تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

الخارجي للموضوع باليقين بكونه عين الموضوع المتصف بالوصف وإلاّ فلا يكون اثبات الحكم لأمر خارجي في الزمان اللاحق مع عدم القطع بكونه عين السابق ابقاء له في موضوعه بل يكون حكما بحدوثه في موضوع آخر.

كما انّه لا بدّ من احراز الوجود الخارجي أيضا لو لم يتمكن من العمل بالأثر خارجا إلاّ مع وجود الموضوع كذلك ، كاستصحاب العدالة لجواز الاقتداء فعلا ، أو لوجوب اكرام العادل فعلا ونحوهما ، لا لمثل ترتيب جواز التقليد لو لم يكن الحياة مأخوذا في موضوعه على حدة أيضا ، للتمكن من تقليده ولو لم يحرز وجوده الخارجي.

والتحقيق : انّه مع اثبات المستصحب في الآن اللاحق لموضوعه يكون كذلك أيضا بأن يقال : انّ القيام كان ثابتا لزيد والآن يكون ثابتا له أيضا ، حيث انّ الحكم بثبوت شيء لشيء فرع على ثبوت المثبت له فينحصر الاستصحاب في عوارض الوجود مع الشك في معروضها بما إذا كان المراد ابقاءها بمفاد كان التامة إلاّ إذا أجرى الاستصحاب في ثبوت النسبة بين المحمول والموضوع كذلك.

ثم انّ احراز وجود الموضوع خارجا فيما ذكره من الصور إنّما هو من جهة أمر خارجي : من التطبيق ، والتمكّن من العمل ، والقاعدة الفرعية ، لا من جهة استلزام الاستصحاب له بنفسه.

وامّا ما يظهر من كلام الشيخ رحمه‌الله في استصحاب الأعراض من احراز الوجود الخارجي بقوله : « فإذا اريد قيام زيد أو وجوده فلا بدّ من تحقق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق سواء كان تحققه في السابق بتقرره ذهنا أو بوجوده خارجا فزيد مفروض للقيام في السابق بوصف وجوده

٥٠١

الخارجي الخ » (١) فلا يخفى ما فيه ، لما عرفت من عدم اقتضاء الاستصحاب له بنفسه إلاّ ان يكون مراده من البقاء ما ذكرنا ، أو كان نظره إلى ما ذكرنا من مقام التطبيق والاثبات كما يظهر من اجرائه الاستصحاب في وجود العارض ولو مع الشك في معروضه فيما إذا كان الشك فيه من غير جهة الشك في موضوعه مثل ان يشك في عدالة مجتهده مع الشك مع حياته بقوله :

« فان كان الأول فلا اشكال في استصحاب الموضوع عند الشك لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلا لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد لأنّ موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة إذ لا شك فيها إلاّ على فرض الحياة فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة وبالجملة فهنا مستصحبان لكل منهما موضوع على حدة حياة زيد وعدالته على تقدير الحياة ولا يعتبر في الثاني إثبات الحياة » (٢) انتهى ، حيث انّ الظاهر انّ مراده ما ذكرنا من انّ العدالة وان كان في وجوده الخارجي محتاجا إلى حياة زيد خارجا إلاّ انّ الشك في بقائها لا يلزم أن يكون مع القطع ببقاء حياته الخارجي. نعم لو كان باقيا لا يكون إلاّ عارضا على زيد ، الحي فإذا كان كذلك فيجوز استصحابها ويكون التعبد ببقائها ملازما للتعبد ببقاء ما لا يكون باقيا إلاّ ببقائه بقدر اثبات أثر العدالة الباقية لا اثبات ما يتوقف عليه بنفسه كي يترتب عليه آثاره بنفسه.

نعم لو كان الحياة ذا أثر على حدة أو كان جزء الموضوع لأثر العدالة كجواز التقليد مثلا ـ لو قلنا بعدم جواز تقليد الميت ـ فلا بدّ من استصحاب الحياة أيضا لكن من جهة ترتب استصحاب العارض بل من جهة ترتب أثره الشرعي بنفسه ؛ فان كان مراده قدس‌سره ما ذكرنا فيكون قرينة على كون مراده من بقاء الموضوع أولا ما ذكرنا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٠ ، باختلاف يسير.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

٥٠٢

وإلاّ فلو كان مراده من استصحاب العدالة مع الشك في الحياة من جهة كون الاستصحاب فيه تعليقا لا يلزم فيه احراز المعلق عليه ، أو انّ أصل موضوع العدالة هو مفروض الحياة لا متحققه فيرد عليه :

أولا : بعدم الدليل على البقاء بهذا المعنى.

وثانيا : بأنّ الاستصحاب التعليقي إنّما هو فيما إذا كان التعليق بغير وجود الموضوع لا كما في المقام.

وثالثا : بأنّ الموضوع للعدالة هو الحياة التحقيقي لا التقديري كما في القضية المتيقنة فكيف يكتفى فيه بمجرد الفرض.

ثم انّه ظهر مما ذكرنا : انّ احراز وجود الموضوع خارجا لا يلزم إلاّ في بعض الصور ، لأجل أمر خارج عن [ حقيقته ] (١) من مقام تطبيق الاشارة الحسية إلى الموضوع أو توقف العمل على الحكم عليه ، لا مطلقا ؛ وامّا البقاء بمعنى اتحاد الموضوع في القضيتين فهو لازم مطلقا ؛ وامّا على ما هو ظاهر كلام شيخنا العلاّمة (٢) فقد عرفت انّ القطع ببقاء الموضوع خارجا في غير استصحاب الموضوعات فهو لازم مطلقا.

وعلى كل حال ، ففي كل مورد لا يقطع بالاتحاد مطلقا أو بالبقاء خارجا في مقام التطبيق أو مطلقا فلا يجري استصحاب الأحكام ، لعدم احراز الموضوع السابق المعتبر في جريان الاستصحاب لأجل توقف صدق النقض عليه ولا يكفي فيه استصحاب الموضوع حيث انّه لا بدّ في استصحابه من ترتيب آثاره الشرعية عليه لا العقلية ، وحينئذ فلو كان الشك في الحكم مسبّبا عن الشك في بقاء الموضوع المعيّن فيترتّب عليه باستصحابه حكمه الشرعي بلا افتقار إلى استصحابه مع انّ استصحابه

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( حقيقة ).

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٩١.

٥٠٣

ليس من آثاره الشرعية بل ليس من لوازمه العقلية أيضا حيث انّه لا يترتب عند اليقين بهما ، غاية الأمر يكون استصحاب الحكم عند الشك متوقفا على احرازه عقلا ، ومجرد ذلك لا يكفي في ترتيب استصحاب الحكم على استصحاب الموضوع ولو بناء على المثبت.

هذا كله لو كان الشك في الحكم مسببا عن الشك في الموضوع المعيّن.

وامّا لو كان الشك فيه لأجل عدم العلم بالموضوع وتردده بين الأمر الزائل والباقي فالظاهر عدم جواز الاستصحاب لا في الموضوع ذاتا ولا مع وصفه العنواني لعدم احراز كون الباقي موضوعا حينئذ إلاّ بالمثبت ، ولا في الحكم لعدم احراز الموضوع. واستصحاب وصف الموضوعية للأمر الباقي ليس له حالة سابقة كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : انّه كثيرا ما يقع الشك في الحكم من جهة الشك في انّ موضوعه هو الأمر الباقي أو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيته ، فلا بدّ من ميزان يقوّم به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها. وبعبارة اخرى : لا بدّ من تعيين انّ الميزان في تعيين الموضوع أيّ شيء؟

فنقول : انّ تعيينه يمكن أن يكون بأحد امور :

الأول : العقل ومعه تكون جميع القيود التي كانت لها مدخلية في الحكم مأخوذة في الموضوع ؛ وتبدلها بالقطع يوجب القطع بتبدل الموضوع وبالشك يوجب الشك. فلو كان بقاء الموضوع المعتبر في صدق النقض هو الموضوع العقلي فلا بدّ من القطع ببقائه بجميع قيوده ومعه لا يشك في الحكم فينحصر الاستصحاب في وجود الموضوعات الخارجية ولا يجري في الأحكام مطلقا ، خلافا

٥٠٤

للشيخ رحمه‌الله (١) فيما إذا كان الشك فيها من جهة اختلاف الزمان أو إذا كان الشك في الرافع ؛ امّا الأول : فلبناء الاستصحاب على الغاء الشك من جهة الزمان وإلاّ فلا يتحقق الشك في البقاء بدونه ؛ وامّا الثاني : فلاستلزام أخذ عدم الرافع في الموضوع الدور كما لا يخفى.

ولكن التحقيق : عدم الفرق ، وعدم الجواز ، حتى في هذين القسمين.

امّا الزمان : فلأنّه قد يكون قيدا للحكم كما في صورة القطع بالقيدية فينتفي الاستصحاب بانتفائه. وقد يقطع بعدمه ولكن يشك في البقاء من جهة اخرى فيجري الاستصحاب من جهة الزمان. وقد يشك في القيدية فيتوقّف عن الجريان على تقدير كون الموضوع عقليا.

وامّا في الشك في الرافع : فيسلّم انّ عدمه غير مأخوذ في موضوع الحكم ، وإلاّ لزم الدور الاّ انه بالنسبة إلى الحدوث لا بالنسبة إلى البقاء وإلاّ فلا بأس بأخذه في الموضوع ، غاية الأمر يفترق بينه وبين عدم المانع بأخذ الثاني في الموضوع مطلقا والأول في خصوص البقاء كما لا يخفى.

الثاني : ان يرجع في معرفة الموضوع إلى الدليل الشرعي ويفترق بين قوله : « الماء المتغير ينجس » فيشك بعد زوال التغير في النجاسة وبين قوله : « الماء ينجس إذا تغير » فيشك كذلك بالاستصحاب في الثاني ، لبقاء الموضوع المأخوذ في الدليل دون الأول ، لعدم بقائه.

فان قلت : إذا كان الموضوع في الدليل باقيا في الثاني فكيف لا يتمسك بالدليل؟

قلت : لعدم اطلاقه في اثبات الحكم في جميع حالات الموضوع ، بل المتيقن

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

٥٠٥

اثباته له في بعض حالاته فيشك في ثبوته له في بعضها الآخر.

وبعبارة اخرى : كان الموضوع بما هو لا بشرط المقسمي مأخوذا في الدليل لا بنحو اللابشرط القسمي كما لا يخفى.

الثالث : أن يرجع في بقاء الموضوع إلى العرف فكلّما حكم ببقائه فيجري الاستصحاب دون ما إذا لم يحكم به.

فان قلت : ما الفرق بينه وبين الدليلي؟ مع انّه لا بدّ في تعيين مفهوم الموضوع المأخوذ فيه [ من الرجوع ] إلى العرف أيضا.

قلت : الفرق بينهما هو الفرق بين مقام الاثبات ومقام الثبوت ، حيث انّ الرجوع إلى العرف في تعيين موضوع الدليل إنّما هو بالنسبة إلى مقام الاثبات فيحكم بأنّ المبيّن من قبل الشارع وما صار بصدد افهامه هو هذا المقدار.

وامّا بالنسبة إلى مقام الثبوت فلا يقطع بأنّ العنوان المأخوذ في الدليل كعنوان العنب مثلا حيثية تقييدية في الموضوع حتى ينتفي بانتفائه أو بمجرد الاشارة وبيان الحالة وإلاّ كان الموضوع للحكم واقعا هو الذات المشتمل على العنوان لا نفس العنوان ، فقد يشك في ذلك ولا يحكم بشيء فيشك بعد ارتفاع العنوان في بقاء الموضوع.

ولكنه قد يحكم لأجل ما هو المرتكز عنده من المناسبة بين الحكم والموضوع ، أو لأجل المناسبة بين حالتي شيء واحد واشتراكهما فيما يثبت اجمالا وان لم ير المناسبة بين نفس الحكم والموضوع ؛ كما لا يخفى انّ الموضوع في المثال هو طبيعة الجسم الجامع بين حالة العنبية والزبيبية لا خصوص العنب وانّ الموضوع في مثل « الكلب نجس » هو بدن الكلب الباقي بعد موته لا خصوص حالة الكلبية المرتفعة بالموت وان كان لسان الدليل غير متعرض إلاّ لحالة العنب والكلب كما لو لم يتعرض بالنسبة إلى اثبات الحكم إلاّ لبعض حالات الموضوع

٥٠٦

المأخوذ في الدليل أيضا لو شك في ذلك في الوجه الثاني.

ولكنه بمجرد ارتكاز المناسبة وحدس انّ الموضوع هو الجامع لا يقطع بثبوت الحكم في الحالة الثانية ، حيث انّه في تعيين الموضوع يأخذ بالجامع بين العنوان المأخوذ في الدليل وعدمه. وامّا انّه موضوع باللابشرط المقسمي أو القسمي فلا وان كان قد يظن بالثاني بالظن غير المعتبر فينتظر لدليل آخر من قبل الشارع دال على الارتفاع أو البقاء غاية الأمر عند قيام الدليل على اشتراك الحالة الثانية مع الاولى في الحكم يرى انّه بقاء الحكم في الموضوع الأول لا انّه حدوث في موضوع آخر بعد انتفاء الموضوع الأول كما لو اقتصرنا في الموضوع على المأخوذ في الدليل.

ثم انّ مفهوم النقض لا يختلف في هذه الوجوه بل النقض بمعنى واحد في جميعها وان كان يختلف مفاد حرمة النقض بحسب هذه الوجوه ، حيث انّه لا بدّ في الحكم بالنقض ـ بعد ما عرفت من عدم صدقه إلاّ مع وحدة الموضوع ـ النظر إلى موضوع معيّن عقلي أو دليلي أو عرفي ، فيرجع إلى العرف في تعيين مفاد الدليل ونظره ليكون الرجوع إليه في تعيين المفهوم لا في تعيين المصاديق حتى يقال : انّ فهم العرف ليس بحجة في ذلك كما توهم.

إذا عرفت ما ذكرنا فظهر : انّ المهم تعيين انّ النظر في مفاد قوله : « لا تنقض الخ » أيّ من هذه الوجوه؟ وانّ سوقه بأيّ من الأنظار؟

فنقول : انّه لو كانت قرينة على واحد من هذه الوجوه. وحيث انّه لا قرينة حالية أو مقالية فمقدمات الحكمة تقتضي الموضوع العرفي ، حيث انّ الشارع لمّا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة فلا بدّ أن يكون نظره إلى ما هو المنظور في العرف في مثل هذا الدليل لو كانت المخاطبة منهم ، لأنّه في مخاطباته معهم كواحد منهم.

٥٠٧

ومن المعلوم انّ نظر العرف في مثل هذا الدليل إلى حرمة النقض ووجوب ابقاء الحكم فيما هو الموضوع بنظرهم وارتكازاتهم ، وقد عرفت انّه قد يكون مساويا مع موضوع الدليل وقد يكون أوسع منه فلا بدّ أن يتبع في جريان الاستصحاب وعدمه بقاء ما هو الموضوع عندهم وعدمه ، وحيث انّه عرفت مما ذكرنا : انّ النقض لا يصدق إلاّ مع وحدة الموضوع في حال الشك واليقين بحيث تسع دائرته كلا الحالين وانّ الموضوع العرفي يسع الموضوع الدليلي والعقلي وبعدهما.

فظهر : اندفاع توهم لزوم اعتبار الموضوع الدليلي بل الدقيقي لأن تيقّن الحكم لموضوع في حال مع الشك في بقائه في حال آخر لا بدّ أن يكون لأجل احتمال قيد في الحكم قد زال في اللاحق ، ومن المعلوم انّه يرجع إلى الموضوع عقلا وان لم يكن كذلك دليلا وعرفا ، فيكون اليقين منحصرا في الموضوع الدقيقي ؛ وعلى تقدير التنزّل ففي الموضوع الدليلي ، فلا يتعدى إلى العرفي ، لعدم اليقين فيه.

وجه الاندفاع : ما عرفت من أوسعية العرفي وتحققه في حال تحقق الموضوع الدليلي والدقيقي وما بعدهما فيكون في بعض حالاته متيقن الحكم وفي آخر مشكوكا ، بل لا بدّ من فرض حالتي الشك واليقين مع بقاء الموضوع بعينه ولو بناء على الدقيقي غاية الأمر لا يكون ذلك فيه إلاّ في الموضوعات الخارجية كما عرفت.

ثم انّه كما قد عرفت سابقا انّ الرجوع إلى الاستصحاب إنّما هو مع عدم اطلاق الدليل في اثبات الحكم بالنسبة إلى الحالة الثانية فاعلم أيضا : انّ موضوع الدليل لا يقتصر فيه على ما هو المذكور فيه بل المراد منه ما هو المفهوم من الخطاب ولو بقرينة مقامية يعلم بها انّ الخصوصية ملغاة في نظر المتكلم وانّ

٥٠٨

الموضوع في نظره في هذا الدليل ما هو أوسع من هذا المذكور ، وامّا بالنسبة إلى الحكم فقد يكون مطلقا أيضا فلا يرجع إلى الاستصحاب وقد لا يكون كذلك فيرجع إليه ، هذا. والعمدة هو تعيين انّ سوق الخطاب بأيّ من الأنظار ؛ وقد عرفت انّ قضية مقدمات الحكمة عند عدم القرينة على التعيين هو استكشاف الموضوع العرفي فيكون دليل الاستصحاب محكّما ما دام مساعدة العرف على صدق الشك في البقاء والنقض وان كان اللازم ـ لو لا دليل الاستصحاب ـ الاقتصار على موضوع الدليل بل على أخص منه وهو الحالة التي دل الدليل الواقعي على اثبات الحكم فيها.

فمن هنا ظهر : انّ القاعدة الأولية هو الاقتصار في اثبات الحكم بقدر مساعدة الأدلة الاجتهادية في مقام الاثبات وان كان مشكوك الثبوت ثبوتا بعد زوال العنوان المأخوذ في الدليل. نعم يتعدى عنه بدليل الاستصحاب ، ولعله المراد كما اشتهر بينهم انّ الأحكام تدور مدار الأسماء بمعنى انّها تدور مدار العناوين المأخوذة في الأدلة الاجتهادية اثباتا لو لا دليل آخر لا انّها تدور مدارها ثبوتا بحيث لو انتفى العنوان في الدليل من مثل العنب والكلب مثلا لانتفى الحكم الثابت فيه ثبوتا حتى يكون منافيا لجريان الاستصحاب في الحالة الثانية وإلاّ فلا دليل عليه بهذا المعنى ولم يرد هذا اللفظ في آية ولا رواية ولا ثبت اجماع على طبقه حتى يتكلم في معناه وفي مقدار دلالته ؛ مع انّه يحتمل أن يكون المراد من الأسماء العناوين الحاكية عن المسميات التي ثبت لها الحكم ولو بعد مساعدة الأدلة الثانوية من الاستصحاب ونحوها ؛ وبعبارة اخرى : العناوين الحاكية عن الجامع بين المأخوذ في الدليل وما لم يوجد منه مع صدق البقاء عرفا فلا منافاة حينئذ أصلا.

الثاني : مما يعتبر في قوام الاستصحاب ، أن يكون في حال الشك متيقنا

٥٠٩

لوجود المستصحب سابقا حتى يكون الشك في البقاء.

فلو كان شاكا في نفس ما تيقنه سابقا بحده اليقيني كأن يكون شاكا في عدالة زيد يوم الجمعة مع كونه متيقن العدالة سابقا في ذاك اليوم ، وبعبارة اخرى : كان شكه ساريا في يقينه السابق ومزيلا له فلا يبقى مجرى الاستصحاب لعدم صدق دليله وحدوده عليه كما لا يخفى.

نعم لو ثبت وجوب العمل على طبق اليقين بعد حدوثه وان زال بعد ذلك فلا دخل له بالاستصحاب بل يكون قاعدة اخرى وتسمى بقاعدة اليقين وقد تكلمنا [ في ] عدم مساعدة أدلة الباب عليها لا مع الاستصحاب ولا وحدها. والظاهر عدم قيام دليل آخر على طبقها إلاّ أدلّة الفراغ والتجاوز وهي لا تدلّ إلاّ على مجرد البناء على صحة الأعمال الماضية بمجرد الشك في صحتها بلا نظر إلى اليقين السابق بل لو لم يكن يقين أصلا ؛ وعلى تقدير اليقين السابق لا نظر إليه ولا إلى البناء على ثبوت المشكوك مطلقا ولو بالنسبة إلى الآثار اللاحقة ولا إلى البناء على حدوثه وبقائه بعد ذلك كي يترتب آثار البقاء أيضا.

فالتحقيق : عدم دليل على قاعدة اليقين بواحد من المعاني أصلا لا في الأعمال السابقة اعتمادا على اليقين ، ولا في الآثار اللاحقة المترتبة على الحدوث ، ولا على الآثار المترتبة على البقاء على تقدير الحدوث ، فلا وجه لجعلها من القواعد أصلا.

الثالث : أن يكون كل من بقاء المستصحب وارتفاعه مشكوكا في اللاحق حتى يصدق عليه الشك في البقاء ، ومع أحدهما فلا مجال للاستصحاب. وامّا لو لم يعلم وجدانا واحد منهما بل قام الدليل الاجتهادي على واحد منهما فلا اشكال في تقديمه على الاستصحاب أيضا إلاّ انّ الكلام في وجه التقديم من انّه :

٥١٠

الورود والتخصص كما عليه الاستاذ (١) دام ظله؟

أو الحكومة كما عليه شيخنا العلاّمة (٢) أعلى الله مقامه؟

أو التخصيص كما عليه بعض آخر؟ (٣)

فامّا تقريب الورود ، فهو أن يقال : انّ المراد من الشك المأخوذ في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك » هو الشك في الحكم في موضوع المستصحب وعدم العلم به فيه بواحد من العناوين أوّلية أو ثانوية لا خصوص الشك في الحكم في العنوان الذي تعلق به الحكم. مثلا لو تعلق اليقين بحلية الغنم بعنوانه الأوّلي ثم شك في بقائه ولكن علم بحرمته بعنوان المغصوبية مثلا فمع هذا اليقين لا يبقى الشك في حكم الغنم من جميع الجهات بل يكون المورد داخلا في الغاية وهو قوله : « لكن ينقضه بيقين آخر » حيث انّ المراد منه اليقين بحكم الغنم من وجه من مقابل الشك المطلق ، بل الظاهر انّه لا يلزم في صدق الغاية ان يحصل اليقين بالحكم من وجه كما في المثال ، بل اللازم ان لا يرفع اليد من اليقين الأوّلي بالشك بل باليقين ولو كان يقينا بالدليل والحجة لا بالحكم بناء على جعل الحجية في الأمارة ؛ فحينئذ لو قام في المثال مقام جهة الغصب أمارة على الحرمة :

فان قلنا : في الأمارة انّ مفاد أدلة حجيتها انشاء الحكم التكليفي على طبق مؤداها فيحصل اليقين بالحرمة بوجه كالغصبية فلا يبقى الشك المطلق فيكون نقض اليقين بالحلية السابقة باليقين بالحرمة بوجه ، لا بالشك فيها كما هو واضح.

وامّا ان قلنا : في الأمارة بأن مفاد أدلة حجيتها هو الحجية المستلزمة لتنجز

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٨٨.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣١٣ ـ ٣١٤ و ٣ : ٣١٧ ـ ٣١٨ و ٤ : ١٣.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٣١٥.

٥١١

الواقع على تقدير الاصابة والعذر عنه على تقدير [ عدم الاصابة ] (١) لا جعل الحكم التكليفي على طبقها فيحصل منها اليقين بالحجة على الحرمة بحيث يكون العمل على طبقها نقضا لليقين بالحلية السابقة باليقين بالحجة لا بالشك فيها.

وان أبيت إلاّ عن كون المراد بالشك الشك في بقاء الحكم المتيقن بعنوانه الأولي لا بوجه آخر وهو باق بحاله ، فنقول :

انّ تقديم الأمارات من باب الورود أيضا ، حيث انّ الموضوع للنهي الاستصحابي ليس مجرد اليقين والشك بل هو نقض اليقين بالشك ومن المعلوم انّ العمل بالأمارة ليس نقضا لليقين بالشك بل باليقين بالحجة وهو داخل في الغاية لما عرفت انّ اليقين فيها لا بدّ أن يتعلق بالمستصحب بوجه ولو بحجة على خلافه. والحاصل : انّ العمل بالأمارة ليس مخالفة لدليل الاستصحاب حتى يكون تخصيصا بالنسبة إليه بل معه لا يبقى مجال له فيكون تخصصا بالنسبة إليه.

وامّا لو انعكس بأن يعمل بالاستصحاب وتترك الأمارة فيكون ذلك تخصيصا بالنسبة إليه حيث انّ موضوعها بنفسها ليس إلاّ العنوان الواقعي وموضوع دليل اعتبارها ليس إلاّ الشك في ثبوت الحكم لنفس الواقع قضية لتصديق العادل ولالغاء احتمال خلافه الذي هو الحكم على خلاف المخبر به واقعا ، ومن المعلوم انّ الشك في الحكم الواقعي باق بحاله مع اجراء الاستصحاب أيضا فيدور الأمر بين التخصص والتخصيص والأول أولى ، فلا بدّ من تقديم الأمارة على الاستصحاب.

ومما ذكرنا ظهر : اندفاع توهم العكس وهو تقديم الاستصحاب بأن يقال : كما انّ مع العمل بالأمارة يحصل اليقين بالحكم فيرتفع موضوع الاستصحاب

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( الموافقة ).

٥١٢

فكذلك العمل بالاستصحاب يستلزم العلم بالحكم فلا يبقى مجال لها.

وجه الاندفاع : ما عرفت من انّ موضوع الاستصحاب هو الشك من جميع الجهات بظاهر لفظ الشك ولا أقل من كونه نقض اليقين بالشك وذلك يرتفع بالأمارة ، وامّا موضوعها فإنّما هو الشك في الواقع قضية لإخبار العادل عن الواقع ودليل اعتباره الدالّ على وجوب الغاء احتمال المخالف له واقعا وعند ذلك يتأتّى الدوران بين التخصص والتخصيص بلا وجه أو بوجه دائر ، فلا بدّ من تقديم الأمارة كما لا يخفى.

ثم ان أبيت عمّا ذكرنا من وجه التقدّم فلا بدّ من الرجوع إلى الوجه الذي ذكره شيخنا العلاّمة (١) أعلى الله مقامه من حكومة دليل الأمارة على الاستصحاب بمعنى شرح دليلها ولو بلحاظ دليل اعتبارها لموضوع دليله ونظره إليه توسعة مرّة وتضييقا اخرى على ما سيجيء في شرح الحكومة ان شاء الله.

بيانه : في المقام انّه لو تيقن سابقا على حلية شرب التتن ثم شك في بقائها فيتحقق موضوع الاستصحاب وهو احتمال الحلية المتيقنة سابقا ، فإذا أخبر العادل بعد ذلك بحرمة شرب التتن يكون دليل اعتباره دالا على وجوب تصديقه بأخذ ما أخبره به وهو الحرمة والغاء احتمال خلافه وهو الحلية ؛ ومن المعلوم انّ الغاء احتمال الخلاف لمّا لم يكن باختياري فيرجع إلى الغاء أثره وقد عرفت انّه موضوع لحرمة النقض فيكون ملغى بلسان نفي الموضوع بسبب الأمارة ، وليس ذلك إلاّ بمعنى الحكومة.

فان قلت : انّ تصديق العادل في اخباره بالحكم الاستصحابي يقتضي الغاء احتمال خلافه ولو كان حكم الأمارة.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣١٣ ـ ٣١٤ و ٣ : ٣١٧ ـ ٣١٨ و ٤ : ١٣.

٥١٣

قلت : انّ الحكم الاستصحابي ـ وهو حرمة النقض ـ لمّا كان في الموضوع المشكوك فيكون احتمال خلافه هو جواز النقض في المشكوك بلا نظر له إلى حكم الأمارة ـ وهو الحرمة في شرب التتن ـ بعنوانه الواقعي.

فحصل مما ذكرنا : انّ الأمارة ناظرة إلى موضوع الاستصحاب دون العكس ، فتكون حاكمة عليه.

ولكن التحقيق : عدم تمامية الحكومة بالمعنى الذي ذكره قدس‌سره من كون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظرا إلى مدلول الآخر بما هو مدلوله في مقام الاثبات ولا يكفي مجرد الدلالة العقلية إلى مدلول الآخر ثبوتا كما في المقام حيث انّ تصديق العادل بالعمل بقوله لمّا لم يمكن مع الأخذ بحكم الاستصحاب فيحكم العقل بلزوم طرحه بما هو ينافيه واقعا لا بما هو مدلول دليل الاستصحاب ، فانتفى ما هو قوام الحكومة من الدلالة اللفظية لدليل الحاكم ونظره كذلك إلى مدلول المحكوم ؛ فإذا كان الطرد من جهة منافاة حكم الاستصحاب للأخذ بالأمارة عملا فيكون العكس أيضا كذلك فيحصل التعارض ، هذا.

مع انّ ما ذكره من نظر الأمارة إلى موضوع الاستصحاب ـ دون العكس ـ إنّما هو لأجل مفادها بنفسها مع مفاده ، وامّا بلحاظ دليل اعتبارهما وهو الأمر بتصديق العادل فليس كذلك ، بل يدل على كون كل منهما قاعدة للشاك في مقام العمل فيكون موضوع حكم الأمارة والاستصحاب بلحاظ دليل الاعتبار ـ كما انّه هو المناط ـ واحدا وهو المكلف الشاك في الموضوع غير المعلوم الحكم. ولو كان مفادهما مختلفا ـ ولكنه ليس بمناط ـ فحينئذ يثبت كل منهما بمقتضى دليل اعتبارهما حكما في المشكوك بلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فيحصل بينهما التعارض.

فلو أغمض عمّا ذكرنا من الورود : امّا بأخذ الشك المأخوذ في دليل

٥١٤

الاستصحاب من جميع الجهات حتى يرتفع بدليل الأمارة ، أو بتعميم اليقين في الغاية لكل يقين في موضوع المستصحب ولو بوجه كي تصدق الغاية على اليقين بالحجّة من قبل الشارع فيرتفع عنوان نقض اليقين بالشك ؛ لأشكل اثبات التقديم على نحو الحكومة. نعم لو كانت الغاية هو خصوص اليقين بالحكم الشرعي على خلاف اليقين الأولي المتعلق بالحكم لأشكل الورود أيضا فيحتاج في التقديم إلى التوفيق العرفي بأن يقال : انّ دليل الأمارة لمّا كانت حجة على الواقع فكأنّه هو ويكون بمنزلته فيقدم على ما دل على الحكم الشرعي في طول الواقع في مرتبة الشك فيه في مقام الدوران والجمع.

ثم انّ وجه تقديم الأمارات على البراءة بناء على انشاء الحكم الشرعي على طبقها هو الورود بناء على كون عنوان إخبار العادل واسطة في الثبوت لانشاء الحكم في نفس العنوان الواقعي الذي أخبر بحكمه الشرعي ، وبعبارة اخرى : كان دليلا على انشاء الحكم فيما يصدق عليه بالحمل الشائع انّه مما أخبر العادل بحكمه بناء على الطريقية في الأمارات أو كان واسطة في العروض بأن يعلق الحكم على العنوان الواقعي المعنون بعنوان إخبار العادل مثلا بناء على السببية فيها مع كون الجهل بالحكم المأخوذ في موضوع حديث الرفع وسائر أدلة البراءة هو الجهل به ولو بغير العنوان الواقعي في نفس الموضوع المعنون به ، ولا يخفى وجهه.

وامّا بناء على الحجية في الأمارات أو بناء على انشاء الحكم ولكن مع كون الجهل بالحكم في موضوع الأصل هو الجهل به في العنوان الواقعي فيشكل الورود خصوصا على ما ذكرنا من كون موضوع حكم الأمارة بملاحظة دليل اعتبارها هو المشكوك حيث انّ دليل كل منهما حينئذ يقتضي وجوب الرجوع في مورد المشكوك إلى الحكم الثابت به وانّ الحكم الشرعي في موضوع الشك هو ما أفاده

٥١٥

فلا بدّ :

امّا من التوفيق العرفي ـ الذي مرّ ـ بين الأمارة والاستصحاب.

وأمّا من ملاحظة انّه لمّا كان لا بدّ في غير مورد التكليف الوجوبي والتحريمي من العمل بالأمارات ـ لعدم مجيء حديث الرفع فيه لكونه في مقام الامتنان ولا امتنان فيه ـ فإذا عمل بها فيه فيعمل بها في مورد حديث الرفع أيضا بضميمة عدم القول بالفصل القطعي وإلاّ فلو عمل بحديث الرفع فلا بدّ :

امّا من طرح الأمارات في غير مورده أيضا لئلاّ يلزم التفكيك ، فيلزم اللغو في جعلها.

أو يؤخذ بها فيه ، فيلزم الفصل والتفكيك ، و [ قد ] قام الاجماع القطعي على عدم الفصل في موارد حجيتها أصلا ، كما هو واضح.

هذا كله بناء على جعل الحجية في الأمارات.

وامّا بناء على انشاء الحكم الشرعي على طبقها فالتحقيق هو : الورود ، كما لو قامت على حرمة شرب التتن حيث يصدق العلم بالحرمة فيه فيخرج عن كونه مجهول الحرمة. والظاهر عدم التقييد في مفاد الأصل بكون الجهل بالحرمة واقعيا فكذا العلم بها الذي جعل غاية له.

ومن هنا ظهر : وجه تقديم الأمارات على أصل الاحتياط المأخوذ في موضوعه الشبهة توفيقا أو ورودا.

كما انّه ظهر : ورود الاستصحاب عليهما أيضا ، حيث انّ الشيء المعلوم الحرمة أو الوجوب سابقا مثلا يعلم حرمته أو وجوبه لا حقا بعنوان عدم نقض اليقين بالشك بنحو الاشارة الى ما هو المشكوك الحكم لا حقا والمتيقن سابقا بالحمل الشائع أو بنحو الواسطة في العروض ؛ وعرفت انّ الجهل بالحرمة المأخوذ في موضوع الأصل هو الأعمّ من كونه بالعنوان الواقعي أو الظاهري. وكذا الشبهة

٥١٦

في موضوع الاحتياط.

ثم انّ ملاحظة الاستصحاب مع سائر القواعد الخاصة الثابتة للشاك ـ من مثل قاعدة اليد وأصالة الصحة ونحوهما ـ فلا شبهة في تقديمها عليه ، حيث انّها :

على تقدير كونها من الأمارات فتكون مقدمة عليه بالوجه الذي عرفت فيها.

وعلى تقدير كونها من الاصول ، فلا بدّ من التقديم أيضا لكونها أخص ومجعولة في مورده بحيث لو لا التقديم لزم اللغو في جعلها.

تنبيه : الفرق بين الأمارات والاصول : انّ الأمارات حاكية وكاشفة عن مدلولها ، وبعبارة اخرى : ناظرة إلى الواقع وكانت حجيتها من هذه الجهة ؛ بخلاف الاصول ، فانّ حجيتها ليست من هذه الجهة بل صارت مجعولة تعبدا سواء كانت بنفسها حاكية عن الواقع كأصالة الصحة مثلا أم لا كأصالة البراءة مثلا.

هذا كله في معارضة الاستصحاب مع غيره :

مع الأمارات مرة ، وقد عرفت تقدمها عليه.

ومع سائر الاصول العملية العامة من أصالة البراءة والاحتياط والتخيير اخرى ، وقد عرفت تقدمه عليها.

ومع القواعد الخاصة من مثل قاعدة اليد وأصالة الصحة ونحوهما ثالثة ، وقد عرفت تقدمها عليه.

نعم يكون الاستصحاب مقدما على قاعدة الطهارة ، لكونهما عامّين من وجه ، مع كون لسان دليلها مثل البراءة والاحتياط في اثبات الحكم للمشكوك المطلق وعرفت انّه يثبت بواسطة الاستصحاب اليقين بالحكم بوجه ، فيكون واردا عليها أيضا.

٥١٧

وامّا لو تعارض فردان منه بنفسهما فامّا :

أن يكون الشك في أحدهما مسببا عن الآخر مع كونه أثرا شرعيا له.

أو لا.

سواء كان الشك فيهما مسببا عن أمر ثالث أو لم يكن واحد منهما أثرا شرعيا للآخر ، وان كان الشك فيه مسببا عن الشك في الآخر.

أمّا القسم الأول : كالشك في بقاء نجاسة الثوب النجس المغسول بالماء المشكوك الطهارة قبل الغسل مع كونه مسبوقا بالطهارة القطعية حيث انّ الشك في نجاسة الثوب مسبب عن الشك في بقاء طهارة الماء مع كون طهارة الثوب المغسول أثرا شرعيا لطهارة الماء قبل الانغسال وان صارت الغسالة نجسا بسبب الثوب ، ولكن الكلام إنّما هو في طهارة الماء قبل الغسل ، فالتحقيق :

تقديم السببي على المسببي دون العكس ، لدوران الأمر بين التخصّص بتقديم السببي والتخصيص بناء على العكس ؛ ومن المعلوم تعين الأول في مقام الدوران.

بيانه : انّه مع اجراء الاستصحاب في طهارة الماء في المثال يحكم شرعا بترتيب آثاره ومنها طهارة الثوب المغسول به فيكون رفع اليد عن اليقين بنجاسته باليقين بحكم الشارع بزوالها وحصول الطهارة بالغسل بالماء المستصحب الطهارة لا بالشك ، فلا تحصل المخالفة لدليل الاستصحاب أصلا. وامّا إذا عمل باستصحاب نجاسة الثوب فليس من آثاره نجاسة الماء الوارد على الثوب المغسول به فيبقى الشك في طهارة الماء بحاله مع عدم التمكن من العمل به إذ معه لا يمكن استصحاب النجاسة في الثوب فلا بدّ من رفع اليد عن اليقين بالطهارة بالشك فيها فيلزم المحذور من تخصيص دليل الاستصحاب بالنسبة إلى السبب بلا وجه أو بوجه دائر كما لا يخفى.

٥١٨

والحاصل : انّ اجراء الاستصحاب في السبب موجب لحكم الشارع بزوال نجاسة الثوب ، وامّا اجراؤه في المسبب فلا يوجب حكم الشارع بزوال طهارة الماء بل لا بدّ من رفع اليد عن اليقين بها سابقا بلا وجه مخصص.

فان قلت : انّ الحكم ببقاء نجاسة الثوب بالاستصحاب مستلزم للحكم بعدم حصول الطهارة فيه ، حيث انّ اثبات أحد الأضداد ولو ظاهرا يوجب رفع أضدادها ظاهرا ومن المعلوم انّ الحكم بنفي الطهارة في الثوب لا يجامع مع عدم الحكم بنجاسة سببه وهو الماء إذ بدونه لا بدّ امّا من الحكم بطهارة الثوب أو لا يحكم بشيء أبدا فلا بدّ مع الحكم بنجاسة الثوب من الحكم تعبدا بعدم طهارة الماء ولو بالملازمة الظاهرية وحينئذ يكون رفع اليد عن اليقين بالطهارة باليقين بحكم الشارع بعدمها لا بمجرد الشك فلا يكون استصحاب الطهارة أولى.

قلت :

أولا : انّ الحكم بعدم طهارة الثوب لا يستلزم التعبد بعدم طهارة الماء بل [ يجتمع ] (١) مع الشك فيها كما لو تعارض الاستصحاب السببي مع ما في عرضه من الاستصحاب ، حيث انّه يعمل بالاستصحاب المسببي بلا حكم بالنسبة إلى طهارة الماء.

وثانيا : انّه على فرض التسليم ، فرق :

بين الحكم بزوال المتيقن السابق ورفع الشك في أحدهما كما في المسبّب بعد العمل بالاستصحاب في السبب.

وبين رفع اليد عن أصل حرمة النقض مع بقاء موضوعه وهو الشك في البقاء كما في السبب لو عمل بالاستصحاب في المسبب.

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( يجامع ).

٥١٩

وبعبارة اخرى : يكون الحكم الناشئ من السبب في طرف المسبّب في نفس متعلّق الشك ، وامّا الناشئ من المسبّب في طرف السبب فإنّما هو في نفس عنوان الشك في مقابل قاعدة الطهارة.

وان شئت قلت : انّ الاستصحاب السببي موجب لحدوث العنوان الواقعي الذي تعلّق به زوال النجاسة في الثوب تعبدا وهو الغسل بالماء الطاهر فيكون كالأمارة بالنسبة إليه ، دون العكس ، لعدم كون أحد أسباب زوال الطهارة في الماء قبل غسل الثوب به بقاء النجاسة في الثوب بعد غسله به وان كان لا بدّ من الحكم برفع اليد عن اليقين الأول ونقضه بالشك بمعنى عدم العمل على طبق اليقين السابق بلا سبب مزيل كما في الحكم بالبناء على الأكثر في الشك في ركعات الصلاة في مقابل الاستصحاب.

والحاصل : انّ نقض اليقين بالشك قد يكون حراما كما في الاستصحاب ، وقد يكون واجبا كما في القواعد المجعولة في قباله ومنها ما نحن فيه لو عملنا به في طرف المسبب ، فليس كلما لو رفع اليد عن اليقين الأول ولو بحكم الشارع كان نقض اليقين باليقين كما توهّم بل المدار في كونه كذلك حدوث عنوان يزول به المتيقن ولو بحكم الشارع وكلّما لم يكن كذلك فليس نقض اليقين الأول باليقين وان كان يقين بحكم من الشارع كما لا يخفى.

وسرّه : انّ اليقين المجعول غاية في دليل الاستصحاب وهو قوله : « لكن ينقضه بيقين آخر » هو اليقين الوجداني المتعلق بزوال المتيقن السابق أو بقائه واقعا أو بالحجّة على أحدهما ، لا اليقين بمطلق الحكم من الشارع وإلاّ لكان كل دليل ولو دليل الأصل واردا على الاستصحاب كما لا يخفى.

فان قلت : انّ ما ذكر ـ من انّ فردية الشك في المسبب يتوقف على تخصيص الدليل واخراج الشك في طرف السبب عنه دون فردية السبب فانّه فرد مطلقا

٥٢٠