تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

اليقين الفعلي من حيث البقاء.

وحيث انّ الرواية كانت ظاهرة في وجود اليقين بالفعل في حال الشك ـ لا انّه زال كما في القاعدة ولا أنّه لا بدّ من تحصيله مستقبلا كما في قاعدة الاحتياط ـ فالأوجه ارادة اليقين في باب الاستصحاب. ولا يعتنى بذكر بعض للرواية في شكوك الصلاة ، فتدبر.

ومنها : ما عن الخصال (١) بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « قال : قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فانّ الشك لا ينقض اليقين ». (٢) وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : « من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فانّ اليقين لا يدفع بالشك ». (٣)

ولا يخفى انّ الروايتين لمّا كانتا ظاهرتين في تأخر زمان وصف الشك عن زمان وصف اليقين وفي اتحاد متعلق الوصفين فيبعد حملهما على الاستصحاب لعدم اعتبار تغاير زمان الوصفين فيه ، بل لا بدّ من اجتماعهما زمانا ولزوم مغايرة متعلقهما فيه بأن يتعلق اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، فلا بدّ من حملهما على قاعدة اليقين.

ولكن بملاحظة ظهورهما في اليقين الفعلي مع احتمال كون تقديم زمان اليقين من باب الغلبة كما في باب الاستصحاب ، حيث انّ الغالب تقدمه على الشك حدوثا ويجتمع معه بقاء ، وكون وحدة المتعلق من جهة انّ بقاء الشيء نحو وجود

__________________

(١) الخصال ٢ : ٦١٩.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١٧٥ الباب ١ من ابواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٣) الارشاد ، طبعة النجف : ١٥٩ ، وطبعة مؤسسة آل البيت ١ : ٣٠٢ ، في فصل : ومن كلامه عليه‌السلام في الحكمة والموعظة ، ومن كلامه عليه‌السلام في وصف الانسان. وينقله في بحار الانوار عنه ٢ : ٢٧٢ ؛ مستدرك الوسائل ١ : ٢٢٨ الحديث ٤.

٤٠١

له فيصحّ أن يسند الشك إلى نفس الشيء كما عرفت ؛ فالأقرب حملهما على الاستصحاب.

وان أبيت إلاّ عن عدم الظهور والاجمال فلا أقل من ظهور عبارة « النقض » بملاحظة تكررها في الروايات العديدة واتحادها في الجميع بحسب المعنى ظاهرا ، وكذا عبارة « الدفع » المتحد معها بحسب الظهور في الاستصحاب ، فتكون الروايتان من [ الاخبار ] (١) العامة في الباب ، الجارية في جميع الأبواب.

ثم انّ ما ذكرنا من اسناد « اليقين » و « الشك » في الاستصحاب إلى نفس الشيء دون حدوثه وبقائه إنّما هو في مقام الاسناد واللفظ لا بحسب الارادة واللبّ وإلاّ فبحسبهما لا بدّ منهما كما هو واضح وإلاّ فتكون الرواية مهملة غير دالة على الاستصحاب مع انّهما بحسب اللفظ يكونان جهة للقضية أيضا.

ومنها : مكاتبة علي بن محمد بن القاساني قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : « اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية ». (٢)

ولا يخفى انّ تفريع كل من الصوم والافطار على رؤية هلالي رمضان وشوال يدلّ على عدم جواز جعل اليقين السابق مدخولا بالشك ومزاحما به بل لا بدّ من المضي على وفقه ما لم يحصل يقين بالخلاف ؛ ولا مجال لارادة قاعدة اليقين من الرواية كما لا يخفى ولا قاعدة الاحتياط ، لكون الشك في كل من الطرفين في التكليف بناء على ما هو التحقيق من كون صوم كل يوم من رمضان تكليفا مستقلا لا انّ مجموع ما بين الهلالين تكليفا واحدا كما قيل.

واحتمال : دلالة الرواية على اعتبار اليقين في الدخول في الصوم في

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( أخبار ).

(٢) وسائل الشيعة ٧ : ١٨٤ الباب ٣ من ابواب احكام شهر رمضان ، الحديث ١٣ ، باختلاف يسير.

٤٠٢

خصوص رمضان والخروج منه تعبدا فلا يدل على الاستصحاب.

يدفعه : ظهور تفريع الصوم والافطار على عدم كون اليقين مدخولا بالشك في كون البناء على اليقين السابق كليا ، ولا يختص بخصوص شهر رمضان. هذا بناء على ما عرفت من كون التكليف بالصوم متعددا بعدد الأيام.

وامّا بناء على كون ما بين الهلالين فالظاهر انّ الشك فيه في التكليف أيضا ، لكون المكلف به نفس الخارج المردّد بين الثلاثين وبين تسعة وعشرين غاية الأمر يكون الشك في المقتضي.

نعم بناء على احتمال ضعيف : من كون المكلف به عنوانا منتزعا مما بين الهلالين ، وكون الامساك في الأيام الخارجية محصّلا له يكون الشك في المكلف به ومجرى لقاعدة الاشتغال ؛ إلاّ أنّه خلاف التحقيق كما هو واضح.

ومنها : قوله عليه‌السلام في موثقة عمّار : « كل شيء طاهر حتى تعلم انّه قذر » (١) ، وقوله عليه‌السلام : « الماء كله طاهر حتى تعلم انّه نجس ». (٢)

ودلالتها على الاستصحاب تتوقف على جعل الغاية غاية لاستمرار الحكم بالطهارة لا لنفس الحكم بها.

بيانه : انّه يحتمل الغاية لوجهين :

أحدهما : أن يكون المغيّا هو أصل الحكم بثبوت الطهارة وتكون الغاية حينئذ قيدا للموضوع لبّا وان كانت راجعة إلى المحمول ظاهرا ، فيكون الموضوع حقيقة هو مشكوك الطهارة الواقعية ، فيكون مفاد الخبر حينئذ قاعدة الطهارة دالة على ثبوت الطهارة للمشكوك بلا دلالة على الابقاء والاستمرار.

__________________

(١) في المصادر : « كل شيء نظيف ». وسائل الشيعة ٢ : ١٠٥٤ الباب ٣٧ من ابواب النجاسات ، الحديث ٤ ؛ ونفس الرواية مفصلة في تهذيب الاحكام ١ : ٢٨٤ ذيل الحديث ٨٣٢.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١٠٠ الباب ١ من ابواب الماء المطلق ، الحديث ٥ ، بتفاوت.

٤٠٣

وثانيهما : أن يجعل المغيّا هو استمرار الطهارة بعد الفراغ عن ثبوتها امّا بجعل قوله : « طاهر » مفيدا للاستمرار بلا تعرض له لأصل الثبوت ، أو بتقدير الاستمرار بقرينة الغاية مع جعل المحمول وهو قوله : « طاهر » لبيان أصل ثبوت الطهارة الواقعية للاشياء بعناوينها الأولية ؛ فتكون القضية الاولى دليلا اجتهاديا دالا على كون الأشياء محكومة بالطهارة الواقعية ، وتكون الغاية مع تقدير الاستمرار دليلا فقاهتيا على استمرار الطهارة الثابتة بالقضية الاولى عند الشك في بقائها إلى زمان العلم بخلافها فيكون دالا على الاستصحاب ، للعلم بعدم كون الحكم الواقعي مغيّا بالعلم بضده.

وبيان استظهار واحد من المعنيين يتوقف على ملاحظة انّ القضايا المغيّاة بالغايات الواقعية كما في قوله : « الثوب طاهر إلى أن يلاقي نجسا » ، هل كانت ظاهرة في كون الغاية لتحديد الموضوع بأن يكون المراد انّ الثوب الغير الملاقي للنجس طاهر؟ أو في كونها غاية لاستمرار الحكم بعد الفراغ عن أصله؟

وبعبارة اخرى : هل كان مفاد مثل هذه القضايا قضيتان إحداهما دالة على أصل ثبوت المحمول ، والاخرى دالة على استمراره؟ أو قضية واحدة دالة على ثبوت الحكم للموضوع المقيد؟

ولكن الظاهر انّ مفادها قضيتان ، وانّ المغيّا هو الاستمرار المقدر بقرينة الغاية لا نفس المحمول حتى يلزم استعماله في معنيين : ثبوت المحمول ، واستمراره ؛ وانّ الغاية لخصوص الاستمرار لا لأصل الثبوت أيضا حتى يعود المحذور في الغاية أيضا بل يكون أصل الثبوت بلا غاية مذكورة في البين.

نعم لمّا كانت الغاية واقعية فيكون دالا على استمرار نفس الواقع فلا تحصل الثمرة بين جعل الغاية للثبوت والاستمرار.

وامّا لو كانت الغاية هي العلم بضد المحمول ـ كما فيما نحن فيه ـ فالظاهر انّ

٤٠٤

الشيء مع قطع النظر عن الغاية ظاهر في العناوين الأوّلية لكونه عند الاطلاق كناية عنها فتكون قضية المغيّا باقية على ما كانت عليه من الظهور في ثبوت نفس الحكم بالطهارة الواقعية للعناوين الواقعية ، ولكن الغاية لمّا جعلت هو العلم بضد الطهارة ومن المعلوم انّ الطهارة الواقعية لم تكن مغيّاة بذلك فلا بدّ :

امّا من جعلها قيدا للموضوع حتى تكون القضية واحدة دالة على القاعدة.

أو تقدير الحكم بالاستمرار تعبّدا حتى يكون المفاد قضيتان وتكون الثانية دالة على الاستصحاب.

وحيث انّ الغاية في دلالتها على الرجوع إلى المحمول بنحو واستمراره ولو تعبدا يكون أظهر من رجوعها إلى الموضوع فالمتعين حملها على الاستصحاب ، وحمل قضية الصدر على بيان الأحكام الواقعية للعناوين الأولية ، ويكون دليل نجاسة بعض العناوين مخصصا بالنسبة إلى عموم القضية.

ويؤيده بل يدل عليه الخبر الأخير وهو قوله عليه‌السلام : « الماء كله طاهر الخ » حيث انّه : مضافا إلى ظهور كون لفظ الكل تأكيدا لنفس عنوان الماء بعنوانه لا بما هو مشكوك ؛ لا وجه لتأكيده بما هو مشكوك ، لأنّ المهم حينئذ بيان الحكم من جهة عنوان الشك لا من غير هذه الجهة من سائر خصوصيات الماء وأصنافه ، لعدم الالتفات في القاعدة إليها حتى يتوهم دخلها في الحكم فيحتاج إلى الدفع كما لا يخفى ؛ ومن المعلوم انّ الخبر الأول متّحد السياق معه من حيث الدلالة والمفاد غير انّهما يفترقان في العموم والخصوص فيكون ظاهرا في الاستصحاب أيضا.

نعم يمكن إرادة القاعدة أيضا لا من الغاية بل من عموم الشيء بحسب حالاته مضافا إلى العموم بالنسبة إلى افراده ، ومن الحالات طروّ الشك في الطهارة والنجاسة عليه.

٤٠٥

وتوهم : انّ الشك في الطهارة [ المنشأة ] (١) بهذا الانشاء متأخر عنها فكيف يؤخذ في موضوعها.

مدفوع :

بأنّ الشيء بعنوان الشيئية مأخوذ في الموضوع بنحو القضية الطبيعية فلم تلحظ فيها الخصوصيات أصلا حتى يستلزم الدور.

وبأنّ الشك في الطهارة بحسب المرتبة الانشائية يمكن أن يؤخذ في موضوع المرتبة الفعلية فلا محذور في ارادة القاعدة من نفس القضية الاولى بملاحظة اطلاق الشيء بالنسبة إلى حالاته ، كما لا محذور في دلالة الغاية مع ذلك على الاستصحاب أيضا.

وتوهم اللغوية في الاستصحاب بعد جعل القاعدة لجواز التمسك بها لاثبات الحكم في جميع حالات الشك ومنها الشك في البقاء ، مدفوع :

بأنّه مع حجية الاستصحاب لا مجال للقاعدة لحكومته عليها كما سيجيء ان شاء الله. نعم يجدي فيما لا يجري فيه الاستصحاب كما في غير مسبوق الطهارة والنجاسة.

نعم بعد الحكم بثبوت الطهارة الظاهرية لو شك في ارتفاعها من جهة الملاقاة ثانيا للنجاسة يمكن القول باستصحابها أيضا لو قلنا بكون الملاقاة غاية للطهارة الظاهرية أيضا ولم نقتصر في الأحكام الظاهرية بكون الغاية فيها هي العلم وحده كما لا يخفى ، ومع ذلك لا يكون كل منهما لغوا على تقدير ارادتهما من الرواية ؛ إلاّ انّ عموم الشيء بالنسبة إلى الحالات الطارئة خلاف الظاهر فيكون المنسبق منه هو العنوان الأولي.

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( المنشئية ).

٤٠٦

نعم لا يبعد العموم بالنسبة إلى حالة الشك أيضا فيما حكي عنهم عليهم‌السلام : « كل ماء طاهر إلاّ ما علمت انّه قذر » (١) إلاّ انه بقرينة الاستثناء الدال على عموم المستثنى منه المفقود فيما ذكرنا من الروايتين ؛ ولا يخفى انّ الرواية المحكية تدلّ على القاعدة دون الاستصحاب عكس الروايتين المذكورتين كما عرفت.

ثم انّه لا يخفى انّ الغاية بناء على القاعدة تكون غاية لأصل الحكم بثبوت الطهارة وبناء على الاستصحاب تكون غاية للحكم باستمراره وكل منهما يكون بحسب الصورة ، وامّا بحسب الدقة فيكون في كل منهما راجعة إلى الموضوع حقيقة ودالة على كونه مشكوك الطهارة رأسا في القاعدة وعلى كونه مشكوك البقاء في الاستصحاب. وامّا وجه الرجوع إلى الموضوع في الصورتين فهو : انّ الحكم بثبوت الطهارة في المشكوك والحكم باستمراره في مشكوك البقاء يكون مغيّا إلى زمان النسخ لا إلى زمان العلم بالقدرة كما لا يخفى. نعم ثبوته في المصاديق يدور مدار الموضوع المنوط بعدم العلم بالقذارة ولعله لأجل هذه الجهة ترجع الغاية إلى الحكم ظاهرا ؛ فراجع الفرائد (٢) تعرف مراده مما ذكرنا.

بقي هنا شيء وهو انّ الأخبار المذكورة الدالة على عدم نقض اليقين بالشك هل تدل على حجية قاعدة اليقين مضافا إلى الاستصحاب؟ أو على خصوصه وحده؟

والتحقيق : ـ على ما يقتضيه النظر الدقيق ـ عدم إمكان ارادتهما معا منها ثبوتا ؛ وعلى تقدير الامكان فلا اطلاق لها بالنسبة إلى القاعدة اثباتا.

امّا بيان عدم الامكان فيتوقف على مقدمتين :

إحداهما : انّ الفرق بين القاعدة والاستصحاب :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٩٩ الباب ١ من ابواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٧٢ ـ ٧٧.

٤٠٧

مرّة : في وحدة متعلق اليقين والشك في القاعدة ، حيث انّ الشك متعلق بالحد الذي تعلق به اليقين وهو الحدوث كالعدالة في يوم الجمعة مثلا دون الاستصحاب لاختلاف المتعلقين فيه ، حيث انّ اليقين بالحدوث والشك إنّما هو في غير ذاك الحد وهو البقاء.

واخرى : من حيث الزمان فانّه لا بدّ من لحاظ زمان الحدوث في اليقين والشك في القاعدة دون الاستصحاب فانّه لا بدّ فيه من الغائه كي يتحد متعلق اليقين والشك فيه اعتبارا ، فيصح استعمال النقض كما عرفت.

الثانية : انّ الأثر المهم ترتبه قد يكون للحدوث ، وقد يكون للبقاء ؛ وحيث انّ كلا من القاعدة والاستصحاب دليل لتنزيل المشكوك منزلة المتيقن فيرجع كل منهما إلى انشاء الأثر وجعله غاية الأمر إلى جعل أثر الحدوث في القاعدة وأثر البقاء في الاستصحاب ، ومن المعلوم انّ الانشاء والجعل الحقيقي يتوقف [ على ] (١) ملاحظة المنزل عليه بموضوعه وأثره في مقام التنزيل ، وبدونه لا يحصل جعل أبدا.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم : انّ المتكلم الجاعل للقاعدة والاستصحاب :

امّا ان لم يلاحظ غير تنزيل المشكوك منزلة المتيقن أصلا فلم يتحقق منه جعل حقيقي لكلّ منها وان حصل منه جعل انشائي بالنسبة إلى طبيعة النقض على نحو الاهمال ، وهو لا يجدي في واحد منهما ما لم يلاحظ ما به الامتياز بينهما الموجب لكون كل منهما قاعدة على حدة كما لا يخفى.

وامّا ان يلاحظ الجامع بينهما فيتصوره مرآة للخصوصيتين ويأتي بلفظه كأن يقول : لا تنقض اليقين بالشك المتعلق به بأي نحو من التعلق ؛ أو بقرينة تدل على

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( الى ).

٤٠٨

ملاحظة الجامع ، فلا بأس به وان كان في جعل القاعدة والاستصحاب بانشاء الجامع بينهما اشكال حيث انّ انشاء العام لا يكون عين انشاء كل من الخاصين ولا بدّ منه. نعم يمكن أن يكون الجامع حاكيا عن جعلين لا أن يكون انشاء لهما ، وعلى أي حال فالأمر سهل.

وان لم يكن كذلك بل كان تعيين متعلق الشك من انّه الحدوث أو البقاء بالاشارة الخارجية الحاصلة باسناد الشك إلى اليقين وتعلّقه به فلا يمكن الجمع بينهما حينئذ حيث انّه لا بدّ في القاعدة من لحاظ زمان المتيقن بحده اليقيني في اسناد الشك إليه ، وفي الاستصحاب من الغائه وتجريده عن الزمان كي يتحد متعلقهما فيصح نسبة النقض إلى الشك ؛ ومن المعلوم انّ الجمع بين حفظ الحد والغاية لا يمكن في اللحاظ الواحد الخارجي ، ولا الجمع بين اللحاظين في وجود واحد لأنّ الوجود الواحد لا يكون أبدا اثنين وإلاّ لزم انخرام قاعدة كون الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ؛ والفرض انّه لا مفهوم جامع لفظا أو مقدرا.

ونظير ذلك يقال في عدم امكان تنزيل الأمارات منزلة القطع موضوعيا وطريقيا بلحاظ واحد خارجي ، لعدم إمكان الجمع بين لحاظي كل من المنزل والمنزل عليه به استقلاليا وفانيا في آن واحد بلا جامع مفهومي كما هو المفروض.

فان قلت : انّ ما ذكرت من عدم امكان الجمع بين القاعدتين إنّما يسلّم فيما لو احتيج إلى لحاظ زمان الحدوث والبقاء ولم يكن الحكم بوجوب المضي على طبق اليقين وعدم نقضه بالشك مع اطلاق كل منهما بالنسبة الى افرادهما كافيا وهو بمكان من الامكان ، غاية الامر يكون المضي على طبق القاعدة بترتيب آثار الحدوث وفي الاستصحاب بترتيب آثار البقاء.

قلت : ما ذكرت من كفاية الحكم بوجوب المضي مع اطلاق متعلقه في الجمع بين القاعدتين إنّما يسلّم على فرض اختلاف اليقين والشك فيهما موردا مع

٤٠٩

تحققهما خارجا كما لو سأل اثنان من الإمام عليه‌السلام أحدهما عن الشك الساري في اليقين بالعدالة والآخر عن الشك في بقاء الحياة المتيقنة مثلا وأجاب عليه‌السلام في جوابهما بتلك العبارة ، لا فيما كان كل من القاعدة والاستصحاب جاريا في كل يقين في كل مورد وكأنّ القضية في مقام جعل القاعدتين كلّية في الموارد المقدرة الوقوع فانّ في جعل كل منهما ابتداء لا بدّ من لحاظ الموضوع بخصوصيّته وآثاره وبدونه لا يضرب القاعدة أصلا لأنّه مع عموم المورد لكل من اليقينين يكون اليقين المتعلق بكل مورد مشتركا بين القاعدتين ولا يتميزان في أصل اليقين بل في خصوصية تعلق الشك به بحده الزماني في إحداهما وبذات المتعلق مع الغاء الحد في الاخرى فلا بدّ في جعلهما مع عدم مفهوم جامع لفظا أو مقدرا يحوي الخصوصيتين من لحاظ كل منهما خارجا ، ومن المعلوم انّه لا يمكن اجتماعهما في استعمال واحد كما عرفت ، بل التحقيق عدم كفاية افتراق المورد في امكان الجمع بينهما وان صرح به الاستاذ دام ظله في الدرس وكتب سابقا في هامشه (١) لأنّ مجرد ذلك لا يكفي في جعل الأثر بلسان التنزيل بل لا بدّ من ملاحظة المنزل عليه بموضوعه وأثره فمع عدم الجامع لفظا ومقدّرا يتأتّى المحذور أيضا.

فان قلت : لعل الجامع لوحظ مقدرا فلا يصح دعوى الامتناع.

قلت : يكفي فيها عدم القرينة عليه لأنّه ينحصر الاستكشاف بالعبارة المذكورة وعرفت انّه لا يكاد يكون قالبا إلاّ عن إحدى القاعدتين.

هذا كله في مقام الثبوت.

وامّا على تقدير التنزل وتسليم الامكان فالظاهر عدم اطلاق الأدلة في مقام الاثبات أيضا بل القدر المتيقن منها في مقام التخاطب هو خصوص الاستصحاب

__________________

(١) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٣١٢ ـ ٣١٦ ، والطبعة الحجرية : ١٨٥ ـ ١٨٨.

٤١٠

لكونه مورد السؤال في غالب أخبار الباب المشتملة على لفظ النقض بل في جميعها للانطباق على مورده في الغالب واتحاد البعض الآخر معه في السياق الموجب لعدم الظهور في الاطلاق ومع المتيقن في البين لا تتم مقدمات الحكمة بالنسبة إلى الاطلاق إذ من جملتها لزوم نقض الغرض لو كان المراد البعض ، ومن المعلوم انّه لا يلزم ذلك لو كان المراد ذاك المتيقن ، لانفهامه عند المخاطب وان حصل الشك في كونه تمام المراد أو بعضه ، إلاّ انّه لا ضير فيه لأنّ اللازم على المتكلّم إفادة ما هو تمام مراده واقعا لا بعنوان التمامية مع انّه يثبت ثانيا بمقدمة انّ مراده لو كان غير المتيقن أيضا فيما لا يستكشف الارادة بالنسبة إليه كما عرفت لكان عليه إقامة القرينة وإلاّ لزم نقض الغرض ومع عدمها فيستكشف انّ المتيقن تمام المراد.

ثم انّه قد أورد على تقدير التنزل عما ذكرنا وتسليم ظهور الأخبار في القاعدتين باستلزامه التعارض في مدلولها المسقط للتمسك بها على القاعدة لأنّه لو كان اليقين فيها ـ كما لو تعلق بالعدالة في يوم الجمعة مثلا ـ مسبوقا بيقين آخر على الخلاف متعلق بعدمها قبل يوم الجمعة ثم حصل الشك الساري فيها بالنسبة إلى يوم الجمعة فيكون ذاك الشك مسبوقا بيقين تعلق أحدهما بالوجود في يوم الجمعة والآخر بالعدم قبله ويكون لازم كل منهما عدم نقضه بالشك الموجب للتعارض كما هو واضح.

ولا يخفى انّ التعارض على تقدير تسليمه لا يختص بوحدة الدليل في القاعدتين بل يحصل ولو كان كل منهما مختصا بدليل ؛ وحكم التعارض :

قد يكون تساقط المتعارضين رأسا كما لو كان المصلحة في كل منهما مقيدة بعدم التعارض أصلا.

وقد يكون بحجية واحد منهما لا على التعيين كما في الأخبار على الطريقية

٤١١

وقد يكون بالتخيير لو لا المرجح كما في الأخبار بناء على الموضوعية.

ولكن هذا كله لو لم يكن معين في البين بالنسبة إلى أحدهما كما في المقام بالنسبة إلى القاعدة حيث انّه لو عمل بها وبني على المضي على طبق اليقين بالعدالة في يوم الجمعة في المثال لكان ذلك نقضا لليقين الاستصحابي المتعلق بعدمها قبله باليقين بالخلاف فيلزم التخصيص بالاضافة إليه لا بالشك كي يلزم التخصيص. وامّا لو انعكس الأمر بأن عمل بالاستصحاب لزم نقض اليقين بالعدالة في القاعدة بالشك الساري بلا يقين على خلافه فيلزم التخصيص بالنسبة إليه بلا وجه أو بوجه دائر لو جعل المخصص هو الاستصحاب كما لا يخفى ، ومن المعلوم انّ المتعين هو الالتزام بالتخصص فلا بدّ من العمل بالقاعدة.

فان قلت : انّ ما ذكرت من عدم لزوم التخصيص في الاستصحاب لو عمل على طبق اليقين في القاعدة انما هو ما دام وجود اليقين وامّا بعد زواله بالشك الساري فيلزم التخصيص أيضا كما في العكس لكون الشك حينئذ مسبوقا بفردين من اليقين في طرفي المشكوك من الوجود والعدم ويكونان في عرض واحد في تعلق الشك بهما وليس نقض اليقين المتعلق بعدم العدالة باليقين بها حين وجوده من الآثار الشرعية له حتى يترتّب ذلك في زمان الشك أيضا كسائر آثار المتيقن بل من آثاره العقلية المترتّبة على وجوده الزائل حين الشك وحينئذ فرفع اليد عن مقتضى كل من اليقينين يكون نقضا له بالشك كما لا يخفى.

قلت : انّ الكلام وان كان في تعارض القاعدتين في حال الشك المسبوق بفردين من اليقين في طرفي الوجود والعدم إلاّ انّه لمّا كان زمان متعلق اليقين في القاعدة متأخّرا عن متعلق اليقين الاستصحابي فيصح أن يقال : بعد البناء على عدم نقض اليقين فيها بالشك الساري ؛ انّ اليقين الاستصحابي انتقض بمقتضى ذاك اليقين بحيث لولاه لما يجوز نقضه بالشك ، وهذا بخلاف العكس فانّه لمّا لم يكن يقين

٤١٢

على خلاف اليقين في القاعدة متأخرا عنه فرفع اليد عن مقتضاه لا يكون إلاّ نقضا لليقين بالشك.

وبعبارة اخرى : لمّا كان موضوع الحكم بعدم نقض اليقين بالشك في القاعدة متحققا على كل تقدير فيشمله دليلها ومعه لا يبقى محل لموضوع الاستصحاب أو يكون رفع اليد عن يقينه حينئذ باليقين الآخر ولو بالتعبد بوجوده بعد زواله ولكن بعد صحة التعبير عن ذاك الموضوع بنقض اليقين باليقين مع قطع النظر عن الحكم ومعه يرتفع موضوع الاستصحاب من نقض اليقين بالشك بحسب لسان الدليل دون ما لو عمل على طبق يقينه فانّ موضوع القاعدة باق مطلقا إلاّ بملاحظة حكم الاستصحاب ، وملاحظته لا يوجب التقديم كما لا يخفى ، وهذا المقدار من الفرق يوجب تقديمها عليه ؛ وان أبيت عن الورود فسمّه حكومة كما لا يخفى.

ومما ذكرنا ظهر انّه لا يرفع اليد عن اليقين الاستصحابي بمجرد الشك بل بتوسيط اليقين في القاعدة فيكون أقرب إلى الشك من ذاك اليقين لا في عرضه.

كما انّه ظهر انّ رفع اليد عن مقتضى اليقين الاستصحابي نقض له عملا وليس المراد من النقض أزيد من ذلك فلا يلزم أن يكون أثرا شرعيا لليقين مع انّه يمكن الالتزام بكونه أثرا شرعيا أيضا بأن يكون دليل الاستصحاب بالنسبة إلى الغاية وهي قوله عليه‌السلام : « ولكن ينقضه بيقين آخر » (١) بصدد البيان أيضا وحينئذ فلا اشكال في تقديم القاعدة كما لا يخفى.

والحاصل : انّه ظهر مما ذكرنا انّ الوجه في عدم العمل على طبق القاعدة هو المناقشة في شمول الدليل لها ثبوتا واثباتا لا المعارضة مع الاستصحاب وإلاّ

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ : ٨ الباب ١ باب الاحداث الموجبة للطهارة ، الحديث ١١.

٤١٣

فيكون مقدمة عليه.

ثم انّه بناء على العمل بها فهل اللازم عدم الاعتناء بالشك ولزوم ترتيب آثار المتيقن الثابتة له في خصوص حدّ اليقين كآثار العدالة يوم الجمعة مثلا؟

أو مطلقا ولو بعده فلا بد من ترتيب آثارها ما لم يتيقن بخلافها؟

التحقيق : هو الأول ، حيث انّه وان كان يمكن أن يكون الموضوع في الطهارة هو المشكوك بعنوانه بلا لحاظ حد فيه فيكون حكمها تنزيل المشكوك ـ ما دام الشك ـ منزلة المتيقن في آثاره الشاملة لحد اليقين وخارجه ؛ إلاّ أنّه كذلك لو كان مفاد دليلها تنزيل المشكوك منزلة المتيقن مطلقا لا ما لو كان مفادها عدم نقض اليقين الموجود بالشك الساري فانّه ظاهر في كون الشك محدودا بحد اليقين وملحوظا فيه ذلك ومعه فلو اريد الشك الخارج عن ذاك الحد أيضا للزم المحذور السابق من الجمع بين اللحاظين كما لا يخفى.

فظهر : انّ اللازم بمقتضى الأدلة الاقتصار على ترتيب آثار المتيقن الثابتة له في خصوص حد اليقين بمعنى لو تعلق بوجود موضوع في زمان معيّن فلا بدّ من عدم رفع اليد عن آثار الموضوع في حدّ ذاك الزمان وان كان أصل وجود اليقين به في آن ما كما لا يخفى ، فلا يتعدى إلى آثار الخارج عن ذاك الزمان.

نعم يمكن التفصيل :

بين الامور المحرز فيها الاستمرار والبقاء لو لا الرافع كالزوجية والملكية ونحوهما.

وبين غيره مما لم يحرز فيها ذلك.

فيترتب في الأول آثاره مطلقا ما لم يقطع بخلافها ولو في غير زمان القطع بتحققها من جميع الجهات من حيث المقتضي وعدم الرافع ولكن فيما إذا كان الشك في الخارج عن ذاك الزمان من حيث المقتضي من أول الأمر لا من جهة

٤١٤

حصول الرافع وعدمه ، فانّ الشك في تحقق مثل الملكية ونحوه في الخارج عن الزمان المتيقن بتحققه فيه من جميع الجهات من الجهة الاولى يكون مسببا عن الشك الساري في تحققه في ذاك الزمان المتيقن فإذا حكم بتحققه فيه وعدم الاعتناء بالشك الساري يلزمه الحكم بتحققه مطلقا ما لم يقطع بالرافع لكون مثل الامور المذكورة مما تبقى بنفسها ما لم يرفعها رافع ، هذا.

مضافا إلى دخولها من هذه الجهة بنفسها في القاعدة ، حيث انّ اليقين بتحققها في زمان ملازم مع اليقين بتحقق المقتضي لها دائما غاية الأمر بالنسبة إلى مقدار قطع بعدم الرافع لها يدخل الشك فيها في القاعدة من أي جهة كان وبعده يدخل فيها من جهة خصوص الشك في المقتضي لا من جهة الشك في الرافع فيرجع الأمر حينئذ إلى انّه لا فرق في القاعدة بين الموارد مطلقا من جهتها ، غاية الأمر يختلف في طول المدة وقصرها حسب اختلاف الامور طولا وقصرا وهذا لا يوجب الفرق في القاعدة كما لا يخفى.

نعم لو كان الشك في الامور المستمرة من جهة الشك في الرافع في الخارج عن زمان اليقين فلا بدّ من ارتفاع الشك بدليل آخر من استصحاب عدم تحقق الرافع ونحوه ، ولا ربط له بقاعدة.

تذنيب : لا فرق في مفاد الأخبار :

بين أن يكون المستصحب من الامور الوجودية أو الامور العدمية.

ولا بين كونه من الامور الخارجية وبين الأحكام الشرعية.

ولا بين كونه من الأحكام الكلية أو الأحكام الجزئية.

ويكون شمولها للكل بنحو واحد من لزوم التعبد بالبقاء عملا بلا تقدير أثر في ما لو كان المنصوص الموضوعات الخارجية ، غاية الأمر التعبد بالبقاء يرجع

٤١٥

فيها إلى انشاء آثار لها مماثل لآثارها السابقة وفي الأحكام يرجع إلى انشاء المماثل لنفس المستصحب فيما كان الموضوع باقيا عرفا وان لم يكن باقيا دقة.

فما حكي عن المحقق الخوانساري رحمه‌الله (١) من انكار الاستصحاب في الامور الخارجية تخيلا منه انّها ليست بقابله للجعل أو احتياج شمول الأخبار لها إلى التقدير ، وعن الأخباريين (٢) من الانكار في الأحكام الكلية تخيلا منهم باختلاف الموضوع دقة ، لا وجه له كما لا يخفى.

ثم انّه لا فرق أيضا بين كون المستصحب من الأحكام التكليفية وبين كونه من الأحكام الوضعية بلا تفاوت على التحقيق بين كون الأحكام الوضعية قابلة للجعل ابتداء أو لا ، بل كانت منتزعة من الأحكام التكليفية ، غاية الأمر بناء على الأخير فان كان التكليف المنتزع منه أولا مما يشك في بقائه ولم يعلم بارتفاعه فيجري فيه الاستصحاب وبتبع جعله يجعل الوضع أيضا. وامّا ان علم بارتفاعه ولكنه يشك في حدوث أثر شرعي آخر يكون بقاء الوضع بتبع حدوثه فيستصحب الوضع ويستكشف بالإن جعل الأثر الحادث.

لا يقال : انّ استصحاب عدم الأثر الحادث حاكم على استصحاب الوضع لكونه من لوازمه المنتزعة منه.

لأنّا نقول : انّه كذلك في مقام الثبوت ولكنه بحسب لسان الدليل الشرعي بالعكس ، فانّ الأثر الشرعي مترتب في الدليل على الوضع فمن هذه الجهة يكون الشك فيه مسبّبا عن الشك في الوضع فيكون استصحابه مقدّما على استصحابه. ومنه يظهر انّ استصحاب الوضع مقدم على استصحاب التكليف ولو كان مما له حالة سابقة كما لا يخفى.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٧٦ السطر ١١.

(٢) الرسائل الاصولية : ٤٢٥.

٤١٦

ثم إذا انجرّ الكلام إلى هنا فلا بأس أن نشير إلى الخلاف المشهور في كون الأحكام الوضعية مجعولة بنفسها أو انتزاعية من التكاليف ؛ ولا بدّ أولا من تحرير محل الخلاف فاعلم :

انّه لا ريب في مغايرة الأحكام الوضعية من الجزئية والشرطية والمانعية والصحة والفساد والملكية والزوجية والوكالة والحجية ونحوها من الاعتبارات مع الأحكام التكليفية من الايجاب والتحريم وغيرهما مفهوما ولا في قابلية الأول لتعلّق الانشاء به لكونه خفيف المئونة كقابلية الثاني للانشاء والجعل حقيقة.

وكذا لا ريب في انّ النزاع ليس في تسمية الأحكام الوضعية حكما لكونه دائرا مدار إرادة المغيّا الأعمّ الشامل للوضع والتكليف منه أو إرادة الأخص غير الشامل إلاّ لخصوص الأخير.

ولا في كون الحكم الوضعي حكما شرعيا أو لا لكونه تابعا بعد قابليته للجعل لكون الجاعل هو الشارع أو العرف.

ولا نزاع أيضا على كلا القولين في صحة التعبير عن كل واحد منهما إذا كان هو المقصود بالجعل بخطاب يخص الآخر مجازا أو كناية كما هو كذلك في غالب الانشاءات في العقود بناء على عدم كون الوضع قابلا للجعل كما لا يخفى.

ولا نزاع أيضا في كون الأحكام الوضعية ليست من الموجودات التي كان بحذائها شيء في الخارج ولا من أنياب الأغوال ، إذ المسلّم انّها من الاعتبارات الصحيحة التي لها منشأ انتزاع صحيح كما في الأحكام التكليفية.

ولا نزاع أيضا في كونها مع الأحكام الوضعية متحدة مصداقا غالبا.

بل النزاع بعد تسليم كون منشأ الانتزاع في التكاليف نفس انشائها للتوصل اليها في انّ الأحكام الوضعية أيضا كذلك فتكون مجعولة بانشائها بنفسها تشريعا للتسبّب به إليها ويكون نفس قصد حصولها تشريعا هو منشأ انتزاعها الحقيقي أولا ،

٤١٧

بل المنشأ جعل التكاليف وانشائها ، فتكون امورا منتزعة منها نظير لوازم الماهيات في التكوينيات ، فحينئذ يكون المراد من قابلية شيء للجعل التشريعي تحقق واقعيته بانشائه بقصد تحقق مضمونه في مقابل ما ليس كذلك فانّ انشاءه كذلك يكون لغوا أو يفيد فائدة اخرى أو لا تكون مجعولة أصلا ولو بانشاء التكاليف ، فلا تكون مجعولة لا ابتداء ولا تبعا للتكاليف.

فنقول : التحقيق : انّ الأحكام الوضعية على ثلاثة أقسام :

منها : ما ليست بقابلة للجعل أصلا لا ابتداء ولا تبعا.

ومنها : ما كانت قابلة له تبعا لا أصالة.

ومنها : ما كانت قابلة له بكل منهما بحسب الامكان ، وامّا بحسب الوقوع فقابلة لخصوص الجعل [ الأصالتي ]. (١)

امّا الطائفة الاولى : فكالسببية للتكليف بل مطلقا ولو للوضع كالسببية للملكية ونحوها والشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف.

امّا عدم قبول السببية للتكليف للوضع فيتوقف بيانه على امور :

أحدها : انّ التكليف من الأفعال الاختيارية ، للآمر والناهي ، ومن المعلوم انّ الفعل الاختياري لا بدّ في صدوره عن فاعله من غرض وداعي حامل له عليه وان كان غير الحكيم ، غاية الأمر يكون الغرض في فعل الحكيم هو المصلحة وفي غيره لا يلزم أن يكون كذلك ، وبدونه لا يصدر عنه فعل اختياري أصلا كما هو واضح.

الثاني : انّ محل النزاع إنّما هو في الجعل التشريعي لا في التكويني ، ومن المعلوم انّ الأول لا يوجب تغيير ما تعلق به عما هو عليه واقعا من الخصوصيات

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( الاصالي ).

٤١٨

وان كان الجعل التكويني موجبا لذلك كما هو واضح.

الثالث : انّ محل النزاع إنّما هو فيما إذا لم يرد من خطاب جعل السببية الايجاب أو التحريم مثلا مجازا أو كناية بل نفس السببية لهما ، وإلاّ فيرجع إلى جعل التكليف كما هو واضح.

الرابع : انّ الوجوب والايجاب في التشريع كالوجود والايجاد في التكوين متحدان ذاتا ومتغايران اعتبارا بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك فنقول :

انّ مغيّا سببية شيء للتكليف اشتماله على خصوصية موافقة لغرض المكلّف يكون لحاظ اشتماله عليها. وبعبارة اخرى : يكون ذاك الشيء بوجوده الذهني داعيا إلى التكليف وباعثا عليه كما في جميع العلل الغائية. فحينئذ لو كان ذلك الشيء الذي انشئت له السببية مشتملا ذاتا على ما يوافق الغرض فكانت سببيته ذاتية لا مجعولة ، وإلاّ فان اريد من انشائها جعل التكليف مجازا أو كناية فلا جعل لها أيضا وبدونهما فان كان انشاء السببية موجبا لايجاد خصوصية في ذلك الشيء بعد ان لم يكن مشتملا عليها فانقلب الجعل التشريعي إلى التكويني ، وبدون تحققها فكيف يتحقق الايجاب والتحريم اللذان كانا من الأفعال الاختيارية التي قد عرفت عدم تحققها من دون غرض باعث إليها؟ وبدونهما فكيف يتحقق الوجوب والحرمة اللذان قد عرفت عدم انفكاكهما عنهما؟

فان قلت : انّ انشاء السببية للدلوك وان لم يوجب تحقق الغرض الباعث على الايجاب والتحريم إلاّ أنّه يكفي في تحقق الوجوب عنده بلا فعل آخر حين تحققه.

قلت : انّ الوجوب الحقيقي بحيث يصدق عليه بالحمل الشائع لا يتحقق بدون الإرادة والطلب الحقيقي للفعل ، وحينئذ فان كان ذاك الانشاء موجبا لتحقّق

٤١٩

الارادة بعد ما لم يكن فيلزم الانقلاب إلى التكوين لكون الارادة من المحمولات بالضميمة المحتاجة إلى التكوين ، ومع تحقق الارادة قبل الانشاء المذكور فان كانت كافية في انتزاع الوجوب عند العقلاء لكونها إيجابا حقيقيا إذا علم بوجودها ولو لم يتحقق ايجاب بعدها انشاء فلم يؤثّر انشاء السببية في الوجوب أصلا بل الارادة كافية فيه ، وان لم تكن الارادة كافية في انتزاعه بل كان محتاجا إلى انشاء ايجاب على حدة فلا ينتزع من الانشاء المذكور أيضا لما عرفت من ملازمته مع الايجاب بل كان متّحدا معه ذاتا وان كان متغايرا معه اعتبارا وقد عرفت انّه من الأفعال الاختيارية التي لا بدّ فيها من داع عليها ومع عدمه في شيء ذاتا لا يتحقق فيه بالانشاء فلا يحصل ايجاب ولا وجوب. نعم كان مثل الصلاة في وقت الدلوك ذات مصلحة فيكون الدلوك موجبا لتحقق الموضوع لا سببا لايجابه لو لا المصلحة في ذاته.

فان قلت : هب انّ الدلوك لا يتفاوت بسبب انشاء السببية له عما هو عليه من الخصوصيات ، إلاّ انّه يتحقق له عنوان اعتباري وهو كونه مما جعل له السببية انشاء وهو مما يصلح أن يصير داعيا إلى التكليف.

قلت : على فرض كفاية الانشاء المذكور في الايجاب عند الدلوك لا يجدي في المدّعى ، حيث انّه حينئذ من جهة كون الانشاء المذكور بمنزلة وعد على الايجاب عنده فيكون ذلك من هذه الجهة داعيا إليه ، ومن المعلوم انّ المصلحة في الوعد وكونه داعيا على العمل يكون ذاتيا له غايته يكون الانشاء بمنزلة جعل الموضوع المشتمل على المصلحة تكوينا لا جعل السببية تشريعا كما هو المدّعى. هذا على فرض عدم رجوع الانشاء المذكور إلى انشاء التكليف ، وامّا معه فلا اشكال أصلا كما لا يخفى.

فان قلت : لو لم يكن الانشاء مؤثّرا في جعل السببية فكيف في وضع اللفظ

٤٢٠