تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

وملزومه.

هذا كله في قاعدة الفراغ الجارية في فعل الشاك بنفسه.

وأمّا أصالة الصحة في فعل غيره لو كان صحيحه موضوعا لأثر بالنسبة إليه فقد عرفت صحة التمسك له بقوله عليه‌السلام : « كل شيء شككت فيه مما قد مضى الخ » الشامل باطلاق الشيء لفعل الغير فلا يحتاج إلى دليل آخر. نعم دلالة هذا الخبر إنّما هو بعد كون الغير فارغا عن العمل لا فيما كان في أثنائه ؛ إلاّ انّه يكون ملحقا به بعدم القول بالفصل.

وقد استدل بوجوه أخر :

الأول : الآيات :

منها : قوله تعالى : ( قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (١) بناء على تفسير « القول » بالاعتقاد ، حيث انّه عليه لا معنى للأمر بالاعتقاد الحسن في فعل الغير إلاّ ترتيب آثار الحسن.

ومنها : قوله تعالى : ( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ). (٢) وجه التقريب : ما عرفت.

ومنها : قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) بناء على كونه خطابا لعامة الناس ولو لغير الملاّك ، ولا أقل من شمولها لكل من كان صحة العقد موضوعا لأثر بالنسبة إليه.

ولا يضرّ في صحة التمسك بها احتمال كون الفاعل معتقدا لفساد فعله فكيف يجوز التمسك بها لاثبات الصحة؟ فلا بد من احراز كون الفاعل شاكا في صحة

__________________

(١) سورة البقرة : ٨٣.

(٢) سورة الحجرات : ١٢.

(٣) سورة المائدة : ١.

٥٤١

عمله ، لأنّ المناط في صحة الاستدلال بها كون المستدل المريد لترتيب الأثر شاكا في صحة العمل سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، حيث انّ الخارج منها « معلوم الفساد من العقود عند المكلف » فيبقى غيره تحته كما لا يخفى. ولا بأس بعلم غيره بالفساد.

ولكن التحقيق : عدم صحة التمسك بالآيات.

امّا الأوليان : فلكونهما في مقام الوعظ وحسن الخلق والمعاشرة مع الناس بلا دلالة لهما على ترتيب الآثار الواقعية. مضافا إلى ما في الثانية من عدم دلالتها إلاّ على عدم ترتيب آثار الفساد ، ولا ملازمة بينه وبين ترتيب آثار الفعل الحسن.

وأمّا الثالثة : فلكون الشبهة في مقام الشك في الصحة والفساد مصداقية فلا يجوز التمسك ، لما تقرر في محله من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. نعم لا بأس به فيما كان المخصص لبيا ، والمفروض عدم احراز منشأ الشك في صحة فعل الغير وفساده.

الثاني : الأخبار :

فمنها : ما في الكافي (١) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا ». (٢)

ومنها : قول الصادق عليه‌السلام لمحمد بن الفضيل : « يا محمد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فان شهد عندك خمسون قسامة انّه قال وقال لم أقل فصدقه وكذبهم ». (٣)

ومنها : ما ورد مستفيضا من انّ « المؤمن لا يتّهم أخاه » (٤) وانّه « إذا اتّهم أخاه

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٦٢ كتاب الايمان والكفر باب التهمة وسوء الظن ، الحديث ٣ بتفاوت يسير.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٦١٤ الباب ١٦١ من ابواب احكام العشرة ، الحديث ٣ بتفاوت يسير.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ٦٠٩ الباب ١٥٧ من ابواب احكام العشرة ، الحديث ٤ باختلاف.

(٤) الخصال ٢ : ٦٢٢ ضمن حديث الأربعمائة ، وفيه : « المؤمن لا يغش أخاه ولا يخونه ولا يخذله ولا يتهمه ».

٥٤٢

انماث الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء » (١) وانّ « من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما » (٢) إلى غير ذلك من الأخبار.

ولكن الانصاف عدم دلالتها إلاّ على انّ الفعل الصادر من المسلم لا يكون على وجه قبيح عنده كما لو دار الصادر منه بين المحرّم القبيح وبين الجائز المباح ، بل لا بدّ من حمله على صدوره على وجه مباح بلا دلالة لها على ترتيب الآثار الواقعية سواء كان الفعل الصادر منه مما له أثر واقعا للشاك كما لو دار كلامه بين السلام والسبّ أو بين البيع الصحيح والربا ، أو لا كما لو دار كلامه بين السبّ وقراءة القرآن مثلا. ويشهد على ذلك تكذيب خمسين قسامة في مقابل الواحد في رواية محمد بن الفضيل حيث انّه لا يصح حملها على التكذيب الواقعي وترتيب آثاره على الخمسين فانّه ترجيح المرجوح على الراجح ، بخلاف ما لو حملت الرواية على مجرد الحمل على عدم ارتكاب القبيح فانّه لا منافاة بين حمل كل من الواحد ، والخمسين ، على ذلك ويكون المراد من التكذيب حينئذ عدم ترتيب آثار الواقع على قولهم بتفسيق الآخر وحدّه مثلا ، هذا.

مع انّه على تقدير تسليم دلالة الرواية على ترتيب الأثر فلا بدّ من ترتيب أثر يكون جمعا بين الطرفين بل نفعا لهم بقرينة رواية اخرى في مقام مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله عليه‌السلام : « يصدق للمؤمنين » (٣) ؛ والأثر النافع للمجموع في مثل مورد الرواية عدم التكذيب الصوري بل القبول الصوري لكل من الطرفين وعدم الثقة والائتمان

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٦١٣ الباب ١٦١ من ابواب احكام العشرة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٦١٤ الباب ١٦١ من ابواب احكام العشرة ، الحديث ٢.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٩٥ الحديث ٨٣ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤ الحديث ٦١ ، لكن في كليهما : « يصدق المؤمنين ».

٥٤٣

بذاك القائل الواحد في مقابل الخمسين. ولا ربط له أيضا بما نحن فيه من ترتيب الآثار الواقعية ؛ مع انّه على تقدير تسليم دلالتها على ترتيب جميع الآثار الواقعية فهي أخص من المدّعى أيضا حيث انّ المقصود اجراء أصالة الصحة في فعل الغير مطلقا مسلما كان أو كافرا ، وهي تدلّ على حمل خصوص المسلم بمقتضى أخذ الاخوّة الإيمانية في الموضوع ولا يصح الاستدلال بالنسبة إلى فعل غير المسلم بعدم القول بالفصل ، لأنّه إنّما يتمّ فيما لم يكن ضد المناط المذكور في مورد الرواية وهو الاخوّة موجودا في غيره كما فيما نحن فيه حيث انّ الكفر مناف لحمل فعله على الصحة بملاك الاخوّة.

الثالث : الاجماع القولي الحاصل من تتبع فتاوى الفقهاء ، والعملي الحاصل من سيرة المسلمين في جميع الأعصار على معاملة الصحة في فعل الغير عند الشك في صحته وفساده فيما كان موضوعا لأثر شرعي للشاك.

ولكن الانصاف عدم تمامية الاجماع وعدم استكشافه عن تلقّي المتفقين هذا الحكم عن المعصوم عليه‌السلام بعد احتمال استناد جلّهم أو بعضهم إلى الأخبار والآيات أو إلى حكم العقل بملاك اختلال النظام لو لا اجراء أصالة الصحة في فعل الغير أو بناء كافة العقلاء على ذلك فلا بدّ من ملاحظة تمامية دليل العقل وبناء العقلاء.

والإنصاف : انّ الاختلال اللازم من عدم اجراء أصالة الصحة أشد من الاختلال الحاصل من عدم حجية اليد أمارة على الملكية ، من جهة اجرائها ـ مضافا إلى موارد اليد ـ فيما كان الشك في صحة سببها وفساده بناء على عدم كونها أمارة إلى الصحة في العبادات والمعاملات فيحكم العقل ببطلان ما يستلزم الاختلال وهو عدم اجراء أصالة الصحة وصحة نقيضه وهو الاجراء ، هذا.

مع انّه يظهر من كلام الإمام عليه‌السلام انّ الاختلال باطل عقلا لقوله عليه‌السلام في مقام

٥٤٤

حجية اليد : « ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق » (١) بل لا يبعد انّ الاختلال في المقام أشدّ من الاختلال الناشئ من عدم حجية ظواهر الألفاظ التي لا اشكال في حكم العقل بحجيتها لو حصل الاختلال من عدمها.

وان أبيت عن حكم العقل تفصيلا يكون هذا القدر من الاختلال علة تامة لحجية أصالة الصحة ، فلا اشكال في بناء العقلاء كافة على اجرائها في فعل الغير سواء كان بملاك الاختلال تعبدا أو من جهة الظن النوعي على صحته ؛ مع كون ذاك البناء من زماننا هذا إلى زمان المعصوم عليه‌السلام بلا ردع عنه عليه‌السلام مع كثرة الحاجة والابتلاء ، فيستكشف القطع بعدم ردعه واقعا عن هذه الطريقة كما لا يخفى.

ثم الفرق بين سيرة المسلمين المسمى بـ « الاجماع العملي » وبين بناء العقلاء : انّ الحكم المستفاد من الاول حكم تأسيسي من المعصوم عليه‌السلام مستكشف منه قولا أو فعلا أو تقريرا مختص بخصوص المسلم ، وامّا المستفاد من الثاني هو حكم عام عقلائي امضائي من المعصوم عليه‌السلام.

والحاصل : انّه لا اشكال في حجية أصالة الصحة في فعل الغير في الجملة.

وإنّما الكلام يقع في امور :

الأول : انّ المحمول عليه فعل الغير :

هل هو الصحة الواقعية في مقام دوران الأمر بين هذه الصحة ـ فيما كانت موضوعا لأثر شرعي ـ والفساد؟

أو الصحة عند الفاعل فيما دار الأمر بينها وبين الفساد فيما كانت تلك الصحة موضوعا لأثر شرعي للحامل أيضا؟

أو كليهما؟

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٥ الباب ٢٥ من ابواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ، الحديث ٢.

٥٤٥

والظاهر : انّه لا اشكال في دلالة الأدلة من السيرة ولزوم الاختلال على الحمل على خصوص الصحة الواقعية دون الصحة عند الفاعل ، ولا أقل من كونها المتيقن. ولا عكس ، لبقاء الاختلال على تقدير الاقتصار على الصحة الفاعلية ، لندرة كونها موضوعا للأثر للغير ، وغلبة كون الصحة الواقعية موضوعا للأثر الشرعي للحامل ، وعدم البقاء على تقدير الاقتصار على خصوص الصحة الواقعية كما لا يخفى. ولا يخفى انّ بناء العقلاء معلوم أيضا بالنسبة إلى حمل فعل الغير على الصحة الواقعية وغير معلوم بالنسبة إلى الصحة الفاعلية فاللازم الاقتصار عليه ولزوم ترتيب آثار الصحة الواقعية على الحامل فهذا مما لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في اشتراط علم الحامل بعلم الفاعل للصحة الواقعية عند الحامل أو جهله بحاله وعدمه.

والظاهر جريان السيرة على أصالة الصحة ولو مع علم الحامل بجهل الفاعل ولكن مع احتماله الصحة الواقعية في فعله ، وكذلك مع علمه بمخالفة الفاعل له ولكن بنحو التباين الجزئي بحيث يحتمل صدور الفعل عنه على طبق ما هو الصحيح عنده ، هذا.

مضافا إلى لزوم الاختلال على تقدير عدم اجراء أصالة الصحة في الصورتين الأخيرتين والاقتصار على الأولين ، إذ غالب موارد الشك في فعل الغير جهل الحامل بحاله أو علمه بفساده. نعم على تقدير الاقتصار على بعض الصور يرتفع الاختلال ، إلاّ انّ ترجيحه على بعض آخر وتعيينه من بين الصور بلا معين. هذا مع جريان السيرة في الجميع.

نعم لا يبعد عدم لزوم الاختلال على عدم الحمل فيما علم بالمخالفة على نحو التباين الكلي وان احتمل في فعله الاتفاق اتفاقا.

وعلى كل حال فالظاهر عدم الاشكال في انّ السيرة إنّما هو بالنسبة إلى

٥٤٦

الصحة الواقعية.

وأمّا ما عن المدارك في شرح قول المحقق : (١) ولو اختلف الزوجان فادّعى أحدهما وقوع العقد في حال الاحرام وأنكر الآخر فالقول قول من يدّعي الاخلال ترجيحا لجانب الصحة ، قال : « انّ الحمل على الصحة إنّما يتمّ إذا كان المدّعي لوقوع الفعل في حال الاحرام عالما بفساد ذلك امّا مع اعترافه بالجهل فلا وجه للحمل على الصحة » (٢) انتهى ، فالظاهر من اشتراطه علم العاقد بالفساد حال الاحرام إنّما هو من جهة اشتراط علمه بالصحّة في أصالة الصحة لا من جهة كون الصحة المحمول عليها هو الصحة عند الفاعل وهو لا يتحقق إلاّ مع علمه بالصحة والفساد.

ثم انّ ما قلنا : من الحمل على الصحة في صورة جهل الفاعل ، إنّما هو إذا لم يكن الجهل مجامعا مع التكليف بالاجتناب وأمّا معه كما في بيع أحد المشتبهين بالنجس أو الميتة فلا اشكال في عدم جريان أصالة الصحة ، حيث انّه مع العلم الاجمالي بأحدهما يكون البيع باطلا ممّن كان عنده العلم الاجمالي. نعم لو لم يعلم بكون الفاعل عالما اجمالا بل احتمل في حقه العلم بالنجس أو الميتة الواقعيين فيحمل على الصحة لو احتمل كون المشتري كذلك أيضا. وأمّا لو كان المشتري عالما اجمالا فيحمل خصوص الايجاب على الصحة لا الشراء.

فمن هنا ظهر : انّ الحامل العالم اجمالا بكون أحد المشتبهين ميتة لا يصح له الشراء بنفسه ولا ممن كان مثله في العلم الاجمالي ، ويصح له ذلك مع عدم علمه بعلم المتبايعين كذلك واحتماله في حقهما العلم التفصيلي بخصوص النجس من المشتبهين.

__________________

(١) شرائع الاسلام ١ : ٢٤٩ « تفريع : الاول : اذا اختلف الزوجان .... ».

(٢) مدارك الاحكام ٧ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

٥٤٧

وسرّه : انّ العالم اجمالا كالعالم تفصيلا ببيع النجس في عدم صحة البيع أو الشراء الصادر منه ، بخلاف من احتمل في حقه العلم بعدم وقوع البيع منه على النجس فلا بدّ فيما ذكرنا عدم كون البيع واقعا على كلا المشتبهين بل بالنسبة إلى أحدهما ، وإلاّ فلا حمل أيضا كما لا يخفى.

الأمر الثاني : انّه لا بدّ في اجراء أصالة الصحة في الموضوع الذي يترتب عليه الأثر من احراز وجوده وصدوره من الفاعل بحيث كان الشك في وجدانه جميع ما يعتبر في صحته وترتب الأثر عليه. وأمّا لو كان الشك في أصل وجوده كمن يرى انّه يأتي بصورة الصلاة ولكن لا يعلم انّه بصدد امتثال أمره الشرعي والاتيان بما هو المعتبر واقعا أو بصدد التعليم أو العبث بصورة الصلاة فلا يجري الأصل في حقه ، لعدم احراز فعل الصلاة المأمور بها كي يحمل على الصحة لو شك في صحتها. نعم لو علم الاتيان بها بمقوماتها المعتبرة في العنوان بقصد المأمور به واسقاط الأمر ثم شك في الاخلال ببعض ما يعتبر في صحته من الاجزاء والشرائط غير المقومة لا بأس بجريان الأصل كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر : انّه لا بدّ في اجراء الأصل في العقود والايقاعات من احراز تحققها من الموجب والقابل وان يكون الشك في الاخلال ببعض ما لا يتقوم بها من شرائط صحتها شرعا.

فمن هنا يتأتّى الاشكال في جريان الأصل فيما لو علم بصيرورة المتعاقدين في صدد العقد أولا ثم شك إنّهما هل قصدا بما تلفظا به المعنى؟ أو تلفظا بغير قصد؟ أو شك إنّهما قصدا [ التوصل ] (١) إلى حقيقة العقد بعد ارادة المعنى؟ أو قصدا معنى اللفظ بداعي الهزل أو التورية ونحوهما من غير قصد

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( التوسل ).

٥٤٨

[ التوصل ] (١) إلى الحقيقة جدا؟ حيث انّه مع الشكين يكون الشك في تحقق العقد ، لكون القصد مقوما لحقيقته عقلا لا معتبرا في صحته ، والحال انّ بناء العرف والعقلاء على الأصل.

ولكنه يدفع الاشكال : بأنّ وجود العقد في مثل هذه الموارد محرز باصول اخرى عقلائية :

من أصالة كون التلفظ بقصد المعنى لا لغوا وخطأ.

وأصالة كون ارادة المعنى بداعي تحققه واقعا إخبارا في مقام الإخبار وانشاء في مقام الانشاء ، لا بداعي آخر من هزل ونحوه.

فلولا هذه الاصول لما كان لأصالة الصحة في هذه الموارد معنى.

وما قلنا : من اشتراط الاحراز في الجريان إنّما هو أعم من الاحراز بالوجدان أو بأصل معتبر آخر غير أصالة الصحة ، وإنّما المقصود تعيين مجرى أصالة الصحة وانّها لا تجري إلاّ فيما شك في الاخلال بما يعتبر في الصحة لا في القوام والتحقق. نعم سنشير إلى ما يوهم خلاف ذلك مع دفعه.

ثم انّ ما قلنا : من احراز الوجود في الموارد المذكورة بأصالة القصد الجدّي في المتلفظ في مقام الانشاء إنّما هو من باب الظهور من حال العقلاء فلا بدّ من أن يكون مثل هذا الظهور حجة ولو ببناء العقلاء مع عدم ردع الشارع عنه ، والقدر المسلّم من حجية الظهور إنّما هو ظهور اللفظ ، وأمّا ظهور الفعل فلا ، ولا أقل من عدم الاحراز ؛ فحينئذ لو حصل القبض والاقباض من مالكي الثمن والمثمن في مقام كان ظاهره انشاء معنى البيع بالتعاطي بلا علم بذلك منهما يشكل اجراء الأصل ، لكون الشك في أصل الوجود بلا أصل معتبر يحرز به ذلك كي

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( التوسل ).

٥٤٩

تجري بعد ذلك أصالة الصحة لو شك في الصحة ، لعدم احراز بناء العقلاء على الأخذ بظهور الفعل.

ثم انّه لو شك في كون الانشاء الجدّي في العقد اللفظي بداعي الطيب النفساني أو بداعي الإكراه فلا شك في الحمل على عدم الاكراه ؛ وأمّا انّه من جهة الأصل العقلائي المحرز للوجود؟ أو من جهة أصالة الصحة؟

فالتحقيق : انّه مجرى لهما ، وانّ الاكراه غير الواصل إلى حدّ الاجبار ليس بمخل في تحقق قوام العقد عرفا وان اعتبر في صحته شرعا بمثل قوله عليه‌السلام : « لا يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب نفسه » (١) ونحوه. ولكنه لو لا حجية أصالة الصحة أيضا لكان بناء العقلاء على عدم الحمل على الاكراه ، بل على الطيب كما لا يخفى.

ثم انّ المراد بمقومات الوجود : ما كان له دخل في العمل الذي يترتب الأثر عليه شرعا ؛ وبعبارة اخرى : في الموضوع الذي كان له عنوان عرفا بحيث ينتفي الوجود بدونه ، فكل ما اعتبر في ترتب الأثر بعد ذلك إنّما هو من الامور المعتبرة في ترتب الأثر شرعا.

ولا يشكل على الصحيحي : انّ جميع الاجزاء والشرائط كذلك ، حيث انّه كذلك في مقام التسمية واطلاق اللفظ حقيقة لا في مقام تحقق المأمور به وجودا ولو بالمسامحة العرفية ، كيف ووجود الجامع الذي يكون له فردان صحيح وفاسد ـ بحيث يصدق على كل منهما عرفا ـ معتبر في موضوع نزاع الصحيحي والأعمّي كما لا يخفى.

ثم انّ ما ذكرنا : من جريان أصالة الصحة فيما لو شك في الامور غير

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٤ الباب ٣ من ابواب مكان المصلي ، عدة احاديث بهذا المعنى ؛ الكافي ٧ : ٢٧٣ كتاب الديات ، باب القتل ، الحديث ١٢.

٥٥٠

المقومة للماهية عرفا ، لا فرق في كونها من جملة الأركان المعتبرة شرعا كالبلوغ ونحوه أو من غيرها كالشرط المفسد مثلا ، حيث انّ المناط أن يكون الشك في الصحة بعد احراز الوجود.

فما عن المحقق الثاني : (١) من التفصيل بين الأركان من مثل البلوغ ونحوه وغيره بالانكار في الأول دون الثاني فلا وجه له بعد اشتراك البلوغ مع غيره في عدم الاعتبار في التحقق وكون الشك فيه في الصحة ، ولذا جرت السيرة على الصحة في المعاملات الصادرة سابقا من المكلف لو شك في كونها قبل البلوغ أو بعده ، وكذا في معاملات غيره.

نعم لو كان المعدود من الأركان من جملة ما يعتبر في قوام البيع عقلا كالتميّز ، أو عرفا مثل المالية في المبيع فلا يبعد عدم جريان الأصل فيما لو شك في كون ما وقع عليه العقد حرا أو عبدا ، لعدم تحقق حقيقته العرفية على تقدير وقوعه على الحر. نعم لو كان المبيع مالا عرفا ـ وان لم يكن مالا شرعا ـ مثل الخمر لو شك في كون المبيع خمرا أو خلا فلا شك في اجراء أصالة الصحة فيه. وعلى أي حال فلا وجه لتفصيل المحقق [ الثاني ] في مثل البلوغ.

وأمّا ما في الفرائد قدس‌سره (٢) من تصحيح كلامه فيما كان الفعل الصادر من شخص واحد شك في بلوغه وعدمه كالضمان فيما لم يكن بقبول من المضمون له ولا بحوالة من المضمون عنه فلا يجري الأصل لو شك في بلوغ الضامن ، لا فيما لو كان له طرف آخر كان بالغا يستلزم أصالة الصحة في فعله صحة فعل المشكوك في بلوغه.

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

٥٥١

فمدفوع بما سيجيء : من عدم حجية المثبت من أصالة الصحة وعدم اثبات أصل الصحة في شيء إلاّ الأثر الذي يترتب على نفس ذاك الشيء ، لا على المركب منه ومن غيره.

[ الامر ] الثالث : انّه يثبت بجريان أصالة الصحة في كل شيء كان مجرى لها من جهة الشك في الاخلال ببعض ما يعتبر فيه الآثار المترتبة عليه المرغوبة منه ، لا الآثار المترتبة على غيره والمرغوبة من غيره ، أو المترتبة على المركب منه ومن غيره. مثلا لو شك في صحة الايجاب ، يترتب بأصالة الصحة فيه أثره المترتب على نفسه وحده وهو كونه بحيث لو انضمّ إليه القبول لحصل منهما أثر العقد.

وبعبارة اخرى : الصحة التأهلية لا الفعلية المرتبة على المجموع ؛ فلو شك في الاتيان بالقبول لا يكفي في اثبات أثر العقد اجراء أصالة الصحة في الايجاب.

وكذا لو شك في تحقق القبض في المجلس في الصرف والسلم لا يثبت بأصالة الصحة في العقد الأثر المترتب على المجموع منه ومن القبض لو اعتبر القبض في الشرع جزء السبب المؤثر.

نعم لو اعتبر شرطا في تأثير العقد بحيث كان السبب التام المؤثر في النقل والانتقال هو العقد وحده ويكون القبض شرطا في تأثيره لا جزء السبب تجري أصالة الصحة في العقد ويترتب عليه النقل والانتقال وان كان الشك في القبض ، ولكن لا يثبت به عنوانه كي يجدي في الآثار المترتبة على خصوص عنوان القبض.

ومثل القبض في المجلس في الصرف قبض الموهوب في الهبة ، والتشاجر المنجرّ إلى الخراب في بيع الوقف ، والاجازة من المالك في بيع الفضولي ، لو شك

٥٥٢

في تحقق كل من هذه الامور فانّه لا تجدي أصالة الصحة في العقد في الأثر المترتب على المجموع منه ومن واحد من هذه الامور على تقدير اعتباره جزء السبب المؤثر. نعم لا بأس باجرائها في المعاملة والمبايعة الصرفية أو البيع الوقفي مثلا حيث انّ القبض أو التشاجر مثلا وان اعتبرا خارجا عن العقد في عرضه ولكن كانا معتبرين في صحة المعاملة المركبة من العقد ومن سائر ما اعتبر جزء السبب.

وبعبارة اخرى : كانت المعاملة تمام السبب للنقل والانتقال فيشك في صحته من جهة الشك في الاتيان ببعض ما اعتبر فيها جزءا أو شرطا بشرط أن لا يكون مما يتقوم به عنوان المعاملة عرفا كالقبض في الصرف والتشاجر في الوقف ، لا كالايجاب أو القبول مثلا.

نعم لا تجري أصالة الصحة ولو في المعاملة فيما شك في الاجارة حيث انّه يجري الأصل فيما كان منشأ الشك في الصحة من فعل واحد من المتعاملين حتى يحرز بظهور كونهما في صدد المعاملة الاتيان بجميع ما اعتبر فيها ؛ وأمّا لو كان من فعل الغير كالاجارة مثلا فلا يحرز ذلك ولو بالظن النوعي ولم يكن عليه بناء العقلاء أيضا.

ثم انّ ما ذكره شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه في الفرائد : (١) من عدم جريان أصالة الصحة فيما كان أصل وضعه على الفساد كبيع الوقف مثلا فلا يخفى ما فيه ، حيث انّ المراد من وضعه على الفساد لو كان أصالة الفساد فيما شك في صحة المعاملات فلا يختصّ ذلك بخصوص الوقف ونحوه ، إذ الأصل الأولي في كل معاملة هو الفساد ، وإلاّ فليس فيه أصل ثانوي كان مبناه على الفساد غاية الأمر كان

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٦٤.

٥٥٣

الشرط في صحة المعاملة في الوقف مثلا أكثر من غيره. ومجرد ذلك لا يوجب الاختلاف في اجراء الأصل فيما أحرز جميع ما يتقوم به عنوانه وكان الشك في الامور المعتبرة شرعا في صحته.

ثم انّه قد ظهر مما ذكرنا : انّه لا تجري أصالة الصحة في كل من : إذن المرتهن ، ورجوعه ، وبيع الراهن فيما لو تحقق كل منها مع كون البيع والرجوع بعد الاذن ولكن مع الشك في تقدم واحد منهما على الآخر فانّه يشك حينئذ في وقوع البيع مع رضاء المرتهن وعدمه فلا يثبت بأصالة الصحة فيه كونه مع إذنه كما عرفت في الفضولي. نعم صحته بمعنى لو وقع برضا المرتهن او لحق عليه اجازته لكان صحيحا لا ضير فيه ولكنه لا يترتب عليه الأثر الفعلي للمعاملة ولا يثبت ذلك بأصالة الصحة في الاذن أيضا حيث انّ أثره المترتّب عليه بالأصل إنّما هو التأهل بمعنى انّه لو وقع بعد الاذن الصحيح بيع الراهن لكان مؤثّرا لا انّه يكون فعلا كذلك.

كما انّه لا يثبت بأصالة الصحة في الرجوع كون البيع فاسدا حيث انّ أثره الفساد التأهلي أيضا بمعنى انّه لو وقع بعده البيع لا قبله لكان فاسدا إلاّ انّه كذلك فعلا ، هذا.

مع انّه قد يشكل في أصل أصالة الصحة فيه لو شك في تقدمه على البيع أو تأخره عنه ، حيث انّه لا بدّ بعد اشتراط احراز العنوان في الأصل المذكور احراز امكان الاتصاف بالصحة أيضا ، غاية الأمر كان الشك في وقوعه بصفة الصحة الفعلية المرغوبة منه كما في اذن المرتهن ابتداء في البيع سواء وقع بعده البيع أم لا وأمّا الرجوع المذكور فليس كذلك ، حيث انّه لو كان واقعا بعد البيع المسبوق بالاذن فلا يمكن اتصافه بالصحة بل يكون لغوا محضا. نعم لو كان سابقا عليه فيكون ممكن الصحة باجتماع شرائطه الاخرى فهنا يكون الشك في امكان صحته ، فليس

٥٥٤

مجرى للأصل المذكور ظاهرا.

نعم لو أحرز عدم وقوع البيع متقدما على الرجوع ولكن شك في سائر ما اعتبر فيه شرطا فلا بأس باجراء أصالة الصحة فيه لاثبات الصحة التأهلية ، ويترتب عليه الصحة الفعلية لو ثبت وقوع البيع بعده.

ثم انّ هذا كله في صحة موضوع الأثر في مقام العمل وترتيب الأثر بنفسه بلا ترافع وتشاجر في البين. وأمّا لو كان مرافعة ومشاجرة في البين فسيأتي حكمه من اجداء أصالة الصحة فيه وعدمه.

[ الامر ] الرابع : انّ الثابت بأصالة الصحة في كل فعل إنّما هو نفس صحته بآثاره الشرعية ، امّا ما يترتب من الأثر الشرعي على ما يلازمه أو ملزومه ومما يتوقف عليه الصحة فلا. مثلا يثبت بأصالة الصحة في الصلاة كونها تامة الاجزاء والشرائط بنحو يسقط الأمر ، وأمّا الحكم بوجود الطهارة فيما كان منشأ الشك هي الطهارة بحيث يحكم بصحة الصلاة وصحة كل ما يتوقف عليها فيما بعد فلا. كما انّه يحكم بصحة البيع ولو كان منشأ الشك هو بلوغ البائع ، دون ثبوت عنوان البلوغ كي يجدي في سائر الآثار المترتبة عليه.

وبناء على ذلك : فلو شك في صحة الشراء من جهة وقوعه على عين من جملة أموال البائع ، أو على الخمر ، فيحكم بصحته دون انتقال تلك العين منه إلى المشتري.

ووجه ما ذكرنا : اختصاص دليل أصالة الصحة بالنسبة إلى خصوص صحة المشكوك بآثاره الشرعية دون ما يتوقف عليه ذلك ولا آثاره الشرعية المترتبة عليه بلا فرق بين كونها من جملة الاصول التعبدية للاختلال وغيره ، أو من جملة الأمارات بناء على كون المدرك هو ظهور حال الفاعل. نعم لو وقعت المرافعة في

٥٥٥

نفس الشرط فسنشير إليه ان شاء الله.

[ الامر ] الخامس : في بيان تقدم هذا الأصل على الاستصحاب.

فبالنسبة إلى أصالة الفساد فلا شبهة فيه :

أمّا الجاري في المسبب ، بأن يقال : الأصل عدم تحقق النقل والانتقال ، فلوروده أو حكومته عليه من جهة احراز موضوع السبب بواسطته ، فيرتفع الشك في المسبب به.

وأمّا الجاري في السبب ، بأن يقال : الأصل عدم تحققه ، فكذلك أيضا ، لكون الشك فيه ناشئا من الشك في اتيان الفعل على نحو الصحة فبإحرازه من جهة كون أصالة الصحة موضوعيا أيضا لا حكميا صرفا يرتفع الشك في الاتيان. مضافا إلى ما سنشير إليه في وجه تقدمه في صورة معارضته مع الاصول الموضوعية من اجراء أصالة العدم في منشأ الشك من أصالة عدم البلوغ ونحوه مما يشك في صحة العقد من جهة الشك فيه.

وهو ان يقال : انّ في البحث مقامان :

المقام الأول : في معاملة الشاك مع المشكوك الصحة معاملة الصحيح وترتيب آثار الصحة عليه في تكليفه بنفسه ، فنقول :

امّا بناء على كون أصالة الصحة من الأمارات مستندا فيها إلى ظهور حال الفاعل فلا اشكال في تقدمها على تلك الاصول الموضوعية ، لكونها من باب التعبد.

وامّا بناء على كونها من باب التعبد فتقدم عليها أيضا ، لوجهين :

أحدهما : انّه لو لم تقدم عليها لم يبق لأصالة الصحة مورد أصلا ، أو بقي فرد نادر ، حيث انّه ما من مورد يشك في صحة الفعل إلاّ ويكون شكه ناشئا من الشك

٥٥٦

في تحقق أمر معتبر فيه يكون الأصل فيه عدمه فلو عمل بذاك الأصل لا بدّ أن يحكم على الفساد في جميع الموارد. نعم قد لا يكون منشأ الشك مجرى لأصل من الاصول ، كما لو شك في صحة العقد من جهة الشك في وقوعه في حال الاحرام أو الإحلال حيث انّه لا استصحاب في البين يعيّن عدم وقوعه حال الإحلال حتى يحكم بفساد العقد ، فلو اقتصر في أصالة الصحة على مثل هذا المورد يصير جعله كاللغو.

وثانيهما : انّه على تقدير اجراء الاصول الموضوعية لا يثبت بها فساد العقد إلاّ بالمثبت ، حيث انّه لو شك في صدور العقد من البالغ فلو أجرى أصالة عدم البلوغ في العاقد حال العقد ليثبت به انّ العقد صادر من غير البالغ وليس له أثر شرعي إلاّ أن يثبت به عدم صدور العقد من البالغ لأنّ الصحة مترتبة على عقد البالغ ، وعدمه يترتب على عدم ذاك العقد لا على صدور العقد من غير البالغ ، لأنّه ضد [ لعقد ] (١) البالغ ، وعدم الأثر يترتب شرعا على عدم الموضوع لا على ضده إلاّ بالملازمة العقلية ، فاثبات الأثر المهم في المقام المترتّب على عدم صدور العقد من البالغ لا يترتب على أصالة عدم البلوغ المثبت لكون العقد الصادر من غير البالغ إلاّ بالمثبت وهو ليس بحجة ، فلا يبقى في البين إلاّ أصالة عدم تحقق السبب وقد عرفت تقدم أصالة الصحة عليها.

فقد ظهر : انّه لا تعارض للاصول الموضوعية مع أصالة الصحة. نعم يترتب عليها كلها [ لعقد غير البالغ ] (٢) مثلا من الآثار ، لا آثار عدم عقد البالغ كما عرفت.

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( للعقد ).

(٢) في الاصل المخطوط ( للعقد الغير البالغ ).

٥٥٧

المقام الثاني : مقام المرافعة عند القاضي.

فان كان محطّها نفس صحة العقد المشكوك صدوره من البالغ وعدمه ، أو صحة المبايعة الصرفية المشكوك فيها القبض في المجلس ، أو صحة البيع الوقفي المشكوك صدوره مع التشاجر المنجرّ إلى الخراب مثلا إلى غير ذلك من الموارد ؛ فلا اشكال أيضا في العمل بأصالة الصحة وتقديم قول مدّعيها على مدّعي الفساد لكونه منكرا ، لمطابقة قوله لأصالة الصحة كما عرفت في غير مورد المرافعة.

وأمّا لو كان محطّها نفس منشأ الشك وهو وجود الشرط وعدمه ، كما لو قال البائع مثلا : « ما كنت بالغا عند العقد » مع كون غرضه اثبات فساد العقد فان كان تعيين المنكر بالأصل في الغرض على خلاف التحقيق لكان القول قول مدّعي البلوغ ، لمطابقة قوله لأصالة الصحة في الغرض المهم.

وان كان بالأصل في نفس محط النزاع كما هو التحقيق ، فيقدم قول منكر البلوغ بيمينه لأصالة عدم تحققه حال العقد فيحكم على طبقه.

فان قلت : لا أثر لأصالة عدم البلوغ إلاّ فساد العقد وقد عرفت تقدم أصالة الصحة عليها بالنسبة إلى هذا الأثر فلا تكون حجة حتى يقدم قول من كان قوله مطابقا لها.

قلت : انّ الأصل الموجب لتقديم قول المطابق لا يلزم أن يكون له أثر فعلي في مقام المرافعة بل يكفي أن يكون له اقتضاء الأثر.

فبعد الحكم يثبت بسبب حكم القاضي صدور العقد من غير البالغ ، فحكم بالفساد.

وان كان قبل الحكم ، يعمل على طبق اصالة الصحة في العقد ولو مع وقوع الدعوى في نفس الشرط لا في صحة البيع.

٥٥٨

وهذا كاليد في الملكية فانّها أمارة لها لا على السبب :

فان كان محطّ الدعوى نفس الملكية فيقدم قول ذي اليد ، ليده.

وان كان محطّها هو وقوع البيع مثلا فيما لو اعترف بعدم السبب له إلاّ ذلك ، فيجمع بين العمل باليد قبل الحكم ويعامل مع ذي اليد معاملة الملكية ، وينتزع عنه المال بعده ، عملا بأصالة عدم وقوع البيع في مقام المرافعة ليحكم على طبقها حتى يترتب عليها الانتزاع بعد الحكم.

والحاصل : انّه لا منافاة :

بين العمل بأصالة الصحة لو وقعت المرافعة في نفس الصحة وكذا قبل الحكم لو وقعت في تحقق الشرط.

وبين العمل بأصالة عدم تحقق الشرط حينئذ لتعيين المنكر بها ليترتب عليها الحكم بالفساد ؛ وبعده يكون حكم القاضي بمنزلة البيّنة القائمة على عدم بلوغ العاقد حال العقد فينتزع المثمن عن المشتري والثمن عن البائع كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكرنا بين وقوع النزاع في شرط المعاملة الصرفية أو الوقفية أو غيرهما مع جريان أصالة الصحة مطلقا في نفس المعاملة ، فلا بدّ أن لا يختلط المقامان كما اختلط في كلام شيخنا العلاّمة (١) أعلى الله مقامه.

هذا كله بناء على عدم حجية المثبت من أصالة الصحة كما هو التحقيق ؛ وإلاّ فيقدم قول من قوله مطابق لها مطلقا كما لا يخفى.

[ الامر ] السادس : انّك قد عرفت انّه لا بدّ في اجراء أصالة الصحة في الفعل الذي يكون موضوعا لأثر شرعي للحامل من احراز عنوانه عنده وكون شكه في تحقق أمر معتبر غير مخلّ فقدانه في العنوان عرفا وبدونه لا مجرى لأصالة الصحة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

٥٥٩

أصلا.

وحينئذ فإذا استؤجر شخص للصلاة عن الميت قضاء أو للتوضي على العاجز فيكون للفعل المنوب له بما هو كذلك [ استناد ] (١) إلى المنوب عنه بالتسبيب وإلى النائب بالمباشرة. ويكون الاستناد الأول متفرّعا على الثاني بما هو فعل النائب بالوصف العنواني ، لا في عرضه. ويكون لكل من الجهتين آثار شرعية ، منها :

حصول براءة الذمة عن الميت وسقوط التكليف بالقضاء عن الولي بالنسبة إلى الاستناد الأول.

واستحقاق الأجير الاجرة وجواز استئجاره ثانيا بناء على اشتراط براءة ذمة الأجير في صحة استيجاره ثانيا بالنسبة إلى الثاني.

فان احرز في فعل الأجير عنوان النيابة بأن احرز كونه بصدد الفعل الاستيجاري بقصد ابراء ذمة المنوب عنه وشك في اخلاله ببعض ما يعتبر في العمل مما لا يتقوم به العنوان ، فلا شك في اجراء أصالة الصحة وترتيب جميع ما كان له من الآثار الشرعية من الجهتين.

وان لم يحرز ذلك ، بأن لا يعلم كون الأجير في فعله بصدد الفعل الاستيجاري فلا يجري فيه أصالة الصحة ولا يترتب عليه الأثر الشرعي من الجهتين ، حيث انّ واحدا منهما متفرع على الآخر ، فبمجرد عدم احراز عنوان النيابة لا يحرز فعل النائب بما هو نائب فلا يحرز فعل المنوب عنه بالتسبيب. ولعله من جهة احراز كون الفاعل بصدد الفعل النيابتي اشترطوا عدالته حتى يقبل قوله في ذلك وبعد احراز العنوان تجري أصالة الصحة في سائر ما يعتبر فيه ، بخلافه في

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( استنادا ).

٥٦٠