تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

وإلاّ لكان موجبا للازدياد فيه أيضا في صورة الاصابة ، مع حكم العقل الصريح بكونه بمقدار العنوان الواقعي بلا ازدياد فيه أصلا ؛ مع انّه على تقدير كونه من الوجه المقبح وموجبا لانشاء الحرمة على وفقه يلزم التسلسل ، لعدم كون القطع بالحرمة بالغا الى حده على ذلك ، أو الترجيح بلا مرجح على تقدير الحكم (١) على طبق بعض دون بعض.

الثاني : انّه على تقدير كون القطع بالحرمة من الوجه المقبح لا يمكن توجيه الطلب الى القاطع بثبوت حكم بعنوان القطع بالحكم ولو على تقدير الالتفات اليه وحسنه ، لانّه :

لو كان موضوعا له في صورة المخالفة للواقع فواضح ، لمساوقة التصديق بثبوت الحكم له التصديق بالخطإ حين قطعه ، وهو واضح الفساد.

ولو كان موضوعا له مطلقا مصادفا أو لا فكذلك أيضا ، لاستلزام التصديق به التصديق باجتماع المثلين مطلقا أو بحسب نظر القاطع ، حيث انّه لما قطع بثبوت الحرمة للفعل بعنوانه الواقعي فكيف يذعن بثبوت حرمة اخرى بعنوان القطع؟ وليس ذا إلاّ اجتماع المثلين في نظره.

ولا يخفى انّ ذلك من قبيل النهي في العبادات ، لكون الحرمة ـ المتعلقة بالعنوان الاوّلي بعنوان انها مقطوعة ـ موضوعا لحرمة اخرى ، فيكون الموضوع للحرمة الاولى داخلا في موضوع الحرمة الثانية جزءا وقيدا ، فلا يقاس باجتماع عنوانين عرضيين مثل الموطوئية والمغصوبية في الغنم الموجبين لحرمة واحدة مؤكدة ، لعدم كون أحدهما مأخوذا في موضوع الآخر لا بنفسه ولا بحكمه فيوجبان عند اجتماعهما لتأكد الحرمة ؛ بخلاف ما نحن فيه مما يكون القطع بالحكم الفعلي موضوعا لحكم فعلي آخر ، فليس التصديق حينئذ إلاّ التصديق باجتماع المثلين.

__________________

(١) الحكم الفعلي. نسخة

٢١

مع انّه على تقدير صحة القياس يلزم منه الخلف ، لعدم اجتماع القطع بالحرمة الفعلية للعنوان الواقعي بنفسه ، مع الالتزام بتأكد حكمه بعنوان مقطوع الحرمة ، حيث انّ التصديق بالتأكد يوجب ارتفاع ذاك القطع كما لا يخفى.

فظهر مما ذكرنا انّ ما نحن فيه ـ مع حفظ القطع بالحكم الفعلي للعنوان الواقعي ـ من قبيل النهي في العبادات ، وليس من قبيل ما يمكن ارجاع الطلب في أحدهما الى عنوان مباين لعنوان الآخر بالعموم من وجه كما أرجع المحقق (١) رحمه‌الله النهي عن الصلاة في الحمام الى النهي عن الكون في معرض الرشاش ، لكون الموضوع فيما نحن فيه مقطوع الحرمة الفعلية ، ولا يتأتّى فيه التأويل إلاّ بالخلف.

الثالث : انّه لا يمكن الحكم المولوي الشرعي من جهة اخرى ، وهي :

انّه لا بد من غرض محرك للمولى لأن يحكم مولويا ، وليس ذا في الاوامر والنواهي المولوية إلاّ إحداث الداعي للعبد الى الاطاعة وترك المعصية ، بحيث لولاه لما كان في نفسه ما يدعوه اليهما ؛ ويختلف ذلك باختلاف درجات العبد فيكون الداعي لبعضهم هو الخوف عن العقوبة ، ولبعضهم هو الرجاء الى المثوبة ، وللآخرين محض التقرب الى الله تعالى ، ومع انتفاء الجميع ـ كما في الامر بالاطاعة والنهي عن المعصية ـ لا يبقى ملاك الحكم المولوي أصلا ؛ ومن المعلوم حصول هذا الداعي في نفس القاطع بمجرد قطعه بالحكم الفعلي بعنوانه الواقعي ولو كان مخالفا للواقع ، فيكون الامر والنهي المولوي لإحداث الداعي بالنسبة اليه تحصيلا للحاصل ، وبدونه عبثا.

ومن الواضح انّ التجري والانقياد بابهما باب الاطاعة والمعصية ، بل عينهما بنظر القاطع ، فحينئذ :

فان كانت الاطاعة بالحكم بالعنوان الواقعي في نظر القاطع [ انقيادا ] (٢)

__________________

(١) المعتبر في شرح المختصر ١ : ٤٣٤.

(٢) في الاصل ( انفادا ).

٢٢

داعيا وموجبا للحركة نحو اتيان المقطوع فلا يحتاج الى أمر آخر واطاعة اخرى.

وإلاّ فلا يحصل له داع أصلا بأمر آخر أيضا ، لكون المناط في الكل هو الاطاعة ، فيتسلسل على تقدير الانقطاع ، وإلاّ لزم الترجيح من غير مرجح.

الرابع : انّ الفعل المتجرّى به لا يقبل [ تعلق ] (١) امر مولوي به بعنوان التجري به ، لاجل كونه من العناوين التي الى ما تعلقت بغرض على الفعل المقيد بالارادة بأخذ الارادة قيدا للموضوع بنحو الحيثية والتقيدية ، حيث انّ الفعل [ محال ] (٢) أن يكون بحكم الارادة في عدم قابليته للتكليف ، لرجوعه الى الامر بتحصيل الحاصل ؛ ولا يقاس بالعناوين. (٣)

__________________

(١) في الاصل ( لتعلق ).

(٢) غير واضح في الاصل.

(٣) هذا آخر التعليقة المطبوعة حجريا ، وبعده يبدأ المخطوط.

٢٣

« .... (١) الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره لا انّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أي طريق كان » (٢) انتهى ؛ وحينئذ فالكلام معه في صغرى الملازمة بين الحسن والقبح وبين الوجوب والحرمة الفعلية لا في الكبرى من حجية القطع بالحكم الفعلي بعد تسليم الملازمة كما لا يخفى.

الثالث : ان يكون مرادهم ذلك أي انكار الملازمة بين المقدمات العقلية وبين القطع بالحكم الشرعي ولكنه يحصل الظن به منها وهو ليس بحجة مطلقا لعدم الدليل عليه. نعم لو حصل ذلك من العقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام وإن شذّ وجوده في الأنام فيحكم بحجيته لا من جهة الملازمة ، بل من جهة دلالة النقل على حجية الحكم المستفاد منه وأنّه حجة من حجج الملك العلاّم.

وهذا الوجه هو صريح كلام المحدّث البحراني في الحدائق (٣) على ما نقله الشيخ عنه في الفرائد ، (٤) ولا دلالة في كلامه بعدم حجية القطع الحاصل من العقل ، بل ظاهره عدم حصول القطع منه حيث قال : « لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها ولا سبيل اليها إلاّ السماع عن المعصوم عليه‌السلام [ لقصور ] (٥) العقل المذكور عن الاطلاع عليها .... الخ ». (٦)

__________________

(١) هذا بداية الصفحة الاولى من المخطوط ، ويوجد هنا سقط يحتمل عدة صفحات.

(٢) هذا تتمة كلام السيد الصدر في شرح الوافية ( مخطوط ) : ٢١٥ يستشهد به الشيخ ايضا في فرائد الاصول ١ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٣) الحدائق الناظرة ١ : ١٣٣ في المقدمة العاشرة في بيان حجية الدليل العقلي وعدمها.

(٤) فرائد الاصول ١ : ٥٦.

(٥) في الاصل المخطوط « بقصور » ؛ وصححناه طبق فرائد الاصول ١ : ٥٥.

٢٤

ومما ذكرنا من انّ حكمه بحجية العقل الفطري من جهة انتهائه الى دليل الشرع وصيرورته حينئذ حجة شرعية كما هو صريح كلامه ، ظهر وجه توقفه في تقديمه على النقل أو العكس في صورة المعارضة ، من كون المعارضة حقيقة حينئذ بين الدليلين النقليين الظنّيين من حيث الحكم المستفاد منهما بلا ترجيح لأحدهما على الآخر ؛ ومن ذلك ظهر سقوط غالب ما أورده عليه الشيخ قدس‌سره فراجع.

والحاصل : انّ ظهور كلام الأخباريين (٧) في ما ذكرنا من الوجوه ولا أقل من كونها من محتمل كلامهم يمنع عن اسناد عدم حجية القطع بالحكم الفعلي الحاصل من المقدمات العقلية اليهم.

وأمّا الأخبار الناهية عن العمل والقول بغير السماع عن المعصوم عليه‌السلام مثل قولهم عليهم‌السلام : « حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا » (٨) وقولهم : : « من دان الله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا » (٩) وقولهم عليهم‌السلام : « لو انّ رجلا قام

__________________

(٦) هذه الفقرة ليست صريح كلام الحدائق ، وقد ذكرها الشيخ في الفرائد ( ١ : ٥٥ ) واستند اليها واسندها الى الحدائق ، لكنها ليست كذلك. فيحتمل ان الشيخ نقل هذه الفقرة من هداية المسترشدين ( ٣ : ٥٤٢ والحجرية : ٤٤٣ السطر ٣٧ ) والهداية بدوره قد نسبها الى الحدائق ، لكن يبقى اننا لم نعثر عليه في الحدائق مع الجهد المبذول ( الحدائق ١ : ١٢٦ ـ ١٣٣ ) ولا في الدرر النجفية ( ١٤٧ ـ ١٤٨ ) فيحتمل ان تكون هذه الفقرة نقلا بالمعنى لكلام الحدائق اما من الشيخ او من صاحب الحاشية.

كما يحتمل ان تكون هذه الفقرة هي من كلام السيد نعمة الله الجزائري في شرحه الكبير على التهذيب ـ الذي كتبه في ايام شبابه كما يصرح به في اول غاية المرام ـ فقد راجعنا شرحه الأخصر على التهذيب المسمى بـ غاية المرام في شرح تهذيب الاحكام ( المخطوط والمحفوظ برقم ٢٦٩٠ في مكتبة السيد المرعشي ) في الصفحات ٤٥ ـ ٤٧ المختصة بهذا المبحث فلم نعثر على هذه الفقرة ؛ وكذلك الانوار النعمانية في مظانه.

والحاصل : انه يحتمل ان صاحب الهداية قد نقل هذه الفقرة للجزائري بعينها من شرحه الكبير على التهذيب ، ثم نقلها الشيخ عن الهداية ، فان الشيخ يصرح في الفرائد ( ١ : ٥٥ ) بانه لم يكن عنده شرح التهذيب هذا ليلاحظ عليه.

(٧) المتقدم تخريجه من الفوائد المدنية وغاية المرام والدرر النجفية والحدائق.

(٨) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٧ الباب ٧ من ابواب صفات القاضي الحديث ٢٥ ، قريب منه.

(٩) تتمته : « ... الزمه الله التيه يوم القيامة ». وسائل الشيعة ١٨ : ٥١ الباب ٧ من ابواب صفات القاضي ـ الحديث ٣٧.

٢٥

ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته اليه ما كان له على الله حق في ثوابه ... » (١) إلى غير ذلك من الأخبار فلا يبعد انّ المراد عدم جواز الاستبداد في الاحكام الشرعية بالعقول الناقصة الضعيفة والاستحسانات والأقيسة من غير مراجعة حجج الله بل في مقابلهم كما هو ظاهر غير واحد من الاخبار.

وامّا خبر نفي الثواب عن التصدق والحج والصيام بدون دلالة ولي الله مع القطع بحسنها والأمر بها فظاهر الخبر انّه من جهة نقصان في هذا الشخص وهو فقدانه لما هو شرط القبول بل ركن من أركان الايمان وهو ولاية الأئمّة عليهم‌السلام لا لأجل انتفاء الوجوب والندب بغير السماع عن المعصوم.

ويحتمل أن يكون المقصود من الاخبار ومراد الاخباريين ـ على بعد ـ : انّ السماع عن المعصوم والسؤال [ منهم ] (٢) إنّما كان مما له دخل في حصول الغرض من العبادات ، كأن يكون من جملة اغراضها تبجيلهم وتعظيمهم غير الحاصلين إلاّ بالتشرّف بقبّتهم والتخضّع عندهم بالسؤال وتعلّم الاحكام عنهم عليهم‌السلام ، ولا أقل من احتمال ذلك فلا بدّ من تحصيل الغرض بذلك ، لا من جهة عدم وجوب اتباع القطع الحاصل من المقدمات العقلية كما لا يخفى.

ولا مدفع لهذا الاحتمال إلاّ القطع بعدم دخل التبليغ في تحصيل الغرض ، فتدبّر.

قوله : « فهل العلم الاجمالي كذلك؟ فيه اشكال ». (٣)

أقول : الكلام فيه تارة : في اعتباره عند العقل وكونه موجبا لتنجّز التكليف

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٩١ الباب ٢٩ بطلان العبادة بدون ولاية الأئمة عليهم‌السلام واعتقاد امامتهم ، الحديث ٢ ، قريب منه.

(٢) في الاصل المخطوط « عنهم ».

(٣) كفاية الاصول : ٣١٣. لكن فيها : « فهل القطع الاجمالي ... ».

٢٦

المعلوم بالاجمال ولاستحقاق العقوبة على مخالفته عند الاصابة ومحقّقا لموضوع التجرّي في صورة الخطأ ، واخرى : في كيفية امتثاله بعد الاعتبار.

أمّا الجهة الاولى : فيقع الكلام فيها في انّ العلم الاجمالي بالحكم الفعلي كالعلم التفصيلي علة تامة لتنجّزه بحيث لا يقبل المنع عن ذلك بجعل الجهل التفصيلي عذرا ومانعا عن التنجّز ، أو ليس مثله في العلية التامة للتنجز ، بل يكون مقتضيا له لو لا جعل الجهل التفصيلي شرعا عذرا أو لا يقتضي رأسا؟ فيكون وجوده كعدمه وحاله كالشك البدوي في التكليف؟

وقبل تحقيق الحال في ما هو الحق في المسألة لا بدّ أن يعلم أنّه :

لو قلنا بكونه كالعلم التفصيلي علة تامة لوجوب الاتباع والجري على وفقه فلا يبقى مجال لعقد بحث في البراءة والاشتغال للشك في المكلف به أصلا.

وان قلنا انّه ليس بمؤثر في التنجز أصلا فكذلك لا مجال للبحث عنه بخصوصه في ذاك الباب ، بل يكفي عقد بحث واحد للشك مطلقا.

وان قلنا انّ تأثيره بنحو الاقتضاء لا العلّية فيبقى للبحث عن الشك في المكلف به بخصوصه مجال ، فيعقد له بحث على حدة في انّ الاجمال في المتعلق مانع وعذر شرعا بعد ما لم يكن كذلك عقلا أم لا؟ من دون تفاوت بين كونه كذلك بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية كليهما وكونه كذلك بالنسبة إلى خصوص حرمة المخالفة.

ومما ذكرنا ظهر انّ الاختلاف في البحث في المقام والبراءة والاشتغال في جهة البحث وهو :

انّ البحث في المقام من حيث اقتضاء العلم الإجمالي للتنجّز بالنسبة إلى كلتا المرتبتين من الامتثال أو أحدهما وعدمه في كلتيهما أو أحدهما وفي البراءة والاشتغال من حيث بيان المانع شرعا.

إذا عرفت ذلك ، فالتحقيق على ما يقتضيه النظر الدقيق :

٢٧

انّ العلم الاجمالي ليس كالشك البدوي في كون المكلف معه معذورا وعدم اقتضائه التنجز أصلا بل يكون منجزا للتكليف المتعلق به ولكنه بنحو الاقتضاء لا العلية التامة كالعلم التفصيلي.

امّا انّه ليس كالجهل الصرف فبشهادة الوجدان على استحقاق التارك للتكليف المعلوم بالاجمال المردد بين أطراف محصورة بدون عذر في البين للعقاب وعدم صحة اعتذاره بجهله التفصيلي ، ويظهر ذلك بالمراجعة إلى العقلاء أيضا فانّه لا إشكال في تقبيحهم لمثل هذا الشخص وحكمهم بحسن العقاب بالنسبة إليه.

وامّا انّه بنحو الاقتضاء والتعليق بعدم الإذن من قبل الشارع في الاقدام في أطراف العلم بالحرام وفي الترك في أطراف العلم بالواجب فلانحفاظ موضوع الحكم الظاهري معه وهو مرتبة من الجهل بالنسبة إلى تعلق الحكم الواقعي بكلّ واحد من الأطراف بخصوصه فيتحقق الشك في حكم كلّ واحد منها بشخصه فيمكن أن يجعل الشارع هذا المقدار من الشك موضوعا للحكم الظاهري ؛ ووجود هذا الشك في العلم الاجمالي دون التفصيلي هو الفارق في صحّة جعل الحكم الظاهري فيه دونه.

فان قلت : انّ محلّ الكلام في العلم الاجمالي :

ان كان هو العلم بالحكم الشأني فلا إشكال في صحّة جعل حكم على خلافه ولو في العلم التفصيلي غاية الأمر بغير عنوان الجهل.

وان كان هو العلم بالحكم الفعلي فكيف يمكن جعل حكم فعلي على خلافه مع البعث والزجر فعلا على طبق الأول؟ وهل هذا [ الاّ ] اجتماع الضدين؟ (١) إلاّ أن ينقلب العلم بالفعلية بعد الجعل ، وهذا خلف.

قلت : هلاّ ينتقض ذلك بجعل الأمارات والاصول مع الظن غير المعتبر أو الشك أو الوهم بالحكم الفعلي على خلافها فانّه على تقدير مطابقة كلّ منها للواقع

__________________

(١) في الاصل المخطوط : « وهل هذا اجتماع الضدين ».

٢٨

يلزم اجتماع الضدين واقعا وعلى تقدير عدمها يلزم ذلك بنظر المكلف ظنا أو شكا أو وهما ، ومع الاستحالة فكيف تصدق [ الأمارات ] (١) مع الظن أو الشك بل الوهم بالحكم الفعلي على خلافها؟ وتجعل الاصول في أطراف الشبهة غير المحصورة مع العلم الاجمالي بالحكم الفعلي على خلافها المشارك مع ما نحن فيه في مرتبة الانكشاف ، غاية الأمر الاختلاف بينهما إنّما هو بكثرة الأطراف وقلتها غير المجدي في دفع الاستحالة على تقدير لزومها.

وثانيا نقول : أنّ في العلم الاجمالي جهتان من الكلام :

احداهما : أن نتكلّم في امكان جعل الحكم الظاهري على خلافه وعدمه من حيث ايراد المناقضة بين الحكمين وعدمها وهذه الجهة مشتركة الورود بينه وبين الشبهات البدوية والشبهة غير المحصورة ومضى إجمالا الجواب باختلاف مراتب الفعلية غير المضاد بعضها مع بعض وسيأتي تفصيلا في جواب الإشكال في جعل الأمارات في مبحث الظن.

ثانيتهما : أن نتكلّم كما هو المفروض في أنّه هل يورث العلم الاجمالي إذا تعلق بالحكم الفعلي وصوله إلى مرتبة التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفته بنحو العلّية التامّة ، بتوهّم : عدم إمكان جعل الشارع الجهل التفصيلي عذرا أو اقتضاء بدعوى امكانه ، فنقول في هذا المقام مع قطع النظر عن المناقضة المذكورة :

انّه لمّا لم ينكشف الواقع في العلم الاجمالي تمام الانكشاف والمشاهدة بل كان مرتبة من السترة في مقام تعلقه بالموضوع بشخصه باقيا فيمكن أن يكون التنجّز في نظر العقل معلقا على الانكشاف التام وعدم سترة في البين أصلا.

وبعبارة اخرى : لمّا كان العلم الاجمالي في طريقيته ناقصا وغير تام فيجوّز العقل أن يكون هذا المقدار من النقصان بنظر الشارع ذات خصوصية مقتضية لجعل الشارع هذا النقصان عذرا وان لم يكن بنفسه كذلك عند العقل فيمكن أن يجعل هذا

__________________

(١) في الاصل المخطوط « الامارات والامارات ».

٢٩

الجهل بمرتبة ما موضوعا للحكم الظاهري وإذا كان ممكنا فتشمله أدلّة الاصول من قوله عليه‌السلام : « رفع ... ما لا يعلمون » (١) وقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال ... حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (٢) لصدق عدم العلم بحكم كلّ من الأطراف بخصوصه ، وهذا الجهل ونقصان الانكشاف لما لم يكن في العلم التفصيلي أصلا فلا يبقى مجال للحكم الظاهري أمارة كان أو أصلا ، لعدم سترة في البين أصلا كي يجعل الطريق إلى الواقع ويكون الجهل موضوعا للحكم الظاهري.

والحاصل : أنّه لمكان السترة في العلم الإجمالي فيبقى مجال للحكم الظاهري ولحكم العقل بإمكان تعليق للتنجيز بالانكشاف التام ، بل يحكم بعدم الاقتضاء ايضا في بعض مراتبه كالعلم الاجمالي في غير المحصورة ولو كان تمام الأطراف محل الابتلاء كما في الغنم الكثير في يوم الذبح في الحجّ ، بل قيل بعدمه في المحصورة أيضا كما عن المحقّق القمّي قدس‌سره (٣) والمحقق الخونساري قدس‌سره (٤) وان كان خلاف التحقيق كما عرفت ، إلاّ أنّ ذهابهم إليه يدفع الاستغراب والاستبعاد في امكان جعل الحكم الظاهري كما لا يخفى.

هذا كلّه لو لم يعلم اهتمام الشارع بالحكم المعلوم بالاجمال وإلاّ فلو أحرز ذلك بحيث علم انّ الغرض مما يهتمّ به لا يجوز الاذن في الاقتحام في أطراف العلم بالحرام والاذن في الترك في أطراف العلم الاجمالي بالواجب لأنّ الإذن في ذلك حينئذ يكون نقضا للغرض ، بل لا يجوز الاذن في الاقدام والترخيص في الترك في الشبهات البدوية مع الاحراز المذكور أيضا ، غاية الأمر يكون الفرق بينها وبين العلم الاجمالي استكشاف الاحتياط فيها إذ بدونه تكون المؤاخذة بلا بيان ، بخلافه ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ : ٢٩٥ الباب ٥٦ من ابواب جهاد النفس ، باب جملة مما عفي عنه ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من ابواب ما يكتسب به ، باب عدم جواز الانفاق ... الخ ، الحديث ١.

(٣) القوانين المحكمة ٢ : ٢٥ السطر ٣ ـ ٨ ، و ٢ : ٣٦ السطر ١٥ ـ ١٦.

(٤) مشارق الشموس : ٢٨١ السطر ٢٩ ـ ٣١.

٣٠

لاستقلال العقل بلزوم الموافقة القطعية معه حينئذ كالعلم التفصيلي ، لوجود المقتضي عقلا وهو العلم الاجمالي وعدم المانع شرعا.

ومن هنا يعلم انّ في صورة احتمال الاهتمام لا يجب الاحتياط في الشبهة البدوية لكون العقاب حينئذ بلا بيان دون العلم الاجمالي ، لعدم جريان ذلك فيه. هذا في البراءة العقلية.

وأمّا النقلية : فلا فرق بينهما في اجرائها بعد عموم أدلتها ما لم يعلم الاهتمام.

هذا كلّه في الجهة الاولى من اعتبار العلم في تنجز التكليف به.

وأمّا الجهة الثانية : وهو كيفية اسقاط التكليف بالامتثال فيقع الكلام [ في ] :

قوله : « واما سقوطه به بأن يوافقه اجمالا فلا اشكال فيه في التوصليات ». (١)

أقول : يقع الكلام في هذا المقام في أنّه : هل يكفي الامتثال الاجمالي بالاحتياط باتيان جميع أطراف المعلوم بالاجمال مع التمكن من الامتثال التفصيلي بتحصيل العلم تفصيلا بخصوص المكلف به؟ أم لا بدّ من التمكن منه من تحصيله ولا يكفي الاكتفاء بالامتثال الاجمالي؟ فنقول :

أمّا في المعاملات والواجبات التوصلية : فلا يكاد أن يشكل في كفاية الامتثال الاجمالي وانّه لا يلزم تحصيل العلم التفصيلي بالواجب ، حيث ان الغرض في التوصليات إنّما تعلق بمجرد إيجادها في الخارج وهو يحصل ولو بلا تشخيصه ، بل ولو بلا مباشرة من المكلف ، بل ولو حصل في الخارج اتفاقا بلا مباشرة من مكلف أصلا كما في غسل الثوب مثلا.

وأمّا في العبادات :

فان كانت الشبهة والترديد بين الأقل والأكثر بلا دوران الأمر بين المحذورين بأن لا يكون المشكوك على تقدير عدم اعتباره مانعا ومخلا بالفردية ، بل يكون من

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١٥.

٣١

مشخصات الفرد غير المعتبر في طبيعة المأمور به ، فلا اشكال أيضا في كفاية الاحتياط باتيان جميع ما يحتمل دخله في المأمور به جزءا أو شرطا لعدم الاخلال بكلّ ما يحتمل دخله في الامتثال من قصد القربة والوجه ، بل تميّز المأمور به عن غيره حيث أنّه علم حينئذ بانطباق عنوان المأمور به بشخص وجود هذا الفرد وان لم يعلم بدخل بعض خصوصياته غير المنافي في المأمور به كما في كلّ فرد للطبيعة حيث أنّه يشك في دخل بعض خصوصياته في حصول الطبيعة ، ومع ذلك يكون وجوده وجود الطبيعة ، فاذا كان كذلك فيقصد به التقرب والوجه مع تميّز وجود المأمور به عن غيره فلا شيء في البين يحصل الاختلال به حينئذ كي يمنع عن امتثال الاجمالي. نعم لو قيل باعتبار قصد الوجه في الأوامر الغيرية المتعلقة بالاجزاء والشرائط لاختلّ ذلك مع التميز في خصوص الاجزاء المشكوكة كما لا يخفى ؛ إلاّ أنّ اعتبار الوجه في الاجزاء خلاف التحقيق كما قرر في محله.

وأمّا ان كانت الشبهة بين المتباينين فلا اشكال في التمكن من قصد القربة وقصد الوجه أيضا ، سواء اعتبر توصيفا أو غاية ، بأن يقصد الصلاة الواجبة بين الصلاتين أو يأتي بهما لأجل وجوبها وان لم تتميز تلك عن غيرها ، ومجرّد عدم التميّز لا ينافي قصد الوجه بالصلاة المأمور بها المشتبهة بين الصلاتين بأن يكون الداعي للاطاعة الأمر الواقعي المتعلق بإحدى الصلاتين وينشأ من ذاك الداعي في صورة الاشتباه داع آخر في مقام الامتثال يكون موجبا لإتيان كلا المحتملين لتحصيل العلم بالواقع.

والحاصل : انّ الاشتباه لا ينافي كون الداعي للاطاعة هو الأمر الواقعي وقصد الوجه بالنسبة اليه وان لم يعلم حين الاتيان بكونه هو المأمور به ، إلاّ أنّ قصده بالعنوان الكلي المستحضر عند الإتيان يوجب انطباقه على الفرد الواقعي قهرا ، كما لو أتى بالمشتبهين دفعة فيما لو أمكن ذلك فانّه لا يكاد أن يشكل في كون الداعي الأمر الواقعي المتعلق بأحدهما والتمكن من قصد الوجه. ومن هنا ظهر

٣٢

انّ إتيان طبيعة المأمور به يكون بالاختيار وان كان التطبيق قهريا ؛ كما أنّه ظهر لزوم الاختلال بالنسبة إلى التميّز في المتباينين ، كما هو واضح.

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر : انّ الاشكال في كفاية الامتثال الاجمالي :

إن كان من جهة توهّم الاخلال بقصد الوجه فهو ـ بعد ما عرفت من التمكن منه معه ـ لا وجه له.

وان كان من جهة لزوم الاخلال بغيره من تميّز المأمور به بعنوان كونه مأمورا به أو بعنوانه الواقعي كما في المتباينين أو الاخلال بقصد الوجه في الاجزاء ـ بناء على اعتباره فيها ـ كما في الأقل والأكثر ، وغير ذلك مما قيل أو يمكن أن يقال باعتباره في العبادات ، فنقول :

انّ ما يلزم الاخلال به مع الامتثال الاجمالي :

ان كان مما يمكن أخذه في متعلق الأمر كما في كل ما لم ينشأ منه ولا يتوقف عليه مثل تميز عنوان متعلق الأمر من الظهرية ونحوها فحكمه في متيقن الاعتبار لزوم تحصيل العلم التفصيلي بالمأمور به وفي مشكوكه كذلك بناء على الاشتغال في الاجزاء والشرائط ، وعدم اللزوم بناء على البراءة.

وامّا فيما لم يمكن أخذه في متعلق الأمر كما فيما ينشأ من قبل الأمر ويتوقف عليه مثل قصد الوجه والقربة والتمييز ونحوه حيث أنّه يلزم من أخذه في متعلق الأمر ـ مضافا إلى الدور ـ عدم التمكن من قصد الامتثال والقربة باتيان الصلاة مثلا لعدم تعلق الأمر النفسي بها حينئذ إلاّ بالخلف.

فان علم بدخل ما يحصل الاختلال به مع الامتثال الاجمالي في حصول الغرض الموجب للأمر مع عدم امكان أخذه في متعلق الأمر كما عرفت فلا ريب في عدم الاجتزاء بموافقة المأمور به في مقام الامتثال بحكم العقل حيث انّ امتثاله عنده منحصر على نحو يسقط معه الأمر ، ولا مرية في عدم سقوطه ما لم يحصل الغرض الباعث للمولى عليه والسبب لحدوثه والكافي لعليته للبقاء ، لعدم كونه أكثر

٣٣

مئونة من الحدوث لو لم يكن بأخف ، فما دام لم يسقط [ لا ] (١) يرتفع الأمر ، فلم يحصل امتثاله اللازم على المأمور عقلا ، فلا بدّ من تحصيل الامتثال التفصيلي حينئذ كي لا يختلّ بما له دخل في الغرض.

وأمّا ان لم يعلم بذلك بل يشك في دخل ما يخلّ به مع الامتثال الاجمالي في تحصيل الغرض فالاجتزاء به حينئذ يبتني على جريان البراءة بالنسبة إلى ما شكّ في دخله فيه.

والتحقيق : انّه لا يصح اجراء البراءة فيه لا عقلا ولا نقلا.

امّا الأوّل : فبيانه : انّ اشتغال الذمة بالأمر اليقيني يقتضي عقلا الامتثال اليقيني بنحو يسقط معه الأمر يقينا وبدون اليقين به لا يؤمّن من العقاب اللازم عند العقل الفرّار عنه ولو عن احتماله ، ولما عرفت انه لا يحصل الامتثال ولا يسقط الأمر إلاّ بتحصيل الغرض فلا بدّ من اليقين بحصوله كي يتيقن بالامتثال وهو لا يحصل إلاّ مع الاتيان بكلّ ما يحتمل دخله في حصوله.

وتوهم قياس الشك في دخل قصد الوجه والتميز في الغرض بالشك في الشرائط المأخوذة في المأمور به في الافتقار إلى البيان من قبل الشارع وانحلال العلم الاجمالي بالأمر إلى العلم التفصيلي بتعلّقه بالشرائط المعلومة والشك البدوي بالنسبة إلى المشكوك فلا يكون الأمر بالنسبة إليه بيانا فيحكم العقل بعدم العقاب بتركه لقبحه بلا بيان ، مدفوع :

أولا : بعدم صحة الانحلال في المقيس عليه ، لعدم العلم بتعلق الوجوب الفعلي المنجز بالعلم بالأقل على تقدير جريان البراءة بالنسبة إلى الزائد ، لكون الأقل على تقدير عدم كونه هو الواجب الواقعي يكون وجوبه من جهة كونه مقدمة للأكثر فيكون وجوبه بناء على ذلك تبعا لوجوبه في الفعلية ، ومع البراءة عنه فكيف يعلم بالوجوب الفعلي للأقل على كل تقدير كي ينحل العلم.

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( فلا ).

٣٤

وثانيا : بعدم صحة القياس لما نحن فيه بشرائط المأمور به حيث انّه بناء على صحة الانحلال في مسألة الاجزاء والشرائط يكون تعلق الأمر بالأقل معلوما وبالزائد مشكوكا فتكون المؤاخذة بالنسبة إليه بلا بيان ، بخلاف ما شك في دخله في حصول الغرض فانّه بناء على دخله واقعا لا يتفاوت الأمر على ما هو عليه من تعلقه بالاجزاء والشرائط المعلومة ، فليس دخله إلاّ في إطاعة الأمر المعلوم التي لا بدّ من العلم بها بعد الاشتغال اليقيني بحكم العقل فالمؤاخذة عليه تكون مؤاخذة على هذا الامر المعلوم حيث ان الاتيان بدونه على تقدير دخله في الغرض يكون موجبا لعدم تحقق الامتثال بالنسبة إلى ذاك الأمر الذي كفى به بيانا وبرهانا وتحقق معه موضوع حكم العقل بلزوم الإتيان بكل ما له دخل في تحصيل اليقين بالامتثال.

فان قلت : انّ حاصل ما ذكرت عدم امكان أخذ المشكوك في المقام في متعلق الأمر لاستلزامه الدور ولأجل كونه من كيفيات الاطاعة لا المأمور به ولكنه لا يوجب امتناع بيانه من الخارج لدخله في حصول الغرض ، فحيث لا بيان تكون المؤاخذة بلا برهان.

قلت : انّ المراد بالبيان في المقام ليس ما هو المتداول في مباحث الألفاظ من قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة الحاصل بالبيان اللفظي المقابل للاجمال والاهمال ، بل المراد به ما يصح معه المؤاخذة والاحتجاج ؛ ومن المعلوم انّ الأمر الموجود في البين بعد حكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بسقوطه بالامتثال وعدم الاجتزاء بالشك مما يصح معه المؤاخذة. نعم يصح القول بعدم كونه تمام البيان على فرض عدم حكم العقل بتحصيل اليقين بسقوطه لا معه كما هو واضح. هذا في البراءة العقلية.

وامّا البراءة النقلية فيشترط في جريان أدلتها من مثل حديث الرفع والحجب والسعة ونحوها ان يكون ما تجري فيه مما تناله يد التصرف من الشارع وضعا ورفعا توسعة وضيقا كما في الاجزاء وشرائط المأمور به فانّ الجزئية والشرطية

٣٥

على ما هو التحقيق من كون مثل هذه الأحكام الوضعية قابلة للجعل [ و ] مما ينالهما الوضع فيشملهما حديث الرفع ونحوه ويحكّم على أدلة الاجزاء والشرائط الواقعية ويحكم بالاجتزاء ما دام الاشتباه فعلا وبالاجزاء بعده شرعا على ما هو التحقيق من الحكومة.

ولا يصغى إلى ما قيل : من اشتراطها باتحاد المرتبة بين دليل الحاكم والمحكوم وهو مفقود في المقام لكون الحكم الظاهري متأخرا عن الواقعي.

لأنّه يقال : انّ الحكم الظاهري وان لم يكن في مرتبة الواقع إلاّ أنّ الواقع يعم مرتبة الظاهري أيضا للزوم التصويب بدونه فتكون أدلته حاكمة على الأدلة الواقعية في مقام الفعلية والحكم بالاجزاء ولو بعد إزالة الاشتباه ، فتحمل الواقعيات على مرتبة الاقتضاء كما حقق في محله.

إذا عرفت ذلك فنقول : انّ كيفيات الاطاعة مثل قصد القربة والوجه والتميّز ونحوها مما لم يمكن أخذها في المأمور به على تقدير دخلها في الغرض يكون دخالتها فيه أمرا واقعيا عقليا نظير منشئية نفس الغرض للأمر ، وليس مما يناله الجعل وجودا على تقدير عدم دخله فيه واقعا ، ولا ذيل الرفع على تقدير دخله في نفس الأمر ، فحينئذ يكون خروج المشكوك منها من إطلاق أدلّة الرفع من باب التخصص لا التخصيص.

لا يقال : كيف لا يقبل مثل ذلك الجعل والحال انّ الاجزاء وشرائط المأمور به مما لها دخل في الغرض فجعلها وجودا أو عدما لا ينفك عن تعلقه به أيضا ولو توسعة وضيقا.

لأنّا نقول : كلاّ ، ولا يكشف ذلك عن تعلق الجعل به بل كان دخل الاجزاء الواقعية فيه على ما هي عليه واقعا. نعم نقول : انّ المركب من الاجزاء المعلومة بعد نفي جزئية غيرها بأدلة الرفع وتحكيمها على أدلة الاجزاء الواقعية يكون بدلا مجعولا شرعا عن المركّب الواقعي فيستكشف عن تعلق غرض آخر بالمأمور به

٣٦

الظاهري يتدارك به ما فات منه بترك الواقع أو عن حصول مقدار من الغرض به بحيث يكون الباقي منه بعده مما لا يمكن تداركه على حدة كما حقق مثل ذلك في مسألة القصر والاتمام في توجيه وكفاية أحدهما عن الآخر ولو عن تقصير ، أو مما ليس بلازم الاستيفاء بعد تحصيل ذاك المقدار بالمأمور به الظاهري ، وليس ذلك من التصرف في الغرض بنفسه بوجه ، كما يلزم ذلك في المقام بلا توسيط جعل بدل أصلا كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه ظهر مما ذكرنا انّه لا مجال للتمسك بالبراءة عقلا ولا نقلا لنفي ما شكّ في دخله في الغرض بناء على التحقيق من تبعية الأوامر والنواهي للغرض ولو عند الأشعري (١) ، فالمحكّم هو ما ذكرنا ولو ايضا عندهم ، غاية الأمر أنّهم لا يقولون بالحسن والقبح الذاتيين (٢) ولكن لا ينكرون الغرض في الأمر.

وظهر أيضا عدم مجال للتمسك بنفس المشكوك باطلاق الأوامر ، لأنّه إنّما يصح التمسك بالاطلاق فيما أمكن التقييد لا فيما لا بدّ من الاطلاق ولو على تقدير دخل المشكوك واقعا كما هو واضح ؛ فلا مجال للمقام إلاّ التمسك بالاشتغال وايجاب الاحتياط عقلا.

نعم يمكن أن يقال : انّ ما يشك دخله في الغرض لو كان مما يغفل عنه غالبا ولا يلتفت إليه إلاّ الأوحدي من أهل التدقيق في بعض الأحيان ولم يكن عنه مع

__________________

(١) لكن اكثرهم يقول بعدم التبعية ، راجع : شرح المقاصد ٤ : ٢٩٦ المبحث الخامس ؛ الاحكام في اصول الاحكام ٣ : ١٢٤ المسألة الرابعة ؛ شرح المواقف ٨ : ٢٠٢ المرصد السادس في افعاله تعالى ، المقصد الثامن. نعم يقول بالتبعية بعضهم وذلك على نحو الموجبة الجزئية ، راجع : شرح المواقف ٨ : ٢٠٢ قوله : « وقالت الفقهاء لا يجب ذلك لكن افعاله تابعة لمصالح العباد تفضلا واحسانا » ؛ شرح المقاصد ٤ : ٣٠٢ « والحق ان تعليل بعض الافعال الخ ».

(٢) المستصفى ١ : ٥٩ ـ ٦٠ القطب الاول / الفن الاول / المسألة الاولى ؛ المنخول : ٨ ـ ٩ ؛ المحصول ١ : ٣٥ و ١ : ٤٨ الفصل السابع ؛ الاحكام في اصول الاحكام ١ : ٧٢ القسم الثالث في المبادئ الفقهية والاحكام الشرعية / الاصل الاول / المسألة الاولى ؛ شرح المواقف ٨ : ١٨١ المرصد السادس في افعاله تعالى / المقصد الخامس في الحسن والقبح ؛ شرح المقاصد ٤ : ٢٨٢ المبحث الثالث.

٣٧

ذلك في الأخبار والآثار عين ولا أثر وأحرز ذلك بالقطع فهو مما يقطع بعدم دخله في الغرض وإلاّ لكان على الشارع البيان للزوم نقض الغرض بدونه حيث لم يكن فيه طريق عقلي ، للغفلة ؛ وحيث لا بيان فلا دخل له فيه وإنما الشك كان بدويا زائلا بعد التأمل. نعم لو بقي الشك مع ما ذكرنا لا مجال له إلاّ الاشتغال أيضا.

ويمكن أن يتمسك لنفي اعتبار المشكوك بالاطلاق المقامي الثابت بمقدمات الحكمة أيضا كما لو أحرز في مقام انّ الشارع بصدد بيان جميع ما له دخل في حصول الغرض وتعلّق غرضه بافادة تمام ما اعتبر في الإطاعة من الكيفيات وان لم يكن ذلك واجبا عليه بعد ما عرفت من الطريق العقلي ، بل تبرعا ، ومع ذلك فقد اقتصر على بيان اعتبار البعض ساكتا عن غيره فيستكشف [ عدم ] (١) دخل ما سكت عنه في الغرض أصلا وإلاّ لأخلّ الشارع بغرضه المفروض تعلقه ببيان جميع ما له المدخلية في الاطاعة ، إلاّ أن يمنع بعدم إحراز مثل ذلك منه أصلا.

إذا عرفت ذلك فلا يبعد أن يقال : انّ قصد الوجه والتمييز كانا مما يقطع بعدم دخلهما في تحصيل الغرض بأحد الطريقين خصوصا الأوّل لمكان انّهما مما يغفل عنهما الصدر الأوّل وما احتمل اعتبارهما إلاّ أهل التدقيق من المتأخّرين مع عدم تحقق أثر منهما في الاخبار فيقطع بعدم اعتبارهما أصلا.

فظهر بذلك أنّه لا يعتبر في العبادات ما ينافيه [ من ] الامتثال الاجمالي كي يقدم الامتثال التفصيلي عليه.

هذا كله في دوران الأمر بين الامتثال الاجمالي والعلم التفصيلي.

وأمّا لو دار الأمر بينه وبين الظن التفصيلي فان كان الظن حجة بالخصوص فعلى ما اخترنا من الاجتزاء بالاجمالي ولو مع التمكن من العلم التفصيلي فلا اشكال في الاجتزاء به مع التمكن من الظن ، بل في تقدمه في بعض الصور كما يظهر

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( بعدم ).

٣٨

[ فيما يأتي ] (١). وأمّا على القول بعدم الاجتزاء به مع العلم التفصيلي بتوهم الإخلال بالوجه معه أو اعتبار التميز مثلا فنقول : لا بدّ من ملاحظة دليل اعتبار الظن :

فان كان دالا على اعتباره ولو مع التمكّن من العلم فيكون حاله حال العلم التفصيلي بناء على القول بجعل الحكم المماثل للمظنون بدليل الاعتبار ؛ وأما على القول بجعل الحجية المستتبعة لتنجز الواقع في صورة المصادفة عقلا ومجرد العذر وتحقيق موضوع التجري في غيرها فيشكل العمل بالظن في العبادات من حيث استلزامه لتفويت قصد الوجه الممكن منه مع الامتثال الاجمالي.

وان كان اعتباره مشروطا بعدم التمكن من العلم أصلا فلا تصل النوبة اليه مع الامتثال الاجمالي كي يقدم عليه.

وأمّا ان كان الظن حجة بدليل الانسداد فان كان تقرير مقدمات الانسداد على نحو الحكومة فلا اشكال في تقدم الامتثال الاجمالي بالاخلال بالوجه مع الظن دونه ، وان كان على نحو الكشف فيبتني الاجتزاء بالاجمالي أو عدمه على الكشف بنحو جعل الحكم أو الحجيّة ؛ إلاّ أنّ الوجه على الكشف على النحو الأوّل التفصيل :

بين أن يكون إحدى مقدّمات الانسداد هو عدم وجوب الاحتياط المستلزم لعدم اعتبار التمييز مثلا فالتخيير.

وبين أن يكون هو عدم جواز الاحتياط ، لاعتبار التميز ، فيتعين الامتثال الظني.

هذا كله فيما كان الاشكال في الامتثال الاجمالي هو توهّم الاخلال بالوجه والتميّز.

وأمّا لو كان الوجه عدم اعتباره في نفسه أمّا لكون هذا الطريق غير معدود

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( آنفا ).

٣٩

من طرق الطاعة لتوهّم اللعب بأمر المولى ، أو لقيام الاجماع على عدم جواز الاحتياط كما اذا استلزم التكرار فلا بدّ من تقديم الامتثال الظني مطلقا إلاّ أن ينزّل الاجماع أو توهّم اللعب على صورة التمكن من الامتثال التفصيلي ففيه التفصيل المتقدم.

تذنيب : اعلم أنّه لو تولّد أحيانا من العلم الاجمالي العلم التفصيلي فتجري فيه الأحكام المتقدّمة : من وجوب الاتّباع ، والجري على وفقه عقلا ، وتنجيز متعلقه في صورة المصادفة ، والعذر عن الواقع ، وتحقيق موضوع التجري في صورة الخطأ ، لأنّك عرفت انّ وجوب الاتّباع من لوازم وجود القطع عقلا بحيث لا يمكن الانفكاك عنه ولا التخصيص بلا تفاوت بين أسبابه عنده.

فما يتراءى من عدم الاعتناء بالعلم التفصيلي الناشئ من العلم الاجمالي في موارد معدودة :

منها : حكم البعض بجواز ارتكاب كلا المشتبهين فانّه يؤدّي إلى العلم التفصيلي بالحرمة كما إذا اشترى بالمشتبهين بالميتة جارية فانّه يعلم تفصيلا بعدم انتقالها بتمامها فيحرم وطؤها.

ومنها : الحكم بالتنصيف في درهم واحد في الودعيين الذين لأحدهما درهم وللآخر درهمان فانّه قد يجتمع النصفان عند شخص ويشتري بهما جارية أو متاعا فيتصرف فيهما مع علمه تفصيلا بحرمته.

ومنها : مسألة تنصيف العين التي تداعاها اثنان المؤدّية إلى الاجتماع عند واحد.

ومنها : الحكم بصحة ائتمام أحد واجدي المني في الثوب المشترك بالآخر مع علمه ببطلان صلاته امّا من جهة بطلان صلاة إمامه أو صلاة نفسه ؛ إلى غير ذلك

٤٠