تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

عقلا ولا نقلا على وجوب الالتزام بما جاء به النبي وأخبر به وان وجب العمل به جارحا.

وثالثها : ما وجب معرفته شرعا كمعرفة الإمام على وجه غير صحيح ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » (١) وكمعرفة المعاد ، بداهة انّه من ضروريات الدين وأخبر به سيد المرسلين وان استقل العقل بثبوته أيضا إلاّ أنّه ليس استقلاله على وجه يوجب معرفته بنفسه أو ليتديّن به كما هو كذلك شرعا.

الثاني : انّ ما استقل العقل أو دل النقل على وجوب معرفته كما في الخمسة المذكورة فلا اشكال ، وما لم يدل دليل عقلا ونقلا على وجوب معرفته بالخصوص وشك فيه فقد استدل على وجوب معرفته بقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (٢) ، وقوله صلوات الله عليه : « ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة الخمس » (٣) ، وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد الإمام عليه‌السلام بها لوجوب النفر لمعرفة الامام بعد موت الإمام السابق ، وعمومات وجوب طلب العلم.

وفي كل منها نظر.

امّا الآية : فلأنها لو لم تكن مختصة بكون غاية الخلقة هو معرفة الله تعالى حيث انّ من المعلوم تعلق قوله تعالى : ( لِيَعْبُدُونِ ) بالله تعالى وقد فسر بالعرفان بنفسه فيبقى متعلقة بحاله فلا أقل من عدم الاطلاق لها بالنسبة إلى وجوب المعرفة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ : ٤٩٢ الباب ٣٣ من ابواب الامر والنهي ، باب تحريم تسمية المهدي عليه‌السلام ، الحديث ٢٣ ؛ الكافي ٢ : ٢١ باب دعائم الاسلام ، الحديث ٩ ، لكن باختلاف.

(٢) سورة الذاريات : ٥٦.

(٣) وسائل الشيعة ٣ : ٢٥ الباب ١٠ من ابواب اعداد الفرائض ، الحديث ١. لكن ليس فيه « الخمس ».

٢٠١

لكونها مسوقة لبيان حكم آخر وهو ذكر غاية الخلقة لا حكمها والقدر المتيقن هو معرفته تعالى كما لا يخفى.

وأمّا الرواية : فهي في مقام بيان فضيلة الصلوات الخمس لا في مقام بيان حكم المعرفة.

وآية النفر في مقام بيان ما يتوسل به إلى معرفة ما يجب معرفته لا بيان ما يجب معرفته ، واستشهاد الإمام عليه‌السلام إنّما هو لبيان انّ النفر طريق المعرفة الواجبة لا لوجوب معرفة الإمام عليه‌السلام حيث انّه كان مركوزا مفروغا عنه عند السائل وإنّما كان السؤال عن طريق الاهتداء إلى سبيل في تحصيلها.

وأدلة وجوب طلب العلم في مقام الترغيب والتحريض إلى طلبه لا في مقام بيان ما يجب تحصيل العلم فيه.

فلا عموم ولا إطلاق لواحد من المذكورات بالنسبة إلى ما يلزم فيه تحصيل المعرفة. وحينئذ فان لم يبق شك في وجوب الاعتقاد في ما شك فيه ابتداء فهو ، وإلاّ :

فان كان الشك في وجوب المعرفة به شرعا فأصالة البراءة بالنسبة إليه عقلا ونقلا محكمة.

وأمّا لو شك في وجوب المعرفة عقلا ، مثلا شك في وجوب معرفة الإمام عليه‌السلام من جهة أداء تركه إلى الكفران الموجب للخلود في النار فيحتمل الضرر بتركه فيجب دفعه عقلا بتحصيل المعرفة به ؛ ولا منافاة بين ما ذكر من الشك عند العقل من المقتضي لايجاب المعرفة وهو الضرر بتركها مع ما هو المسلّم من عدم الشك في الأحكام العقلية للقطع بعدمه ابتداء وبايجابه بعد احتمال الضرر وإنّما كان الشك في المقتضي كما لا يخفى.

الثالث : انّه هل يكتفى بالظن فيما يجب المعرفة به أم لا؟ فنقول :

٢٠٢

انّ ما كان معرفته واجبة عقلا كما في الواجب تعالى والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام على وجه صحيح فمع التمكن من تحصيل العلم به فلا اشكال في انّ العقل كما يستقل بلزوم المعرفة دفعا للضرر المخوف ، كذلك يستقل بلزوم المعرفة القطعية لاحتمال الضرر بدونها أيضا فيحكم بايجابها وانّه لا تكفي المعرفة الظنية ؛ وأمّا مع العجز وعدم التمكن من تحصيل العلم فبالنسبة إلى موضوعه فالظاهر انّه لا اشكال في تحققه بالنسبة إلى القاصرين الغافلين ، ومن الواضح انّه ليس الأمر في الاعتقاديات بواضح كي يكشف الخطأ عن التقصير فيها.

وأمّا قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١) وقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ) (٢) وقوله تعالى : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) (٣) فلا دلالة لها على عدم تحقق موضوع العاجز.

أمّا الآية الاولى : فالجواب عنها : انّ العاجز عاجز عن المجاهدة كما في صورة الغفلة المحضة.

وأمّا عن الثانية : فبأنّ المراد بيان الغرض من خلق نوعي الجن والانس وانّه لتكتمل النفوس بمعرفة [ باريها ] (٤) فلا ينافي عجز بعض الاشخاص ، وإلاّ لزم عدم وجود المجنون.

وأمّا عن الثالثة : فبأنّ المراد انّ آيات المعرفة موجودة في الأنفس كما كانت موجودة في الآفاق كما في قوله تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٢) سورة الذاريات : ٥٦.

(٣) سورة الروم : ٣٠.

(٤) في الاصل المخطوط ( باريهم ).

٢٠٣

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) (١) فلا ينافي عروض الحجاب عن النظر إليها والتأمّل فيها بقصر قاصر. نعم الانصاف انّه قليل في مورد الغفلة المحضة وإلاّ فمع الالتفات ولو في بعض الأوقات لو كان الانسان بصدد تزكية النفس والمجاهدة معها وتضعيف القوى الشهوانية والتخلق بالأخلاق الحميدة والملكات الحسنة كما هو الظاهر من المجاهدة في الآية ـ لا بمعنى الاجتهاد والنظر ـ فالله يهدي إلى السبيل بمقتضاها ، ولكن الغالب انّه مع الالتفات يأخذه التعصب والعناد وحماية طريقة الآباء والأجداد ، اذ حبّ طريقة السلف قل أن يتخلف [ عنه ] (٢) الخلف فيعتقد بحقية ما أخذه السلف واعتقد ولو كان مخالفا ، فيكون مقصرا. وعلى كل حال فالجاهل العاجز يسقط عنه التكليف بالمعرفة القطعية المحكومة بها عقلا ، وأمّا وجوب المعرفة الظنية فالظاهر انّ العقل لا يستقل بلزوم تحصيلها لو لم يستقل بعدم لزومها حيث انّ الظن لا يغني من الحق ، ويحتمل معه الوقوع على خلاف الواقع فيكون محذوره أشد خصوصا مع امكان الالتزام بالواقع على ما هو عليه على نحو الاجمال بل هو المتعين عند العقل. هذا فيما يجب تحصيل المعرفة به عقلا.

وامّا ما يجب تحصيل المعرفة به شرعا كما في الإمام عليه‌السلام على وجه والمعاد وبعض تفاصيله فلا دليل فيها على العمل بالظن سواء كان في صورة التمكن من تحصيل العلم أو في صورة العجز.

أمّا الأدلة الدالة على وجوب المعرفة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من مات ولم يعرف إمام الخ » (٣) فلظهورها في المعرفة القطعية وعدم شمولها للظنية.

__________________

(١) سورة فصلت : ٥٣.

(٢) في الاصل المخطوط ( عن ).

(٣) وسائل الشيعة ١١ : ٤٩٢ الباب ٣٣ من ابواب الامر والنهي ، باب تحريم تسمية المهدي عليه‌السلام ، الحديث ٢٣ ؛ الكافي ٢ : ٢١ باب دعائم الاسلام ، الحديث ٩ ، لكن باختلاف.

٢٠٤

وأمّا الأدلة الدالة على اعتبار الظن ، ففيها : مضافا إلى انصرافها إلى ما لا بدّ فيه من العمل بأحد الطرفين وعدم خلوّه عن أحد طرفي الفعل فلا يشمل مثل المقام ممّا كان المطلوب فيه الالتزام فانّه يمكن الالتزام بنفس الواقع على ما هو عليه من دون الالتزام بأحد طرفي المظنون تفصيلا انّه :

على تقدير التسليم إنّما تجدي الأدلة الدالة على حجية الظن في المقام لو كان وجوب الالتزام من آثار الواقع لا من آثار العلم به كما هو الظاهر في المقام فانّه من آثار العلم به ، بل ومثله جواز الإخبار فانّه من آثار العلم بالمخبر به فلا يجدي فيهما الأدلة الدالة على تنزيل المظنون منزلة الواقع في ترتيب أثرها عليه ولا دلالة لها على تنزيله منزلة العلم به.

ومن هنا ظهر حال إخبار بعض الواعظين على طريق اليقين عن كيفيات الحشر والنشر بمجرد ورود خبر واحد ، فانّه لا يجوز إلاّ على الابراز بصورة المظنون أو الإخبار بالمستند.

الرابع : في الآثار المترتبة على من لم يحصل له المعرفة ، اخروية أو دنيوية ، وضعية وتكليفية.

أمّا بالنسبة إلى الاخروية فان كان عدم معرفته عن تقصير منه فلا اشكال في استحقاقه العقوبة وما يترتب على الكفار من الخلود في النار ؛ وإلاّ : فان كان عن قصور منه فان كان معاندا للحق فلا يبعد أن يكون كذلك ؛ وإلاّ فلا يستحق العقوبة عقلا حيث انّ مسألة المعذورية وعدمها ليست شرعية كي تدور مدار النقل أو الاجماع على أحد الطرفين بل عقلية محضة وهو يستقل بمعذورية الجاهل العاجز عن تحصيل العلم عن قصور ، وعرفت انّ الاعتقاديات ليست من البديهيات

٢٠٥

كي يكشف الجهل عن تقصير فيها. نعم انّ هذا الشخص ليس له في الآخرة من حظ ونصيب ان كان الجهل لقصور ذاته ودناءة رتبته وخساسة فطرته وان كان ذلك لأجل امور غريبة خارجية وإلاّ كان من أجل شرافة ذاته ذا أخلاق كريمة ويطلب الحق وبحثه وان لم يعرفه فهو ممن يرجى [ له ] من رحمة ربه.

وأمّا بالنسبة إلى الآثار الدنيوية من الطهارة والنجاسة وجواز المناكحة والتوارث وغيرهما :

فان لم يقرّ بالشهادتين باللسان فيترتب عليه آثار الكفر من النجاسة وعدم جواز المناكحة وعدم التوارث من مورّث مسلم ، بل يجب قتله وان كان بالنسبة إلى عدم الاعتقاد بالجنان معذورا إذا كان جهله عن قصور ولم يعاند الحق.

وأمّا ان كان مقرّا بالشهادتين باللسان فيترتب عليه آثار الاسلام من الطهارة والمناكحة والتوارث ونحوها ان لم يعلم بعدم التزامه بما يقرّ به لسانا بالجنان ، بل وان علم به ، بل ولو كان ذلك عن تقصير موجب للعقوبة والخلود في النار إلاّ أنّه يترتب عليه آثار الاسلام بحسب تلك الآثار الدنيوية كما يظهر من معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع المنافقين في زمانه معاملة المسلمين في الطهارة وسائر الآثار ؛ والظاهر عدم اختصاص ذلك بصدر الاسلام ، لأجل التوصل به إلى زيادة الشوكة ، لعموم العلة لغيره وان كان لها مزيد اختصاص بصدر الاسلام وهو لا يوجب الاختصاص كما لا يخفى.

الخامس : انّ الظاهر بل المقطوع عدم وجوب النظر والاجتهاد مستقلا كما نسب إلى الشيخ قدس‌سره (١) بل طريقا إلى حصول المعرفة القطعية فان حصلت بغيره من التقليد بالنسبة إلى من كان حسن ظنه به من الآباء والامهات وغيرها أو من

__________________

(١) العدة ٢ : ٧٣٠ ـ ٧٣١.

٢٠٦

المجاهدة مع النفس وتزكيتها من الملكات الرذيلة وتحليتها بالملكات الحسنة كما انّ ذلك هو الظاهر من قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١) فلا شبهة في عدم وجوب النظر بعد ذلك ، بل لا معنى له ، لكونه لغوا بالنسبة إلى حصول المعرفة إلاّ على تقدير تحصيل الحاصل مع انّ المرتكز في ذهنه من المقدمات من حسن الظن وعدم خطأ من قلّده نحو من النظر والاجتهاد.

ولو كان حاصلا من المقدمات الاجمالية فان كان المراد من النظر والاجتهاد المدعى عليه الاجماع في كلام العلاّمة قدس‌سره (٢) وغيره أعمّ من ذلك فلا يبقى مورد للتقليد إلاّ في موارد حصول الظن منه لا العلم وإلاّ فلا اجماع عليه بعد حصول المعرفة القطعية لا بنحو الشرطية للاسلام كما هو الظاهر من العلاّمة قدس‌سره (٣) ولا على كونه واجبا مستقلا معفوا عنه كما نسب إلى الشيخ قدس‌سره (٤) وإلاّ لما كان دليل على العفو. وامساك النكير من العلماء بالنسبة إلى المقلدين لو لم يكن دليلا على عدم الوجوب أصلا لما كان دليلا على العفو ، حيث انّ النظر لو كان واجبا ولو كان ممّا عفي عنه كما في الظهار لم يكن وجه لامساك النكير لكفاية وجوبه في الانكار على تاركه كما كان كذلك في مسألة الظهار.

الأمر السادس : إذا بنينا على عدم حجية ظن أو على عدم حجية الظن المطلق فهل يترتب عليه آثار أخر غير الحجية على الاستقلال مثل كونه جابر الضعف سندا ودلالة أو كونه موهنا لحجة اخرى كذلك بحيث لو لا ذلك لكان حجة أو مرجحا لأحد المتعارضين على الآخر بحيث لو لا ذلك لما كان ترجيح في البين ،

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٢) الباب الحادي عشر : ٣.

(٣) الباب الحادي عشر : ٥.

(٤) عدة الاصول ١ : ١٣٢ و ٢ : ٧٣١.

٢٠٧

أم لا؟

ويقع الكلام :

تارة : في الظن الذي لا دليل على اعتباره ويكون عدم اعتباره من جهة بقائه تحت أصالة عدم الحجية مثل الشهرة مثلا.

واخرى : في الظن الذي دل الدليل على المنع عنه بالخصوص مثل القياس ونحوه.

وملخص الكلام في الأول : انّه لا بدّ أن يلحظ الدليل على حجية الخبر الذي كان الظن الخارجي على طبقه أو على خلافه ؛ أو الدليل على الترجيح ، فان كان يشمله مع الظن على طبقه وان كان لولاه لما كان يشمله أو لا يعمّه مع ذلك الظن ، وان كان لولاه ليعمّه أو يدل على الترجيح بذلك الظن ، وان كان لولاه لما حصل ترجيح في البين فلا اشكال في ترتب الآثار المذكورة على الظن المذكور مثل الشهرة ونحوها لا من أجل حجيتها بل من أجل تحقق موضوع الحجة أو فقده بسببه وان لم يتحقق أو لم يفقد بدونه.

تفصيله في مقام الجبر أن يقال : لو كان مثلا خبر ضعيف السند وفاقد لشرائط الحجية فان حصل ظن خارجي على طبقه فان كان الدليل على حجية الخبر مثل آية النبأ ونحوها ممّا دلّت على حجية خبر العادل تعبدا وكان عدم حجية ذلك الخبر لأجل فقدانه لما هو المعتبر فيها من العدالة فلا اشكال في عدم حصول الجبر بمجرد الظن الخارجي على طبقه لعدم كونه سببا لتحقق ما هو الملاك من العدالة.

نعم لو كان الدليل على الحجية بناء العقلاء والاجماع وبعض الأخبار ممّا قامت على جواز العمل بالخبر الموثوق الصدور مطلقا ولو حصل الوثوق من الخارج فيصير الظن الخارجي مثل الشهرة على طبق الخبر حينئذ جابرا لضعف

٢٠٨

الخبر وموجبا للوثوق بصدوره المعتبر في حجيته ؛ هذا بحسب السند.

وأمّا بحسب الدلالة : فلو كان خبر مثلا غير ظاهر الدلالة وكانت الشهرة قائمة على العمل به فان قطع منها بقرينة على طبقه وكان عملهم لأجل ذلك بحيث لو ظفرنا به لعملنا به أيضا فلا اشكال ، بل كلّما ازداد الخبر ضعفا ازداد صحة بسبب الشهرة القائمة على طبقه حيث انّ اتفاق المشهور على الخبر الضعيف ـ مع اختلاف آرائهم وقلة اتفاقهم على حجية الخبر الواضح الدلالة فضلا عن ضعيفها ـ يكشف قطعا عن ظفرهم بما لو ظفرنا به لعملنا على طبقه.

وأمّا ان لم يحصل من الشهرة القطع بالقرينة بل الاطمئنان أو مطلق الظن بها بحيث يطمئن أو يظن بمصادفتهم بما يوجب ظهورا للفظ في معنى خاص ، وحاصله بعد ملاحظة الشهرة انّه يطمئن بالظهور أو يظن به فحينئذ لو كان بناء العقلاء على العمل به كما كان يحمل على العمل بما قطع بظهوره فيكون الظن الخارجي جابرا لضعف الدلالة بمعنى انّه يوجب تحقق موضوع بناء العقلاء لا انّه بنفسه حجة كي يرد بأنّه خلاف الفرض ؛ وأمّا لو لم يكن بنائهم إلاّ على العمل بما قطع بظهوره وان شك في المراد كما هو التحقيق فلا يوجب الجبر.

هذا كله في جبر الضعف بالشهرة ونحوها.

وأمّا الكلام في وهن الحجة بالظن على خلافه وعدمه :

امّا بحسب السند : فيبتني على القول بكون حجية الخبر من جهة العدالة فلا يوجب الوهن ، ومن جهة الوثوق فيحصل الوهن ، لارتفاع الوثوق بالخبر بسبب الشهرة على خلافه ؛ هذا ان لم يقطع بظفرهم بما لو ظفرنا به لما عملنا بالخبر وإلاّ فلا إشكال ، ويختلف الحال بحسب [ اختلافه ] (١) ولذلك قيل : « كلما ازداد الخبر

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( اختلاف ).

٢٠٩

صحة لازداد بسبب الشهرة على خلافه وهنا » (١) كما لا يخفى.

وأمّا بحسب الدلالة : ففيما يقطع بالقرينة على خلافه فلا اشكال ؛ وفيما لم يقطع فيبتني حصول الوهن من الشهرة على خلافه وعدمه على كون بناء العقلاء على العمل بالظواهر ما لم يظن على خلافه فيحصل الوهن من جهة ارتفاع موضوع الحجة ، أو على العمل به من باب التعبد أو الظن النوعي. ولو كان ظن غير معتبر على خلافها فلا يحصل الوهن ، لبقاء موضوع الحجة بحاله.

هذا كله من حيث الوهن.

وأمّا الكلام من حيث الترجيح بالظن غير المعتبر في نفسه وعدمه فبعد ما كانت القاعدة بناء على حجية الأخبار من باب الطريقية هي التساقط وعدم حجية كل من المتعارضين في خصوص مضمونه وحجيتهما بالنسبة إلى نفي الثالث سواء كان نفي الثالث مستندا إلى واحد منهما لا بعينه أو إلى كليهما بالنسبة إلى دلالتهما الالتزامية.

وسرّ عدم الحجية هو : عدم دلالة أدلة الاعتبار على الحجية في صورة التعارض وانّ الدليل على الاعتبار في هذه الصورة هو الأدلة المرجحة أو المخيرة كما سيأتي ان شاء الله في باب التعادل والترجيح ؛ فلا بدّ أن تلحظ أدلة المرجحات في أنها هل تدل على الترجيح بمطلق المزية في أحد المتعارضين كانت مفقودة في الآخر فيحصل الترجيح بالظن الخارجي ، أو على الترجيح بالمزايا المنصوصة فلا يحصل الترجيح.

هذا كله بحسب الكبرى في المقامات الثلاث.

__________________

(١) هذا القيل يذكره كثير من المتقدمين والمتاخرين ، لكن لم نعثر له على مصدر ، بل كل من تعرض لهذا المعنى ينسبه الى الى القيل او المشهور او البعض المجهول. راجع على سبيل المثال : المعتبر للمحقق الحلي ١ : ٢٩ مقدمة الكتاب ، الفصل الثالث : في مستند الاحكام.

٢١٠

وأمّا بحسب الصغرى فالتحقيق : انّ الأخبار من حيث السند إنّما تكون حجة إذا كانت موثوقة الصدور ، ومن حيث الدلالة إنّما تكون حجة من باب الظن النوعي وانّ الترجيح [ هو ] بخصوص المرجحات المنصوصة فقط فيحصل الجبر والوهن بالظن المطلق من حيث السند لا من حيث الدلالة ، كما انّه لا يحصل به الترجيح أيضا.

المقام الثاني : في الظن المنهي عنه بالخصوص مثل القياس ونحوه.

فان قلنا : في المقام الأول بعدم حصول الجبر والوهن والترجيح بالظن المطلق فلا إشكال.

وامّا بناء على الحصول فلا بدّ أن تلحظ مع ذلك الأدلة الناهية عن العمل بالقياس أيضا مثل قوله عليه‌السلام : « انّ السنّة إذا قيست محق الدين » (١) وانّ « ما يفسده أكثر ممّا يصلحه » (٢) فان لم يعمّ إلاّ استعمال القياس في الدين على نحو الاستقلال بأن يستنبط منه الأحكام الشرعية فلا اشكال ، وان كان الظاهر منها النهي عن مطلق استعماله في الدين ولو بأن ينجبر به الضعيف أو يوهن به القوي أو كان معقد الاجماع حرمة استعماله كذلك فالظاهر تحكيم الأدلة الناهية عن القياس على أدلة اعتبار الخبر ، فتدبر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٥ الباب ٦ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٢) وسائل الشيعة ٥ : ٣٩٤ الباب ١١ من ابواب صلاة الجماعة ، الحديث ١٤ باختلاف يسير.

٢١١
٢١٢

المقصد السابع

الاصول العملية

٢١٣
٢١٤

المقصد الثالث من مقاصد هذا المختصر : في حكم الشك.

قد عرفت في أوله انّ المكلف المراد به من أنشئ في حقه التكليف ـ سواء صار فعليا وتنجز في حقه أم لا ـ إذا التفت إلى حكم شرعي فامّا أن يحصل له القطع به ، أو قامت عنده الأمارة المعتبرة بالنسبة إليه أم لا ؛ وقد مضى البحث عن أحكام القسمين الأولين على نحو الاختصار وبقي القسم الثالث ، والمرجع فيه ما دل عليه العقل أو عموم (١) النقل من القواعد.

ولا يخفى انّ ما يجري منها في الشبهات الحكمية في جميع أبواب الفقه بلا اختصاص بباب دون باب أربعة ، وان كانت القواعد في الشبهات الموضوعية أو المختصة بباب دون باب كثيرة.

وانحصار القواعد الجارية في مطلق الشبهات الحكمية في أربعة وهي البراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير إنّما هو بحكم الاستقراء وان كان الحصر بين مجاريها الفعلية للاصول الأربعة عقليا دائرا بين النفي والاثبات ؛ والحصر العقلي إنّما هو بين كل من المجاري بالنسبة إلى الآخر وإلاّ فربما يشتمل كل منها على أقسام أيضا.

ثم انّ تحديد موارد الاصول الأربعة بعبارة حاصرة غير سالمة عن انتقاض كل منها بآخر منها طردا وعكسا ، غير مهم ، مع انّه لا يترتب عليه الأثر ، فالأولى

__________________

(١) والتقييد به لدفع إيراد عدم جريان الاستصحاب في الشكوك الصلاتية فانّه قد قيّد بقوله : « فابن على الأكثر » ( وسائل الشيعة ٥ : ٣١٨ الباب ٨ من ابواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣ ). منه قدس‌سره

٢١٥

تعيين المجرى الفعلي لكلّ منها على حدة بملاحظة ما اعتبر فيها من الشرائط على الاجمال ثم التحديد بعبارة حاصرة سالمة عن الانتقاض ان تيسّر وإلاّ فليس بلازم أصلا.

فنقول : انّ مجرى البراءة الفعلية هو أن يكون الشك في أصل التكليف الالزامي ولم يكن في البين حالة سابقة كانت موردا للاستصحاب ولا ما يحسن معه العقاب عقلا على التكليف المشكوك كما لو كان في الشك قبل الفحص سواء أمكن فيه الاحتياط كما فيما دار الأمر بين الوجوب وغير التحريم ، أو بين التحريم وغير الوجوب أو لا كما فيما دار الأمر بين الوجوب والتحريم والاباحة مثلا.

وأمّا الاحتياط : فيتوقف على أحد أمرين على سبيل الانفصال مانعة الخلو : اما ان يكون الشك في التكليف مع ما يحسن معه العقاب عقلا على التكليف المشكوك كما في الشك في التكليف قبل الفحص ، أو يكون الشك في المكلف به ولا بدّ أن لا يكون فيهما حالة سابقة يجري فيها الاستصحاب.

أمّا في الأول : كما لو قلنا بجريان الاستصحاب قبل الفحص مع الحالة السابقة.

وامّا في الثاني : فكما لو دار الوجوب أو الحرمة بين الشيئين أو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر مع كون الحالة السابقة وجوب أحدهما أو حرمته وقلنا بثبوت المقتضي للاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي فانّه حينئذ يجري فيه الاستصحاب وينحل العلم الاجمالي بالتفصيلي والشك البدوي ، دون ما إذا كانت الحالة السابقة نفي التكليف في أحد الشيئين أو قلنا بعدم المقتضي للاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي كما لا يخفى.

وأمّا مجرى التخيير : ففيما لو دار الأمر بين المحذورين ، أي الوجوب

٢١٦

والحرمة في الشيء الواحد مع عدم الحالة السابقة لوجود أحدهما ، فانّه معه يخرج عن الدوران.

وأمّا مجرى الاستصحاب : فيتوقف على تحقق الحالة السابقة للمشكوك وجودا أو عدما. امّا في الشك في التكليف فلا يتوقف على شيء آخر أصلا إلاّ على الفحص بناء على اعتباره ؛ وأمّا في الشك في المكلف به :

فلو كانت الحالة السابقة ، للتكليف ، فيتوقف على ثبوت المقتضي له في أطراف العلم الاجمالي.

وأمّا لو كانت الحالة السابقة ، لنفيه ، فيتوقف على تحقق المقتضي مع عدم كون العلم الاجمالي بالتكليف مانعا عقلا كما على القول بكونه مقتضيا للتنجز لو لا المانع ؛ وأمّا لو كان مانعا عقلا كما لو قلنا بكونه علة تامة للتنجز فلا يجري فيه الاستصحاب هذا بناء على التحقيق من جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي والمزيل ، وفي الوجودي والعدمي وغيرها ؛ وامّا بناء على التفاصيل المذكورة في بابه فيتوقف أخذ كل ما اشترط في جريانه على اختلاف التفاصيل في تحديد مجراه. كما انّ ما ذكر كان مجرى للاصول على نحو الاجمال وامّا على التفصيل فيأتي مجرى كل واحد في بابه.

إذا عرفت ما ذكرنا فلا بدّ من التكلم في مقامات ثلاث :

أحدها : في الشك في التكليف غير الملحوظ فيه الحالة السابقة.

والثاني : في الشك في المكلف به وهو على قسمين : لأنّه : امّا كان ممّا أمكن فيه الاحتياط فيكون مجرى الاحتياط ؛ أو لا ، فمجرى التخيير.

والثالث : في الاستصحاب.

٢١٧

اصالة البراءة

امّا [ المقام ] الأول : فيكون مجرى البراءة بالشروط المذكورة.

اعلم : انّه لمّا جعل في الفرائد (١) التكليف المشكوك هو النوع منه ، وهو اما تحريم مشتبه بغير الوجوب أو وجوب مشتبه بغير التحريم أو مردد بينهما ، فجعل مباحث الشك في التكليف في مطالب ثلاثة. ولمّا كان منشأ الشبهة في كل منها امّا : فقدان النص أو اجمال النص أو تعارض النصين أو اشتباه الامور الخارجية ، فجعل مباحث كل من المطالب في مسائل أربع.

ولكن الأولى أن يجعل الشك في المقام في أصل الالزام إيجابا كان أو تحريما ويكون المردد بينهما حينئذ داخلا في الشك في المكلف به ، ولكنه لمّا كان ممّا لا يمكن فيه الاحتياط فيحكم فيه بالتخيير ويخرج عن أقسام الشك في التكليف ، ولمّا كان القسمان الأولان مشتركين في كون الشك فيهما في أصل الالزام فيجعلان مطلبا واحدا فينحصر مباحث الشك في التكليف في مطلب واحد وهو الشك في الالزام سواء كان متعلقا بالوجود أو الترك وان كان قسم منه وهو الشك في التحريم مختلفا فيه بين الاصولي والاخباري وهو لا يوجب تعدد المسألة بل تفصيلا فيها.

كما انّ الأولى ان يجعل مباحث الشك في الالزام في مسألة واحدة كي لا

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ١٧.

٢١٨

تتكثر الأقسام ويسهل الضبط.

بيانه : أنّ الشبهة الموضوعية خارجة عن مباحثه حيث انّ الشك فيه ليس في التكليف بل في موضوعه للاشتباه في الامور الخارجة غير الراجعة إلى الشارع مع انّ البحث عن حكمه كان داخلا في المسائل الفرعية حيث انّ البحث فيه [ هو ] عن تعيين حكم المشتبه بما هو مشتبه الذي كان من أفعال المكلف والبحث عن حكمها بلا توسيط كان من وظيفة الفقيه.

لا يقال : انّ البحث عن الاصول العملية ليس من مسائل الاصول أيضا لعدم وقوعها في طريق استنباط الحكم الفرعي الواقعي ولا بدّ من كونها كذلك.

لأنّا نقول : انّ مسائل الاصول أعمّ من كونها ممّا يجدي المجتهد في طريق الاستنباط بأن يعملها في طريق استنباطه للحكم الشرعي أو ممّا ينتهي إليه [ و ] يستريح إليه ويعتمد إليه في مقام العمل بعد الفحص وعدم الظفر بحكمه الواقعي ، ومفاد الاصول كذلك كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا ظهر : انّ الوجه عدم إدراج الشبهة الموضوعية في المسائل في كل من المطالب ، بل الوجه البحث عنها في مسألة واحدة للجميع استطرادا من دون تكرار في البحث.

وأما مسألة تعارض النصين :

فان قلنا : انّ القاعدة فيها بعد التعارض هو الترجيح لو كان وإلاّ فالتخيير بالأخبار الدالة على الترجيح والتخيير بأن تكون تلك الأخبار دليلا على حجية الخبر تعيينا أو تخييرا في مورد التعارض بعد عدم دلالة الأدلة المطلقة على الحجية في تلك الحالة لا على كليهما على نحو التعيين ولا على واحد كذلك ، ولا معنى لحجية المردد مع كون التخيير موجبا لاستعمالها في المعنيين وحينئذ فتخرج مسألة التعارض عن البراءة المفروض فيها عدم الدليل ، لكونها حينئذ ممّا قام فيها

٢١٩

الدليل.

وان قلنا : انّ القاعدة الاولى تساقط الخبرين عن الحجية في خصوص مضمونهما وان كان الواحد منهما لا بعينه أو كلاهما حجة في نفي الثالث فيندرج موردهما بالنسبة إلى حكم المسألة بخصوصه فيما لا نص فيه فتكون من تلك المسألة لا مسألة على حدة.

وامّا مسألة اجمال النص : فتشترك مع فقدان النص في عدم حجة معتبرة على الحكم وان كان منشؤه في إحداهما الاجمال وفي الاخرى الفقدان ، لكنه لا يوجب انعقاد مسألتين.

كما انّ توهم الفرق بينهما بالذهاب إلى الاحتياط في صورة الاجمال والبراءة في صورة الفقدان كما عن بعض لأجل كون الشك في صورة الاجمال في المحصّل كما في مسألة الغناء كما سيأتي لا يوجب له ذلك أيضا وان كان يوجب التفصيل في المسألة الواحدة.

فالأولى عقد مسألة واحدة للبراءة والتعرض لأدلتها ، ثم التعرض لخصوصياتها المختلف فيها.

إذا عرفت ما ذكرنا فقد ذهب المجتهدون إلى البراءة في مطلق الشك في الالزام واستدلوا عليه بالأدلة الاربعة.

فمن الكتاب آيات :

منها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ). (١)

وجه الاستدلال : ان يراد بالموصول الحكم ويجعل الايتاء بعد استعماله في معناه الحقيقي وهو الاعطاء كناية عن الاعلام ، أو يراد منه الأعم من الحكم ومن

__________________

(١) سورة الطلاق : ٧.

٢٢٠