تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

الفعل ويجعل الايتاء كناية عن الاعلام والاقدار على الفعل حيث انّ اعطاء كل شيء بحسبه ، فيدل على الأخير على نفي التكليف بغير المقدور وغير المعلوم ؛ لكن إرادة الحكم وحده لا تناسب مورد الآية ، فانّ المناسب له تقريبه ما قبله وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ) (١) ان يراد من الموصول المال ، بتقدير الانفاق ، أو يراد مطلق الفعل أعم من الانفاق وغيره مع جعل الايتاء كناية عن الاقدار.

وأمّا ارادة الأعم من الحكم والفعل فقد أورد عليه في الفرائد (٢) بما حاصله :

انّ إرادة الأعم بالعنوان الجامع بينهما يوجب تعدد تعلق التكليف بالموصول بالمعنى الواحد :

بنحو التعلق بالمفعول به باعتبار أحد مصداقيه وهو الفعل.

وبنحو التعلق بالمفعول المطلق باعتبار مصداقه الآخر وهو الحكم.

وهما ممّا لا يحويهما بحسب الخارج تعلق خارجي مصداقي غير ملتفت إليه الحاصل من اسناد الفعل إلى مفعوله وان كان عنوان التعلق المفهومي المنتفي في المقام ممّا يحويهما ، فلا بدّ على تقدير إرادتهما أن يراد منه كل منهما بخصوصه لتصير بمنزلة لفظين بإزاء متعلقين تعلق الفعل بأحدهما تعلق المفعول به وبالآخر تعلق المفعول المطلق فيلزم استعمال لفظ الموصول في المعنيين وان كان لا يلزم ذلك في الايتاء على ما عرفت من إرادة المعنيين منه على نحو الكناية.

ولكنه يمكن منع استلزام إرادة الجامع لتعدد التعلق بالنسبة إليه باعتبار مصداقيه بل يكون تعلقه به نحو التعلق بالمفعول به مطلقا ، حيث انّ المراد من

__________________

(١) سورة الطلاق : ٧.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٢٢.

٢٢١

التكليف ليس ما هو المتعارف في الاصطلاح من الحكم مطلقا انشائيا كان أو منجزا بل المراد معناه اللغوي وهو : ايقاع الانسان في مشقة ما تعلق به ، وحيث انّ الحكم المراد في الآية ليس هو المنجز بل الانشائي منه فليس مرادفا لمصدر التكليف اللغوي كي يكون تعلقه به تعلق المفعول المطلق بل المراد انّه لا يكلف نفسا شيئا أعم من الحكم والفعل إلاّ ما آتاها منهما بمعنى انّه لا يوقعها في مشقة شيء من الفعل بأن يأمره ويلزم به ومن الحكم بأن ينجزه ويصيّره في حقه فعليا إلاّ ما آتاها منهما بنحو الكناية عن الاقدار والاعلام لا بنحو الاستعمال فيهما كي يلزم استعمال اللفظ بالنسبة إلى الايتاء في المعنيين.

نعم الأولى أن يجاب : بعدم ظهور الموصول في الآية في إرادة الجامع لو لم يكن ظاهرا في خصوص المال بقرينة المورد أو في مطلق الفعل الشامل للانفاق وغيره بقرينة وقوع الآية مساق الامتنان مع أولوية المعنى الكنائي اللازم له في الايتاء من تقدير المضاف في الموصول لو اريد منه المال ؛ وعلى أي حال فلا تكون الآية ظاهرة في إرادة الحكم فتخرج عن قابلية الاستدلال.

وأمّا رواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « قال : قلت له : هل كلف الناس بالمعرفة؟ قال لا ؛ على الله البيان ، لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها ، لا يكلف الله نفسا إلاّ ما آتاها » (١) فلا ينفع في المطلوب حيث انّ عدم التكليف بالمعرفة المراد بها ظاهرا معرفة الله على التفصيل قبل البيان من جهة كونها فعلا غير مقدور بدونه وكون التكليف بدونه تكليفا بأمر غير مقدور لا من جهة كونه تكليفا بما لا يعلم حكمه وان كان مقدورا بنفسه كما في الشبهات الالزامية في المقام.

وممّا ذكرنا ظهر : حال التمسك بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٣ باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث ٥ باختلاف.

٢٢٢

وُسْعَها ) (١) فانّ ظاهرها نفي التكليف عن غير المقدور وعن الامور [ الشاقة ]. (٢)

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٣) بناء على انّ بعث الرسول كناية عن بيان التكليف لأنّه يكون به غالبا.

وأورد عليها :

أولا : بأنّ ظاهرها الإخبار عن حال الامم السابقة بوقوع التعذيب الدنيوي عليهم بعد البعث.

وفيه : انّ ظاهرها الإخبار عن دأبه تعالى بأنّه لا يعذّب أحدا قبل بيان تكليفه ، خصوصا مع وضوح كون الأفعال المنسوبة إليه تعالى منسلخة عن الزمان.

وثانيا : بأنّ ظاهرها نفي العذاب الفعلي قبل البيان فلا ينافي الاستحقاق بمخالفة التكليف الواقعي ولذا أورد على من استدل بها لنفي الملازمة في باب الحسن والقبح بأن نفي الفعلية لا يدل على نفي الاستحقاق ؛ فان كان المهم في باب البراءة مجرد الأمن من العقوبة الفعلية فتكون الآية دليلا عليها ، وأمّا إذا كان المهم نفي الذم والاستحقاق كما هو التحقيق فلا.

اللهم إلاّ أن يقال كما في الفرائد (٤) : بأنّ الخصم يلتزم بعدم الاستحقاق على تقدير نفي الفعلية حيث انّه قائل بفعلية العقاب في مورد الشبهة كما يظهر من تمسكه بخبر التثليث الظاهر في الوقوع في العقاب والهلاك الفعلي من حيث لا يعلم ، فيكفي في مقام التمسك عليه لاثبات نفي الاستحقاق باثبات نفي الفعلية.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٢) في الاصل المخطوط ( المشاقة ).

(٣) سورة الاسراء : ١٥.

(٤) فرائد الاصول ٢ : ٢٣ ـ ٢٤.

٢٢٣

وفيه : مضافا إلى كونه جدلا خارجا عن طريقة البرهان فلا يثبت به المدّعى ، ان استدلال الأخباريين بخبر التثليث ونحوه لا يدل على التزامه بالعذاب الفعلي في مورد الشبهة كي يلتزم بنفي الاستحقاق وعلى تقدير نفي الفعلية حيث انّ التوعيد على العقاب فيه نظير التوعيد على ايجاد العقوبات في فعل المحرّمات وترك الواجبات في كونه توعيدا على مجرد المقتضي مع احتمال العفو والشفاعة في حقه ؛ فظهر انّ الآية لا دلالة لها على المطلوب.

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (١) أي ما يجتنبونه من الأفعال والتروك.

وقد أورد عليه :

تارة : بما أورد على الآية السابقة من كونها إخبارا عن حال الامم السابقة ، وقد عرفت ما فيه.

واخرى : بأنّه لا دلالة لتوقف الخذلان على البيان على توقف العقاب عليه إلاّ بالفحوى.

ولكن الظاهر : انّ الفحوى مسلّمة لو كان الخذلان عدم التوفيق على الطاعة ولو في معصية واحدة وأمّا لو كان بمعنى سدّ باب التوفيق بالطاعة والتأييد بالعبادة عليه وإيكاله إلى نفسه مطلقا المستتبع للخلود في النار كما هو الظاهر منه فليست مسلّمة أيضا كما هو واضح.

ومنها : قوله تعالى : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (٢) بناء على انّ المراد من الهلاك نتيجة فعل المحرمات وترك الواجبات وهو العقاب على مخالفتها ، والمراد من البينة إتمام الحجة عليها وإقامة البيان بالنسبة إليها.

__________________

(١) سورة التوبة : ١١٥.

(٢) سورة الانفال : ٤٢.

٢٢٤

ولكن المحتمل ان تكون الآية واردة في قضية خاصة وهي غزوة بدر ويكون المراد من الهلاك والحياة هو القتل والحياة ، والمراد من البينة الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات في تلك الغزوة الدالة على حقّية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فحاصل المعنى : انّ حياة من كان في تلك الغزوة وقبلها كان مع مشاهدة المعجزات ، وليست كلمة المجاوزة دالة على السببية حتى يرد بعدم كون الموت والحياة ناشئة عن الآيات.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ) (١) الآية ، فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة ما اوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من المحرّمات. وعدم وجدانه ذلك وان كان دليلا قطعيا على عدم الوجود إلاّ انّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في ابطال الحكم بالحرمة.

وفيه تأمّل : لاحتمال كون النكتة في التعبير به هو تلقين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجادلهم بالتي هي أحسن ، فانّ في التعبير بعدم الوجدان بالنسبة إلى التعبير بعدم الوجود من الأدب ما لا يخفى.

ومنها : قوله تعالى : ( وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) (٢) فانّ في التوبيخ عن الالتزام بحرمة شيء مع خلو ما فصل من المحرمات عنه دلالة على المطلوب.

وقد اورد على الآية : بأنّ الظاهر من الموصول العموم ، فيكون المراد التوبيخ على الالتزام بحرمة ما لم يكن بين جميع المفصلات ، واللازم من خلو جميع المفصلات عنه العلم بعدم كون المتروك من المحرمات أصلا حيث انّ

__________________

(١) سورة الانعام : ١٤٥.

(٢) سورة الانعام : ١١٩.

٢٢٥

جميعها مفصلات عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكون التوبيخ على الالتزام بحرمة ما يعلم بعدم حرمته.

وفيه : على تقدير كون جميع المحرمات منحصرة في المفصلات ، انّ ما ذكر من كون التوبيخ على التشريع مسلّم لو كان الانحصار عندهم معلوما وهو ممنوع ، بل المسلّم حصول العلم بذلك بنفس الآية مع كون التوبيخ على السابق من فعلهم من الالتزام بالحرمة مع عدم العلم بحرمته.

ثم انّ الآيات ـ على تقدير تسليم دلالتها ـ على طائفتين :

إحداهما : ما دلت على البراءة فيما لم تقم الحجة على التكليف المشكوك سواء كان بعنوانه الواقعي أو بالعنوان الأعمّ وهذا مثل قوله تعالى : ( لِيَهْلِكَ ) (١) وقوله : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ ) (٢) الخ ، ولا يخفى انّ اخبار الاحتياط على تقدير دلالتها حاكمة بل واردة عليها كما لا يخفى.

وثانيتهما : ما دلت عليها إذا لم يرد البيان بالنسبة إلى الحكم الواقعي بخصوصه مثل ظاهر الآيات الاخرى. وهذه الطائفة [ تتعارض ] (٣) مع أخبار الاحتياط فلا بدّ من ملاحظة الجمع والترجيح بينهما.

وأمّا السنّة : فأخبار كثيرة :

منها : ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسند في الخصال (٤) كما عن [ التوحيد ] (٥)

__________________

(١) سورة الانفال : ٤٢.

(٢) سورة الاسراء : ١٥.

(٣) في الاصل المخطوط ( يعارض ).

(٤) الخصال ٢ : ٤١٧ باب التسعة ، الحديث ٩.

(٥) التوحيد ٣٥٣ الباب ٥٦ باب الاستطاعة ، الحديث ٢٤.

٢٢٦

« رفع عن امتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا عليه ، ... » (١) الخبر.

وينبغي التنبيه في هذا الحديث الشريف على امور :

الأول : في وجه دلالتها على المطلوب ، وهو أن يراد من الموصول في « ما لا يعلمون » الحكم فيكون الحكم المجهول مثل حكم شرب التتن مرفوعا لعدم العلم به ولا يحتاج ـ بناء ـ إلى تقدير المؤاخذة أو [ الاثر ] (٢) المناسب ممّا يقدّر في اخواته حيث انّ الحكم الشرعي بنفسه قابل للجعل وضعا كما في الاستصحاب ورفعا كما في المقام فلا يحتاج في تحقق الرفع بالنسبة إلى الحكم إلى تقدير ؛ كما لا بدّ منه لو اريد من الموصول الموضوع لعدم كونه بنفسه قابلا للجعل إلاّ باثره فلا بدّ من تقديره.

فان قلت : الظاهر ان يراد من الموصول الموضوع ولا يدل على إرادة رفع الحكم المجهول مطلقا لا وحده لمخالفته لاتحاد سياقه مع اخواته المراد منها الموضوع كما هو ظاهر ولا مع الموضوع سواء اريد كل منهما مستقلا للزوم استعمال اللفظ في المعنيين أو أريد الجامع بينهما لعدم الجامع في الاسناد الخارجي للرفع إلى الموصول بين الاسناد إلى ما هو له بالنسبة إلى أحد مصداقيه وهو الحكم وبين الاسناد إلى غير ما هو له بالنسبة إلى [ ما هو ] (٣) الموضوع مضافا إلى الاحتياج إلى تقدير المؤاخذة في أحدهما دون الآخر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ : ٢٩٥ الباب ٥٦ من ابواب جهاد النفس ، باب جملة مما عفي عنه ، الحديث ١. باختلاف.

(٢) في الاصل المخطوط ( أثر ).

(٣) في الاصل المخطوط ( وهو ).

٢٢٧

قلت : التحقيق أن يراد من الموصول الحكم لا الموضوع لا مجتمعا لما ذكر في السؤال ولا وحده لترجيح إرادة ما لا يحتاج إلى التقدير مع كون اسناد الفعل إليه إلى ما هو له وهو الحكم بالنسبة إلى ما يحتاج إلى تقدير المؤاخذة مع كون اسناد الفعل إليه إلى غير ما هو له وهو الفعل في مقام الدوران فيقدم.

وأمّا لزوم خلاف السياق من إرادة الحكم مع سائر اخواته فلا بأس به بعد معلومية عدم مراعاته بين جميع الفقرات كما هو الواضح من ملاحظة صدر الحديث من رفع الخطأ والنسيان مع ذيله وهو رفع الطيرة والحسد مثلا مع كون المرفوع في بعضها هو الحكم الشرعي وحده ، وفي آخر هو الوضع ، وفي ثالث كلاهما كما في الخطأ مثلا. نعم المعلوم انّ جمع هذه الامور في الحديث بملاحظة اشتراكها في كون الرفع فيها للامتنان ؛ وأمّا رعاية المناسبة من غير هذه الجهة فغير معلوم بل ظاهر العدم.

فان قلت : على ما ذكرت من إرادة خصوص الحكم من الموصول يلزم عدم شمول الحديث للشبهات الموضوعية.

قلت : بل الظاهر بقرينة سوق الحديث مساق الامتنان إرادة الحكم مطلقا كليا أو جزئيا ، كان منشأ الاشتباه عدم الدليل الشرعي على الحكم أو اشتباه الامور الخارجية فيشمل الشبهات الموضوعية أيضا.

والحاصل : انّ التمسك بالحديث للبراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية لا بأس به ولا يحتاج إلى تقدير المؤاخذة في « ما لا يعلمون » كي يرد باختلافه مع سائر الأخوات في كون المؤاخذة فيها على نفسها دون المؤاخذة على الحكم ، لعدم المعنى له إلاّ على متعلقه فيختلف السياق في تقدير المؤاخذة.

الثاني : الظاهر بل المعلوم كون الحديث في مقام الامتنان فيدل على رفع ما كان في رفعه الامتنان من الأحكام دون ما لم يكن في رفعه الامتنان كما في الحلية

٢٢٨

المشكوكة بل في مطلق الأحكام غير الالزامية.

وممّا ذكرنا من ورود الحديث مساق الامتنان ظهر : انّ المراد من الموصول مطلق ما كان قابلا للجعل وكان في رفعه الامتنان من الأحكام تكليفية كانت أو وضعية مثل الجزئية والشرطية والمانعية فيكون جزئية ما شك في جزئيته مرفوعة.

فان قلت : انّ الجزئية والشرطية للمأمور به كالصحة والفساد امور انتزاعية من الأمر بالمركب وموافقة المأتي به للمأمور به وعدمه وليست بقابلة للجعل ؛ ومن المعلوم كما سنشير إليه انّ المرفوع لا بد ان يكون ممّا تناله يد الجعل فيكون مثل المذكورات مشمولة للحديث.

قلت : أولا : انّ الجزئية والشرطية قابلتان للجعل بنفسهما كما يأتي ان شاء الله في باب الاستصحاب ؛ وعلى تقدير التسليم فيكفي في شمول الحديث كون المرفوع قابلا للجعل ولو بمنشإ انتزاعه ، وبعبارة اخرى : ولو بواسطة ، كما فيهما فانهما ينالهما يد الجعل بمنشإ انتزاعهما وهو الأمر بالمركب.

وان أبيت إلاّ عن عدم شمول حديث الرفع لمثلهما ولو بالواسطة فنقول : انّه يكفي في رفعهما رفع الأمر بالمركب المشكوك في شرطية شيء وجزئيته له وبإطلاق دليل الأمر بالمركب وبحكم أدلة الرفع في المركب المشكوك يحكم بأنّ المأمور به المركب الأقل فيتبع رفع الأمر عن الأكثر رفع الجزئية مثلا كما يتبعه الصحّة والفساد مع عدم كونهما من الامور المجعولة قطعا. نعم يكون المرفوع الجزئية الفعلية لا الواقعية كما لو قامت أمارة على عدم جزئية ما كان جزءا واقعا فيكون حديث الرفع مثل الأمارة في ذلك ؛ كما انّه لا بدّ أن يكون المشكوك والمنسي ممّا في رفعه الامتنان كما في صورة الترك لا في صورة الاتيان بالجزء نسيانا أو عن جهل لعدم الامتنان في رفعهما حينئذ كما لا يخفى.

٢٢٩

ثم انّه يدل على ما ذكرنا من كون المرفوع مطلق الأحكام ممّا كانت ينالها يد الجعل وضعية أو شرعية ولا ينحصر بخصوص ما يترتب عليه المؤاخذة ما روي عن أبي الحسن عليه‌السلام : « في الرجل يستحلف على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن امتي ما اكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطئوا » (١) الخبر فانّ استشهاده عليه‌السلام على عدم انعقاد الحلف على الطلاق مثلا بحديث الرفع مع كونه كذلك عندنا في حال الاختيار أيضا شاهد على عدم اختصاصه بخصوص المؤاخذة.

واقتصاره عليه‌السلام في الحديث على ثلاثة لعله من جهة كونها محل الحاجة ولا يدل على كونه حديثا آخر ، مع انّه لو كان كذلك فالظاهر من استشهاد الإمام عليه‌السلام انّ هذا التركيب ظاهر في رفع مطلق الآثار.

الثالث : انّه لا بدّ أن يعلم انّ المرفوع أي مرتبة من مراتب الأحكام ، فنقول : انّ المصلحة المقتضية لها :

قد تكون مقتضية لانشائها فقط بدون أن يصير فعليا ، لا لوجود المانع عن الفعلية بل لعدم تمامية المقتضي بالنسبة إليها والحكم الانشائي حينئذ بحيث لو علم به لما يصير فعليا.

وتارة : يكون المقتضي للفعلية تاما أيضا بحيث لا حالة منتظرة للبعث على طبقه الاّ انّ الجهل مانع عنه كما يكون مانعا عن التنجز بحيث لو علم به ليتنجز مع كون البعث تاما وما دام الجهل ، تكون الفعلية بهذا المعنى أي مع تمامية المقتضي متحققة. نعم البعث والارادة الفعلية منتفيان ومع علم المكلف بالحكم تكون الإرادة متحققة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٦ : ١٦٤ الباب ١٢ من ابواب كتاب الأيمان ، الحديث ١٢. وفيه « يستكره » بدل « يستحلف » و « وضع » بدل « رفع ».

٢٣٠

ثم انّ الارادة الفعلية التي تكون مغايرة للعلم إنّما هي بالنسبة إلى المبادئ السافلة مثل نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام وأمّا بالنسبة إلى مبدأ المبادئ فليس إلاّ العلم بالصلاح وتمامية المقتضي. نعم إرادته هو العلم بالصلاح في الارادة الذاتية ، وأمّا الارادة الفعلية فان كانت تكوينية فهي عين الايجاد والافاضة وان كانت تشريعية فهي عين الارادة التي كانت في النفس النبوية والولوية.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّ المرفوع لا يكون هو المرتبة الاولى التي تكون انشائيا محضا بحيث لو علم به لا يصير فعليا ، لبداهة عدم كون حديث الرفع نسخا ولا تقييدا للأحكام الواقعية ، مع انّه يلزم ارتفاع الموضوع للرفع وهو المشكوك بما هو مشكوك بحكمه مع بداهة انّ الموضوع مقتض للحكم لا مناف له بحيث يرتفع بمجيء الحكم ؛ هذا مضافا إلى عدم الامتنان في رفع الحكم الانشائي.

وأمّا المرتبة الثانية التي كان المقتضي للارادة والبعث تاما ويكون انتفاؤهما من جهة الجهل فهو لا ينافي البراءة الفعلية حيث انّه يصدق معها انّ الحكم الواقعي بحيث لو علم به لصار منجزا. نعم الارادة الفعلية والبعث الفعلي إلى الفعل أو الترك يكون منافيا للبراءة سواء ثبتت بلسان الترخيص كما في قوله عليه‌السلام : « كل شيء حلال » أو بلسان رفع الحكم الذي لازمه الترخيص عقلا أو شرعا ؛ فالمرفوع هو هذه المرتبة وهو ليس مجرد التنجز كي يرد بارتفاعه عقلا مع الجهل فلا منّة في رفعه بل هو الارادة الفعلية وهو ممّا يتوقف عليه التنجز لا نفسه ، ولا يكون الجهل مانعا عنه عقلا بل كان مانعا عنه شرعا بمقتضى حديث الرفع فيحصل الامتنان.

فظهر ممّا ذكرنا : انّ المرفوع هو مرتبة البعث من الأحكام مع كون الرفع أعم من الدفع بأن يبدأ المانع حتى لا يصل إلى هذا الحد ، وعرفت انّ المرفوع أعم من الحكم الكلي بالنسبة إلى الشبهات الحكمية والحكم الجزئي بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية :

٢٣١

امّا بكون المراد من الموصول الحكم المجهول مطلقا.

وامّا بكون المراد منه الجامع بين الحكم والموضوع وهو الشيء.

ولا يرد : باستلزامه الحقيقة والمجاز في اسناد الرفع إليه كما عرفت سابقا حيث انّ الحقيقي من الاسناد يحتاج إلى مصحح بالنسبة إليه عرفا من غير عناية وهو أعمّ من كون المسند إليه قابلا للرفع بنفسه أو بحكمه كما هو كذلك فيما اسند إليه النقض في باب الاستصحاب. هذا كله بناء على عدم الاحتياج إلى التقدير.

وامّا بناء عليه كما عليه شيخنا العلاّمة (١) أعلى الله مقامه فالمراد من المقدّر ليس هو أثر الخطأ والنسيان والجهل بأن يكون الموضوع المقتضي لها نفس هذه الأوصاف حيث انّ الظاهر من الخبر انّ المقتضي للرفع هو هذه الأوصاف والمقتضي للثبوت لا يكون مقتضيا للرفع كما انّه ليس هو أثر ما يضاده من الأوصاف من العمد والعلم ونحوها لبداهة ارتفاعه بارتفاع موضوعه ، بل المراد الآثار الثابتة لما تعلق به هذه الأوصاف لا بشرط بالنسبة إليها وجودا وعدما ، كما انّه لا بدّ أن يكون المراد الآثار الشرعية المترتبة عليها بلا توسيط أمر عقلي أو عادي إلاّ أن تكون الواسطة خفية أو يكون بين رفعها وبين رفع متعلق تلك الأوصاف بملاحظة الآثار ملازمة في التنزيل ولا بدّ أن تكون الآثار ممّا يكون في رفعها الامتنان.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّه لو كان الظاهر من المقدر هو خصوص المؤاخذة فلا بدّ أن يكون رفعها برفع منشئها وهو البعث الفعلي المقتضي لايجاب الاحتياط على طبقه فيما لا مانع عنه في صورة الجهل وإلاّ فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بدونه فيلزم نقض الغرض بالنسبة إلى ما تعلق به الغرض من البعث الفعلي لا برفع

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣٢.

٢٣٢

نفس إيجاب الاحتياط كما في الفرائد (١) حيث انّه لا معنى لرفعه بدون رفع ما كان مقتضيا له ومعه فيرتفع برفع مقتضيه بنفسه ؛ واذا كان المرفوع خصوص المؤاخذة فتبقى سائر الآثار في صورة الخطأ والنسيان والجهل ونحوها بحسب ادلتها بحاله.

وامّا إذا كان الظاهر هو مطلق الآثار فيكون حديث الرفع نظير قاعدة نفي الضرر والحرج ونحوها مقدما على أدلة الآثار على تقدير إطلاقها في هذه الصور امّا من باب الحكومة كما عليه الشيخ قدس‌سره (٢) وامّا من باب الجمع العرفي بحمل أدلة الواقعيات المثبتة للأحكام للعناوين الواقعية على الحكم الاقتضائي وأدلة القواعد المذكورة المتعرّضة للعناوين الثانوية على بيان المانع في صورة التعارض.

ثم انّ هذا ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الاشكال في إطلاق أدلة الآثار الواقعية بالنسبة إلى صورتي العلم والجهل بالحكم في الشبهة الحكمية حيث انّ إطلاق الحكم بالنسبة إلى حالات موضوعه ـ ومنها العلم والجهل به ـ يتوقف على تحققها مع قطع النظر عن ثبوته والحال انّهما ممّا يتوقفان عليه ، فيدور على تقدير الاطلاق المذكور.

نعم يرد الاشكال على تقدير أخذ الاطلاق نظريا ملحوظا في دليله حالات الموضوع ومنها العلم والجهل به وامّا على تقدير كون الاطلاق طبيعيا سريانيا بأن يكون الدليل في مقام إثبات الملازمة بين الحكم وطبيعة الموضوع التي لازمها ثبوت الحكم في جميع حالات الطبيعة بلا نظر إلى حالاته كما في الدليل الواقعي فلا إشكال هذا في الشبهة الحكمية وأمّا الاطلاق بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣٤.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٢.

٢٣٣

والنظر إلى صورتي العلم والجهل بالموضوع فلا اشكال أصلا كما لا يخفى.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ». (١)

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١١٩ الباب ١٢ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

٢٣٤

(١) فعلية بمقدار المعلوم بالاجمال كافية بالفقه ومع ذلك ينحل ذاك العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بواجبات ومحرمات فعلية في أطراف الامارات وشكّ بدوي في ما عداها فتسقط الاصول في خصوص مورد الأمارات دون غيرها من الأطراف. نعم قبل المراجعة إلى الفقه وتشخيص موارد الأمارات تفصيلا لا بدّ من الاحتياط وعدم اجراء الأصل في جميع الأطراف إلاّ أنّه ليس من جهة نفس العلم الاجمالي بالأحكام الواقعية بل من جهة اشتباه موارد الأمارات بغيرها ولكن بعد تميّز مواردها بتميّز موارد اجراء الاصول عن غيرها.

ونظير ذلك أن يعلم اجمالا بوجود مقدار من المحرمات بين قطيع غنم مردد بين السود والبيض وبحرمة مقدار من خصوص البيض بقدر المعلوم بالاجمال أولا مقارنا ، وحينئذ فلا شبهة في انحلال ذاك العلم إلى العلم التفصيلي بمحرمات في خصوص أطراف البيض وشك بدوي في ما عداها ، غاية الأمر لو كان البيض مشتبها بغيرها لعوارض خارجية لكان الاحتياط عن الجميع واجبا وبعد تميّز البيض عن غيرها فلا بدّ من الاحتياط في خصوص أطرافها دون غيرها.

وقد أجاب في الفرائد (٢) :

أولا : بتعلق التكليف بالنسبة إلى غير القادر بما أدّت اليه الطرق غير العلمية لا بالواقع بما هو ولا بمؤدّى الطرق من حيث هي بالواقع من هذه الطرق.

__________________

(١) هنا سقط كبير في المخطوط يحتمل عدة صفحات.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٨٩.

٢٣٥

وفيه : انّه راجع إلى كلام صاحب الفصول (١) ؛ وقد أورد عليه قدس‌سره (٢) بمنع تعلق التكليف بالواقع إذا كان المكلف قادرا على الامتثال ولو بالاحتياط ، وان لازم جعل الطرق تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع لا انّ الشارع ما أراد من المكلف الواقع إلاّ من هذه الطرق بحيث لو عمل بنفس الواقع اجمالا بدون الطرق لما كان مجزيا كما هو واضح.

وثانيا : بأنّ المقرر في باب الشبهة المحصورة انّه : لو علم وجوب الاجتناب عن بعض الأطراف لدليل آخر غير العلم الاجمالي لما كان الاجتناب عن غير هذه الأطراف واجبا ولو كان الدليل الآخر بعد تعلق العلم الاجمالي. (٣)

وفيه : انّه في صورة العلم بالتكليف من جهة اخرى غير جهة العلم الاجمالي لا يكون ذاك العلم مؤثرا لو كانت تلك الجهة من أول الأمر لا فيما لو كان بعد العلم الاجمالي وإلاّ لكان أثر العلم الاجمالي باقيا ما لم ينحل بالعلم التفصيلي المتعلق بنفس المعلوم بالاجمال أو بزوال أطرافه جميعا.

ثم التحقيق : ان يفصّل حال العلم التفصيلي الحادث بعد العلم الاجمالي ، ثم التعرّض لحال الأمارة الحادثة بعد اشتراكهما في المنع عن تأثير العلم الاجمالي لو كانا مقارنين له فنقول :

انّ العلم التفصيلي بعده ان كان متعلقا بتكليف حدث فيما بعد كما لو علم تفصيلا بحدوث الوطي في بعض أطراف العلم الاجمالي بالغصب فلا شبهة في عدم الانحلال بل يكون كذلك فيما لو علم بحدوث الغصب أيضا بعد تحقق الغصب المعلوم بالاجمال ؛ والعلم به وان تعلق بتكليف مقارن مع العلم الاجمالي أو سابق

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٥٦ السطر ٢.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٨٩.

(٣) فرائد الاصول ٢ : ٨٩ ـ ٩٠.

٢٣٦

عليه فلا يخلو :

فامّا ان يكون كل منهما بلا عنوان ، مثل أن يكون العلم الاجمالي بحرام بين الإناءين وتعلق العلم التفصيلي بعد ذلك بحرمة واحد معيّن بلا عنوان في البين.

أو يكون كل منهما بعنوان مطابق للآخر ، مثل أن يتعلّق الاجمالي بخمرية واحد منهما والعلم التفصيلي بخمرية واحد بخصوصه ؛ أو يكون العلم الاجمالي بلا عنوان والعلم التفصيلي مع العنوان ، فلا اشكال في انحلال العلم الاجمالي في هذه الصور إلى العلم التفصيلي في خصوص متعلق العلم التفصيلي والشك البدوي فيما عداه فتجري فيه الاصول.

ولا ينافي ذلك ما تقرر من انّ العلم الاجمالي بعد تأثيره التنجز لا يرتفع أثره إلاّ بالموافقة القطعية ولو خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء او أخطر اليه.

لانه : فيما لم ينحل العلم الاجمالي الى التفصيلي ، وكان زواله لارتفاع الموضوع في بعض الاطراف.

وأمّا لو كان منحلا وانطبق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل كما في المفروض فلا يبقى له أثر في البين.

وتوهّم : احتمال كون المعلوم بالتفصيل في هذه الصور غير المعلوم بالاجمال فلا ينحلّ إلاّ إذا علم بالاتحاد ؛ مدفوع :

بأنّ المعلوم بما هو معلوم ليس له واقع غير ما انكشف وارتسمت صورته الذهنية لدى القاطع وهو امّا الحرام بلا عنوان أو مع عنوان مطابق للمعلوم بالتفصيل ؛ وامّا خصوصياته الواقعية فليست بمعلومة فلا يتنجّز على المكلف إلاّ من الجهة المعلومة والفرض مطابقته القهرية مع المعلوم بالتفصيل فينحل إليه كما هو واضح.

٢٣٧

وأمّا أن يكون كل واحد منهما بعنوان غير مطابق مع الآخر ، أو كان الأول مع العنوان والثاني بلا عنوان ، فحينئذ لا ينحل العلم الاجمالي لعدم انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل فلا ينحل إليه بل يبقى على اجماله وان كان بعض أطرافه معلوم التكليف بالتفصيل من غير جهة العلم كما لو اضطر إليه فلا يرتفع أثر العلم الاجمالي عن الآخر وهو التنجز ومنع جريان الاصل.

هذا كله في حدوث العلم التفصيلي بعد العلم الاجمالي.

وأمّا لو قامت الأمارة بعده على حرمة بعض الأطراف فلا اشكال في عدم الانحلال بها لو قامت على النحو الذي لو علم به تفصيلا لم يحصل الانحلال.

وأمّا لو قامت على نحو لو علم به تفصيلا لحصل الانحلال كما لو تعلق العلم الاجمالي على حرمة بعض الأطراف بلا عنوان وقامت الامارة على حرمة بعضها المعين كذلك فربما يقال فيما كان وجود الامارة مقارنا مع العلم الاجمالي واقعا أو سابقا عليه بأنّه : يكشف العلم بعده بوجودها سابقا بعدم تأثير العلم الاجمالي من أول الأمر لكون الأصل في غير مورد الأمارة من أول الأمر سليما عن الأصل في طرفها لسقوطه بوجود الأمارة الواقعية المفروض وجوده سابقا ، وهذا بخلاف العلم التفصيلي بعد العلم الاجمالي بوجود تكليف في بعض أطرافه المعيّن من أول الأمر حيث انّ الوجود الواقعي للتكليف لا يمنع عن جريان الأصل ما لم يكن منجزا والفرض انّ تنجزه بالعلم التفصيلي بعد الاجمالي ولا واقع له إلاّ الوجدان فيمنع عن الأصل حين حصوله لا فيما قبل فيكون العلم الاجمالي من أول الأمر مؤثرا معه ، غاية الأمر يوجب انحلاله حين حدوثه ، وهذا بخلاف وجود الأمارة واقعا لمنعها بوجودها الواقعي عن جريان الأصل في طرفها فيكشف عن عدم تأثير العلم الاجمالي في منع الأصل في غير طرفها من أول الأمر. هذا حاصل ما

٢٣٨

ذكره الاستاذ دام ظله في الحاشية (١) سابقا.

وقد أورد عليه في الدرس بما حاصله :

انّ الأمارة ما لم تكن حجة من أول الأمر فلا يمنع عن جريان الاصول في موردها ـ ولا عن تأثير العلم الاجمالي في إيجاب الاحتياط ـ وجودها الواقعي من دون علم بها ، كما لو حدث أمارة فعلا بالتكليف في بعض أطراف العلم الاجمالي في عدم المنع عن الأصل وعن تأثير العلم.

نعم في كون تعلق الأمارة بالتكليف في بعض الأطراف المعيّن ـ حين العلم بها ـ موجبا لانحلال العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي وعدمه وجهان :

من كونه موجبا للعلم التفصيلي بالتكليف الفعلي في مورده فيوجب انحلال العلم الاجمالي إليه وإلى الشك البدوي في غير مورده ، ولا يكون عنوان الأمارة مأخوذا في موضوع الحكم كي يغاير مع المعلوم بالاجمال عنوانا ، ولا يوجب الانحلال وان كان سببا لتعلق الحكم على طبق مؤداها في العنوان الواقعي بما هو هو ؛ وهذا نظير عنوان النذر فانّه بعد تعلقه على فعل شيء مثل التصدق مثلا يوجب تعلق وجوب الوفاء بما هو منذور به بالحمل الشائع لا بعنوان انّه منذور به وان كان واسطة لثبوته ، ولذلك تستصحب الحياة المشكوكة لو نذر التصدق ما دام الحياة فيترتب عليه وجوب التصدق بلا توسيط عنوان المنذورية وإلاّ للزم كون الأصل مثبتا.

ومن انّه على فرض تسليم عدم اخذ عنوان قيام الأمارة في موضوع الحكم كما هو كذلك بناء على الطريقية ، لكنه لا يوجب الانحلال أيضا لكون المثبت بها حكما ظاهريا طريقيا بسببها فكيف يوجب انحلال العلم بالحكم الواقعي بسبب

__________________

(١) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢١٤ ، والطبعة الحجرية : ١٢٩.

٢٣٩

آخر. ولكن الأظهر الانحلال بعد ملاحظة كون الأمارة مثبتة للحكم في موضوع المعلوم بالاجمال كان بلا عنوان أو مع العنوان كالعلم التفصيلي ولا بدّ من كونها متعلقة بالتكليف السابق وإلاّ لا يوجب الانحلال.

ولا يخفى انّ ما ذكرنا من الانحلال إنّما هو بناء على المشهور من انشاء الحكم الشرعي على طبق الأمارة بدليل اعتبارها ؛ وامّا بناء على مذهب الاستاذ دام ظله من كون المجعول بدليل اعتباره هو الحجية فيشكل الأمر ، لعدم العلم بمطابقة الأمارة للواقع ولا انشاء حكم شرعي على طبقها كي يوجب الانحلال.

فالتحقيق الذي لا محيص عنه ويجدي على كلا القولين من جعل الحجية وانشاء الحكم التكليفي الطريقي الذي لا يخلو من آثار الحجية أن يقال :

انّ الأمارة وان لم توجب انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي إلاّ انّها بعد ما جعلت حجة في مؤداها توجب اختصاص تنجز الواقع لو كان فيما قامت على حكمها والعذر عنه لو كان في الطرف الآخر كما هو لازم الحجة العقلية وهو العلم التفصيلي ، فلمّا كانت الأمارة حاكية عما ينطبق على المعلوم بالاجمال كما لو تعلق العلم بخمرية أحد الإناءين وقامت الأمارة على خمرية واحد معيّن منهما وكان لها ما للحجة العقلية وهو القطع التفصيلي من الآثار فيترتب عليها ما يترتب عليه من تنجز الواقع في خصوص مؤداها على تقدير الاصابة والعذر عنه على تقدير المخالفة.

والحاصل : انّ الأمارة بعد ما كانت حجة في مؤداها ومنطبقة على المعلوم بالاجمال كالعلم التفصيلي فيترتب عليها ما له من انحلال التنجز وان لم يوجب رفع العلم الاجمالي مثله إلاّ أنّه لا يوجب الفرق بعد ترتيب آثاره عليها واحتمال المخالفة في الأمارة كعدم الاصابة في العلم واقعا.

فان قلت : إذا قامت الأمارة على خمرية أحد الإناءين في المثال المذكور

٢٤٠