تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

للمعنى؟ فانّه قبله لم يكن سببا للدلالة وبعده صار سببا لها كما لا يخفى ، وهذا كتعين السعر بمجرد جعل المالك ونحوه.

قلت : انّ ما يتصور في مورد استعمال اللفظ المتوهم حصوله من الوضع لا يخلو من ثلاثة أشياء :

أحدها : ارادة المتكلم المعنى منه ؛ ولا ريب في عدم توقفه على الوضع بل يكون ولو مجازا بل غلطا.

ثانيها : علم المخاطب أو ظنه بارادة المتكلم له وتصديقه بذلك ؛ وهو لا يحصل بمجرد الوضع خارجا بل يتوقف على امور غيره بحيث لو لا واحد منها لما حصلت الدلالة بالمعنى المذكور :

منها : علمه بالوضع.

ومنها : علمه بتبعية المستعمل له.

ومنها : علمه أو ظنه بارادته له جدا لينتقل إلى ما هو لازمه من ترتيب آثار الواقع ولا أقل في مقام الاستعمال ليكون حجة وضربا لقاعدة في البين كي تكون هي المرجع عند الشك في مراده في غير ما علم خلافه على أقوى الوجهين في العام المخصص بالمنفصل.

ومن المعلوم انّ مع هذه الامور يحصل التصديق بالارادة ولو لم يكن وضع في البين كما لو كان العلم بالوضع ـ لكل من المستعمل والمخاطب ـ جهلا مركبا.

نعم مع كون المستعمل فيه موضوعا له واقعا تتوقف تلك الامور على الوضع لكونه متعلقا لها ، مع انّ هذا التوقف إنّما هو بنفس الوضع لا بما قصد به من جعل السببية للفظ ؛ هذا على تقدير كون المعنى معنونا بعنوان الموضوع له ؛ وامّا التصديق بكونه مرادا بما هو فلا يتوقف على الوضع أصلا.

ثالثها : الدلالة بمعنى خطور المعنى في ذهن السامع عند سماعه أو رؤيته

٤٢١

كتبا ونحو ذلك ، فلا يتوقف على الوضع أيضا بل على الامور المذكورة بل يحصل عند عدمها أيضا بمقدمات اخرى مع التصريح بنفي الوضع له أو بمجرد احساس المقارنة بين اللفظ والمعنى اتفاقا ، وعلى تقدير التسليم فيكون من آثار نفس الوضع لا ما قصد به.

هذا كله في السببية للتكليف.

وكذا الحال في السببية للأحكام الوضعية كجعل معاملة ونحوها سببا للملكية ونحوها فالتحقيق انّها لم تكن مجعولة أيضا ، حيث انّ المسببات كما سيجيء وان كانت من الامور الاعتبارية إلاّ انّها من الاعتبارات الصحيحة التي لا بدّ من منشأ انتزاع صحيح لها بحيث لا بدّ من خصوصية فيه يكون بها منشأ لانتزاع أمر خاص لا غيره الفاقد لها ، ولا هو لغيره ، وإلاّ لكان كل شيء منشأ للانتزاع بالنسبة إلى كل شيء وهو باطل ؛ وحينئذ فان كان ذاك الشيء المجعول له السببية ذات خصوصية فلم تكن السببية مجعولة وإلاّ فلم يتحقق بالانشاء تشريعا لعدم انقلاب الأشياء به عما هي عليها من الخصوصيات الواقعية.

وامّا توهم : تحقق السببية في معاملة ونحوها بالنسبة إلى الملكية ونحوها بمجرد جعل طائفة من العقلاء لها سببا لها بعد عدم كونها كذلك قبله ، فمدفوع على فرض تسليم صيرورتها سببا لها :

امّا بأنّ منشأ انتزاع الملكية هو نفس الجعل المتعلق بالمعاملة الذي كان سببا للانتزاع واقعا ؛ وملاحظتها في مقام الانتزاع إنّما هو من جهة كونها متعلق الجعل الخاص وتحققه عنده لا مطلقا.

وامّا بالتزام انّ السبب الواقعي للملكية إنّما هو العقد الصادر ممن كان سلطانا على متعلقه حينه ومختارا في التصرف فيه ، كانت سلطنته ذاتية واقعية كالله تبارك وتعالى أو جعلية من قبله تعالى ولو بالواسطة في كل الامور كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

٤٢٢

والولي عليه‌السلام أو في بعض دون بعض ، أصالة كالمالك مثلا أو نيابة كولي المحجور عليه أو الوصي مثلا ، كانت دائرته مطلقة أو على تقدير وجدان بعض الشروط دون بعض على اختلاف أنحائها.

فالمجعول منه تعالى للملاّك بدليل « الناس مسلّطون الخ » (١) هو السلطنة والولاية بعد كونها من الامور القابلة للجعل وبعد ذلك يتحقق الموضوع وهو السلطان فيكون عقده سببا ذاتا عند العقلاء بلا جعل السببية فيه ؛ وعرفت انّ جعل الموضوع غير جعل السببية.

لا يقال : انّ السبب لو كان هو العقد الصادر ممّن كان سلطانا من قبله تعالى فكيف يتخلف عنه عند غير المتشرعة؟

لأنّه يقال : انّ السبب هو عقد السلطان على النحو الذي جعلت له السلطنة ، غاية الأمر يكون الخطأ فيما تخلف عن جعله تعالى في السلطان وتخيل انّ السلطنة لا يلزم أن تكون من قبله تعالى.

ومما ذكرنا في جعل المعاملة سببا للملكية ظهر الجواب عن سببية جعل المالك للسعر لو كان من الاعتبارات الواقعية.

والحاصل : انّ السببية بأنحائها غير قابلة للجعل ، وكذا شرط التكليف والمانع عنه لما عرفت في السببية من تبعية التكليف للغرض الداعي إليه ، فان كان لشيء دخل فيه على نحو السببية أو الشرطية وجودا أو عدما فيؤثر فيه ولو لم يتعلق به جعل وإلاّ فلا يحصل له الدخل مطلقا ولو أنشئ له تشريعا لكون هذا الدخل راجعا إلى التأثير في المشروط ولا يكاد يكون إلاّ عن خصوصية واقعية

__________________

(١) الخلاف ٣ : ١٧٦ المسألة ٢٩٠ من كتاب البيوع ؛ عوالي اللآلي ١ : ٤٥٧ الحديث ١٩٨ و ١ : ٢٢٢ الحديث ٩٩ و ٢ : ١٣٨ الحديث ٣٨٣ و ٣ : ٢٠٨ الحديث ٤٩ ؛ بحار الانوار ٢ : ٢٧٢ الحديث ٧. وهذا النبوي قد رواه جمع من العامة ، والظاهر انه ليس له طريق صحيح عندنا.

٤٢٣

التي لا تكاد تحصل بالانشاء كما لا يخفى. وامّا انتزاع الشرطية للمجيء في مثل « ان جاءك زيد فأكرمه » فإنّما هو لخصوصية الواقعية لو كانت وإلاّ فيطلق عليه مسامحة من جهة تحقق الموضوع عنده كما لا يخفى.

هذا كله في القسم الأول.

وأمّا القسم الثاني ، وهو : ما يقبل الجعل تبعا لا أصالة كالشرطية والجزئية والمانعية للمأمور به ، فليعلم انّ لها اعتبارات ثلاث :

أحدها : دخلها في حصول الغرض من المأمور به بناء على تبعية الأمر لما فيه من المصلحة. ولا ريب في كونها بهذا الاعتبار داخلة في القسم الأول ، وقد عرفت انّه غير قابل للجعل مطلقا.

ثانيها : دخلها في ذات المأمور به في عالم اللحاظ قبل تعلق الأمر به في الماهيات المخترعة التي كانت لها وحدة اعتبارية كالصلاة ونحوها.

وثالثها : كونها داخلة فيه وجودا أو عدما بعنوان كونه مأمورا به. ولا يخفى انّ كلا منها بهذين الاعتبارين منتزعة ومجعولة تبعا ، غاية الأمر للاختراع ولحاظ الماهية في الأول وللأمر به في الثاني ، فان كان اللحاظ الوحداني متعلقا بالمركب من الاجزاء والشرائط أو الأمر ينتزع لها الجزئية أو الشرطية للماهية أو للمأمور به ولو ألف مرة انتفت الجزئية والشرطية ولو لم يتعلق بالمجموع لحاظ وحداني ولا أمر ، فلا يصدق على كل منها الجزئية والشرطية للماهية أو للمأمور به ولو ألف مرّة أثبت لها كما لا يخفى.

وامّا الصحة والفساد :

ففي العبادات فغير قابلتان للجعل أيضا بل الصحة تابعة للاتيان بالمحبوب بنحو يحصل به الغرض وهو اتيانه على نحو قربي ، سواء تعلق به أمر فعلا أو لا لمانع عنه كما في غير الأهمّ من المتزاحمين منتزعة عن الاتيان بالمأمور به الفعلي

٤٢٤

أو الشأني على الوجه القربي ، فان أتى به كذلك فينتزع عنها الصحة وإلاّ فلا ؛ والفساد ينتزع عن عدم الاتيان به كذلك.

ومما ذكرنا ظهر المناقشة في تفسير الصحة : بموافقة المأتي به للمأمور به مطلقا ؛ لما عرفت من عدم لزوم الأمر الفعلي وعدم كفاية مطلق الموافقة في انتزاعها.

وكذا الحال في المعاملات بناء على كون الصحة فيها بمعنى تأثيرها في الملكية ونحوها على ما عرفت من عدم كون السببية مجعولة فيها أيضا ، لكون التأثير حينئذ راجعا إلى نفس ذات المعاملة بخصوصياتها الواقعية ؛ والفساد عبارة عن عدم تأثيرها كذلك.

نعم بناء على ما عرفت من كون السبب هو العقد الصادر عن السلطان فلا غرو في قابليتهما للجعل بتبع جعل موضوعهما وهو السلطنة.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما يقبل الجعل أصالة وتبعا إمكانا ، وأصالة وحدها وقوعا كالملكية والزوجية والوكالة والولاية والحجية ونحوها من سائر الاعتبارات ، فيقع الكلام فيها في مقامين :

[ المقام ] الأول : في حقيقتها هل هي من الامور الواقعية التي كان ما بحذائها شيء في الخارج أم لا؟ بل من الاعتبارات التي ليست كذلك.

التحقيق : انّ الملكية مثلا من مقولة الاضافة فتكون من الاعتبارات ، إلاّ انّها ليست من أنياب الاغوال التي لا واقع لها ولا منشأ الانتزاع سوى الانتزاع والاختراع بل من الاعتبارات الصحيحة التي كان لها منشأ انتزاع صحيح ، ولذا لا ينتزع من كل شيء بل من أشياء خاصة كعقد المالك مثلا مع شرائط خاصة ، خلافا

٤٢٥

لبعض الفضلاء المعاصرين (١) فانّه قال : انّه من مقولة الجدة ، وقد عرفت بأنّها هيئة إحاطة شيء بشيء بحيث ينتقل المحيط بنقل المحاط كالتقمّص والتعمم ونحوهما كما في كتب المعقول من الأسفار (٢) وغرر الفرائد (٣) للسبزواري وفي الشوارق (٤) نقلا عن بعض آخر ؛ ولا ريب في انّ حصول الملكية لا يلازم أبدا مع حصول الجدة بل لا تتغير تلك المقولة أو تكون لشخص مع تغيير الملكية وحصولها لغير من له المقولة كما هو واضح.

ولعل التوهّم إنّما نشأ مما يتراءى من عبارة المحقق الطوسي رحمه‌الله : انّ التملك من مقولة الجدة. (٥)

ولكن الظاهر بل المقطوع انّه أراد من الملكية الاتّصاف بالهيئة الحسّية المذكورة ووجدانها ، لا الملكية فيما نحن فيه التي كانت من الاعتبارات المعنونة تحصل بمجرد العقد مثلا بلا تغيير في الواقعيات ، ولذلك صرح في الأسفار (٦) في باب مقولة الجدة : انّ الملكية من الإضافات ، فراجع.

المقام الثاني : في منشأ انتزاعها ، فانّه بعد امكان كونه هو جعل التكاليف وانشائها وعدم استحالته عقلا يقع الكلام في وقوع ذلك واقعا وعدمه.

والتحقيق : انّ ما وقع منها في الخارج انّها لا ينتزع من مجرد الحكم التكليفي وان كان يمكن أن يستكشف به وجودها.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٨٣.

(٢) الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة ٤ : ٢٢٣.

(٣) شرح المنظومة ، قسم الفلسفة : ١٤٣ ـ ١٤٤ « غرر في الاعراض النسبية » ؛ والطبعة الحديثة ٢ : ٤٩١ ـ ٤٩٢.

(٤) شوارق الالهام : ٣٩٤ المبحث السابع من الفصل الخامس.

(٥) اساس الاقتباس : ٥١ ، كشف المراد : ٢٧٧ المسألة الثامنة.

(٦) تقدم تخريجه.

٤٢٦

أمّا أولا : فلأنّ التكاليف التي كانت مع كل واحد من الاعتبارات لو كان منشأ لانتزاعها فامّا :

أن يكون ذلك جميع ما كان منها أثرا للملكية والزوجية مثلا فبديهي البطلان لوضوح تخلف البعض بل المجموع عن كل منهما كما في ملك المحجور عليه والصغير والزوجة المنقطعة وزوجة الصغير.

وان كان بعضا معيّنا فباطل أيضا ، لوضوح تخلف كل من آثار الزوجية والملكية عنهما فيوجد في بعض الموارد ولا يوجدان فيه ويتحققان ولا يتحقق ذاك الأثر كما في وجوب النفقة والارث مع الزوجية مثلا وجواز البيع وكل من التصرفات في الملكية.

وان كان غير معيّن فلا معنى له بعد عدم الجامع فتدبر حتى يتضح حقيقة الحال ، هذا.

مع انّه قد يكون غالب أحكام الملك لغير المالك كما في المجاعة ، ولا يكون للمالك إلاّ القليل كما في ملك البطون اللاحقة في الوقف الخاص.

ومما ذكرنا ظهر : انّ القائل بانتزاعية الملكية مثلا كالشيخ قدس‌سره (١) لا بدّ أن يقول به في كل مورد تحقق فيه الآثار ، وحينئذ فيرد عليه : انّه بناء على مذهبه فلا يتصوّر إباحة جميع التصرفات في المال بدون الملكية ، فكيف هو يتصدى للنقض والابرام على القول بالاباحة في المعاطاة منفكا عن الملكية بكونه مخالفا لأدلة مثل « لا بيع إلاّ في ملك » (٢) و « لا عتق الخ » (٣) بحيث يظهر منه صحته ذاتا لو لا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٣٠.

(٢) بهذا المعنى في : وسائل الشيعة ١٢ : ٣٧٤ الباب ٧ من ابواب احكام العقود ، الحديث ٢ و ٥ ؛ ١٢ : ٢٥٢ الباب ٢ من ابواب عقد البيع وشروطه ، الحديث ١ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٣٠ عدة احاديث.

(٣) وسائل الشيعة ١٦ : ٨ كتاب العتق الباب ٥ من ابواب العتق ، عدة احاديث مختلفة الالفاظ بهذا المعنى.

٤٢٧

تلك الأدلة؟ مع انّه على مذهبه لا بدّ أن يردّ ذاك القول بعدم المعنى له بعد القول بانتزاعية الأحكام الوضعية.

وامّا ثانيا : فلأنّه لا بدّ في الامور الاعتبارية الاختراعية في مقام انتزاعها من لحاظ منشئها وتحققه ، مع انّه ليس كذلك في مثل الملكية والزوجية ونحوهما حيث انّه بمجرد وقوع العقد بين المتبايعين والمتناكحين يعتبر لهما الملكية والزوجية مع الغفلة بالكلية عن تكليف شرعي وانّ المنشأ لهما مثلا أيّ الآثار وانّه يتحقق بينهما أم لا ، فيستكشف عن عدم كون الأحكام الوضعية منتزعة عن التكليف.

واما ثالثا : فلأنّه لو كانت منتزعة فلا بدّ في مقام الانشاء من قصد حصول المنشأ وهو التكليف أو قصد ما كان موضوعا له ، وبعد تحققه فيتبعه الوضع قهرا حيث انّه منتزع عنه ولا بدّ في مقام اختراع الأمر الانتزاعي من قصد حصول منشئه ، ومن المعلوم انّ الأمر في المقام ليس كذلك حيث انّه ينشأ الوضع ويتسبب بانشائه إلى تحققه مع الغفلة عن التكليف رأسا.

والحاصل : انّه لا وجه لجعل الأحكام الوضعية منتزعة عن التكليف مع انّ اختلافه لا يوجب الاختلاف فيها ، دون العكس فانّ اختلافها يوجب الاختلاف فيه فيستكشف عن كونها مجعولة بالاستقلال ثم يتبعها التكليف. ويدل عليه قابلية بعض الحقوق ـ مثل الشفعة وحق الخيار ونحوهما ـ للصلح والاسقاط والنقل والانتقال ، مع انّ التكليف ليس كذلك وليس اختراعه بيد المكلف واختياره.

ومما ذكرنا في الملكية والزوجية ونحوهما ظهر : انّ الحال في الحجية والولاية والقضاوة وسائر المناصب كذلك فانّها مجعولة بالاستقلال ثم يتبعها الوضع لا بالعكس وان كان يعبّر عنها بآثارها كناية عنها. ويدل عليه كيفية جعل المناصب في العرف ؛ وقوله عليه‌السلام بعد ذكر صفات القاضي : « انّي قد جعلته قاضيا وحاكما عليكم

٤٢٨

الخ » (١) إلى أن قال : « هم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم » (٢) فانّ ظاهر العرف في جعل المناصب وكذا ظاهر الخبر هو جعل المنصب ثم يتبعه التكليف لا بالعكس.

ثم انّه يتفرع على ما ذكرنا ـ من كونه المجعول في الأخبار مثلا هو الحجية ـ بقاء التكليف الواقعي على حاله وكونه فعليا ولو مع الحجة على خلافه كما ذكرنا في جعل الأمارات.

إذا عرفت ما ذكرنا من عدم كون الحكم التكليفي منشأ لانتزاع الملكية ونحوها فاعلم : انّ انشاءها وهو قصد حصولها باللفظ أو الفعل ونحوهما يكون منشأ لها مع انّه يكون من المحمولات بالضميمة ، وكذا تكون الأسباب الأخر من الموت وسائر ما جعله الشارع بلا جعل سببية فيها بل المراد من جعله امّا كشفه عن السبب أو جعل الموضوع كما عرفت.

ثم انّ ما قلنا : من كون الأحكام الوضعية اعتبارية إنّما هو في غير الطهارة والنجاسة ، وامّا هما فيمكن كونهما من المحمولات بالضميمة بناء على كونهما من المتضادين ، أو أحدهما بناء على كونهما من العدم والملكة. وفي كون الوجودي هو الطهارة أو النجاسة والحدث وجهان.

ولكن الظاهر انّ الخبث الشرعي مثل القذارة العرفية يكون من الامور الواقعية الموجودة كما يتضح ذلك بالرجوع إلى العرف من تنفّر طبائعهم من القذر

__________________

(١) لم نعثر عليه بهذا التعبير ، بل الظاهر إنها عبارة ملفقة من روايتين : الاولى : « فاني قد جعلته عليكم حاكما » ، وسائل الشيعة ١٨ : ٩٨ الباب ١١ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ١ ؛ والثانية : « فاني قد جعلته عليكم قاضيا » الحديث ٦ من نفس الباب.

(٢) الظاهر أنها تتمة لرواية « واما الحوادث الواقعة » لا لرواية « عليكم قاضيا » أو « عليكم حاكما ». وسائل الشيعة ١٨ : ١٠١ الباب ١١ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

٤٢٩

عندهم ، ومن المعلوم انّ القذر عند الشرع لا يخالفه بحسب الكبرى وإنّما الردع وجودا أو عدما بحسب تخطئتهم في المصداق حيث انّ الملاك الواقعي فيه إنّما هو تنفّر طبيعة الشرع لا تنفّر طبيعتهم وان كان هو المرجع في استكشاف القذارة الشرعية فيما كان إطلاق في البين بلا معيّن شرعي. وهذا ، كما انّه بحسب الأثر كذلك أيضا ، فيكون المرجع في غسل النجاسة وازالتها ما هو كذلك عرفا لو لم يكن طريق خاص من الشرع على خلافه.

وامّا الطهارة في مقابل الخبث : فالظاهر انّها عدم القذارة عما من شأنه القذارة فتكون المطهرات معدمة للخبث وحده ولا دليل على كونه أمرا وجوديا ، فيكونان من الضدين حتى تكون المطهرات الشرعية محدثة لأمر ومزيلة لأمر آخر وهو الخبث.

وأمّا الطهارة في مقابل الحدث : فالظاهر من أدلة الوضوء من انّه « نور » (١) و « الوضوء على وضوء نور على نور » (٢) وأدلة الغسل من انّه « أنقى من الوضوء » (٣) والأدلة الدالة على تأثيراتهما في بعض الامور المعنوية من تبعيد الشيطان والأجنّة وتسهيل خروج الروح في حال الاحتضار ونحو ذلك ؛ انّها وجودية ، فراجع الأدلة.

وامّا الحدث : فيمكن أن يكون أمرا وجوديا أو عدميا ، ولا دليل على واحد منهما ، فلا يعلم انّ المزيل للطهارة من البول والنوم ونحوهما هل يحدث أمرا

__________________

(١) لم نجده في مظانه. ويحتمل انه متصيد من قوله عليه‌السلام : « الوضوء على الوضوء نور على نور » الآتي.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٦ الباب ٨ باب صفة وضوء رسول الله (ص) الحديث ٨٢ / ٩.

(٣) لم نجده بهذا التعبير ، بل بتعبير : « وأيّ وضوء أنقى من الغسل ». وسائل الشيعة ١ : ٥١٦ الباب ٣٤ من ابواب الجنابة ، الحديث ٤.

٤٣٠

وجوديا آخر وهو الحدث أم لا؟ وتظهر الثمرة في كون الحدث مانعا أو الطهارة شرطا في لزوم الاحراز وعدمه كما في مخلوق الساعة بالغا بلا صدور واحد من الأحداث منه كما لا يخفى ، فتدبر.

٤٣١

وينبغي التنبيه على امور :

[ الامر ] الأول : في جريان الاستصحاب في ما لو كان المستصحب كليا سواء كان حكما شرعيا أو موضوع حكم شرعي وعدمه.

وليعلم : انّ هذا النزاع ـ بل سائر ما يأتي من النزاع في جريان الاستصحاب في بعض الامور الأخر في التنبيهات الآتية ـ ليس في الكبرى في تعيين مفاد الأدلة الدالّة على حجية الاستصحاب ومقدار سعته وضيقه ، بل إنّما هو في الصغرى في تطبيق ما استفيد منها من المعنى على بعض الصغريات لاجتماع جميع ما تقوّم به الاستصحاب من الشرائط وعدمه لاختلال بعض الشرائط.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّ الشك في الكلي يكون على أقسام :

[ القسم الاول ] (١) : أن يكون الشك في بقاء الكلي وارتفاعه من جهة الشك في بقاء الفرد المعيّن الذي تحقق الكلي سابقا في ضمنه وارتفاعه ، كالانسان المتحقق في ضمن زيد المشكوك بقاؤه من جهة الشك في بقائه.

ولا اشكال في جريان الاستصحاب في كل منهما وترتيب آثار كل منهما عليه.

وهل يغني استصحاب أحدهما عن الآخر؟

فنقول : انّ استصحاب الكلي لا يفيد بالنسبة إلى آثار الفرد ، لعدم استلزامه للفرد إلاّ من باب انّه مصداق فرد ما لا بدّ منه في وجود الكلي لا له بخصوصيته.

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( أحدها ).

٤٣٢

وامّا استصحاب الفرد فيبتني على اتحاد الطبيعة مع الفرد وجودا عرفا كما كان كذلك دقة أو تعددهما بحسب تخيلهم ولكن مع خفاء الواسطة ؛ وامّا مع تعددهما في نظرهم مع جلاء الواسطة وان كان مخالفا للواقع فيشكل ذلك بناء على عدم حجية الاستصحاب المثبت ، حيث انّ المناط في موضوعه إنّما هو نظر العرف ولو المسامحي منه ، لا الدقة العقلية. إلاّ ان يناقش بانّ نظرهم هو المناط في تعيين المفاهيم لا في مقام التطبيق كما فيما نحن فيه بتخيل التعدد فيمكن أن يكون خطأهم فيما نحن فيه في التطبيق بحيث لو اطّلعوا على الاتحاد في الواقع لقالوا بكفاية استصحاب الفرد في ترتيب آثار الطبيعة فتدبر.

القسم الثاني : أن يكون الشك في بقاء الكلي وارتفاعه في الآن اللاحق من جهة عدم تعيّن الفرد المحقق سابقا وتردده بين ما هو مرتفع جزما وما هو باق كذلك.

فالمشهور جواز استصحاب الكلي في هذا القسم بلا تفاوت :

بين كون الشك من جهة المقتضي ، كالشك في بقاء الحيوان المردد بين طويل العمر وقصيره استعدادا.

وبين كونه من جهة الشك في الرافع ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر بعد التوضي مثلا. وقيّد شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (١) هذا المثال بما إذا لم يعلم الحالة السابقة.

ولكن الأوجه عدم صحة هذا التقييد ، حيث انّه لو كانت الحالة السابقة هي الطهارة فلا اشكال في صحة الاستصحاب المذكور.

وان كانت حدثا أصغر وقلنا بتأثير الحدث الأصغر بعد الحدث بأن يوجب

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩٢.

٤٣٣

التأكيد في الوجود وان كان يتداخل في المسبب فكذلك ، حيث انّه يعلم بحدوث نحو جديد من الوجود وهو من جهة كونه تأكّد الوجود الأول ويدور بين الفرد الزائل بالوضوء أو لا يزول إلاّ بالغسل.

نعم لو قلنا بعدم التأثير أو كانت الحالة السابقة هو الحدث الأكبر فلا يكون من القسم الثاني بل يكون المثال الأول من قبيل الشك في تبدّل الفرد الأول بفرد آخر فيكون داخلا في القسم الثالث ، والثاني مما لا يشك في الفرد ولا في الحكم.

هذا بحسب أثر الكلي.

وامّا من جهة أثر الخصوصية فيكون الأصل في كل من الفردين معارضا بجريانه في الآخر في المسبوق بالطهارة أو الحدث الأصغر بناء على التأثير والمشكوك الحالة السابقة فيما لو كان لكل واحد منهما أثر وفي صورة عدم الأثر لواحد منهما في الصور المذكورة تكون أصالة عدم التحقق في الآخر منهما بلا معارض.

وامّا صورة السبق بالحدث الأصغر بناء على عدم تأثير الأصغر بعد الأصغر فيشكل الاكتفاء بأصالة عدم حدوث الأكبر بناء على كونه مباينا مع الأصغر وجودا وغير موجب لارتفاعه ذاتا إلاّ بالغسل الرافع لكليهما حيث انّه بعد الوضوء حينئذ يشك في ارتفاع الأصغر كما لا يخفى فيكون داخلا في القسم الأول من أقسام الكلي الذي عرفت جواز استصحاب كل من الشخصي والكلي.

وامّا بناء على التبدل وصيرورة الأصغر بعد الأكبر شديد الوجود بنحو لا يرتفع إلاّ بالغسل فيشك بمجرد حدوث الحدث المردد بعد الأصغر في تبدل المرتبة الضعيفة بالشديدة فيدخل في القسم الثالث من أقسام الثالث من الكلي الذي سيجيء جواز اجراء استصحاب الكلي فيه فيشكل الاكتفاء بالوضوء في رفع اليد عن آثار مطلق الحدث. وأصالة عدم حدوث الأكبر لا يثبت ارتفاع

٤٣٤

الكلي.

نعم لو كان اطلاق دليل يدل على انّ من كان محدثا بالأصغر ولم يحدث منه أكبر ولو بالأصل فيكفيه الوضوء ، لكان الاكتفاء به مطلقا حسنا ، لثبوت الموضوع المركب أحد جزئيه بالوجدان على التباين وبالأصل على الشدة ؛ والجزء الآخر وهو عدم حدوث الأكبر بالأصل كما لا يخفى. لكن الأقوى بناء على التبدل انّ استصحاب بقاء الضعيفة وعدم حدوث المرتبة الشديدة يكون جاريا مطلقا بناء على كون الرفع بالوضوء في الضعيفة وبالغسل في الشديدة أثرا شرعيا فتدبّر.

وامّا صورة المسبوقية بالأكبر فلا يتوقع ، للأصل ، لعدم الشك كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك ، فالتحقيق : جواز الاستصحاب في كل ما كان من القسم الثاني ولا مانع منه من جهة كلية المستصحب سواء كان حكما شرعيا كالطلب المتحقق في ضمن الوجوب المشكوك في بقائه أو ارتفاعه أو غيره كما عرفت من المثالين لتحقق ما هو قوام الاستصحاب من اليقين بالحدوث سابقا والشك في البقاء لاحقا للقطع بتحقق الكلي بنحو من الوجود والشك في بقائه بذاك النحو.

فان قلت : انّه بناء على التحقيق من كون الطبيعي عين الفرد وجودا ويكون تعدده ووحدته وجودا بتعدد الفرد ووحدته فيشكل الاستصحاب في المقام ، حيث انّ الموجود لمّا كان مرددا بين الفرد المرتفع قطعا والباقي كذلك فيتردّد نحو وجود الكلي بين ما ارتفع جزما وبين ما كان باقيا على تقدير حدوثه لكنه مشكوك الحدوث رأسا فيحكم بعدمه بالأصل بعد القطع بعدم الوجود الآخر مع عدم وجود ثالث في المقام.

قلت : انّ الموجود الحادث بالقطع المتردد بين الخصوصيتين مشكوك البقاء ، ولا أصل فيه يتعيّن به انّه الفرد الزائل بالقطع لعدم الحالة السابقة ، لعدم خصوصية

٤٣٥

الفرد الطويل فيه ولا خصوصية الفرد القصير ؛ وأصالة عدم حدوث الفرد الطويل بمفاد كان التامة لا يثبت انّ الحادث هو القصير وان كان ينفع في نفي آثاره فيما لا معارضة مع الأصل في الآخر ، ومع عدم تعيّن خصوصية الوجود الحادث يكون الكلي الموجود بذاك الوجود واجدا لشرائط الاستصحاب.

ونظير هذا التوهم ، توهم : انّ الشك في الكلي بقاء وارتفاعا مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل وعدمه فتكون أصالة عدم حدوثه حاكما على استصحاب الكلي ومقدما عليه.

ولكنه يدفع : بأنّ الشك فيه مسبب عن الشك في كون الحادث هو هذا الفرد أو ذاك مع عدم أصل فيه كما عرفت ، لا عن الشك في حدوث الفرد الطويل بمفاد كان التامة وعدمه ؛ مع انّه على فرض كونه مسببا عنه ولو بواسطة أو بدونها يكون من آثاره عقلا وترتبه عليه عقليا أيضا فلا يترتب عليه إلاّ بالمثبت كما هو واضح.

هذا بالنسبة إلى استصحاب الكلي.

وامّا بالنسبة إلى استصحاب الفرد فقد يقال : ـ كما قرره الاستاذ (١) دام ظله ـ بتحقق أركانه فيه ، للعلم بتحقق فرد معيّن واقعا وان كان مرددا في نظرنا والشك في بقاء ذاك الفرد الحادث ، غاية الأمر لا يعتنى به من جهة عدم ترتب الأثر عليه لعدم العلم بخصوصيته.

ولكن التحقيق : عدم جريانه فيه ، لكون المعلوم سابقا فردا مرددا بين الفردين ، والمشكوك لاحقا هو الفرد الطويل معينا وهو غير مسبوق باليقين بالحدوث فتدبّر.

القسم الثالث : ان يكون الشك في بقاء الكلي مستندا إلى احتمال فرد آخر

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦١.

٤٣٦

غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ؛ وهو على أقسام أيضا ، لأنّ الفرد الآخر يحتمل وجوده :

تارة ، مقارنا مع الفرد الزائل من أول وجوده.

واخرى : يحتمل حدوثه بعده مقارنا لارتفاعه.

وثالثة : يحتمل تبدل الفرد المعلوم الزوال إليه فيما كان الجامع بينهما قابلا للشدّة والضعف.

وفي جريان الاستصحاب وعدمه كذلك أو التفصيل ، يبتني على انّ تعدد الوجود مضافا إلى الفرد فيما كانت الأفراد كثيرة هل يوجب كثرة الطبيعة وجودا وان كانت واحدة ماهية في الجميع ، فيكون ارتفاع واحد من الافراد وحدوث آخر منها بالنسبة إلى الكلي أيضا ارتفاع وجود وحدوث وجود آخر كما في الفرد؟ أم لا؟

بل يكون الوجود مضافا إليه واحدا ، فتكون الوجودات مع كونها وجودات كثيرة بالنسبة إلى الافراد وجودا واحدا بالنسبة إلى الطبيعة فكأنها صارت حصصا كثيرة كل منها في ضمن فرد منها وتكون جميع الحصص وجودا واحدا بالنسبة إليه فلا يكون ارتفاع بعض منها أو حدوثه رفعا وحدوثا له؟

التحقيق ، كما عليه أبناؤه : انّ الطبيعي عين الفرد خارجا ، وانّ مثله بالنسبة إلى افراده مثل الآباء بالنسبة إلى الأبناء لا مثل الأب الواحد بالنسبة إلى أبنائه ، لا أن يكون جزءا منها ولا أن يكون حصة منه موجودة في ضمن كل منها بل بنحو الطبيعة بحيث يكون كل منها تمام الوجود بالنسبة إليه فتكون واحدة بوحدة الافراد ومتعددة بتعددها فحينئذ يكون ارتفاع واحد منها ارتفاع واحد من وجودات الكلي وحدوث آخر منها حدوثا لآخر من وحداته فلا يصدق بقاء الوجود الأول في صورة القطع بذلك فكيف يكون الشك فيه شكا في بقائه؟ هذا بحسب الدقة لا

٤٣٧

اشكال فيه.

وامّا بحسب العرف فالظاهر انّه كذلك بحيث لا يكون عندهم وجودات الافراد مستندا إلى الكلي وجودا واحدا فلا يجري الاستصحاب بحسب نظرهم أيضا بلا تفاوت بين القسمين ، حيث انّ المناط تعدد وجود الكلي بحيث لا يكون واحد منها بقاء للوجود الآخر منه المرتفع بالقطع. ومجرد كون الوجود المحتمل على تقدير وجوده من أوّل الأمر ـ كما في الصورة الاولى ـ لا يوجب الفرق كما هو ظاهر كلام الشيخ (١) أعلى الله مقامه.

نعم الصورة الثالثة وهي ان يكون الشك في تبدل وجود الكلي من مرتبة إلى مرتبة اخرى أو ارتفاعه بالكلية كما لو شك في تبدل السواد الشديد إلى السواد الضعيف أو إلى البياض أو لون آخر فالشك فيها بحسب المداقّة العقلية يكون شكا في البقاء بناء على التحقيق من أصالة الوجود وانّ الحركة في الكيف وفي سائر الأعراض بكون المتحرك في كل آن في حدّ مما فيه الحركة دون الحدّ الذي كان فيه في الآن السابق والذي يكون فيه في الآن اللاحق بحيث ينتزع من كل حد منها مفهوم دون المفهوم في الحد السابق واللاحق مع كون الوجود متصلا وحدانيا من أول حد ما فيه الحركة إلى حده الآخر ـ في عين اتصاله الوحداني ـ شخصا واحدا ، حيث الاتصال الوحداني مساوق للشخصية ؛ فما لم تنقطع الحدود يكون شخص الوجود الأول باقيا ويكون الشك فيه شكّا في البقاء فيجري فيه الاستصحاب بناء على المداقّة.

وامّا بحسب نظر العرف ففي الصورة :

قد يكون مطابقا للدقّة ، كما إذا عدّت المراتب بحسب نظرهم موجودا واحدا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

٤٣٨

كالسواد الشديد والضعيف فيجري فيه الاستصحاب.

وقد يكون مخالفا ، كما لو شك بتبدل السواد إلى مرتبة متوسطة بينه وبين البياض بحيث تكون المرتبة المشكوكة من مراتب وجود السواد دقّة وان لم يعد كذلك عرفا بل يكون مغايرا له بحسب نظرهم ، فلا يجري فيه الاستصحاب لعدم كون الشك في البقاء حينئذ.

وعلى كل حال فالمعيار في جريان الاستصحاب في هذه الصور عدّ الموجود اللاحق بقاء للموجود الأول عرفا.

فإذا عرفت ذلك فاعلم : انّ كل مورد يجري فيه الاستصحاب في الكلي لا يترتب عليه آثار الفرد والخصوصية ؛ وهذا لا يختص بخصوص هذا الباب بل يكون الحال كذلك في كل مورد من موارد الاستصحاب فلا يثبت به إلاّ ما لنفس المستصحب من الآثار الشرعية لا ما كان من ملازماته ومقارناته وما لها من الآثار.

ومن الموارد : استصحاب عدم التذكية في الجلد المطروح واللحم المشتبه ، فانّه يترتب به ما لنفس عدم التذكية من الآثار لا ما لمقارنه من الموت حتف الأنف.

فان كانت الميتة لغة مطلق ما لم يذكّ سواء مع الموت حتف الأنف أم لا أو كانت مستعملة في هذا المعنى في الأدلة الشرعية وان كانت لغة بمعنى وجودي فيثبت حينئذ باستصحاب عدم التذكية ويترتب عليها آثاره الشرعية.

وامّا ان كانت بمعنى وجودي لغة ولم يثبت استعمالها في العدمي شرعا فلا يثبت بالاستصحاب المذكور إلاّ ما لنفس عدم التذكية من الآثار ، لا ما للميتة بخصوصها.

والظاهر ان النجاسة والحرمة من الآثار المشتركة بين الموت حتف الأنف

٤٣٩

وعدم التذكية ، بمعنى انّهما يترتبان على الموضوع المركب أو المقيد من كون الحيوان إذا أزهق روحه ولم يذك بالتذكية الشرعية المعتبر فيها امور خاصة من التسمية والاستقبال ونحوهما أو مات حتف أنفه.

وامّا استدلال المشهور لنجاسة اللحم المطروح بأصالة عدم التذكية فيحتمل أن يكون من جهة ثبوت الميتة به بناء على كونها بالمعنى العدمي لغة أو شرعا أو من جهة اشتراك عدم التذكية معها في النجاسة والحرمة لا من جهة إثبات الموت حتف الأنف به كما تخيله الفاضل التوني (١) وأورد عليهم بما ظاهره :

انّ عدم التذكية كلي له فردان أحدهما لازم للحياة وثانيهما لازم للموت حتف الأنف ، وما كان له حالة سابقة هو الأول لا الثاني ، مع انّ الأثر الشرعي يترتب على الملزوم الثاني ، فلا يثبت بالأصل الجاري في اللازم.

وفيه : ما عرفت من ثبوت الأثر الشرعي المذكور على نفس عدم التذكية فيثبت باستصحابه ، وانّ العدم المذكور ليس من الكلي بل شخص واحد من العدم باعتبار ما اضيف إليه من الوجود وهو تذكية الحيوان.

ومما ذكرنا من كون الحرمة والنجاسة مترتبة على نفس عدم التذكية دليلا وإجماعا ظهر : انّه لا يحتاج إلى تجشّم إثبات كون الميتة أمرا عدميا كما ارتكبه شيخنا العلاّمة (٢) أعلى الله مقامه فراجع.

نعم لو كان أثر شرعي يترتّب على الميتة بخصوصها غيرهما فلا بدّ من إثبات ما ذكره قدس‌سره وإلاّ لما كان لاستصحاب العدم لاثباته سبيل فتدبر.

ومنها : أصالة عدم الحيض ، فانّه يثبت بها الاستحاضة بناء على كونها مركبة من الدم الذي لم يخرج معه دم حيض من المرأة ، لا بناء على كونها بمعنى الدم

__________________

(١) الوافية : ٢١٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩٧ ـ ١٩٨.

٤٤٠