تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

الأخبار لفظا ؛ ولا المعنوي ، لاختلافها مضمونا وعدم كفاية اشتراكها في جامع في كونها متواترة كذلك وإلاّ لكان كل من عدة أخبار في أبواب مختلفة مشتركة في جامع ما متواترة كذلك.

بل المراد التواتر الاجمالي وهو : أن يعلم من كثرة الأخبار الواردة في باب واحد ولو بمضامين مختلفة يصدق بعضها بحيث يمتنع كذب الجميع ، ولازمه ابتداء الأخذ بخبر منها يكون مضمونه أخص من الجميع ومجمعا له ، وبعده : فان كان الباقي يعلم بصدق بعضه كذلك أيضا فيؤخذ بالأخص منه الذي يكون أعمّ بالنسبة إلى الأول.

هذا كله ، مضافا إلى عمل الأصحاب في أبواب الفقه بقاعدة نفي الضرر فيكون جابرا لضعف أخبارها بناء على تسليمه ، وحيث انّه لم يعلم انّ المشتبه أي منها فلا بدّ من الأخذ بالأخص فالأخص ، هذا ؛ مع انّ بعض أخبار الباب كان موثقا فيكون حجة فلا يحتاج السند إلى التصحيح ولو مع قطع النظر عمّا ذكرنا أيضا.

المقام الثاني : في بيان معنى مفرد « الضرر » و « الضرار » لغة ، والمركب منهما مع كلمة « لا » عرفا ، فنقول :

انّ « الضرر » كما عن المصباح (١) بمعنى فعل المكروه ؛ وعن النهاية (٢) بمعنى النقص. ولا يخفى انّه من المفاهيم العرضية الواضحة غير المحتاجة إلى التعريف غير المشتبهة مصداقا ، ولكنه لا يبعد ان يكون بمعنى النقص مقابل النفع سواء تعلق بالمال أو بالعرض أو بالنفس ؛ ومقابلته معه ليس تقابل التضاد ، بل تقابل العدم والملكة فيطلق على النقص في مقام يترتب منه الزيادة كما في حبس ذي

__________________

(١) المصباح المنير ٢ : ٣٦٠.

(٢) النهاية في غريب الحديث والاثر ٣ : ٨١.

٣٤١

الحرفة عن حرفته لا على حبس من لا يقدر على كسب أصلا ، كما انّهما ليسا من المتقابلين الذين لا ثالث لهما كما لا يخفى.

وامّا الضرار :

فقيل : انّه بمعنى الضرر جيء به للتأكيد كما هو المستفاد عن النهاية.

وقيل : هو فعل الاثنين ، كما انّ الضرر فعل الواحد.

وقيل : هو الجزاء على الفعل الضرري ، كما انّ الضرر ابتداء الفعل ، كما يستفاد هذان المعنيان عن النهاية.

ولكن الظاهر عدم كونه موضوعا لهما وضعا بل يمكن جدا أن يكون لواحد منهما مثل أن يكون بمعنى فعل الاثنين ؛ ولكنه لمّا كان الغالب عدم وقوع الفعلين ابتداء دفعة ـ بل الغالب وقوع الثاني بعد الأول جزاء عليه فيكون لازما غالبيا لفعل الاثنين ـ فقد عبّر به عنه مسامحة كما هو ديدن اللغويين في تعداد المعاني اللغوية ؛ كما أنّه يمكن العكس ؛ مضافا إلى عدم حجية قولهم في مثل ذلك فلا بدّ في تعيين واحد منهما من الرجوع إلى القواعد ، ولا شبهة انّ القاعدة في مثل الفعال الذي هو مصدر لباب المفاعلة أن يكون بمعنى فعل الاثنين لا فعل الواحد منهما ثانيا جزاء ، لعدم تعاهده في سائر مصاديق هذا الباب بل المعلوم المعهود منها ما ذكرنا.

ثم انّه لمّا صرح من أهل اللغة في خصوص المقام بكون « الضرار » بمعنى الثلاثي وأطلق مع ذلك في مورد الرواية على ذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أراك يا سمرة إلاّ مضارا » (١) فلا يعلم للضرار معنى أزيد على معنى « الضرر » ولا أقل من الاشتباه ، فلا بدّ من الاقتصار عليه والمشي عليه.

ثم إذا عرفت ذلك : فيقع الكلام في معنى التركيب عرفا ، وحيث انّه لا يمكن

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٤٠ الباب ١٢ من ابواب احياء الموات ، الحديث ١.

٣٤٢

حمل هذا التركيب على ظاهره وهو نفي حقيقة الضرر في الاسلام ، لوجوده كثيرا ، فلا بدّ من حمله على أقرب المحامل إليه ، وقد ذكر له معاني عديدة قال بكل منها قائل :

أحدها : حمل التركيب الظاهر في الأخبار على النهي التحريمي بالتصرف في الهيئة.

الثاني : حمل متعلق النفي وهو الضرر على المقيد وهو الضرر المجرد عن التدارك بأن يكون المنفي ضررا مقيدا ، وامّا الضرر المحكوم شرعا بالتدارك فيصح سلب الضرر عنه لأنّه كما انّ الضرر العائد معه النفي لا يسمى ضررا فكذلك الضرر المقرون بحكم الشارع بالتدارك ، فكلّما وجد ضرر في الخارج كاتلاف مال الغير وتمليك الجاهل بالعين فلا بدّ أن يقترن بلزوم التدارك.

ثم انّه حيث يرد :

على المعنى الأول : مضافا إلى كونه خلاف الظاهر من هذا التركيب ؛ بأنّه : بناء عليه لا يصح التمسك بالخبر في نفي الأحكام الوضعية مطلقا ، خصوصا فيما لم يكن في البين حكم تكليفي تحريمي أصلا كالبيع الغبني مع عدم تدليس من الغابن بل مع جهله ، هذا. مع انّ الأفعال التي تكون ضررا على النفس كالوضوء ونحوها ليس الحكم باستحبابها أو اباحتها ضرريا على المكلف كي يحكم بالتحريم.

وعلى الثاني : مضافا إلى كون هذا التقييد خلاف الظاهر بأنّ ؛ التدارك الخارجي للضرر لا يوجب صحة سلبه ولو بالنسبة إلى خصوص المتدارك فضلا عن الحكم به الأعم من وقوع التدارك خارجا وعدمه ، هذا ؛ مع انّ الضرر المتكلف بنفس المكلف كالوضوء الضرري ونحوه لا حكم للشارع فيه بالتدارك.

هذا كله مع انّ تقييد نفي الضرر بالاسلام لا يناسب نفي الفعل الضرري ، بل

٣٤٣

المناسب له الحكم الشرعي ؛ فقد ذهب شيخنا العلاّمة (١) أعلى الله مقامه إلى معنى ثالث وهو : انّ المنفي الحكم الشرعي الذي يلزم منه ضرر على العباد كالحكم بلزوم البيع على المغبون امّا بتقدير الحكم أو بارادته من الموضوع مجازا في الكلمة بعلاقة السببية بحمل المسبب وارادة السبب الخارجي وهو الحكم أعم من أن يكون وضعيّا أو تكليفيا على النفس أو على الغير أو مطلق السبب ، غاية الأمر تكون إرادة الحكم من جهة كونه أحد افراده.

ولكن التحقيق : انّ ما ذكره قدس‌سره خلاف التحقيق أيضا.

امّا أولا : فلعدم صحة العلاقة السببية بين الحكم الشرعي والضرر الخارجي بل الحكم يكون داعيا للامتثال ، لكونه موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال لا موجبا للوقوع في الضرر خارجا.

وامّا ثانيا : فلكونه خلاف ظاهر مثل هذه التراكيب المؤتلفة من كلمة « لا » واسم الجنس بل الظاهر منها كما في مثل : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ) (٢) و « لا صلاة إلاّ بطهور » (٣) أو « بفاتحة الكتاب » (٤) أو « لجار المسجد إلاّ في المسجد » (٥) و « لا رجل » وغير ذلك انّها مستعملة في المعنى الحقيقي لهذا

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٢ ؛ المكاسب ٥ : ١٦١ في خيار الغبن.

(٢) سورة البقرة : ١٩٧.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٢٥٦ الباب ١ من ابواب الوضوء ، الحديث ١.

(٤) بهذا المعنى في :

وسائل الشيعة ٤ : ٧٣٢ الباب ١ من ابواب القراءة ، الحديث ١ ؛ عوالي اللآلي ١ : ١٩٦ الحديث ٢ و ٣.

وعند العامة : صحيح مسلم ١ : ٢٩٥ الباب ١١ من كتاب الصلاة ، الحديث ٣٤ ؛ سنن البيهقي ٢ : ٥٩ ؛ مسند احمد ٢ : ٤٢٨.

(٥) وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٨ الباب ٢ من ابواب احكام المساجد ، الحديث ١ ، وفيه « في مسجده » بدل « في المسجد » ؛ دعائم الاسلام ١ : ١٤٨ ؛ مستدرك الوسائل ٣ : ٣٥٦ الباب ٢ من ابواب احكام المساجد ، الحديث ١ و ٢.

٣٤٤

التركيب وهو نفي الحقيقة بلا مجاز في الكلمة ، غاية الأمر يكون نفس الحقيقة تارة حقيقة واخرى ادّعاء بنحو المجاز في الاسناد وكناية عن نفي الحكم والأثر ، أو مع عدم المجاز فيه أيضا ، لصحة اسناد النفي إلى الموضوع عرفا فيما كان المقصود الحقيقي نفي الحكم والأثر لكون نفيه مصححا لنسبة النفي إلى الموضوع من جهة شدة المناسبة بين الموضوع وحكمه.

وعلى أي حال يكون المراد من هذه التراكيب نفي الموضوع كناية عن نفي الأثر ، لا نفيه ابتداء ، لأنّ ما ذكرنا هو مقتضى البلاغة والفصاحة في مقام المبالغة والامتنان كما قلنا نظير هذا المعنى في حديث الرفع من انّه لرفع الحكم بلسان نفي الموضوع ، وإلاّ فلو اريد من مدخول « لا » في هذه التراكيب ابتداء نفس الأثر المقصود نفيه حقيقة لما كان الاستعمال بليغا بل يكون مستهجنا في بعض المقامات كما في بعض خطب الأئمة عليهم‌السلام : « أنتم أشباه الرجال ولا رجال » (١) فان ارادة صفة الكمال منه بدوا يوجب الخروج عن البلاغة كما لا يخفى.

ويؤيد ما ذكرنا فهم المشهور من قاعدة نفي الضرر ذلك بقرينة اطباقهم على التمسك بها لاثبات خيار المغبون في البيع الغبني بين الفسخ والامضاء وإلاّ فلو كان ما فهموه هو ما ذكره الشيخ قدس‌سره (٢) لكان في اثبات الخيار بهذه القاعدة في المثال تأملا بل منعا ، حيث انّ المنفي بناء عليه هو الحكم الذي ينشأ منه الضرر وهو في المثال لزوم المعاملة بلا تدارك في البين ، ونفيه أعم من نفي اللزوم واثبات الجواز ومن بقاء اللزوم مع الالتزام بالتدارك فيكون الأمر مرددا بينهما.

والسرّ : انّ المنفي بناء على ما ذكرنا وان كان هو الحكم أيضا حقيقة إلاّ أنّه

__________________

(١) « يا اشباه الرجال ولا رجال » ، الخطبة ٢٧ من نهج البلاغة : ٦٦.

(٢) المكاسب ٥ : ١٦١.

٣٤٥

لمّا كان بلسان نفي الموضوع فلا بدّ من كونه من أحكامه لو لا قاعدة نفي الضرر ؛ بخلافه بناء على ما ذكره الشيخ قدس‌سره فانّ المنفي ابتداء هو الحكم المنشأ للضرر بدون لحاظ الموضوع. وعلى هذا المبنى قد أورد الشيخ قدس‌سره (١) على المشهور في مبحث الخيارات في اثبات الخيار بالقاعدة وتردد بين اللزوم مع التدارك وبين الجواز ؛ ولكن جوابه ما ذكرنا : من انّ مبنى المشهور هو ما ذكرنا.

فتلخص مما ذكره المشهور من اثبات الخيار : ان معنى القاعدة هو ما ذكرنا وان كان في اثبات الخيار بمعنى الحقّ بناء عليه أيضا مشكلا ، بل المسلّم هو الخيار بمعنى جواز الفسخ والامضاء حكما.

ثم انّ المنفي من أحكام الموضوع بناء على ما ذكرنا هو الحكم الثابت له ـ لو لا القاعدة ـ الذي كانت المنّة في رفعه ، لا كل ما كان له من الأحكام ، ولذلك يحكم في المثال بنفي اللزوم لا بنفي الصحة ، لعدم المنّة في رفعه بل يحكم بها بمقتضى قوله : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢).

كما انّه لا بدّ أن يكون المنفي من أحكام العنوان الذي قد يترتب عليه الضرر ويكون بينهما العموم من وجه كالبيع والغسل والوضوء ونحوها ، لا من أحكام نفس عنوان الضرر كحرمة الاضرار بالنفس أو بالغير مثلا ، حيث انّ ظاهر القاعدة كون المقتضي لرفع الأحكام هو الضرر.

ولا يخفى انّه بالنسبة إلى الحكم المترتب على نفسه يكون مقتضيا لثبوته كما هو شأن مطلق الموضوعات بالنسبة إلى أحكام أنفسها ، ومن المعلوم انّ المقتضي للثبوت لا يكون مقتضيا للرفع فلا بدّ من كون المنفي الحكم الذي يترتّب على عنوان آخر قد يكون ضرريا فيرتفع حكمه في ذاك الموقف بواسطة الضرر كما في

__________________

(١) المكاسب ٥ : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٧٥.

٣٤٦

مورد الرواية فانّ المنفي فيه سلطنة سمرة على ماله التي تكون ضررية على الأنصاري. وهذا نظير ما حقق في حديث رفع الخطأ والنسيان من كون المرفوع الحكم المترتّب على الموضوع الذي قد يترتب عليه الخطأ ، لا نفس حكم الخطأ والنسيان لما ذكرنا.

المقام الثالث : في بيان تعارض القاعدة مع الأدلة الواقعية المثبتة للأحكام.

ولا بدّ من التكلم [ في ] (١) حالهما ثبوتا تارة ، واثباتا اخرى.

امّا الأول : فنقول : انّ الأمر بين عنوان الضرر ونظيره من سائر العنوانات الثانوية الطارئة على العناوين الأولية الواقعية وبين نفس العناوين الواقعية فيما ثبت المقتضى للطرفين في مورد التعارض في الجملة لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة :

فامّا أن تكون المصلحة المقتضية في العنوان الواقعي علّة تامّة بالنسبة إلى هذا العنوان الطارئ الملحوظ معه بحيث لا يرتفع حكمه بسببه وان لم يكن بالنسبة إلى عنوان آخر طارئا كذلك.

وامّا أن تكون المصلحة في العنوان الطارئ علّة تامّة لرفع حكم العنوان الواقعي. وحاصل هذين الوجهين انّ العلة التامة في أحدهما المعيّن واقعا وان اشتبه إثباتا ، ويكون الحكم الفعلي في الوجهين تابعا لأقوى الجهتين.

وامّا أن تكون المصلحة في كليهما متساوية بحيث لا ترجيح لأحدهما على الاخرى فيتزاحمان في مقام التأثير فلا بدّ من مرجح آخر في مقام العمل.

[ و ] امّا الثاني : فان كان معيّن في البين في مقام الاثبات بالنسبة إلى أحد الوجوه المذكورة فلا اشكال في الحكم وان لم يكن في البين إلاّ نفس دليل العنوان

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( من ).

٣٤٧

الواقعي والطارئ ، وحينئذ : فان كان دليل العنوان الواقعي أخصّ كدليل النفقات بالنسبة إلى واجبي النفقة ودليل الخمس والجهاد والزكاة ونحوها ، أو نصا في مدلوله كما في مطلق الأدلة الواقعية بالنسبة إلى مقدار من الضرر يستلزمه بطبعه ذاتا بحيث لو عمل في ذاك المقدار بقاعدة نفي الضرر فلا يبقى للعمل بها مجال فيعمل بالأدلة الواقعية ، لأنصّيتها ، كما لا يخفى.

وان لم يكن كذلك ففي : تقديم قاعدة نفي الضرر على الأدلة الواقعية ، واستكشاف كون عنوان الضرر علة تامة لرفع الحكم الواقعي من جهة حكومة القاعدة عليها ، أو من باب الجمع العرفي بينهما بحمل عنوان الضرر على المانع الفعلي وحمل العنوان الواقعي على بيان المقتضي في ذاك المورد ، وعدم تقديمه بل معارضة التعارض بينهما ، وجوه ؛ قد ذهب شيخنا العلاّمة (١) أعلى الله مقامه إلى حكومة القاعدة على الأدلة ، وبعض آخر إلى التعارض.

ولكن التحقيق : عدم تمامية الحكومة الاصطلاحية ، لتوقفها على كون دليل القاعدة ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مؤدّى الحكم الواقعي ونافيا له بما هو مدلول له لا بما هو واقعي من الواقعيات مناف له واقعا ، وإلاّ فمجرد نفيه بدلالته الفعلية بما هو واقع ، لا بما هو مدلول الدليل شأن جميع الأدلة المتعارضة ، حيث انّ لازم اثبات كل منها لمؤداه نفي ما ينافيه واقعا ، وليس هذا بحكومة ، وأنّى له قدس‌سره باثبات الحكومة بالمعنى المذكور.

ولا وجه للتعارض أيضا ، إذ ملاكه التحيّر عرفا عند القاء كل من المتعارضين إلى أهل العرف وعدم عدهما بمجموعهما قرينة على خلاف الظاهر في أحدهما ، وهنا ليس كذلك ، بل التحقيق تقديم القاعدة من باب الجمع العرفي حيث انّه بعد

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٢.

٣٤٨

ملاحظة دليل القاعدة مع الأدلة الواقعية مثل « الناس مسلطون على أموالهم » (١) وقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) ودليل الوضوء والغسل ونحوها تحمل الأدلة الواقعية عرفا على بيان المقتضي في مورد التعارض ودليل نفي الضرر على بيان المانع الفعلي ولا يبقى العرف في التحير والاشتباه.

ولذلك ترى الأعلام فيما يعملون بأدلة العناوين الثانوية لا يتوقفون ولا يلاحظون انّها دالة لفظا على نفي مؤدّى الأدلة الواقعية بما هو مدلول لها أم لا بل يعملون بها بمجرد لحاظ تعارضها مع الأدلة الواقعية ، فلولا التقديم من باب الجمع العرفي بل من جهة الحكومة الاصطلاحية فلا بدّ من الاختلاف في الموارد بحسب ملاحظة دلالتها لفظا على نفي مؤدّى الأدلة الواقعية بما هو مدلول لها وعدمها.

وإذا عرفت الجمع العرفي بين القاعدة والأدلة الواقعية فلا وجه لملاحظة التعارض بينها بل القاعدة ما ذكرنا ، إلاّ أن يقوم دليل من الخارج على أهمية العنوان الواقعي أو كان دليله نصا أو كالنص كما عرفت ؛ ولعل أخذ الأصحاب بسائر العمومات في قبال نفي الضرر من جهة أحد الوجوه المذكورة لا من جهة طرح القاعدة رأسا.

المقام الرابع : في تعارض فردين من الضرر ، بحيث لا يمكن العمل بالقاعدة فيهما معا بل العمل بها في أحدهما يستلزم ترك العمل بها في الآخر كما في سائر العمومات لو تعارض فردان منها في العمل بها فيهما.

فنقول : انّه لا يخلو الأمر واقعا :

__________________

(١) الخلاف ٣ : ١٧٦ المسألة ٢٩٠ من كتاب البيوع ؛ عوالي اللآلي ١ : ٤٥٧ الحديث ١٩٨ و ١ : ٢٢٢ الحديث ٩٩ و ٢ : ١٣٨ الحديث ٣٨٣ و ٣ : ٢٠٨ الحديث ٤٩ ؛ بحار الانوار ٢ : ٢٧٢ الحديث ٧. وهذا النبوي رواه جمع من العامة ، والظاهر انه ليس له طريق صحيح عندنا.

(٢) سورة المائدة : ١.

٣٤٩

فامّا أن تكون المصلحة في كل منهما مقيدة بعدم التعارض ، ففي صورة التعارض لا مصلحة أصلا ، فحينئذ لا يعمل بالعام في كل منهما رأسا.

وامّا أن تكون المصلحة في أحدهما معينا دون الآخر ، فيعمل به في خصوصه.

وامّا أن تكون المصلحة في أحدهما بلا عنوان واقعا ، بحيث تكون كل من الخصوصيتين لا مدخل له في المصلحة بل هي متقومة بأحدهما المردد بحيث لا تعيين لما يقوم به واقعا كما حقق في تعارض الخبرين بناء على حجيتها من باب الطريقية لا الموضوعية ، حيث انّه لا يمكن كون المصلحة [ طريقية ] (١) في كليهما بعد العلم بكذب أحدهما ؛ ولا وجه لارتفاع المصلحة عن كليهما معا بل بقدر المانع وهو العلم بكذب أحدهما بلا عنوان فيبقى أحدهما كذلك بحاله من الاشتمال على المصلحة ، فيجدي في نفي الثالث وان كان لا يجدي في الأخذ بواحد من الخصوصيتين.

وامّا أن تكون المصلحة في كليهما معا ، فيعامل معهما معاملة المتزاحمين من الأخذ بالأهم على تقدير وجوده في البين والتخيير على تقدير التساوي.

هذا كله حال الفردين المتعارضين في مقام الثبوت وامّا حالهما في مقام الاثبات ، فنقول :

انّ الظاهر من كل دليل كان مطلقا أو عاما بحسب المادة مثل أكرم كل عالم مثلا انّ المصلحة المقتضية للحكم به ثابتة في جميع افراده حتى في صورة التعارض ، غاية الأمر يكون عدم امكان العمل بالمتعارضين في تلك الصورة موجبا لتقييد مفاد الهيئة وهو الطلب التعييني فيها. وامّا المصلحة المستكشفة من اطلاق

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( الطريقي ).

٣٥٠

« العالم » بالنسبة إلى جميع افراده فلا وجه لرفع اليد عنه ، ولا ملازمة بين الاطلاق في المادة والهيئة.

وتوهم الملازمة بينهما كما في المخصص اللفظي مثل لا تكرم الفساق من العلماء مثلا ، مدفوع :

بأنّ المخصص اللفظي يكون بمادته وبهيئته خارجا عن العام ، وامّا المخصص العقلي كما في صورة التزاحم فلا إلاّ بمقدار حكم العقل وهو قبح طلب غير المقدور وهو يقتضي تقييد الهيئة لا المادة مع انّ تقييدها بحسب الارادة الجدية ، وامّا بحسب الاستعمال فظهورها باق بحاله غاية الأمر يكون ظهورها مع اطلاق المادة حجة في ثبوت المصلحة في جميع الافراد مع تعلق الطلب التعييني بها فسقطت حجيته بالنسبة إلى الطلب التعييني في خصوص صورة التزاحم فتبقى الحجية في غيره ؛ هذا مع امكان التزام عدم التقييد بحسب الهيئة أصلا بأن تكون مستعملة في مطلق الطلب الجامع بين التعيين والتخيير ويكون التعيين بحسب الموارد تعيينا في غير صورة التزاحم وتخييرا فيها بحكم العقل. وعلى كل حال فالأقوى في كل دليل لم يكن مخصصا بالمخصص اللفظي هو استكشاف المصلحة في صورة التزاحم فيعمل بالأهم لو كان ، وإلاّ فالحكم التخيير لو كان له مجال ، وإلاّ فالمرجع القواعد الاخرى.

إذا عرفت ذلك فنقول في المقام : إذا تعارض فردان من الضرر بحيث يكون العمل بالقاعدة في أحدهما مستلزما لتركها في الآخر :

فلو كان الضرران بالنسبة إلى الشخص الواحد فلا اشكال في كون الحكم هو التعيين بالأهم ولو بالأكثرية ، حيث انّ الامتنان بالنسبة إلى الواحد في نفي الضرر الكثير في مقام التعارض لا في نفي القليل فهو المتعين للرفع.

واما لو كانا بالنسبة إلى الشخصين كما لو ادخلت الدابة رأسها في القدر بغير

٣٥١

تفريط من أحد المالكين أو دخلت في بستان الغير كذلك بحيث لا يمكن اخراجها بعد ذلك إلاّ بهدم الجدار ونحوهما من الأمثلة ، فملخص هذه الصورة أن يقال :

لو كان الضرر بالنسبة إلى أحدهما في مورد مجرد كونه ممنوعا عن التصرف في ماله وبالنسبة إلى الآخر النقص المالي ، فلا اشكال في تقديم الثاني كما في مورد الرواية بالنسبة إلى تقديم نفي الضرر للأنصاري على سمرة.

وان كان بالنسبة إلى كليهما نقصا حقيقيا ، فان كان نفيه عن أحدهما أهم في نظر الشارع بالنسبة إلى الآخر فلا اشكال في تقديمه أيضا ، وامّا لو كان كثيرا بالنسبة إلى الآخر ، ففي تقديمه عليه كما بالنسبة إلى الشخص الواحد أو جعله معه كالضررين المتساويين في الرجوع إلى القواعد الاخرى ـ لو لا القاعدة ـ بعد عدم المعنى للتخيير للمالكين وعدم الدليل لتخيير الحاكم ، وجهان :

من كون مجموع العباد بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى كعبد واحد يلاحظ في حقه نفي الكثير كما تلاحظ في الموالي العرفية بالنسبة إلى عبيدهم في مراعاتهم في نفي الضرر بالنسبة إلى الكثير في مورد التعارض. وسرّه : انّه لا بدّ للمولى من مراعاة النوع لو تعارض مع الشخص ، وهو في تقديم الكثير لا القليل كما ورد في الشرع من قتل جماعة قليلة من المسلمين [ تترّس بهم ] (١) الكفار بحيث لو لا قتلهم لكانت الغلبة مع الكفار.

ومن انّ ذلك مسلّم في صورة كون مراعاة الضرر الكثير أهم في نظر الشارع ولو للنوع كما في مسألة [ التترّس ] (٢). وأمّا في غيره فمقتضى ورود الحديث في مقام الامتنان وعطوفيته تعالى بالنسبة إلى كل واحد من العباد وغنائه تعالى وثبوت المنّة في نفي أي منهما بالنسبة إلى صاحبه بلا أولوية لتقديم المنّة على أحدهما

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( تطرّسوهم ).

(٢) في الاصل المخطوط ( التطرّس ).

٣٥٢

على الآخر ، هو التسوية بين الضررين كما هو الأقوى ، فلا معيّن عقلا لتقديم الكثير ، وحيث انّه لا معيّن نقلا أيضا غير قاعدة نفي الضرر غير المقتضية للتقديم ولا وجه للتخيير أيضا فلا بدّ من الرجوع إلى القواعد الاخرى من قاعدة السلطنة ونحوها.

المقام [ الخامس ] (١) : انّه قد أورد على القاعدة بتخصيص الكثير عليها ، لخروج كثير مما كان ضرريا من الموارد عنها بحيث لا يعمل بها فيها عند الأصحاب فاعراض الأصحاب عنها يوجب الوهن فيها فيشكل التمسك بها في الموارد المشكوكة بل لا بدّ [ في ] (٢) العمل بها من جابر ، لوهنها ؛ وقيل انّ المراد منه عمل الأصحاب فلا بدّ من الاقتصار بالقاعدة في موارد العمل.

ثم ليعلم ، انّه على تقدير تسليم تخصيص الكثير فالاحتياج في الجبر إلى عمل الأصحاب : امّا لحصول الوهن في القاعدة من جهة كثرة التخصيص ، أو من جهة العلم الاجمالي بالتخصيص الناشئ من اعراض الأصحاب ؛ فعمل الأصحاب على الأوّل موجب لرفع الوهن لحصول الاطمئنان بعدم كون موارد العمل مما ورد فيها التخصيص ، وعلى الثاني موجب لخروج مورد العمل من أطراف العلم الاجمالي حيث انّه كان في موارد الاعراض وعدم العمل بها غاية الأمر قبل المصادفة بالعمل كانت الأطراف مشتبهة بغيرها وبعدها يرتفع ، لتعيّن كون مورده خارجا عنها.

ولكنه لا بدّ أن يعلم : انّ المراد من العمل ليس العمل خارجا فعلا بل المراد الاعتناء بها وملاحظة شمولها لمورد النزاع ولو لم يعمل بها لأجل المعارض الذي ادّعي أقوائيته ، ولكن ملاحظة التعارض يشهد على الاعتناء بشأن القاعدة فحينئذ

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( الثالث ).

(٢) في الاصل المخطوط ( من ).

٣٥٣

إذا كان نظرهم في اقوائية غيرها خطأ بل كانت القاعدة أقوى بحسب النظر لكانت هي المعمول بها دون غيرها.

ثم انّه ظهر مما ذكرنا : انّه على فرض تسليم التخصيص الكثير في القاعدة واحتياج العمل بها معه إلى الجبر بعمل الأصحاب سواء كان للخروج من الوهن أو للخروج من دائرة العلم الاجمالي بالتخصيص ، ليس بكثير وهن فيها بعد ما عرفت المراد من العمل وانّه مجرد الاعتناء بها دون العمل فعلا على طبقها ، هذا.

مع انّ كثرة التخصيص غير مسلّمة ، حيث انّ ما كان من الأدلة مقدما عليها على أنحاء :

منها : ما كان مثبتا للحكم لعنوان « الضرر » و « الاضرار ».

ومنها : ما كان موجبا للالقاء بالضرر كأدلة الخمس والزكاة والنفقات ونحوها.

ومنها : ما كان في مقام الاقدام على الضرر ، فانّه حينئذ لا يعمل بالقاعدة كما سيجيء.

ومنها : غالب الأدلة الواقعية بالنسبة إلى مقدار من الضرر تستلزمه طبعا ، بحيث لو عمل بها لم يبق لها مجال.

ومن المعلوم انّ كل واحد منها ليس بتخصيص أصلا أو بتخصيص موهن.

امّا الأدلة المثبتة للحكم لعنوان « الضرر » فهو ليس منه أصلا ، لما عرفت من عدم شمول مفاد القاعدة لرفع حكم الضرر بنفسه لعدم اقتضائه لرفع ما كان مقتضيا لثبوته.

وكذا الأدلة المعمول بها في موارد الاقدام كما سيجيء ، لعدم اطلاق القاعدة بالنسبة إلى تلك الموارد.

وامّا الأدلة الموجبة للالقاء بالضرر والأدلة الواقعية بالنسبة إلى مقدار منه

٣٥٤

المستلزمة له طبعا فانّما هو لكونها نصا أو كالنص بالنسبة إلى اطلاق القاعدة في رفع الحكم في تلك الموارد ، فتقدمها عليها من جهة الجمع العرفي وتوفيقه بين كل دليلين كان أحدهما أظهر من الآخر أو كانا بمجموعهما قرينة على خلاف الظاهر في أحدهما ؛ ومن المعلوم انّ التوفيق العرفي كالحكومة ليس بتخصيص أصلا أو بتخصيص موهن ، وإلاّ لكان جميع الأدلة الواقعية مخصصة كثيرا ، إذ ما من عنوان منها إلاّ وقد ورد عليه عناوين طارئة كثيرة مقدمة عليه كعنوان الشرط والنذر والحلف والاكراه والاضطرار وغيرها وليس ذلك من قبيل التخصيص بل لعله من باب تقديم أقوى المتزاحمين على الآخر ولو كانت الاقوائية من جهة الفهم العرفي وأظهرية دليل العنوان الطارئ لا من قبيل التخصيص وتقديم المعارض ، وعلى تقدير التسليم فليس بموهن ، من جهة كونه بالعنوان الجامع.

وبعد اخراج ما ذكرنا واحراز حجية القاعدة في الباقي ليس أصل التخصيص على القاعدة بمعلوم فضلا عن كثرتها ، فليس طرح القاعدة إلاّ لمدّعي العلم الاجمالي بالتخصيص الكثير مضافا إلى ما ذكرنا ؛ والعهدة عليه.

المقام [ السادس ] (١) : انّ القاعدة لمّا كانت في مقام المنّة على العباد فلا بدّ أن يكون المنفي به خصوص ما كان المنّة في رفعه من الأحكام كاللزوم في العقد الغبني دون غيره مما لم تكن المنّة في رفعه كأصل الصحة في العقد الثابتة له بقوله : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) بل لو فرض عدم الدليل عليه إلاّ دليل لزوم الوفاء بالعقد لكان مقتضى القاعدة عدم رفعه لكونها زائدة على اللزوم وأعم منه بلا ملازمة بينهما كما في بعض العقود.

ومجرد كون الكاشف واحدا وهو دليل لزوم الوفاء بالعقد لا يقضى باتحاد

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( الخامس ).

(٢) سورة البقرة : ٢٧٥.

٣٥٥

المنكشف ولا الملازمة بينهما ، فلا يحكم بالرفع إلاّ بالنسبة إلى ما قام الدليل على رفعه وهو اللزوم في المقام دون أصل الصحة.

ثم انّه بعد ما عرفت ورود الحديث في مقام الامتنان ، يظهر : انّه لو كان البيع الغبني باقدام المغبون بنفسه ابتداء مع علمه بالضرر كذلك فلا يرتفع حكم العقد أصلا حتى اللزوم ، حيث انّه مع اقدام المتضرّر على الضرر ليس منافيا للامتنان حتى يحكم برفعه بل كان كالصحة بعد وقوع العقد الغبني عن جهل موافقا للغرض وسلطنة الناس على أموالهم وغير شامل لقاعدة نفي الضرر ، لأنها في مقام نفي ما يوجب القاء العباد على الضرر ونقض غرضهم ، منّة عليهم ، دون ما لم يكن كذلك بل كان باقدام منهم ووفقا لغرضهم كما في الصورة المذكورة. هذا في المعاملات.

وامّا العبادات الموجبة للضرر من الوضوء والغسل والصوم ونحوها :

فان كان الضرر الناشئ منها بالنسبة إلى النفس والعرض فلا اشكال في ارتفاع حكمها حتى الصحة ولو مع الاقدام ، لكون المنّة في ذلك كما لا يخفى.

وان كان على المال فلا اشكال في رفع اللزوم أيضا.

وامّا الصحة فلا وجه لرفعها ، لما عرفت سابقا من استكشاف المصلحة مطلقا من اطلاق المادة وان كانت الهيئة مقيدة. ولا ملازمة بين المصلحة والطلب على ما هو التحقيق من عدم الملازمة بينهما ، لكون الطلب تابعا للغرض وقد لا يتعلق بمجرد المصلحة. ومجرد اتحاد الكاشف لا يوجب الملازمة كما عرفت ؛ وبعد ما عرفت من بقاء المصلحة فيكفي في الصحة بناء على التحقيق من كفاية المحبوبية فيها.

ثم انّه لا يتوهم قياس العبادات بالمعاملات في عدم ارتفاع اللزوم مع الاقدام من أول الأمر ، لوجود الفارق وهو كون الداعي إلى الفعل قبل الاقدام في العبادات هو اللزوم ، دون المعاملات ، لتحققه بعده فيكون الداعي حقيقة هو ميله النفساني

٣٥٦

فيها دون العبادات كما لا يخفى.

المقام [ السابع ] (١) : لو دار الأمر بين الوقوع في الضرر أو الحرج بحيث لا بدّ من الوقوع في أحدهما ـ كما في البيع الغبني لو كان جواز الفسخ حرجيا على الغابن ـ فالظاهر انّه لمّا كان كل واحد منهما من العناوين الطارئة فلو لم يكن معيّن من الخارج التقديم أحدهما فلا دلالة لدليل واحد منهما على تقديمه دائما. نعم الظاهر انّ الدوران بينهما من باب التزاحم لوجود المقتضي في كل منهما ـ ولو مع الدوران ـ لا التعارض ، فان كان دليل من الخارج على أهمية واحد منهما فبها ، وإلاّ فمع عدم المعيّن أو مع القطع بتساويهما فالمرجع القواعد الاخرى ؛ والقاعدة في المثال المذكور لزوم الوفاء بالعقود بمقتضى قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ). (٢)

ولا يكون الحكم هو التخيير بين الضرر والعسر بمعنى اختيار واحد من دليليهما كما في سائر المتزاحمات لأنّ التزاحم يكون :

تارة : بين الواجبين من جهة عدم امكان اجتماعهما في الخارج وجودا ، بحيث لو كان المكلف قادرا على ايجادهما معا لما كانا متزاحمين في التأثير في الحكم القبلي.

واخرى : يكون التزاحم في مقام التأثير واقعا كما في اجتماع الأمر والنهي ، ولا شبهة انّه بعد التزاحم بين المقتضيين في أصل التأثير لكان المراد كأن لم يكونا في البين واقعا فلا بدّ من الرجوع إلى حكم آخر لولاهما.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، حيث انّ التزاحم بين العسر والضرر إنّما هو في التأثير في رفع الحكم الواقعي في مورد كل منهما فبعده يكون الواقعي الأوّلي كأن لم يكونا عذرا مع التزاحم بين فردين بل من هذا القبيل من الضرر ، فتدبر.

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( السادس ).

(٢) سورة المائدة : ١.

٣٥٧
٣٥٨

الاستصحاب

ولا يخفى انّه لا يهمّنا التعرض لمعناه اللغوي مع انّه من الألفاظ الظاهرة المعنى عرفا. والظاهر انّه أعم مما ذكره الشيخ قدس‌سره (١) من أخذ الشيء مصاحبا ، لصدقه على أخذ بعض اجزاء ما لا يؤكل لحمه مع عدم صدق المصاحب عليه ظاهرا.

ثم انّ لفظه وان لم يكن مما ورد في آية أو رواية موضوعا لأثر شرعي أيضا إلاّ أنّه لمّا كان باصطلاح الفقهاء مستعملا في معنى كان لازمه وجوب العمل على طبق الحالة السابقة عند الشك ومتداولا بينهم في ذلك فصار المهم تعيين معناه الاصطلاحي المعتمد عليه في العمل المذكور.

فما قيل أو يمكن أن يقال : انّ المراد منه اصطلاحا ذلك أمور :

منها : ما كان مجمعا لجميع المعاني المذكورة في هذا الباب ونتيجة لكل منها وهو حكم الشارع امضاء أو تأسيسا في حال الشك في بقاء ما كان متيقنا سابقا حكما شرعيا كان أو موضوعا له ببقائه على طبق الحالة السابقة تعبدا بترتيب ما كان له من الأثر شرعا ، وعبارته الجامعة : « إبقاء المتيقن شرعا في حال الشك في بقائه ».

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٩.

٣٥٩

ومنها : الظن بالبقاء.

ومنها : حكم العقل بالملازمة الظنية بين الكون السابق والبقاء.

ومنها : بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة وسيرتهم على ذلك.

ومنها : التمسك بالثبوت سابقا على البقاء.

فان كان بالمعنى الأول فيكون حكما شرعيا فرعيا متعلقا بعمل المكلف.

ولا يكون الاختلاف بينهم ـ في انّه من باب الظن أو من باب بناء العقلاء أو من باب الأخبار تعبدا إلى غير ذلك ـ في حقيقته وتعيين معناه اصطلاحا ، بل في وجه ثبوته وملاك حكم الشارع ومناطه من انّه :

الظن على قول.

أو بناء العقلاء على آخر.

أو غيرهما على ثالث.

ولا يكون التعبير عنه بالظن أو الملازمة أو غيرهما حدا حقيقيا بل اسميا يؤتى به اشارة اليه ، تارة : بملاك ثبوته شرعا ، واخرى : بما يكشف عنه ، الى غير ذلك من الجهات ؛ فلا وجه للنقض والابرام في التعاريف حينئذ.

ويؤيده بل يدل عليه : وضوح عدم تعدد معناه اصطلاحا وحقيقة وإلاّ لم يكن الاختلاف بين الانكار والاثبات والاختلاف في الجريان في مورد دون آخر واردا على موضوع واحد ومحل واحد كما لا يخفى ، وما هو المعلوم خلافه.

ويدل عليه أيضا : نفس اختلافهم في استفادته من الأخبار أو بناء العقلاء.

وتعجّب مثل الشيخ الأجل المرتضى الأنصاري قدس‌سره من الشيخ في العدة (١)

__________________

(١) العدة ٢ : ٧٥٧ ـ ٧٥٨ ؛ وقريب منه في الخلاف ١ : ٤١٢ كتاب الصلاة المسألة ١٥٧ ؛ وعوالي اللآلي ١ : ٣٨٠ المسلك الثالث ، الحديث ١ ؛ وبمعناه في وسائل الشيعة ١ : ١٧٧ الباب ١ من ابواب نواقض الوضوء ، الحديث ١ ؛ ومستدرك الوسائل ١ : ٢٨٨ الباب ١ من ابواب نواقض الوضوء ، الحديث ٤٣٤ / ٥.

٣٦٠