشك في المكلف به في مبحث البراءة ان شاء الله.

٤٢

الظن

ثم انّه بعد الفراغ عن مباحث القطع شرعنا في المقصد الثاني وهو الظن.

قوله دام ظله : « فيقع المقال في ما هو المهم من عقد هذا المقصد وهو بيان ما قيل باعتباره من الامارات ». (١)

أقول التكلم فيه في مقامين : أحدهما في امكان التعبد به ، والثاني في وقوعه عقلا أو شرعا.

أمّا الأول : فالمعروف المشهور بل المحقق المنصور هو إمكانه ، ويظهر من الدليل المحكي في استحالة التعبد بخبر الواحد عموم الاستحالة لمطلق الظن.

وقبل الخوض في بيان مذهب المشهور إشكالا ودفعا لا بدّ من تقدمة يتبيّن بها المعنى المقصود من الامكان والامتناع الواقعين في محل النزاع من كونهما ذاتيين أو وقوعيين ، وهي انّه لا شبهة ولا اشكال في أنّ الحجية بالمعنى المعهود منها ـ المستتبعة (٢) للآثار المخصوصة عقلا من تنجيز متعلقه في صورة المصادفة وصيرورته عذرا عنه في صورة الخطأ المحكوم بوجوب اتباعه عقلا كما عرفت في القطع ـ ليست من لوازم ذات الظن وضرورياته بنفسه بلا انضمام أمر خارج عنه من مقدمات انسداد ونحوها به كما كانت من ضروريات القطع.

ويشهد عليه الوجدان فانّه يحكم بعدم صحة المؤاخذة والاحتجاج بمجرد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١٦.

(٢) جملة معترضة طويلة.

٤٣

الظن ؛ ويعلم ذلك بالمراجعة إلى العقلاء فانّهم لا يكتفون به عند عدم مقدمة اخرى في البين في التكاليف المتعلّقة من الموالي إلى عبيدهم لا إثباتا ولا اسقاطا ؛ كما انّ من المعلوم أيضا انّه لا يتأبّى ولا يتعصّى عن ذلك ذاتا بحيث يكون عدم الحجية من لوازم ذاته غير المنفكة عنه كي لا يمكن طروّها عليه أصلا ؛ كيف وقد تكون الحجية من مقتضيات ذاته كما في زمان الانسداد بعد تمامية المقدّمات ويحكم العقل أيضا بعدم كونه ذاتا ممّا يستحيل جعله حجة من قبل الشارع والحكم بوجوب اتّباعه كما كان كذلك النهي عن القطع بالتكليف الفعلي واجتماع النقيضين.

فظهر ممّا ذكرنا انّ طرفي النقيض من الحجية وعدمها ليسا من لوازم وجود الظن وضرورياته فتكون ذاته لا اقتضاء بالنسبة إلى كلا الطرفين وانّ الامكان والامتناع في محلّ النزاع ليسا ذاتيين بل امكانه الذاتي بمعنى كونه لا اقتضاء وفي حدّ سواء بالنسبة إلى الطرفين ذاتا لا ينكره أحد.

وليعلم أيضا : انّ الامكان الاحتمالي بمعنى احتماله عند عدم العلم به ممّا لا يشكّ فيه عاقل فضلا عن فاضل ولا يحتاج الحكم به إلى مئونة برهان بل يكفيه عدم الاطلاع على ما يوجب الاستحالة ، فالذي يصلح أن يكون محلا للنزاع هو الامكان بمعنى عدم ترتّب لوازم مستحيلة وتوال فاسدة عليه على فرض وجوده ، ومقابله الامتناع كما يشهد به ما استدل به ابن قبة (١) : من لزوم تحليل الحرام وعكسه بمعنى لزومها منه ويسمّيان بالامكان والامتناع الوقوعيّين ؛ والامتناع بهذا المعنى إنّما يلزم من ترتّب توال فاسدة على الشيء على فرض وجوده ، وهذا غير الامتناع الغيري الذي [ اصطلحوه ] (٢) على كون الشيء معدوما بعدم علته.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٠٥.

(٢) في الاصل المخطوط ( اصطلحوا ).

٤٤

ولا يخفى انّ الامكان في مقابله ممّا يتوقف الحكم به على مئونة برهان عليه حيث انّه كالامتناع من جهات القضية المتوقف كلّ منها على الدليل عليه وإلاّ فيكون الحكم به بمجرد عدم ما يوجب الاستحالة تخرّصا بالغيب وتحكّما بلا ريب وترجيحا بلا مرجح ، ولا دليل على كونه أصلا بالنسبة إلى ما يقابله كي يؤخذ به عند الشك إلى ان يقوم دليل على خلافه ، وحيث انّه لا يكون افراده اكثر من مقابله كي يحمل المشكوك على الأغلب ، وعلى فرض التسليم لا بدّ من التوقف أيضا لاحتمال كون المشكوك من النادر الموجب لعدم الحكم به لعدم كون الغالب أصلا للنادر بعد كون كل منهما جهة واقعية للقضية المحتاج في الحكم بطرفه من دليل على ثبوته ، وليس مجرد عدم الدليل على المنع طريقا يسلكه العقلاء في الحكم بالامكان كما أفاده الشيخ قدس‌سره. (١)

وأمّا العبارة المحكية من الشيخ الرئيس من قوله : « كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان » (٢) فمراده منها حمل المسموع عند عدم القطع بالامتناع على الامكان الاحتمالي الكافي فيه عدم الاطلاع على الطرفين ، وهو وان لم يحتج على تأسيس أصل إلاّ انّ الشيخ في مقام النصح على الامثال في زمانه وزماننا من انّه لا يحسن الانكار والاستغراب فيما لو ادّعاه مدّع بمجرد عدم الاطّلاع به مع عدم الدليل على منعه كما هو عادتهم ، لا انّه في مقام تأسيسه قاعدة لحمل المشكوك على الامكان واقعا بمجرد السمع ، وإلاّ فهو أجلّ من ذلك.

نعم دعوى القطع بالامكان الواقعي فيما نحن فيه باحاطة العقل بجميع

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٠٦.

(٢) الاشارات والتنبيهات ٣ : ٤١٨ ؛ وشرح المنظومة ، قسم الفلسفة : ٥١ في اواخر « غرر في ان المعدوم لا يعاد بعينه » ؛ والطبعة الحديثة ٢ : ٢٠٥.

٤٥

الجهات المحسّنة والمقبّحة وسائر التوالي الفاسدة والجزم بعدم لزوم تال فاسد عليه على فرض وجود التعبد وعدم المحذور فيما يترتّب عليه ، ليس ببعيدة ، حيث انّ هذه المسألة ليست بأعظم وأشكل من المسائل والمطالب المعضلة في الفلسفة وغيرها ممّا يحكم فيها بالقطع المتوقف على إحاطة العقل بتمام الجهات الواقعية.

ومما ذكرنا ظهر انّ الأولى في الحكم بالامكان هو ما ذهب إليه المشهور. وما جعله الشيخ رحمه‌الله أولى (١) من كفاية عدم الاطّلاع على ما يوجب المنع في الحكم به ليس بأولى ، ولا يجدي في محلّ النزاع أصلا.

نعم ان أبيت عن إحاطة العقل بتمام الجهات الواقعية فان قام دليل قطعي على وقوع التعبد بالظن فيستكشف منه اجمالا امكانه وعدم القبح فيه كما لا يخفى.

ثم انّك بعد ما عرفت من توقّف الحكم بالامكان بالمعنى المذكور [ على ] (٢) القطع بعدم لزوم تال فاسد على التعبد بالظن وعدم الاستحالة فيما يترتّب عليه فلا بدّ أوّلا من بيان ما هو حقيقة التعبد بالظن ثم بيان وجوه الاشكال الناشئة من توهّم ترتّب الامور المستحيلة أو استحالة الامور المترتبة عليه فنقول :

انّ التعبد بالأمارات :

امّا أن يكون بمعنى جعلها حجة على ما هو التحقيق من كون مثل الحجية والأمارة والملكية والوكالة ونظائرها الموضوعات لآثار خاصة شرعا أو عقلا كالحجية بالنسبة إلى وجوب الاطاعة وتنجيز الواقع والعذر عن مخالفته ، قابلة للجعل وعلى ما هو الظاهر من أدلّة اعتبار الأمارات من عدم الموضوعية فيها ولا

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٠٦.

(٢) في الاصل المخطوط ( الى ).

٤٦

انشاء أحكام شرعية على طبقها في قبال الأحكام الواقعية إلاّ جعلها حجة بالمعنى المذكور ، ويكون التعبير بوجوب التصديق بها تعبيرا باللازم العقلي.

وامّا ان يكون بمعنى انشاء الحكم الشرعي على طبق مؤداها بعنوان قيام الأمارة ، كما على القول بالموضوعية وعلى ما هو التحقيق في الاصول العملية من كون اعتبارها بمعنى انشاء حكم ظاهري شرعي على طبقها حيث انّ الظاهر من مثل : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » (١) انشاء الإباحة التكليفية في المشكوك الحكم ومن مثل : « كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر » (٢) انشاء الطهارة الشرعية في المشكوك.

فالتحقيق في الاصول أن يقال : [ انّ ] مؤداها أحكام واقعية شرعية ، غاية الأمر في المشكوك ، لا صرف الأحكام الصورية كما على التحقيق في الأمارات. والفرق : انّ الأمارات ناظرة إلى الواقع وحاكية عنه بلا نفسية فيها في قبال الواقع ، فان طابقت الواقع وإلاّ فيكون عذرا عنه ؛ دون الاصول لعدم نظر فيها إلى الواقع ، بل مفادها جعل الحكم في المشكوك الحكم الواقعي بعنوان كونه مشكوكا فان كان سند مثل : « كل شيء لك حلال » قطعيا فتكون الاباحة متحققة ، وإلاّ فلو كان بخبر واحد فيكون ظنيا أو مشكوكا ؛ فالحكم الظاهري فيها نظير الحكم الواقعي في الأمارات في كونه متيقّنا مرّة ، ومظنونا اخرى ، ومشكوكا بل موهوما ثالثة.

فاذا عرفت تحقق التعبد بكلا المعنيين أي : انشاء الحكم ؛ وجعل الحجية في الاصول والأمارات ؛ فلا بدّ من دفع الاشكالات المتوهّم ورودها بكلّ من الطريقين :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من ابواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، قريب منه.

(٢) في المصادر الروائية : « كل شيء نظيف ». وسائل الشيعة ٢ : ١٠٥٤ الباب ٣٧ من ابواب النجاسات ، الحديث ٤ ؛ تهذيب الاحكام ١ : ٢٨٤ ذيل الحديث ٨٣٢.

٤٧

أمّا على الحجية (١) فحيث انّه لم يكن ـ بناء عليه ـ انشاء حكم على طبق الأمارة يوافق الواقع مرّة ويخالفه اخرى كما عرفت ، فلا يرد عليه لزوم اجتماع المثلين أو الضدين واجتماع الإرادة والكراهة والحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة. نعم يرد عليه انّه يلزم من جعل الأمارة مع تمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالواقع لولاه الالقاء في المفسدة على تقدير قيام الأمارة على اباحة فعل كان محرّما واقعا ، وتفويت المصلحة على فرض قيامها على اباحة واجب واقعا. هذا بناء على العدلية من تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد في الأفعال.

وامّا بناء على مذهب الأشعري (٢) من عدم تبعيتها لذلك فلا بدّ أيضا من تعلّق غرض في الفعل وجودا في الواجب وعدما في الحرام ، فيلزم من الترخيص على خلافهما نقض الغرض منه تعالى.

وملخص الجواب عن ذلك :

امّا في صورة الانسداد فلا مناص عن ذلك لو فرض كون الأمارة المعتبرة أغلب المطابقة في نظره تعالى عن غيرها.

وأمّا في صورة الانفتاح فيلزم الالقاء والتفويت لو لم نقل بالتدارك ؛ وامّا لو قلنا عليه بايصال مصلحة إلى المكلف حينئذ بجعلها في الفعل أو خارجا يتدارك بها ما فات منه من مصلحة الواقع او ما وقع عليه من المفسدة ، فلا يلزم ذلك.

هذا مع انّه لا يلزم التدارك أصلا فيما لو دار الأمر :

بين تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة لبعض المكلفين بعد فرض اصابة الأمارة بالنسبة إلى الغالب.

__________________

(١) يأتي شقه الآخر بعد صفحات بقوله : « واما على القول بانشاء الحكم التكليفي ... الخ ».

(٢) تقدم تخريجه ، وقد قلنا هناك ان بعضهم يرى التبعية لكن موجبة جزئية. راجع شرح المقاصد ٤ : ٣٠٢ ؛ وشرح المواقف ٨ : ٢٠٢.

٤٨

وبين التسهيل ورفع العسر والحرج عن النوع ، فانّه مع كون مصلحة الثاني أهم امّا : باستقلال العقل كما فيما لو فرض لزوم العسر الموجب لاختلال النظام في المعاش والمعاد ، أو بالاستكشاف من دليل الشرع بالإن من مثل قوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) بالنسبة إلى العسر غير المستتبع لذلك ، فلا اشكال في عدم المحذور في جعل الأمارات حجة بل في لزومه لأهمية مصلحة التسهيل ولو بلا تدارك بالنسبة إلى من فاتت عنه المصلحة أو القي في المفسدة ، لعدم كون مثل هذا التفويت والالقاء قبيحا ؛ مع انّه يحصل لهذا الشخص ثواب الانقياد لو عمل بالأمارات كذلك.

والحاصل : انّه بناء على أحد الوجهين من لزوم التدارك ، أو أهمية مصلحة التسهيل فلا قبح في جعل الأمارات ولو لزم منه تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة بالنسبة إلى بعض المكلفين كما لا يخفى.

وتوهم : عدم الفائدة في جعل الحكم الواقعي حينئذ ؛ مدفوع : بتحقق الفائدة فيه فيما لو حصل العلم به أحيانا بلا تكلّف فيه.

ومحصّل الكلام : انّه بناء على جعل الحجية لا يحصل الاشكال في الفعل الذي قامت الأمارة على حكمه وإنّما يحصل الاشكال في نفس فعل الشارع وهو الجعل من حيث استلزامه التفويت والالقاء ولا أقل من نقض الغرض ؛ ولكنك عرفت عدم القبح من جهة مزاحمة قبحهما بمصلحة أقوى ، بل الوجه كفاية احتمال ذلك في ردّ استدلال القائل بعدم جواز التعبد بالظن وان لم يتيقن بتلك المصلحة.

نعم في مقام اثبات الامكان الواقعي لا بدّ من العلم بذلك :

امّا تفصيلا باحاطة العقل بالجهات الواقعية وقطعه بالمصلحة الراجحة.

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

٤٩

وامّا اجمالا باستكشاف ذلك من دليل الوقوع على تقدير قيامه على الحجية حيث انّه على ذلك يكون تشريع الشارع يكون (١) كسائر الافعال الموجّهة بالمصلحة غير المزاحمة أو الراجحة على المفسدة الواقعية بعد الكسر والانكسار في مقام التأثير ، ويستكشف تلك المصلحة على تقدير عدم العلم بها من حكم الشرع بقاعدة « كلّما حكم به الشرع حكم به العقل ».

كما انّ الحال على ذلك المنوال في الأفعال المتعلقات للأحكام غير المعلومة الجهة ، فتدبّر.

وليعلم : انّه بناء على جعل الحجية يبقى الاشكال في انّه مع الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على خلاف الواقع وجعلها حجة فكيف يتأتّى مع ذلك الطلب الفعلي بالنسبة إلى الواقع؟ وهو وان لم يكن باجتماع الضدين ، إلاّ أنّه من قبيل إيجاد المانع عن مطلوبه مع فعلية طلبه كما لا يخفى.

ولكنّه مشترك الورود بينه وبين القول بانشاء الحكم التكليفي على طبق مؤدّيات الأمارات ، ويأتي الجواب عن ذلك.

كما انّ كلّ ما يتوهم من الاشكال إنّما هو فيما كان التفويت أو الالقاء مستندا إلى فعله تعالى كما في صورة التمكن من العلم ، وامّا مع عدمه كما في حال الانسداد فلا اشكال أصلا ، لكونه حينئذ من قبيل الفوات.

إذا عرفت ما ذكرنا من عدم قبح الالقاء والتفويت مع عدم التدارك أصلا ، فمعه بطريق أولى. هذا على القول بالحجية.

وامّا على القول بانشاء الحكم التكليفي على طبق مؤدّيات الأمارات فالوجوه المتصوّرة فيه من الاشكال على قسمين :

__________________

(١) الظاهر أنها زائدة.

٥٠

أحدهما : ما يشترك بينه وبين القول بالحجيّة ، وهو ما مرّ من الالقاء في المفسدة وتفويت المصلحة ونقض الغرض ، والجواب الجواب.

الثاني : ما يختص بخصوصه ، وهو انّه بناء على جعل الحكم التكليفي على طبق مؤدّيات الأمارات بعنوان قيامها ، باستفادة ذلك من مثل : « صدّق العادل » وتحليله إلى أوامر حقيقية بعدد قيام الأمارة على الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين في أبواب الفقه ، غاية الأمر لا تكون تلك الأوامر نفسية كالأحكام الواقعية ، بل طريقية مولوية والأمر الطريقي نحو أمر حقيقي فعلي بين نفسي صرف بأن لم يلحظ فيه غير أصلا وغيريّ صرف بأن لم يلحظ فيه نفسية أصلا كما قرّر في محله.

[ و ] يرجع حاصل ذلك :

إلى اجتماع حكمين متضادين في الافعال على تقدير مخالفة الأمارة للواقع ، ومتماثلين على تقدير الاصابة.

وإلى اجتماع المصلحة والمفسدة المؤثرتين في حسن الفعل وقبحه المستتبعتين للوجوب والحرمة في الأفعال أيضا ، بناء على تبعيتهما للمصالح والمفاسد فيها.

وإلى اجتماع الارادة والكراهة بالنسبة إلى فعل واحد فيما إذا أدّت الأمارة إلى وجوب ما كان محرّما واقعا وبالعكس.

ولا شبهة في انّ كلا منها مضادّ مع مقابله فيلزم اجتماع الضدين من وجوه ، ولا يجدي فيه عدم القطع بمخالفة الأمارة للواقع حيث انّ احتمالها كالقطع بها في الاستحالة ، ولا يخفى انّ ما نحن فيه من قبيل النهي في العبادات حيث انّ الحكم الواقعي إنّما تعلّق بصلاة الجمعة مثلا مطلقة وحكم الأمارة المخالفة إنما تعلق بها مقيدة بعنوان قيام الأمارة على حكمه نظير « صلّ » و « لا تصلي الحائض » ولا

٥١

اشكال في استحالته ، فليس من قبيل اجتماع الأمر والنهي كي يبتني الجواز وعدمه في المقام على تلك المسألة.

نعم غائلة الاستحالة ترتفع بحمل الواقعيات على مرتبة الانشاء والحكم الطريقي على المرتبة الفعلية كما في الفرائد (١) وتعليقة الاستاذ (٢) دام ظله عليه مفصلا ؛ الاّ انّ الالتزام في جميع الواقعيات في موارد الأمارة ببقائها على مرتبة الانشاء مع استلزامه لعدم تنجزها ووجوب العمل بها ولو على تقدير العلم بها مستبعد في نفسه كما يظهر وجهه [ فيما يأتي ] (٣).

إذا عرفت وجوه الاشكال ، فالتحقيق : عدم ورود كلّ منها أصلا.

امّا مسألة اجتماع المصلحة والمفسدة المؤثّرتين في الحسن والقبح فلما عرفت من كون المصلحة في نفس الأمر الطريقي ، وبعبارة اخرى : في فعله تعالى وهو انشاؤه الحكم الطريقي ؛ والمصلحة والمفسدة في الأمر والنهي الواقعيين في متعلقهما وهو فعل المكلف فلا اجتماع في محلّ واحد كي يلزم اجتماع الضدين في مقام التأثير ؛ والتقييد بمقام التأثير من جهة عدم التضاد من حيث ذاتهما أصلا.

وأمّا مسألة الارادة والكراهة :

فبالنسبة إلى الواجب ليستا إلاّ مجرد العلم بالصلاح والفساد ، ومن الواضح أن لا تضاد في العلم بهما إلاّ من حيث المتعلق ، وقد عرفت اختلاف المحل فلا استحالة أصلا.

وأمّا بالنسبة إلى غيره تعالى فالتحقيق : انّ الإرادة والكراهة النفسانية المعبّر عنهما بالشوق المؤكّد ومقابله إنّما هما على طبق الحكم الواقعي ، وامّا

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٧٦ ـ ٧٧ ، والطبعة الحجرية : ٤٠.

(٣) في الاصل المخطوط ( آنفا ).

٥٢

بالنسبة إلى الأمر الطريقي فليس إلاّ صرف إيقاع الطلب وانشائه بلا إرادة نفسية بل ولا بعث حقيقي على طبقه ، فيرتفع التضاد. وتوضيحه يحتاج إلى بيان امور :

الأول : انّ الظاهر من أدلة اعتبار الأمارات من بناء العقلاء والأخبار ـ كما سيجيء ان شاء الله ـ اعتبارها من باب الطريقية بحيث لم يحدث في متعلقها بسبب قيامها مصلحة غير مصلحة الواقع إلاّ في الأمر بها من مراعاة الإيصال إلى الواقع غالبا والتسهيل ونحوهما لا الموضوعية كي يحدث في متعلقها بسببها ذلك ، بل كان حجيّة ظواهر الألفاظ أيضا من هذا الباب ، كما يظهر بالمراجعة إلى العقلاء.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّ جعل الطريق بالنسبة إلى الواقع إنّما يكون فيما وصل إلى المرتبة الفعلية كي يقتضي مصلحته الفعلية لجعل طريق للتوصّل إليها والإيصال إلى المطلوب غالبا ، وإلاّ فبدون ذلك لا معنى للطريق إلاّ جعل ما يوجب تتميم المصلحة وإيصالها إلى المرتبة الفعلية فيصير مأخوذا في موضوع الحكم الفعلي فيخرج عن الطريقية إلى الموضوعية كما لو أخذ العلم في موضوع الفعلية فلا يكون طريقا محضا وهو خلف.

الثاني : انّ للطلب ـ كما حقق في مبحث الطلب والارادة ـ مضافا إلى مفهومه الذهني أنحاء من التحققات وأطوار من الوجودات :

أحدها : تحقق مصداقه الحقيقي في النفس صفة لها وهو المعبّر عنه بالحب والبغض مرة ، والشوق المؤكّد ومقابله اخرى ، والارادة والكراهة ثالثة ؛ وكلها بمعنى.

ثانيها : تحققه في مقام الإنشاء بالوجود الانشائي وتشخصه بمشخصات المرتبة صونا لقاعدة « الشيء ما لم يتشخص لم يوجد » وان كان كليا بالنسبة الى مرتبة اخرى.

وثالثها : تحققه في الخارج مصداقا حقيقيا للطلب بالحمل الشائع ، ويكون

٥٣

تحققه نحو تحقق الامور الاعتبارية التي لا يكون بحذائها شيء في الخارج غير منشأ انتزاعها.

الثالث : انّ الوجود الانشائي والايقاعي خفيف المئونة حيث انّه يكفي فيه قصد مفهوم المنشئ باللفظ ، ولا بدّ في صدوره من الحكيم من داع عقلائي ، وهو يختلف بحسب المقامات فيكون :

تارة : بداعي التنجيز والتعجيز.

واخرى : بداعي السخرية والاستهزاء.

وثالثة : بداعي الامتنان.

ورابعة : بداعي الطلب الحقيقي وإرادة صدور الفعل في الخارج ؛ ويكون الانشاء بهذا الداعي ناشئا من الحب والشوق المؤكّد النفسي.

وخامسة : بداعي جعل الطريق بالنسبة إلى هذا الطلب الحقيقي ان لم يكن معلوما ولا منجّزا وان كان فعليا في الواقع ؛ ويكون الأمر الطريقي موجبا لصيرورته منجّزا في صورة المصادفة ويصير عذرا عنه في صورة الخطأ.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّ الانشاء والايقاع ان كان ناشئا من الإرادة النفسانية إلى الفعل وبداعي صدوره من المكلف في الخارج ، يكون سببا لتحقق الطلب الحقيقي في الخارج الذي هو مصداقه بالحمل الشائع ؛ وان لم يكن بهذا الداعي بل لغيره من الدواعي ، يكون محض الطلب الايقاعي بدون أن يصير حقيقيا ؛ ومن المعلوم انّه لو لم يصل بتلك المرتبة لم تحصل المنافاة والتضاد بينه وبين الطلب الحقيقي ولو كانا متعلقين بفعل واحد ، لما حقق من عدم المنافاة بين الطلب الانشائي والحقيقي البعثي.

والتحقيق : انّ الطلب الطريقي الذي لم يلحظ فيه غير تنجيز الواقع والايصال إليه في موارد الاصابة وجعل العذر في صورة الخطأ هو مجرد

٥٤

الطلب الانشائي بلا بعث على طبقه بمتعلقه بما هو متعلقه حتى في صورة الاصابة غاية ، الأمر في هذه الصورة يكون البعث متحققا على طبق الطلب الواقعي ، وحيث انّه لا علم للمكلف إليه ولا طريق كما في صورة الانسداد فأنشأ المولى طريقا غالب المطابقة بالنسبة إليه بداعي تنجّز الأمر الواقعي في بعض الصور والعذر فقط في بعض الصور كما في أطراف العلم الاجمالي حيث انّ التنجّز فيه مستند بالنسبة إلى نفس العلم ، فاذا كان الأمر الطريقي مجرد الحكم الانشائي غاية الأمر بالداعي المذكور بلا بعث وطلب حقيقي بالنسبة إلى متعلقه بما هو متعلقه كما في غير الأمر الطريقي من الأوامر التي ليست المصلحة فيها في متعلقها من الامتحاني والتعجيزي وغيرهما فلا تضاد بينه وبين الأمر الحقيقي النفسي كي يلزم منهما في الفعل اجتماع الضدين.

والحاصل : انّه بعد ما عرفت من كون المصلحة في الأمر الطريقي في نفس الجعل ، والمصلحة في الأمر النفسي في نفس الفعل ، وانّ أثر الأمر الطريقي مجرد التنجيز والعذر عن الواقع ، وأثر النفسي استحقاق العقاب على مخالفته عند تنجّزه واستحقاق المثوبة على موافقته ، وانّهما مختلفان في داعي الانشاء من حيث كونه في أحدهما الأثرين المذكورين وفي الآخر تحقق الفعل خارجا ؛ فيعلم انهما سنخان من الأمر بلا مماثلة لأحدهما ولا مضادته بالنسبة إلى الآخر.

فان قلت : فان تعلق حب على طبق الأمر الطريقي بالفعل المتعلق به ، فيلزم منه الإرادة الحقيقية بالنسبة إليه ، فيلزم اجتماع المثلين أو الضدين ، وإلاّ فكيف يصدر الانشاء؟ وكيف يحصل الأثران المذكوران من مجرد الانشاء بلا تحقق مصداق الطلب حقيقة؟

قلت : امّا الحب فيتعلق بما هو ذا مصلحة وهو نفس الانشاء والجعل في الطريق ، وأمّا الأثران فيتحققان من نفس جعله الانشائي الطريقي ؛ وان شئت قلت :

٥٥

لا فرق بين جعل الحجية والحكم الطريقي في عدم تحقق الطلب الحقيقي في الفعل ، غاية الأمر :

بناء على قابلية الحكم الوضعي للجعل كما هو المختار في المقام أيضا على ما نشير إليه ، فلا بدّ من الالتزام بجعلها ، ويترتّب عليه الأثر الطريقي عقلا.

وبناء على عدم قابليته للجعل ابتداء ، فلا بدّ من انشاء الحكم الطريقي بداعي أثر الحجة فينتزع منه الحجية ، ويترتب على ذاك الأمر ما هو أثر الحجة ؛ فالأثر لا يدور مدار الطلب الحقيقي ، ولا يلزم من عدم الطلب البعثي الناشئ من ارادة حصول الفعل في الخارج عدم كون هذا الأمر مولويا كما في الأمر الامتحاني.

ولكن الأظهر مع ما عرفت من معنى الأمر الطريقي وعدم منافاته مع الأمر الحقيقي هو الحجية في الأمارات ، لأنّه مع كون الالتزام بانشاء الحكم في الأمارات بعدد مؤدّياتها في قبال الحكم الواقعي مستبعدا في نفسه تكون الحجية هي المتعيّن من طريقة العقلاء في نصبهم الطريق للواقعيات كما هو ديدنهم في جعل الأمارة وسائر ما يكون قابلا للجعل عندهم ومنشأ للآثار الخاصّة بلا التزامهم بجعل حكم تكليفي في مواردها ؛ إلاّ أن يكون التعبير به منهم من جهة بيان ما هو لازمها عقلا ، كما لا يخفى. هذا كلّه في الأمارات.

وامّا الاصول : فالاحتياط وكذا الاستصحاب بناء على حجيته من باب طريقة العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة رعاية للواقع مع حمل دليل الشرع على امضاء طريقتهم يكون حجّيتهما من باب الطريقية بمعنى عدم مصلحة في مؤداها غير مصلحة الواقع ، ويكون مصلحتها في تشريعها ولو كان ذلك هو غلبة إيصالها إلى الواقع أو التسهيل على العباد ، فيكون حالهما حال الأمارات اشكالا وجوابا ؛ ومقتضى هذا الوجه في الاستصحاب عدم الاجزاء.

وامّا بناء على الالتزام بكون مفاده حكما نفسيا كما يظهر من بعض الأخبار

٥٦

الدالة على احراز الطهارة المستصحبة مع عدم سبق العلم بالنجاسة بحيث يظهر منه انّ في نفس عدم نقض اليقين بالشك مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، فمقتضاه الاجزاء.

ولكنه يرد عليه اشكال اجتماع المصلحة والمفسدة مع ما تستتبعانه من الحكمين المتضادّين في الفعل واجتماع الارادة والكراهة في نفس المولى.

وهكذا يرد الاشكال في أصل الاباحة بناء على الالتزام بكون الاباحة حكما حقيقيّا وترخيصا فعليا من الشارع حسب تحقق المضادّة بين الترخيص والحكم الواقعي الثابت على خلافه من الوجوب والحرمة ولو كانت المصلحة في طرف الاباحة في نفس التحليل من التسهيل ورفع المشقة ونحوهما كما في نفي الحرج والعسر من الدين الناشئين من المصلحة في نفس الجعل لا في الفعل ، غاية الأمر يكون الفرق بين الاباحة ونفي العسر بالتقييد في الحكم الواقعي في الثاني دون الأوّل.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّ رفع غائلة اجتماع الضدّين من البين من حيث المصلحة والمفسدة :

امّا في مورد الاباحة ، فباختلاف موردهما حيث انّ مصلحة الاباحة في نفس التحليل ومفسدة الحرمة الواقعية في نفس الفعل.

وامّا في الاستصحاب وان اتّحد موردهما على الوجه الأخير إلاّ انّ المضادّة ليست بينهما بذاتهما ، بل من حيث تأثيرهما في الارادة والكراهة.

ولكنّه يدفع : بأنّ الارادة والكراهة في الواجب ليستا إلاّ مجرد العلم بالصلاح والفساد بلا انقداح أمر آخر في ذاته المقدّسة فلا مضادة. نعم توجبان ذلك في المبادئ النازلة من مثل النفس النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا بدّ في مثل هذه المرتبة :

امّا من الالتزام بفعلية الحكم الواقعي بالمعنى المذكور في العلم الاجمالي

٥٧

من كون المصلحة الواقعية بنحو لو علم بها ليتنجّز بلا استتباع لارادة بعثية على طبقها ما دام الجهل ، لكون الارادة البعثية على طبق الحكم الظاهري مانعة عنها على طبق الواقع ، ومثل هذه الفعلية الواقعية لا مضادّة بينها وبين فعلية الحكم الظاهري البعثي.

وأمّا من الالتزام بكون الحكم الواقعي إنشائيا محضا مع تقييد فعليته بالعلم بالانشائي كما هو ظاهر الأدلة.

والفرق بين الوجهين : كون العلم في الأوّل موجبا لرفع المانع في الأوّل ؛ ومكمّلا لمصلحة الحكم في الثاني.

ولا يخفى انّ المضادة بين الترخيص في مورد الاباحة والإرادة أو الكراهة على خلافه على طبق الحكم الواقعي يقتضي الالتزام بمثل هذين الجوابين المذكورين في الاستصحاب.

وأمّا الجواب : بتعدد المرتبة بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي بتأخّر الموضوع في الأوّل عن الموضوع في الثاني بمرتبتين ، حيث انّ الموضوع في الحكم الظاهري المشكوك الحكم الواقعي المتوقف على وجود الموضوع وحكمه ثم الشك فيه بلا اتحاد في المرتبة ؛ فمدفوع :

بأنّ اختلاف المرتبة لا يجدي في رفع التضاد حيث انّ الحكم الظاهري وان لم يكن في مرتبة الواقع إلاّ أنّ الواقع يكون في مرتبته للزوم التصويب بدونه.

وهذا التوهّم كتوهّم ابتناء ما نحن فيه على مسألة اجتماع الأمر والنهي فيجوز الاجتماع بناء على الجواز في تلك المسألة ؛ وهو فاسد أيضا ، لما عرفت سابقا من كون المقام من قبيل النهي في العبادات فلا يجوز الاجتماع مطلقا ، فينحصر الجواب فيما ذكرنا من الوجهين ؛ هذا كلّه بناء على كون الاباحة والحكم الاستصحابي حكما حقيقيّا وترخيصا فعليا.

٥٨

وأمّا بناء على حمل أدلة الاباحة على مجرد الانشاء الصوري ، بأن يكون مفادها الارشاد إلى ما حكم به العقل من عدم الحرج وجواز الاقتحام عقلا في مورد الشك في الحكم وعدم البيان بالنسبة إليه ولو كان الواقع فعليا ، فلا إشكال ولا تضادّ كما هو واضح.

كما انه لو قلنا بكون الحكم الاستصحابي حكما طريقيا بمعنى عدم المصلحة فيه إلاّ الايصال إلى الواقع وعدم مصلحة على طبقه على خلافه كما عرفت في الأمارات ، فلا إشكال فيه أيضا على ما عرفت في الأمارات ويكون حاله حالها.

تذنيب : لا يخفى انّ ما ذكرنا في الاصول من رفع اشكال التضاد بحمل الواقعي على الانشائي والظاهري على الفعلي لا يتأتّى بالنسبة إلى الأمارات ، لأنّه بناء على اشتراط فعلية الحكم الواقعي بتعلّق الأمارة على مرتبة الانشائي فيلزم أن تكون الأمارات لمجرد الايصال إلى مرتبة الفعلية على تقدير اصابتها بالانشاء بلا تنجيز منها بالنسبة [ الى ] الواقع الفعلي ، فلا ملزم له ، حيث انّ الأمارات إنّما أخذت موضوعا للفعلية فلا طريقية بالنسبة إليها ، والفرض انّه لا علم باصابتها كي يصير العلم موجبا للتنجّز.

إلاّ أن يقال : بدلالة الأدلّة على كونها طريقا إلى الفعلي حذرا عن اللغوية بدونه ، فيوجب تنجّز الواقع.

ولكنّه مع استلزامه تنزيل مؤداها منزلة الواقع الفعلي ـ وبعبارة اخرى : جعل مؤداها حكما فعليا مطلقا أصابت أم لا ـ مع كون التنزيل من الخارج لا بنفس الأمارات لئلاّ يلزم اجتماع النظرين المتضادّين فيها ، يرجع إلى ما ذكرنا من كون رفع التضاد بحمل الأمارات على مجرد الحكم الطريقي غير المنافي مع الواقع

٥٩

الفعلي ، وحينئذ فلا حاجة إلى ما ذكره الشيخ (١) من اشتراط فعلية الواقع بقيام الأمارة عليه بعد الحاجة إلى ما ذكرنا ، ومع عدم الرجوع إليه بعدم الالتزام بطريقيتها ولو من الخارج فلا يجدي قيام الأمارة في التنجّز والزام العمل على الواقع أصلا فيوجب التفويت من غير تدارك ، لعدم الحكم النفسي فيها مطلقا أو في خصوص صورة الاصابة على ما فرضه قدس‌سره.

والحاصل : انّ الجواب في رفع التضاد بما ذكره الشيخ قدس‌سره (٢) بحمل الواقع على مرتبة الانشاء وتقييد فعليته باصابة الأمارة عليه غير مجد في تنجّز الواقع على تقدير عدم الرجوع إلى ما ذكرنا ، وغير محتاج إليه على تقدير ذلك.

هذا كلّه في الدليل الاول لابن قبة ودفعه.

وامّا الثاني : وهو انّه لو جاز بالاخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لجاز التعبد به عنه تعالى والتالي باطل بالاجماع فكذا المقدّم.

وفيه : انّ المدّعى في هذا الدليل :

لو كان هو الامتناع فلا يفيده.

وان كان هو عدم الوقوع فهو مع استلزامه المخالفة من حيث المدّعى بين الدليلين ـ إلاّ ان يكون المدّعى ذلك في الدليل الأوّل أيضا وكان التمسّك بما يفيده بطريق أولى ـ يدفعه :

انّ الاجماع على عدم الوقوع :

ان كان شاملا لمطلق التعبد بغير العلم فالأولى التمسك به لا بالقياس.

وان كان في خصوص المقيس عليه فالاجماع هو الفارق بين المقامين.

ثم إذا تبيّن عدم استحالة تعبد الشارع بغير العلم وعدم قبحه ، فيقع الكلام

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١١٤.

(٢) فرائد الاصول ١ : ١١٤.

٦٠