تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

وان كان الشك في تعلقه به في ضمن كلي مشترك بينه وبين الفرد المعلوم بأن يكون الشك في تعلق الوجوب بالفرد المعلوم بالخصوص كي يكون واجبا تعيينيا ، أو بالجامع كي يكون من جملة مصاديق الواجب فلا ، لتعارض جريان أصالة العدم في الكلي بأصالة العدم في الفرد المعلوم الوجوب ، والقدر المتيقن تعلقه به أعم من كونه بالخصوص أو في ضمن الكلي كما لا يخفى.

وتوهّم : جريان ما ذكرنا في التخيير العقلي في الشك في التخيير الشرعي أيضا على ما هو التحقيق فيه من تعلق الحكم فيه بالجامع المحصّل للغرض لا بالخصوصيات لعدم دخلها حقيقة في الغرض وإلاّ لزم استناد الشيء الواحد إلى المتباينات ممّا هي كذلك وهو مستحيل ، مدفوع :

مضافا إلى تسليمه فيما كان الغرض في الواجب التخييري واحدا لا فيما كان متعددا متزاحما في الوجود ؛ بانّ ذلك إنّما هو بالدقة العقلية وهو لا ينافي مع كون كل واحد من المصاديق واجبا بالخصوص عرفا بظاهر الدليل كما هو المعيار في باب الاستصحاب فحينئذ إذا شك في وجوب بعض المصاديق كذلك بعد العلم بوجوب فرد آخر بالخصوص فيجري فيه أصالة العدم بلا معارضة.

هذا كله بالنسبة إلى الحكم التكليفي.

وامّا بالنسبة إلى الحكم الوضعي فأصالة عدم سقوط وجوب الفرد المعلوم الحكم عن الذمة باتيان الفرد المشكوك في كل من القسمين ، ممكنة.

وامّا إذا علم بكون شيء مسقطا للواجب وشك في كونه واجبا تخييريا أو مباحا مسقطا ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم فتجري أصالة عدم تعلق الطلب به فقط في زمان التمكن عن الفرد الآخر المعلوم الحكم ، وأصالة البراءة عن وجوبه التعييني بالعرض أيضا في حال تعذر الفرد الآخر ؛ كما انّه يجري حينئذ في ما لم يعلم بكون الفرد المشكوك مسقطا أيضا.

٢٦١

هذا كله في الشك في الواجب التخييري.

وامّا الكلام في الواجب الكفائي كما إذا علم بتعلق الوجوب بأحد وشك في تعلقه بغيره من المكلفين فأصالة العدم بالنسبة إلى غير من علم بتعلقه به ، وكذا أصالة البراءة بالنسبة إليه عند عدم قيام المكلف المعلوم بالواجب ، وكذا أصالة عدم السقوط عن المكلف المعلوم عند قيام المكلف المشكوك به ، محكّمة ، ووجهه واضح.

٢٦٢

اصالة التخيير

ويقع الكلام فيما دار الامر بين المحذورين في الشيء الواحد ، ومحل الكلام فيما لم يلزم مخالفة عملية قطعية كما لو دار حكمه بين الوجوب والحرمة مع عدم كون كليهما أو واحد منهما تعبديا يعتبر فيه قصد القربة وإلاّ لكانت المخالفة العملية ممكنة. ولا فرق بين أن يكون ذلك من جهة عدم الدليل على التعيين بعد قيامه على أحدهما كما إذا اختلفت الامّة على قولين بحيث علم عدم الثالث أو من جهة اجماله أو تعارض الدليلين أو من جهة العوارض الخارجية فلا اشكال في استقلال العقل عند عدم المعيّن بقبح العقاب على الفعل أو الترك لا من جهة عدم الحجة والبيان لكون العلم الاجمالي بأصل الالزام كافيا في البيان بل من جهة عدم القدرة على الاحتياط التام ، ولذلك لو تمكن من الاحتياط كما في صورة دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر لكان العلم الاجمالي كافيا في كونه برهانا للالزام المعلوم اجمالا فعدم العقاب فيما نحن فيه ليس إلاّ من جهة عدم التمكن وليس كل ما يقبح فيه العقاب مستندا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فظهر ممّا ذكرنا انّ البراءة العقلية غير جارية في دوران الأمر بين المحذورين.

وامّا البراءة النقلية : فمثل حديث الرفع والحجب والسعة ونحوها ممّا لا اشكال فيه في كل من الوجوب والحرمة ، وكذا مثل قوله عليه‌السلام : « كل شيء لك حلال

٢٦٣

حتى تعرف انّه حرام » بناء على انّ مقابل احتمال الحرمة أعمّ من أن يكون مباحا أو حكما آخر كما في المقام وانّ الغاية تشمل العلم بالوجوب أيضا بناء على كون الحرمة أعمّ من تعلقها بالفعل أو الترك ؛ فظهر انّ جميع أدلة البراءة النقلية شاملة للمقام ولا مانع عنها إلاّ أمران :

أحدهما : انّه يلزم من الاباحة الظاهرية المخالفة الالتزامية للواقع.

وفيه : أولا : انّه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية حيث انّ الدليل على الحكم ليس إلاّ الخطاب الواقعي الدال عليه وهو يوجب الموافقة العملية لا الالتزامية وليس يجيء من قبله أمران وجوب العمل ووجوب الالتزام ، ولا دليل غيره يدل عليه.

وثانيا : انّه على فرض الدليل ولو من جهة وجوب الالتزام بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فبالنسبة إلى الالتزام بالواقع تفصيلا فهو غير مقدور وإلى أحدهما المعين أو المخير فلا دليل عليه وبالنسبة إلى الواقع على ما هو عليه ان واجبا فواجب وان حراما فحرام فهو حاصل ولو مع الالتزام بالحكم الظاهري ؛ والجمع بين الالتزام بالواقع كذلك وبالحكم الظاهري تفصيلا لا غبار عليه بعد مساعدة الدليل عليه.

ثانيهما : انّ موضوع الاباحة الظاهرية هو المحتمل للحلّية والحرمة وهو مفقود من جهة نفي احتمال الحلّية مع انّ الحكم الظاهري لا بدّ أن يكون محتمل المطابقة للواقع ، والاباحة في المقام مقطوع المخالفة للواقع.

وفيه : انّ الموضوع توأمية الغاية محتمل الحرمة وغيرها وهو يعم المقام أيضا.

وامّا الاشكال في كون هذا الحكم ظاهريا ، ففيه :

مضافا إلى عدم البأس بعدم صدق الحكم الظاهري لمثله إذا كان على طبق

٢٦٤

الدليل ؛ انّ المراد من الحكم الظاهري ان يكون ثابتا في الموضوع المشكوك الحكم الواقعي مع عدم تغير واقعه عما هو عليه. وبعبارة اخرى : ما كان في طول الواقع لا في عرضه مع حفظه واقعا وهو حاصل فيما نحن فيه لكون الحكم الواقعي من الوجوب أو الحرمة باقيا بحاله ولو مع جعل الاباحة على خلافه واجماعهم على عدم جواز احداث القول الثالث فيما إذا اختلفت الامّة على قولين ؛ فالمتيقن منه ما إذا لزم مخالفة عليه للواقع فلا يشمل مثل ما نحن فيه.

ثم انّه لو تنزلنا عما ذكرنا من كون مقتضى أدلة البراءة الشمول لما نحن فيه وقلنا بأنّ الظاهر من موضوعها محتمل الحلية والحرمة وبأنّها في مقام الامتنان والتوسعة فلا يشمل مثل المقام الذي لا يفيد الاباحة إلاّ ما هو حاصل بدونه من التخيير في الفعل أو الترك فلا بدّ من التنزل إلى حكم العقل.

فان قلنا : بجريان مقدمات الانسداد من العلم الاجمالي بالحكم الواقعي مع عدم امكان الاحتياط وعدم طريق علمي إليه وعدم جواز اجراء الأصل كما هو المفروض وقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فلا بدّ من التنزل في تعيين الحكم الواقعي إلى الظن كشفا أو حكومة على الخلاف.

وان قلنا : بعدم الجريان في كل مسألة مسألة :

فان لم يكن في المسألة معيّن ولو ظنا ، أو كان واستقل العقل بعدم كون الظن غير المعتبر مرجحا ، لكون الترجيح مثل الحجية محتاجا إلى الدليل وإذ ليس فليس فيستقل العقل بالتخيير.

وامّا لو حصل عنده لطرف المظنون بسبب الظن به مزية أو احتمالها لم يكن في الطرف الآخر فيتوقف عن الحكم بالتخيير ولا بالتعيين ، فيدور الأمر بينهما ، فيحكم بالاحتياط بالأخذ بطرف المظنون. ولا ينافي التوقف مع كون الحكم بالتخيير أو التعيين عقليا لعدم كون التوقف في الشك في انّ للعقل حكم أم لا بل

٢٦٥

يقطع بعدم الحكم إلاّ انّ الشك في الملاك ويمكن أن يختفي عليه ملاك حكمه لعدم العلم به تفصيلا بحدوده أو لاحتمال ملاك آخر لحكمه بالتعيين فيستقل في مقام العمل بالأخذ بمحتمل التعيين لحصول الأمن القطعي فيه عن الضرر واحتماله في الطرف الآخر.

هذا كله في الترجيح بالظن غير المعتبر.

وامّا الترجيح بغيره مثل انّ في العمل على طبق احتمال الحرمة المحتملة دفع المفسدة المحتملة وعلى طبق احتمال الوجوب جلب المنفعة المحتملة ، ومن المعلوم انّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، ففيه :

انّ ما ذكر إنّما يصح في المصالح والمفاسد غير اللازمة التدارك والدفع.

وبعبارة اخرى : في المضار والمنافع الدنيوية.

وامّا في المصالح والمفاسد اللتين كانتا ملاكا للالزام الشرعي من الوجوب والحرمة وكانتا لازمة التدارك والدفع فلا يصح ، لا لأجل انّ في ترك المصلحة مفسدة فيدور الأمر بين المفسدتين كما يظهر من الشيخ في الفرائد (١) حتى يقال بعدم كون ترك المصلحة مفسدة ، بل لأجل انّ المصلحة إذا كانت لازمة التدارك عند الشارع فيكون مثل المفسدة من حيث الحكم بالمراعاة فلا بدّ من ملاحظة الاهمية بينهما ؛ وربّ مصلحة يكون تداركها أهمّ من دفع بعض المفاسد كالصلاة بالنسبة إلى بعض المحرمات ، فليس دفع المفسدة أولى مطلقا بل لا بدّ من ملاحظة الموارد.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ١٨٧.

٢٦٦

اصالة الاشتغال

المقام الثاني من أقسام الشك : في حكم الشك في المكلف به بأن يعلم التكليف الالزامي في الجملة وكان الشك والدوران في متعلقه مع امكان الاحتياط. ولا فرق بحسب الحكم بين كون العلم الاجمالي بنوع التكليف الخاص كالوجوب المردد بين الشيئين أو الحرمة كذلك ، او بجنسه كما لو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر. والمهم في هذا الباب ان يتكلم في مقامين :

أحدهما : في انّ العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة لتنجيز ما تعلق به بحيث لا يقبل الترخيص على خلافه؟ أو مقتض قابل لذلك؟ وعلى الثاني فيبقى مجال للبحث عن البراءة في أطراف العلم الاجمالي وانّه وجد المانع شرعا بعد عدم كون الجهل التفصيلي عذرا عقلا؟ أم لا؟ دون الأول ، لعدم مجال للبحث عن ذلك بناء عليه.

والمتكفل للبحث عن كون تنجيز العلم الاجمالي على نحو العلية أو على نحو الاقتضاء هو مبحث القطع ، وحيث انّا تكلمنا في ذاك المبحث من انّه على نحو الاقتضاء دون العلية التامة فيبقى مجال للبحث عن البراءة في هذا المقام.

ثانيهما : في انّه بعد الفراغ عن كون تأثير العلم الاجمالي على نحو الاقتضاء فيتكلم في بيان المانع وجعل الجهل التفصيلي عذرا شرعا بعد عدم كونه عذرا عقلا.

فنقول : انّ الشبهة في الشك في المكلف به :

٢٦٧

تارة تكون حكمية ، كأن يكون الشك في تعلق الوجوب بخصوص عنوان أحد الشيئين الذين علم تعلقه بواحد منهما اجمالا أو في تعلق الحرمة كذلك أو في تعلق الوجوب بشيء أو الحرمة بشيء آخر ، من جهة عدم الدليل على التعين أو من جهة فقدان النص أو من جهة تعارض النصين.

وتارة تكون موضوعية ناشئة من اشتباه الواجب أو الحرام بغيره من جهة العوارض الخارجية ، فعلى الأول فالظاهر جريان أدلة البراءة وشمولها لأطراف العلم الاجمالي بلا تناف وتعارض بين الغاية المذكورة فيها وبين المغيّا.

بيانه : انّه لا بدّ أن تكون الغاية المذكورة فيها هي العلم بخصوص عنوان أو شخص تعلق به الشك لا بعنوان أو شخص آخر وإلاّ لم يكن العلم بشيء غاية للشك في شيء آخر كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّه لا قصور في دلالة كل واحد من أخبار البراءة ، لشموله لأطراف العلم الاجمالي في الشبهات الحكمية ، كما لو علم بحرمة واحد من شرب النبيذ وشرب العصير.

امّا مثل قوله حديث الرفع والحجب والسعة فلعدم العلم بحرمة خصوص شرب النبيذ ولا خصوص العصير ؛ والمعلوم بالاجمال المعيّن واقعا غير المعيّن ظاهرا غير معلوم الانطباق على كل من العنوانين بخصوصه حتى يخرجه عن الشك فبعد ، فإذا كان كل من الخصوصيتين مشكوك الحرمة يكون كل واحد مرفوع الحكم بخصوصه ويكون كل من هذه الروايات مانعا عن تأثير العلم الاجمالي.

وامّا مثل قوله : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انّه حرام » (١) فكذلك ، حيث انّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من ابواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ باختلاف.

٢٦٨

المراد من الغاية بقرينة الضمير معرفة نفس ما شك في حرمته من العنوان والخصوصية فإذا شك في حرمة خصوص حرمة شرب النبيذ فتكون معرفته بخصوصه غاية لحليته ، ومن المعلوم انّ العلم الاجمالي بحرمته أو حرمة شرب العصير لا يوجب رفع الشك عنه بالخصوص الموجب لجريان البراءة فيه ؛ وحرمة واحد منهما واقعا بعد عدم العلم بالانطباق لا يوجب حصول الغاية التي يكون المراد منها معرفة حرمة ذاك المشكوك في حليته وحرمته.

ومثل ما ذكرنا من الأدلة قوله عليه‌السلام : « كل شيء حلال حتى تعرف انّه حرام بعينه ».

وجه الدلالة : ما ذكر من انّ الغاية بقرينة الضمير معرفة حرمة ذاك الشيء من العنوان أو الخصوصية المشكوك في حليته وحرمته وهو غير حاصل في صورة العلم الاجمالي مع كون الشبهة حكمية ، حيث انّ كلا من شرب التتن وشرب النبيذ مشكوك الحرمة وما حصل معرفتها بمجرد العلم الاجمالي بحرمة أحدهما ، وهذا غير دعوى كون الغاية المعرفة التفصيلية المستفادة من قوله عليه‌السلام : « بعينه » كما توهّم بل لأجل ما عرفت من كون المراد معرفة حرمة العنوان المشكوك الحرمة. ولو لا ما ذكرنا فالظاهر انّ قوله عليه‌السلام : « بعينه » تأكيد للضمير جيء به للاهتمام في اعتبار المعرفة لا أنّه قيد مقسّم للمعرفة ، فحينئذ لا يفيد أزيد [ ممّا ] (١) يستفاد بدونه.

نعم قوله عليه‌السلام : « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (٢) يدل على اعتبار العلم التفصيلي ، حيث انّ الظاهر منه انّ قوله : « بعينه » قيد للمعرفة لا تأكيد للضمير ، فيدل على اعتبار التفصيل فيه فيكون معناه في ما نحن فيه على الاستخدام : انّ كل شيء من أطراف العلم الاجمالي يكون في نوعه

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( ما ).

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٥٩ الباب ٤ من ابواب ما يكتسب به ، الحديث ١ باختلاف.

٢٦٩

الجامع بينه وبين عدله قسمان واشتبه كل منهما بالآخر فهو لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من نوعه تفصيلا ؛ مثلا يصدق انّ كل واحد من شرب العصير وشرب النبيذ في الجامع بينهما قسم من الحرام وقسم من الحلال فهو لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من ذاك الجامع تفصيلا.

فظهر انّه على فرض تسليم عدم دلالة سائر الأخبار على الحلية وكون الغاية فيها أعمّ من العلم التفصيلي والاجمالي وأعم ممّا كان متعلقا بعنوان أحدهما فلا اشكال في دلالة هذا الخبر على الحلّية والبراءة في صورة العلم الاجمالي ولو كانت الشبهة حكمية وان نوقش في دلالته على البراءة في الشبهة الحكمية البدوية.

هذا كله في الشبهة الحكمية.

وامّا الشبهة الموضوعية : فان قلنا : بانّ المراد من الشيء الواقع في الاخبار كناية عمّا هو شيء بالحمل الشائع من الأشخاص والخصوصيات والمراد من الغاية معرفة ذاك الشيء بخصوصياته ، فتدل جميع أدلة البراءة على الحلّية في الشبهة الموضوعية من العلم الاجمالي أيضا.

وان قلنا : بأنّ المراد من الشيء أعم ممّا ذكرنا ومن العناوين الكلية ، فلا دلالة لها ، للعلم بالعنوان المعلوم الحرمة بين المشتبهين ، فيجب الاجتناب عنه وعن أطراف الشبهة مقدمة له. نعم الخبر الأخير يدل على البراءة في الشبهة الموضوعية أيضا بل هي المتيقن منه.

فحصل مما ذكرنا : انّ مقتضى الأدلة بعد البناء على تأثير العلم الاجمالي في التنجز على نحو الاقتضاء لا على نحو العلية هو البراءة حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية ؛ إلاّ أن يقوم اجماع على خلافه ، كما لا يبعد دعوى ذلك في الشبهات الموضوعية.

٢٧٠

ولكنه لا بدّ أن يعلم انّ اجراء البراءة في أطراف العلم الاجمالي يتوقف على عدم كون متعلق العلم هو مرتبة البعث والارادة التحريكية من المولى بحيث علم انّه يبعث فعلا إلى الاتيان بالواجب ويزجر عن الحرام وإلاّ فلا يمكن الترخيص بعد ذلك فيلزم رفع اليد عمّا هو ظاهر الدليل عقلا والاحتياط باتيان جميع أطراف الشبهة أو تركها بلا حاجة الى استكشاف الاحتياط من الشارع ، لكفاية احراز البعث منه في حكم العقل بلزوم الاحتياط في العلم الاجمالي وان كان لا بدّ من الاستكشاف في الشبهة البدوية لو كان التكليف المحتمل بهذه المرتبة ولا مجرد الانشاء الذي لا يصير منجزا ولو بتعلق العلم التفصيلي به أيضا ، بل لا بدّ أن يكون المتعلق بمرتبة يمكن اجتماعها مع الحكم الظاهري على خلافه بحيث يوصله العلم إلى المرتبة المستلزمة للتنجز لو لا المانع وهو ما قلنا به سابقا ووفقنا بين الاحكام الظاهرية المخالفة للواقعيات وبينها من كون الواقع بمرتبة لو تعلق التفصيلي به ـ أو ما يقوم مقامه من الأمارات المطابقة والعلم الاجمالي لو لا المانع ـ لصار منجزا ولو بأن يحصل عنده البعث أيضا.

وبعبارة اخرى : لا بد أن تكون مصلحة الحكم لشرائط البعث موجودة والموانع مفقودة غير الجهل التفصيلي الذي لم يكن مانعا عنه عقلا فلو لم يجعله الشارع مانعا عنه أيضا لصار إلى مرتبة الارادة والتنجز ولكن بعد شمول أدلة البراءة لأطراف العلم الاجمالي كما عرفت وجه دلالتها لكان ذلك كاشفا عن عدم الوصول إلى تلك المرتبة.

والحاصل : انّ متعلق العلم لو كان مرتبة من الحكم كانت جميع المقتضيات موجودة والموانع مفقودة بحيث لا حالة منتظرة له في طي جميع مراتب الحكم غير الجهل التفصيلي ، فلو دلت الأدلة على الحلية الكاشفة عن جعل ذاك الجهل مانعا عن الإرادة الفعلية لمصلحة من المصالح ولو كانت هي الترخيص فلا مانع عنها لا

٢٧١

عقلا ولا نقلا إلاّ ما ذكره شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه في الفرائد (١) من منافاة الترخيص في أطراف العلم الاجمالي لما دل على حرمة ذاك العنوان المشتبه مثل قوله : « اجتنب عن الخمر » حيث انّ الاذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن العنوان الواقعي المردد بينهما ؛ مضافا إلى منافاته مع نفس غاية هذه الأخبار الدالة على الاجتناب عن معلوم الحرمة.

وفيه :

أولا : النقض بالشبهة غير المحصورة والشبهة البدوية التي كانت الاصول فيها مخالفة للواقع واقعا وعدم العلم للمكلف بذلك لا يوجب رفع المنافاة واقعا حيث انّ المنافاة بين الحكمين واقعي ليس دائرا مدار العلم بها غاية الأمر كان العلم بذلك علما بالمنافاة لا موجبا للمنافاة بنفسه مع انّه قد يعلم بحصول المنافاة كما في الشبهة غير المحصورة وكما في اجراء الاصول من أول الفقه إلى آخره فانّه يعلم الفقيه باستلزامها المخالفة للواقع يقينا مع عدم الاستشكال في ذلك من أحد ، هذا.

مع انّه لو كان بين الحكم الظاهري والواقعي منافاة فكيف يبقى الشك في الحكم الواقعي في موارد جريان الاصول وهل ذلك على ذلك إلاّ الشك في وجود أحد الضدين مع القطع بالضد الآخر والحال انّ العلم بأحد الضدين يوجب القطع بعدم الضد الآخر.

وثانيا : بالحل ، بأنّ المنافاة ان كان من جهة عدم تحقق موضوع الحكم الظاهري وهو الجهل بالواقع كما في العلم التفصيلي فهو خلاف الضرورة ، لمكان وجود الجهل في الحكم الواقعي في كل من الأطراف بخصوصه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٠٢.

٢٧٢

وان كان من جهة المنافاة بين الترخيص والايجاب وبين الاذن والتحريم والارادة والكراهة ، ففيه : ما مرّ في دفع المنافاة بين الحكم الظاهري والواقعي في الشك في التكليف ؛ امّا بالنسبة إلى المبدأ الأعلى من عدم الارادة والكراهة فيه إلاّ مجرّد العلم بالصلاح والفساد ولا تنافي بينهما وبين الترخيص والاذن في الفعل.

وامّا بالنسبة إلى المبادئ النازلة من النفس النبوية والولوية التي كانت مجلى لارادة الله ومشيئته وكانت الارادة والكراهة فيها غير العلم بالصلاح والفساد ، من انّ الارادة والكراهة فيها على طبق الصلاح والفساد التام إنّما هو مع عدم جعل الجهل التفصيلي عذرا ، وامّا معه فيستكشف عن عدم التحقق فيها أيضا غير العلم بالصلاح والفساد والايجاب والتحريم الانشائيين وهي لم تكن منافية مع الترخيص ؛ فظهر انّ المنافاة إنّما هو بينه وبين البعث والزجر الفعليين والفرض إنّهما منتفيان مع البراءة وامّا غيرهما فلا منافاة.

وظهر ممّا ذكرنا : انّه لا مجال لتوهّم انّه مع صحة جعل الحكم الظاهري مع العلم الاجمالي لا بدّ من صحته مع العلم التفصيلي أيضا.

وجه الفساد : حصول المعلق عليه للتنجز في العلم التفصيلي دون العلم الاجمالي مع كون موضوع الحكم الظاهري وهو الجهل بالواقع محفوظا في العلم الاجمالي دون العلم التفصيلي.

كما انّه ظهر : انّ اجراء البراءة في أطراف العلم الاجمالي إنّما هو إذا لم يتعلق بالبعث الفعلي ، وامّا معه فلا ، وانّه قطع النظر عن الاجماع على عدم جواز اجراء البراءة ، وامّا معه فيستكشف عن الارادة الفعلية أيضا.

وظهر أيضا : انّه لا فرق بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ؛ وانّ ما في

٢٧٣

كلام الشيخ رحمه‌الله في الفرائد (١) من استلزام الثاني للإذن في المعصية في نظر المكلف ، ففيه : انّ المعصية مشروطة بوصول الحكم إلى مرتبة التنجز ، وبدونه كما ذكرنا فلا تنجز فلا معصية ولو في نظر المكلف. نعم لو وصل الحكم إلى مرتبة البعث الفعلي وتعلق العلم به بهذه المرتبة فيجب الاحتياط بكلتا المرتبتين من عدم جواز المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية.

وينبغي التنبيه على امور :

الأول : انّه بناء على تأثير العلم الاجمالي في تنجز المعلوم بالاجمال وعدم جواز اجراء البراءة في أطرافه إنّما يكون وجوب الاحتياط وعدم جواز البراءة بالنسبة إلى ما كان طرفا للعلم الاجمالي ويكون الاجتناب عنه مقدمة علمية للمعلوم بالاجمال من الحرام ؛ امّا ما لم يكن بنفسه طرفا للعلم ولا اجتنابه مقدمة علمية للاجتناب عن المعلوم بالاجمال ممّا كان ملازما لبعض الأطراف بحسب الحكم واقعا سواء كان وجوده الواقعي في عرض ملازمه من الأطراف أو مسببا عنه وواقعا في طوله فلا يجب فيه الاحتياط من جهة كون ملازمه طرفا للعلم الاجمالي ، إلاّ إذا حدث علم اجمالي آخر بالنسبة إلى نفس الملازم على حدة.

امّا مثال الملازم : فكما إذا علم اجمالا بخمرية أحد الإناءين ثم علم بعد ذلك بوجود نصف لأحدهما انشقّ منه قبل العلم الاجمالي بدون علم به حين العلم بشقه الموجود ، فحينئذ لا يسري وجوب الاجتناب عن ملازمه إلى الشق الواقعي ولو كان ملازما لشقه الموجود على تقدير كونه خمرا. بيانه يحتاج إلى بيان امور :

الأول : انّه بتعدد التكليف تتعدد الافراد ولو بناء على تعلق الأحكام

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٠٣.

٢٧٤

بالطبيعة ، لأنّ تعلقها بها باعتبار الوجود فبتعدد افراد الحكم يتعدد وجود متعلقه فحينئذ يكون الانشقاق موجبا لكون كل واحد من الشقين فردا للخمر ويكون وجوب الاجتناب متعلقا بكل منهما على حدة بحيث يكون لكل منهما امتثال على حدة يحصل بالاجتناب عنه ولو حصلت المعصية بالنسبة إلى الآخر.

الثاني : انّ العقاب لا يدور مدار الواقع ، بل مدار تنجزه الثابت بالعلم والعلمي ، وبدون أحدهما تكون البراءة بالنسبة إلى المشكوك ممكنة.

الثالث : انّ تنجز التكليف المحتمل بالنسبة إلى بعض الافراد من جهة كونه من أطراف العلم الاجمالي ، وكون العقاب فيه محتملا من جهة احتمال انطباق المعلوم بالاجمال المنجز عليه لا يوجب التنجز واحتمال العقوبة على فرد آخر ملازم له في الاحتمال.

إذا عرفت ذلك ، فظهر : انّه لو علم اجمالا بوجود فرد من النجاسة الخمرية في ذات أحد الشقين وفي طرفه بلا علم بالشق الواقعي ولا بالانشقاق ثم علم بعد ذلك به فلا يكون الشقّ على تقدير كونه خمرا واقعا منجزا ، لعدم كونه مقدمة علمية لشخص الفرد من الخمر المعلوم اجمالا بين شقه وطرفه ولو اتفق انّ الخمر هو شقه واقعا لكونه ـ ولو على ذاك التقدير ـ فردا آخرا غير المعلوم اجمالا ، والفرض عدم العلم بخمريته على حدة تفصيلا وما كان من أطراف علم اجمالي آخر أيضا ، فيكون الشك في خمريته شكا بدويا.

وامّا العلم الاجمالي ثانيا بعد العلم بوجوده بخمريته أو بخمرية طرف الشق فلا أثر له بعد كون التأثير في ذاك الطرف مستندا إلى العلم الاجمالي السابق. نعم لو علم بهذا الشقّ مقارنا للعلم الاجمالي بخمرية شقه وطرفه بأن علم بخمرية الطرف أو بخمرية الشقين أو علم ثانيا بوجود شق للطرف أيضا كي يحصل علم اجمالي ثانيا بخمرية واحد من شقي طرفي العلم الاجمالي الأول فيكون الشق واجب

٢٧٥

الاجتناب من باب المقدمة العلمية للعلم الاجمالي الأول في الأول وللعلم الاجمالي الثاني في الثاني.

وممّا ذكرنا في الشق ظهر : ما في ملاقي أحد المشتبهين من الأقسام المختلفة بحسب ما لها من التكليف بوجوب الاجتناب وعدمه.

بيانه : انّ للملاقي أقساما بحسب الاجتناب في بعضها دون بعض.

منها : ما لم يكن العلم بالملاقي ( بالكسر ) والملاقاة مقارنا للعلم الاجمالي بوجود فرد من النجاسة بين الملاقي ( بالفتح ) وطرفه بل كان العلم بوجوده بعد ذاك العلم سواء حصل الملاقاة بعده أو كان من قبل ولم يعلم بوجوده إلى ما بعد العلم المذكور.

وحكمه في هذه الصورة عدم وجوب الاجتناب وعدم تنجز التكليف بالنسبة إليه على تقدير مصادفة كون ملاقاه هو الحرام ، حيث انّه على ذاك التقدير فرد آخر من النجاسة مغاير لملاقاه ولا يكون ملازما معه في التنجز وان كانت نجاسته ناشئة من قبله كما في حكم فرد من النجاسة مع فرد آخر لعدم ملاك التنجز فيه كما كان في ملاقاه ـ وهو المقدمية للفرد المعلوم بالاجمال من النجاسة ـ لوضوح انّه على تقدير الاجتناب عن الطرفين يحصل الامتثال بالنسبة إلى الفرد المعلوم وان لم يحصل الاجتناب عن الملاقي ، والفرض انّه لا علم تفصيلا بنجاسته أيضا ولا كان من أطراف العلم الاجمالي الأول ، والعلم الاجمالي بنجاسته أو طرف الملاقي لا تأثير له بعد عدم تأثيره في الطرف ، فيبقى مشكوكا بدويا محضا.

والحاصل : انّه لا وجه لوجوب الاجتناب عن الملاقي في هذا القسم إلاّ ما تخيل من كونه لازما لوجوب الاجتناب عن ملاقاه ، بناء على انّ وجوب الاجتناب عن الشيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه أيضا كما استدل السيد أبو المكارم

٢٧٦

في الغنية (١) على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دلّ على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ). (٢)

وفيه : انّه ان اريد منه الملازمة الواقعية ، بأن يكون الاجتناب عن الملاقي لا يحصل ولا يتحقّق الامتثال بالنسبة إليه إلاّ بالاجتناب عن ملاقيه أيضا بحيث يكون الاجتناب عنه من مراتب امتثاله ، ففيه :

انّه لا وجه لذلك بعد ما عرفت من كون كل فرد من النجاسة محكوما بحكم على حدة بحيث لا يرتبط الاجتناب عن كل واحد بالاجتناب وان كان حاصلا بسببه. ومجرد كون نجاسته ناشئا من جهة ملاقاته لا يوجب كون الاجتناب عنه عين الاجتناب عنه.

وان اريد منه الملازمة في مقام الاثبات ، بأن يكون الدليل على الاجتناب عن الملاقي ( بالفتح ) وإلاّ على الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) وان لم يكن بينهما ملازمة واقعية ، ففيه :

مضافا إلى عدم الملازمة بينهما اثباتا ولذا لم يدل الدال على الاجتناب عن المحرمات على الاجتناب عن ملاقيها إلاّ في خصوص النجاسات بدليل خارجي ، انّه : على فرض التسليم يكون ذلك فيما إذا كان الدليل على الاجتناب عن الملاقي لفظيا كي يدل بالملازمة العرفية على الاجتناب عن ملاقيه ، لا فيما كان الدليل عقليا لملاك في خصوص الملاقاة دون الملاقي وهو المقدمية للاجتناب عن المعلوم بالاجمال فانّه كان في خصوص الملاقى دون الملاقي.

وان تمسك بأدلة المشتبهات اللفظية ، ففيه :

مع كونها ظاهرة في الارشاد أو محمولة عليه جمعا بينها وبين أدلة البراءة ،

__________________

(١) غنية النزوع ٢ : ٤٦.

(٢) سورة المدثر : ٥.

٢٧٧

ما عرفت آنفا من : انّ تسليم الملازمة إنّما هو في أدلة النجاسات لا في غيرها ، فلا وجه لهذا التوهم أيضا.

ومنها : ما كان العلم الاجمالي بالنجاسة والعلم بالمتلاقيين والملاقاة بينهما في عرض واحد ، بأن علم اجمالا بنجاسة طرف الملاقي أو بنجاسة هذين المتلاقيين غاية الأمر كانت النجاسة في الملاقى على تقديرها فيه ناشئة عن الملاقاة ففي هذه الصورة يكون المتلاقيان في عرض واحد في كونهما طرفي العلم الاجمالي وعدلين للطرف الآخر كما لو لم يكن بينهما ملاقاة بل كانا اناءين على حدة وقعا عدلين للطرف الآخر ، فحينئذ يكون حكم العقل بوجوب الاجتناب مقدمة للمعلوم بالاجمال جاريا في كلا المتلازمين لكون المناط فيه كون المشتبه طرفا للعلم الاجمالي وهو حاصل في كل من الملاقي والملاقي في مرتبة واحدة.

وما في كلام الشيخ قدس‌سره (١) من عدم وجوب الاجتناب في هذه الصورة من الملاقي ( بالكسر ) من جهة كون الشك فيه مسببا من الشك في نجاسة الملاقى ( بالفتح ) ومن المعلوم انّه لمّا كان الأصل في المسبب ليس في مرتبة الأصل في السبب فلا يجري ما دام يجري فيه الأصل ولكنه لو سقط بالمعارضة فيكون الأصل في المسبب جاريا بلا حاكم ومعارض كما في المقام ، امّا الأول : فلسقوط الأصل في السبب بالمعارضة مع طرفه ، وامّا الثاني : فلعدم كون الأصل في المسبب في مرتبة الأصل في السبب حتى يعارض مع ما يعارضه.

وفيه : انّه مسلّم لو لم يكن المانع عن جريان الأصل في السبب جاريا في المسبب كما لو لم يكن طرفا للعلم الاجمالي في عرض السبب.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٤٠ و ٢٤٢.

٢٧٨

وامّا فيما كان طرفا لعدل الملاقي ( بالفتح ) في عرض طرفيته له بلا تأخره عنه في كونه عدلا للطرف الآخر وطرفا للعلم الاجمالي كما فيما نحن فيه حيث انّ العلم حاصل امّا بنجاسة الطرف أو بنجاستهما فيكون الملاقي طرفا كما لو لم يكن ملاقاة في البين أصلا ، فيكون الأصل فيه ساقطا كما في ملاقاه بلا تفاوت بينهما في المانع وهو الملاك في السقوط في المقام.

ومنها : ما كان العلم الاجمالي بالنجاسة بين الملاقي ( بالكسر ) والطرف الآخر بلا علم بالملاقي ( بالفتح ) ، امّا بفقدانه وخروجه عن محل الابتلاء حين العلم ، أو بعدم العلم به أصلا أولا ثم علم بوجوده ثانيا.

ففي هذه الصورة يكون وجوب الاجتناب من جهة المقدمية العلمية في خصوص الملاقي دون ملاقاه لجريان الملاك وهو وقوعه طرفا للعلم الاجمالي ومقدمة علمية للمعلوم بالاجمال به دونه وانحصارها به.

ثم بعد الابتلاء بالملاقي والعلم به لا يجري فيه الاحتياط ، لعدم العلم بنجاسة اخرى بسببه ، والفرض انّه ما كان مقدمة للمعلوم بالاجمال الأوّلي والعلم الاجمالي ثانيا بنجاسته أو بنجاسة الطرف لا يجدي شيئا بعد عدم تأثيره في الطرف أصلا كما لا يخفى.

ثم كل ما كان العلم الاجمالي مؤثرا في وجوب الاحتياط فيه لا يرتفع أثره عنه بمجرد فقد الطرف ولو ارتفع العلم الاجمالي منه ، حيث انّ التكليف على تقدير وجوده فيه واقعا صار منجزا بسبب العلم الاجمالي أوّلا فلا بدّ من الفراغ منه قطعا امّا بالامتثال أو بارتفاع الموضوع.

الأمر الثاني : انّه لو زال العلم الاجمالي بعد حدوثه وتأثيره في تنجز التكليف المعلوم بالاجمال :

فان كان بالعلم بسقوط التكليف عن الذمة امّا بالامتثال القطعي ، أو بالمخالفة

٢٧٩

كذلك ، أو بفقدان كلا الطرفين من البين ، أو بالعلم التفصيلي بالمكلف به فلا اشكال.

وامّا ان شك في ذلك بسبب بعض الحالات الطارئة من فقدان بعض الأطراف ، أو الاضطرار بالنسبة إليه ، أو الامتثال ، أو المخالفة بالنسبة إلى البعض الموجبة لزوال العلم الاجمالي بلا علم بالتكليف بعده ، ففيه تفصيل وهو انّه :

لو كانت الحالات كالاضطرار العقلي والشرعي ونحوها طارئة على التكليف موجبة لتنويعه وتقييده شرعا أو عقلا بمرتبته الشأنية أو الفعلية ، أو عقلا فقط بمرتبته الفعلية أو التنجز كالخروج عن محل الابتلاء ونحوه فتوجب هذه الحالات تقييد التكليف من حين طروه لو علم بعروضها على مورد التكليف أو تضييق دائرة العلم به لو شك بعروضها على مورده فيوجب الشك في غير ما علم بالاجمال من التكليف فلا يجب فيه الاحتياط.

وامّا ان لم يكن كذلك ، بل كانت موجبة لرفع الموضوع فيرتفع الحكم بارتفاعه قطعا على تقدير القطع بارتفاعه أو شكا على تقدير الشك فيه فطريان أحد هذه الطوارئ على بعض أطراف العلم الاجمالي يوجب الشك في زوال ما علم اجمالا من الحكم عن الذمة فلا يوجب ارتفاع أثر العلم الاجمالي من الاحتياط.

وبعبارة اخرى : كل ما كان من الحالات موجبا للشك في ثبوت أصل التكليف وتعلقه بالذمة غير ما علم أولا فيكشف عن عدم التنجز بالنسبة إليه من قبل العلم الاجمالي ، وكل ما يوجب منها الشك في فراغ الذمة عمّا اشتغلت به فلا يوجب زوال أثر العلم الاجمالي بل يجب فيه الاحتياط.

وبيانه : انّ الاضطرار بمتعلق التكليف المعلوم تفصيلا يوجب رفعه عن مورده مع بقاء المكلف به ؛ وامّا لو تعلق بمورد المعلوم بالاجمال :

٢٨٠