تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

قلت : انّ ما ذكرنا من عدم جعل الحكم المولوي إنّما هو فيما إذا رجع الجعل إلى نفس الحكم العقلي وهو وجوب الاطاعة الظنية مع بقاء موضوعه وهو عدم التمكن من العلم والعلمي حيث انّه مع بقاء التكليف وعدم التمكن منهما يستقل العقل بوجوب الاطاعة الظنية لا فيما إذا رجع الجعل إلى الموضوع بأن ينقلب ويصير معه الاطاعة علميا وإلاّ فهو بمكان من الامكان ويصير الامتثال بمجرد جعل الشرع الطرق علميا ويكون الحكم بوجوب الاطاعة العلمية أيضا عقليا لا شرعيا إلاّ ارشاديا.

إذا عرفت ما ذكرنا ما هو التحقيق من التقريرين فاعلم : انّهما يختلفان من حيث التعيين والاهمال موردا ومرتبة وسببا ، ومن حيث التعيين أيضا عموما وخصوصا.

بيانه : انّ النتيجة بناء على الحكومة سواء كان من جهة حكم العقل بحجية الظن أو من جهة حكمه باختيار العمل بالظن من باب التبعيض لا بدّ من كونها معيّنة ولا يكاد أن تكون مهملة لعدم الاهمال في حكم العقل لكون موضوعه وما هو ملاك حكمه معيّنا.

إلاّ انّه تختلف الجهات الثلاثة المذكورة بناء عليها عموما وخصوصا.

امّا من حيث الموارد فقد قيل : ـ كما في الفرائد (١) ـ بالعموم ، لاستقلال العقل بعدم الفرق في باب الاطاعة والمعصية بين واجبات الفروع من أول الفقه إلى آخره ولا بين محرماتها.

لكنه : يمكن الفرق بعد بطلان الاحتياط الكلي والرجوع إلى الاصول في جميع الموارد بين المسائل بالاطاعة في بعضها بالاحتياط الشخصي ، وفي بعضها

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٦٧.

١٨١

بالظن ، أو في بعضها بالظن وبعضها الآخر بالرجوع إلى الاصول حسب اختلافها في كشف اهتمام الشارع في بعضها كما في الدماء والفروج وعدم الاهتمام في بعضها الآخر كما في باب الطهارة والنجاسة مثلا ؛ وهذا الاختلاف يتصور :

سواء قلنا بأنّ العمل بالظن من جهة التبعيض في الاحتياط وبقاء أثر العلم الاجمالي ، لأنّه كما يمكن التبعيض بحسب الظن والوهم برفع اليد عن الاحتياط في الثاني يمكن التبعيض بحسب اختلاف الموارد من حيث الاهتمام وعدمه فيجب الاحتياط في الأول ولو كان التكليف موهوما دون الثاني ولو كان مظنونا.

أو قلنا به من جهة كشف ايجاب الاحتياط دفعا لنقض الغرض بعد ارتفاع تأثير العلم الاجمالي ، بل الاختلاف في الثاني أوضح من الأول ، كما لا يخفى.

لا يقال : الاختلاف كيف يعقل بعد البناء على كون منجّز الانسداد هو حجية الظن.

لأنّا نقول : هذا بعد التنزل عن اثبات مطلق الظن بنفس الانسداد والاحتياط في التعميم إلى أمر خارج وهو عدم الفرق بين الموارد بناء على الحكومة فيكفي في الرد احتمال الفرق بين الموارد ، كما لا يخفى.

[ و ] أمّا من حيث المراتب فلا ريب في كون المعيّن في نظر العقل الأخذ بالظن الأقوى على تقدير الكفاية لكونه أقرب عنده من غيره فكما انّ الأقربية عنده موجبة لاختيار الظن دون غيره موجبة للأقوى أيضا لوحدة الملاك. نعم مع عدم الكفاية لا بدّ من التعدي.

وامّا من حيث الأسباب : فلا اشكال في العموم في نظر العقل من هذه الجهة وعدم الفرق في نظره بين الأسباب فيما هو المهمّ عنده من مراعاة الواقع بالأخذ بما هو أقرب إليه وهو الظن بلا خصوصية في حصوله من سبب خاص دون غيره وان كان يحتمل ذلك لو كانت الحجية من قبل الشارع ؛ ولا فرق بين كون الأسباب

١٨٢

مظنونة الاعتبار أو لا لعدم إيراث الظن بالاعتبار كون الظن الحاصل منه أقرب إلى الواقع في نظر العقل كما هو المهم عنده. نعم لو صار الظن بالاعتبار موجبا لأقوائية الظن فيكون متعيّن الأخذ من هذه الجهة.

هذا كله حال النتيجة بناء على الحكومة.

وأمّا بناء على الكشف فمن حيث الموارد فقد ادعي كما في الفرائد (١) الاجماع على عدم الفرق في العمل بالظن بين أبواب الفقه. ولكنه لا يخفى انّ دعوى الاجماع فيها بناء على الكشف وان لم يكن مثلها بناء على الحكومة في عدم تحقق موضوع الاجماع رأسا ولم يخرج الظن المطلق بسببه عن كون حجيته بدليل الانسداد وصيرورته ظنا خاصا ، لكون الاجماع على الملازمة بين الموارد في حجية الظن لا على أصل الحجية بل الدليل عليه هو دليل الانسداد ؛ إلاّ أنّ هذه المسألة لمّا كانت من المستحدثات بين المتأخرين مع كون الطريق العقلي وهو مقدمات الانسداد في البين فكيف يدّعى الاجماع القطعي الكاشف عن تعبد قطعي عن المعصوم عليه‌السلام ، فالتحقيق : أنّه على تقدير الاتفاق لا يكشف منه تعبد منه عليه‌السلام خصوصا مع اشتراك تقرير الكشف مع الحكومة في المقدمات.

وامّا من حيث الأسباب والمراتب : فيبتني الاهمال والتعيين عموما وخصوصا على استكشاف كون النتيجة هو الحجة مطلقا ولو لم تصل بنفسها ولا بطريقها كما هو مبنى المعمّم الثالث وهو الاحتياط ـ على ما سنشير إليه ـ فيتأتّى الاهمال أو كون النتيجة واصلة بنفسها أو مطلقا ولو بطريقها كما هو مبني المعمّمين الأوّلين كما سيظهر [ فيما يأتي ] (٢) فلو كانت النتيجة هو الحجة غير الواصلة فلا بدّ من الاحتياط أولا ثم على تقدير عدم التمكن منه التنزل إلى حكومة العقل ثانيا كما

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٦٧.

(٢) في الاصل المخطوط ( آنفا ).

١٨٣

لو قلنا بالحكومة ابتداء وأمّا لو كانت النتيجة حجة واصلة بنفسها فيستقل العقل بالتعيين ابتداء على نحو العموم أو على نحو الخصوص من دون اجراء مقدمات انسداد على حدة. نعم لو كانت النتيجة واصلة ولو بطريقها فلا بدّ من اجراء مقدمات انسداد على حدة في الطرق مرة أو مرارا حتى ينتهي الأمر إلى الظن الواحد أو المتعدد المتساوي أو المختلف غير الكافي بمعظم الفقه الا المجموع وإلاّ فمع الاختلاف وكفاية البعض لا بد من اجراء مقدمات الانسداد أيضا لتعيين الطريق.

ولا يخفى انّ النتيجة في كل من هذه الوجوه المقررة على الكشف مهملة ابتداء وغير معيّنة بنفس المقدمات وإنّما كان التعيين في ضمن العموم أو الخصوص بضميمة حكم العقل ثانيا.

إذا عرفت ذلك فقد ذكر للتعيين على وجه العموم وجوه :

الاول : عدم المرجح لبعضها على بعض فيثبت التعميم ، لبطلان الترجيح بلا مرجح ؛ والاجماع على بطلان التخيير والتعميم بهذا الوجه يبتني على كون الحجة واصلة بنفسها ، وإلاّ لما كان لاثبات حجية كل ظن بمجرد عدم الترجيح وجه ، كما انّه يتمّ بذكر ما يصلح أو ذكر وجها للترجيح وابطاله وهي وجوه :

الاول : أن يكون بعض الظنون متيقنا بالنسبة إلى بعض آخر بالاجماع أو بالقطع مطلقا بمعنى تحقيق الاجماع على انّه لو كان ظن حجة بدليل الانسداد لكان الظن الفلاني ، مثل الخبر الصحيح المزكّى رواته بعدلين المعمول به عند الأصحاب غير الموهون بشيء من المعارضات حجة أيضا ، ولا يخرج الخبر المذكور بواسطة هذا الاجماع عن الظن المطلق الثابت حجيته بدليل الانسداد إلى الظن الخاص لأنّ الاجماع إنّما هو على الملازمة بين حجية ظن بدليل الانسداد وحجية ظن خاص ؛ والاجماع على الملازمة ليس دليلا على وجود اللازم بل الدليل عليه هو الدليل

١٨٤

على وجود الملزوم وهو مقدمات الانسداد فلا يخرج حجية الخبر المذكور مثلا عن الظن المطلق.

ولا بد من كون القدر المتيقن كافيا بالفقه ولو بضميمة المتيقن الاضافي مع عدم المانع عن حجيته من علم اجمالي بمخصص مثلا بالنسبة إليه في غيره وإلاّ فلا يثمر كونه قدرا متيقنا في الاقتصار عليه من بين الظنون. نعم لو كان كافيا مع عدم محذور في العمل به فلا ريب في كونه سببا للتعيّن بناء على كون النتيجة هو الحجة الواصلة بنفسها حيث انّه يكون بدليل الانسداد بضميمة الاجماع المذكور متيقن الحجية وغيره مشكوك الحجية فيبقى تحت الأصل. فالكلام في هذا المرجح إنّما هو في تحقق الصغرى وهو يختلف بحسب الأحوال والأشخاص وأمّا الكبرى فلا إشكال فيه.

الثاني : أن تكون بعض الظنون أقوى من بعض وقد ذكر كونه مرجحا للقضية المهملة.

ولكنه إنّما يكون كذلك بناء على كون النتيجة هو الحجة الواصلة بنفسها فحيث انّه لا معيّن في البين من قبل الشارع فيعلم انّ التعيين مفوض إلى العقل ، ومن المعلوم انّ الأقوائية ممّا يتطرق إليه العقل في مقام التعيين فيكون غيره مشكوك الحجية أيضا. نعم بناء على عدم لزوم وصول الحجة بنفسها أو مطلقا ولو بطريقها فلا وجه للتعيّن لو كان غير مظنون الاعتبار على الأول أو ولو لم يكن غيره أيضا مظنون الاعتبار على الثاني لاحتمال كون الحجة غير الأقوى وبقي في ورطة الاهمال ، وهذا بخلاف القدر المتيقن بالاجماع على الملازمة فانّه يكون متيقنا على جميع الاحتمالات من حيث الوصول وعدمه حيث انّ تيقنه ليس بالعقل حتى يفرق الصور بنظره.

١٨٥

ومن هنا ظهر انّ ما أورده الشيخ قدس‌سره في الفرائد (١) على هذا المرجح من أنّ كون الأقوى متيقنا إنّما هو بناء على الحكومة وأمّا على الكشف فلا لاحتمال كون المجعول حجة هو غيره ، إنّما يصح بناء على عدم لزوم وصول الحجة المجعولة بنفسها وأمّا بناء عليه فلا اشكال في كونه مرجحا كما عرفت. نعم لا بدّ من الاقتصار على الأقوى فالأقوى حتى ينتهي إلى قدر الكفاية ؛ وحيث انّ في كل مسألة لا بد من التجسس إلى أن يتحقق ظن لا يوجد فوقه آخر في تلك المسألة لا في مسألة اخرى فلا يشكل الاقتصار على الأقوى كما في الفرائد (٢) بعسر الانضباط.

الثالث : أن يكون بعض الظنون مظنون الحجية دون غيره وحينئذ :

فان قلنا : بعدم لزوم وصول الحجة المجعولة أصلا لا بنفسها ولا بطريقها بلا اشكال في عدم كون الظن بالاعتبار مرجّحا لاحتمال كون المجعول واقعا غيره والفرض عدم لزوم الوصول فلا بدّ من الاحتياط أولا ثم التنزل إلى حكومة العقل ثانيا.

وان قلنا : بكون الحجة واصلة ولو بطريقها فلا بدّ من اجراء مقدمات انسداد اخرى لاثبات حجية الظن بالاعتبار مرة أو مرارا حتى ينتهي إلى ظن واحد بالاعتبار أو ظنون متعددة متساوية أو مختلفة غير كافية بمعظم الفقه إلاّ المجموع من حيث المجموع ، وأمّا ان كانت مختلفة وكان كل منها كافيا بالفقه فلا بد من اجرائها أيضا كما عرفت.

وأمّا بناء على لزوم وصول الحجة بنفسها لا بطريقها ففي كون الظن بالاعتبار مرجحا للقضية المهملة وعدمه وجهان.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٤٧٥.

١٨٦

فعن غير واحد الأول.

وأورد عليه الشيخ قدس‌سره في الفرائد (١) بما حاصله : انّ الترجيح كالحجية يحتاج إلى دليل بالخصوص يدل عليه ، وحيث انّه لا يجدي مقدمات الانسداد إلاّ في حجية نفس الظنون المتعلقة بحكم المسائل لا في حجية طريقها والفرض عدم جريان مقدمات اخرى في الطريق لعدم كون وصول الحجة بالطريق بل بنفسها ، فلا وجه لحجية الظن بالاعتبار فيبقى تحت الأصل ، فلا يكون الظن المظنون الاعتبار متيقنا بالنسبة إلى غيره بل احتمال حجيته بالخصوص معارض بحجية غيره بالخصوص لعدم مزية كلّ منهما بنفسه على الآخر ولا اعتبار بطريقه فيكون الحجة عند العقل هو الكلّ مع فرض لزوم الوصول بنفسها ؛ وما ذكر انّ الحجة والمعيّن يحتاج إلى الدليل دون المرجّح لا وجه له ، مع انّ الترجيح في المقام يرجع إلى التعيين أيضا كما لا يخفى.

والحاصل : انّ الظن بالاعتبار ما لم يقطع بحجيته لا يخرج عن الظن ولا يوجب صيرورة متعلقه متيقن الحجية لعدم خصوصية في متعلقه بنفسه ؛ والمزايا الواقعية كما يحتمل أن يتحقق فيه يحتمل ان يتحقق في غيره ايضا ؛ ولا فرق بين الترجيح والتعيين في احتياج كل منهما الى الدليل.

ولكنه لا يخفى انّ المظنون الاعتبار بناء على لزوم وصول الحجة بنفسها وان لم يكن متيقنا عند العقل بالنسبة الى غيره مع قطع النظر عن دليل الانسداد إلاّ انه بملاحظته يمكن ان يكون كذلك حيث ان الوصول لا بد ان يكون بنظره ، ومن المعلوم عدم خصوصية ومزية في غيره حتى يكون متيقنا وأمّا هو فيكون بسبب الظن باعتباره وان لم يكن بحجة أقرب إلى الحجية من غيره وبسبب هذه المزية

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٧٤.

١٨٧

يراه العقل عند الدوران بينه وبين الجميع متيقن الوصول والحجية وغيره مشكوك الحجية فيؤخذ به لتيقنه ولا يتعدى إلى غيره لكونه مشكوك الحجية.

وملخص الكلام فيما ذكرنا انّه :

بناء على كون النتيجة هو الحجة الواصلة بنفسها لا بدّ من الترجيح بالقدر المتيقن أولا ، سواء كان من جهة الاجماع على الملازمة أو من جهة الأقوائية أو من جهة الظن بالاعتبار ، ثم التعميم ثانيا.

وبناء على كونها واصلة ولو بطريقها فان كان متيقنا من جهة الاجماع فيؤخذ به وإلاّ :

فان كان كلّ منها متساويا من حيث الظن بالاعتبار وعدمه فيؤخذ بالعموم.

وإلاّ فان كان كل منها مختلفا مع الآخر من هذه الجهة فلا بدّ من اجراء مقدمات انسداد اخرى حتى ينتهي إلى ظن واحد بالاعتبار أو متعدد متساوي.

نعم لو كان بين طرق الظنون قدر متيقن بالاجماع كاف يؤخذ به أيضا بلا اجراء المقدمات وبناء على عدم لزوم الوصول فيؤخذ بالمتيقن بالاجماع لو كان ، وإلاّ فيحتاط ، وإلاّ فيتنزل إلى حكومة العقل.

الثاني من طرق التعميم : ما سلكه غير واحد من انّ مظنون الاعتبار وان كان متيقنا فلا بدّ من أن يقتصر عليه أوّلا ، إلاّ أنّه لا بدّ من التعدي إلى المشكوك ثانيا أيضا ، امّا لعدم كفاية المظنون بالفقه ، أو للعلم الاجمالي بمخصصات بالنسبة إليه في غيره فلا بدّ من الأخذ بالمشكوك أيضا ؛ ثم لا بدّ من التنزل إلى الموهوم ثالثا للوجه المذكور.

ولكنه لا يخفى انّه لا بدّ من الترديد بانّه لو كان النتيجة هو الحجة ولو لم يصل فلا وجه للأخذ بالمظنون وان كانت واصلة ولو بطريقها فلا وجه للأخذ به بنفس مقدمات الانسداد الأولى ، بل لا بدّ من اجرائها ثانيا كما لا يخفى. نعم لو كانت

١٨٨

واصلة بنفسها فالاقتصار بالمظنون في محله ، إلاّ أنّه لا وجه للتعدي بسبب العلم الاجمالي ، لعدم العلم الاجمالي بمخصّصات بالنسبة إلى المظنون الاعتبار في غيره كي يوجب التعدي ؛ وعلى فرض مثل هذا العلم الاجمالي في المشكوك لا يسلّم في الموهوم ، فلا وجه للتعدي إلى مطلق الظن.

الثالث من طرق التعميم : ما حكاه شيخنا العلاّمة (١) أعلى الله مقامه عن بعض مشايخه (٢) من قاعدة الاشتغال بناء على انّ الثابت من دليل الانسداد هو حجية الظن في الجملة فإذا لم يكن قدر متيقن في الفقه وجب العمل بكلّ ظن.

ولكنه عرفت مرارا انّ التعميم بهذا الوجه يبتني على كون النتيجة هو الحجة غير اللازم الوصول ولو بطريقه كما انّه يبتني على عدم المتيقن الكافي في الفقه المجمع على الملازمة بين حجيته وحجية شيء بدليل الانسداد وإلاّ لما وصلت النوبة إلى الاحتياط ، ثم بعد وصول النوبة إليه فان لم يمكن ذلك وجب التنزل إلى حكومة العقل من العمل بكل ظن كان يعمل به على تقدير تقرير مقدمات الانسداد على الحكومة ابتداء ؛ هذا كله على تقرير المقدمات على نحو الكشف.

والتحقيق انّه :

بناء عليه تكون النتيجة هي الحجة الواصلة بنفسها أو بطريقها ، فلا بدّ من العمل بالمتيقن في البين لو كان بأسبابه التي عرفت ثم التعميم لو لم يكن بين الظنون اختلاف من جهة الأسباب ، وإلاّ فلا بدّ من اجراء مقدمات انسداد اخرى لتعيين الحجة منها.

وامّا بناء على الحكومة فلا اشكال في الاقتصار على الأقوى على تقدير الكفاية وعلى تقدير عدمها فلا بدّ من التعميم ؛ وأمّا من حيث الأسباب فلا فرق في

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٩٧.

(٢) وهو شريف العلماء ؛ لاحظ ضوابط الاصول : ٢٥٥ السطر ٢٢ قوله : « وخامسا ».

١٨٩

نظره بينها أصلا.

تذنيبان :

الاول : انّه لا اشكال في خروج الظن القياسي بناء على تقرير المقدمات على نحو الكشف ؛ وأمّا بناء على حكومة العقل فيشكل.

بيانه : ان حكم العقل بحجيته مطلقا أو بحجية مرتبة خاصة منه وهو الاطمئناني منه مثلا وانّه ليس للشارع التكليف بما زاد منه ويقبح على المكلف الاكتفاء بما دونه بالعمل به من جهة التبعيض في الاحتياط ليس إلاّ من جهة كشفه الناقص عن الواقع وأقربيته إلى الواقع عن غيره بلا خصوصية بين حصوله من سبب دون آخر لعدم تفاوت الأسباب فيما هو ملاك الاطاعة في حال الانسداد من الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع ، وحينئذ فان حصل من القياس هذا الانكشاف الذي لا اشكال في حجيته إذا حصل في غيره فيشكل في خروج هذا الظن عن الحجية وفي المنع عنه ، لاستلزامه تخلف العلة وهو الانكشاف والأقربية عن معلوله وهو الحجية حيث انّه لا ملاك عند العقل للحجية غير الأقربية بلا دخل لخصوصيات الأسباب عند العقل أصلا ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بالحجية الشرعية من باب الكشف لاحتمال دخل ملاكات اخرى في الحجية وعدمها واقعا غير الانكشاف الكاشف عنها الأمر والنهي.

وزاد في الفرائد (١) في تقرير الاشكال : بأنّه لو فرض المنع عن القياس ممكنا لجرى احتماله في غيره أيضا فلا يستقل العقل بالحجية لاحتمال المنع واقعا ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلاّ قبح ذلك على الشارع اذ احتمال صدور الممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلاّ بقبحه ، وهذا من افراد ما اشتهر من « انّ الدليل

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥١٦ ـ ٥١٧.

١٩٠

العقلي لا يقبل التخصيص ».

ولكن في هذه الزيادة نظر ، حيث انّه قدس‌سره بعد ذلك يتصدى في دفع القبح عن النهي عن القياس فيرد عليه ما استشكل من ان العقل لا يستقل في غيره ايضا لاحتمال النهي بعد ارتفاع الصحيح ؛ فان أجاب : باستقلال العقل مع الاحتمال أيضا أي ما لم يقطع بالنهي كما صرح به فيما بعد ، فيرد عليه : بأنّه مع استقلال العقل مع عدم القطع بالنهي ؛ فلا توجب هذه الزيادة مزيد الاشكال ويكون ضمّه إليه غير مفيد أصلا.

ثم انّ مناط الاشكال لمّا كان هو قبح الارجاع من الأقرب ـ وهو الظن ـ إلى غيره من الشك والوهم فلا اختصاص له بالنهي عن الأمارة المفيدة للظن بل يرد على الأمر بالأمارة غير المفيدة للظن في مقابل الظن لتحقق مناط الاشكال من قبح ترجيح المرجوح على الراجح فيه أيضا كما لا يخفى ، ومع ذلك فلم يصر أحد بصدد اجراء الاشكال فيه.

وتوهم : عدم وقوع الأمر بخلاف النهي ، مدفوع : مضافا إلى انّ الاشكال في امكانه في مقام الثبوت ولو لم يقع في مقام الاثبات أصلا ؛ انّه لا اشكال في وقوع الأمر بالأمارة غير المفيدة للظن ولو في خصوص ما كان منها على خلاف القياس في مورده.

فان اجيب : بأنّ حكم العقل بحجية الظن فيما لم يكن أمارة معتبرة في البين كما هو احدى المقدمات ، وأمّا معها فلا حكم للعقل بحجية الظن أصلا لانفتاح باب العلمي معها.

فيقال : بأنّ النهي مثل الأمر في انفتاح باب العلمي معه فانّ مع كلّ منهما يحصل القطع بحجية الأمارة وعدمها ، فيكون العمل بالأمارة علميا وجودا وعدما ، ومع العلمي لا مجال للظن أصلا إذ لا اشكال في تقديم العلمي على الظن عند العقل

١٩١

كما هو واضح. نعم لا بدّ من تصحيح كل من الأمر والنهي في حال الانسداد امّا بالمصلحة والمفسدة في مؤداهما أو بغلبة مطابقة الأمارة المأمور بها للواقع ومخالفة المنهي عنها له أو بمصلحة في نفسهما ، وهذا لا دخل له بالاشكال في المقام ، حيث انّه لا بدّ من تصحيح الأمر والنهي باحدى الجهات المذكورة ولو كانا في غير حال الانسداد.

فمن هنا ظهر انّ الاشكال من وجهين :

أحدهما مختص بالمقام وهو : انّ كلا من الأمر بالأمارة غير المفيدة للظن في مقابل الظن والنهي عن المفيدة له مستلزم لتخصيص حكم العقل بحجية الظن من جهة كونه أقرب إلى الواقع من غيره وقبح ترجيح غيره عليه.

والجواب عنه : انّ حكم العقل بحجية الظن معلق على عدم طريق علمي في البين إثباتا ونفيا ، ومن المعلوم انّ الأمارة بمجرد الأمر بها أو النهي عنها يصير علميا ويكون حصول الأمن من العقاب به وعدمه قطعيّا فيخرج عن موضوع حكم العقل بحجية الظن كما هو واضح فلا مجال للاشكال حينئذ ، لرجوع الاشكال في النهي عن القياس المستلزم للأمر بالأمارة في مورده إلى الاشكال في جعل المرتبة الثانية للامتثال وهو العلمي مع وجود المرتبة الثالثة وهو الظني وهو واضح الفساد.

ومن هنا ظهر انّ اشكال النهي عن أمارة أو الامر بها في حال الانسداد أوهن من اشكال جعل الطرق في حال الانفتاح حيث انّ الجعل هناك في جعل المرتبة الثانية مع التمكّن عن المرتبة الاولى للامتثال وربما لا يخلو عن اشكال ، وهاهنا كان في جعل المرتبة الثانية مع التمكن عن المرتبة الثالثة ولا اشكال فيه.

ثانيهما غير مختص به وهو : انّ كلا من الأمر بالأمارة والنهي عنها لا بدّ من اشتماله على مصلحة وبدونه لا يكاد يصح وهو لا يختص بمقام دون مقام

١٩٢

وبخصوص حال الانسداد بل يجري حال الانفتاح أيضا.

ومن هنا ظهر انّ الجواب عن الاشكال في المقام من قبح ترجيح غير الظن عليه لاستلزامه التخصيص في حكم العقل ينحصر في انّ حكم العقل كان على نحو التعليق بعدم المنع ؛ وبعبارة اخرى : انّه معلق على عدم انفتاح باب العلمي ومع النهي ينفتح باب العلمي سواء كان من جهة استكشاف حجية الاصول في مورد الأمارة المنهي عنها أو من جهة القطع بعدم حجيتها فيكون الأمن من العقاب بالعمل على خلافها وعدم الأمن منه بالعمل عليها قطعيا ؛ وبعبارة اخرى : يكون باب العلم بعدم حجية الأمارة مفتوحا ومعه لا حكم للعقل فيها.

وأمّا ما أورده الشيخ رحمه‌الله (١) على هذا الجواب : من انّه لا كلام في وجوب الامتناع عن القياس بعد منع الشارع إنّما الكلام في توجيه صحة نهي الشارع عن العمل به مع انّ موارده وموارد سائر الأمارات متساوية ، ففيه :

انّ الاشكال في تصحيح النهي إنّما هو بالنسبة إلى الاشكال الثاني وقد عرفت عدم ارتباطه بالمقام ، لا بالنسبة إلى الاشكال الأول وهو لزوم التخصيص في حكم العقل من قبح الارجاع إلى غير الأقرب مع وجوده ، وإلاّ فالجواب عنه منحصر بالتعليق والخروج الموضوعي ؛ حتى انّه مع ما ذكره قدس‌سره في تصحيح النهي من الالزام بالمفسدة في مؤدى القياس أو بكثرة المخالفة للواقع لا محيص عن الجواب بالتعليق أيضا كي يخرج النهي عن كونه تخصيصا في حكم العقل.

وأمّا ما اجيب عن اشكال القياس : بعدم المنع عنه في حال الانسداد واختصاصه بحال الانفتاح أو بعدم افادته بعد ملاحظة النهي عنه للظن ، فمندفع :

بأنّه ليس جوابا عن الاشكال بعد فرض النهي عنه في حال الانسداد

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥٢٩ ـ ٥٣١.

١٩٣

وحصول الظن منه كما هو الظاهر المحقق ، بل تسليم له ، غاية الأمر انّه منع لتحقق موضوع الاشكال ، وهو واضح الفساد.

وأمّا ما أجاب به الشيخ رحمه‌الله : (١) من توجيه المنع بالمفسدة في مؤدى القياس أو بكثرة مخالفته وان كان وجيها ، إلاّ أنّه كما عرفت جواب عن الاشكال في جعل الأمارة ولو في حال الانفتاح ، لا عن اشكال التخصيص في حكم العقل ، بل يحتاج من هذه الجهة إلى الجواب بالتعليق.

الثاني : أنّه لو قام ظن من افراد مطلق الظن على منع الشارع عن العمل ببعضها بالخصوص لا على عدم الدليل على اعتباره ففي العمل بالظن المانع ، أو الممنوع ، أو الأقوى منهما ، أو التساقط ، وجوه بل أقوال.

وربما ابتنت المسألة كما يظهر من شيخنا العلاّمة (٢) أعلى الله مقامه على القول في النتيجة ، فانّه بناء على القول بحجية الظن المطلق في الفروع فالمتيقن هو العمل بالممنوع ، وعلى القول بحجية الظن في الاصول فالمتعين هو الأخذ بالمانع ، وعلى القول بحجيته مطلقا فيتأتّى الوجوه.

ولكن الأوجه تأتّي الخلاف على جميع الأقوال :

امّا بناء على حجية الظن في الاصول فيمكن فرض الظن المانع والممنوع كليهما من الاصول فيحتمل الوجوه.

وأمّا بناء على حجيته في الفروع فيحتمل عدم حجيته في كلّ منهما ، امّا المانع فواضح ، وأمّا الممنوع فلاحتمال انّ الحجة ما لا يحتمل فيه المنع من الظنون الفرعية.

وأمّا بناء على حجية الظن مطلقا اصولية أو فرعية فواضح.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥٣١.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٥٣٢ ـ ٥٣٣.

١٩٤

وعلى كلّ حال فقد قيل باختيار الظن المانع مطلقا ، من جهة انّ خروج الظن الممنوع بناء عليه يكون من باب التخصيص حيث انّ الظن المانع يدلّ على عدم حجيته فيكون الممنوع حينئذ ممّا قام على عدم اعتباره دليل. وأمّا لو عمل بالظن الممنوع فيكون خروج الظن المانع حينئذ من باب التخصيص لعدم دلالة الظن الممنوع على عدم اعتبار الظن المانع وان كان ملازما له فيكون خروجه تخصيصا بلا وجه. ونظير ذلك كما في الاستصحاب السببي والمسببي.

ولكنه يرد عليه : بأنّ ما ذكر من الدوران بين التخصيص والتخصص وترجيح الثاني على الأول إنّما يصح فيما إذا كانت المسألة لفظية حيث انّ المتعين حينئذ ترجيح ما لا يلزم منه التصرف في اللفظ ، لا فيما إذا كانت المسألة عقلية كما في المقام فانّ الحاكم فيها هو العقل لا الاستحسانات المعمولة في الاستنباط من اللفظ.

كما انّ ترجيح الظن المانع بما ذكره الشيخ قدس‌سره (١) من انّ القطع بحجية الظن المانع عين القطع بعدم حجية الظن الممنوع دون القطع بحجية الظن الممنوع فانّه يستلزم القطع بعدم حجية الظن المانع لا انّه عينه ، راجع إلى الترجيح اللفظي أيضا بأنّ العينية غير موجب للتصرف في اللفظ ، دون الاستلزام فانّه موجب له فلا يناط به حكم العقل.

بل التحقيق : أن يقال : ـ بعد ملاحظة لزوم كون نتيجة مقدمات الانسداد قطعية وقبول حكم العقل بحجية الظن المطلق حال الانسداد للمنع ـ انّه :

ان كان ما لا يحتمل فيه المنع من الظنون بقدر الكفاية في الفقه فاللازم الاقتصار عليه ، دون التعدي إلى ما يحتمله ظنا أو شكا أو وهما ، حيث انّه بعد كون الأصل في الظنون حرمة العمل بها لا يتنزل إلى الأخذ بها إلاّ إذا قطع بحجيتها وهو

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥٣٣.

١٩٥

لا يحصل إلاّ إذا ألجئ إلى العمل بها ، ومع احتمال المنع في بعض الظنون وكفاية غيره ممّا لا يحتمل فيه المنع فلا يحصل الالجاء بالنسبة إليه فلا يحصل القطع بحجيته فلا يتنزل إليه ، وذلك ليس من جهة حجية الظن المانع بل من جهة عدم استقلال العقل وعدم الالجاء إلى الأخذ بالظن الممنوع فيبقى تحت أصالة عدم الحجية.

وأمّا ان لم يكن ما لا يحتمل فيه المنع بقدر الكفاية فلا بدّ من التنزل إلى ما يحتمل فيه ذلك حيث انّ النتيجة لا بدّ أن تكون بقدر الكفاية ولكن يتنزل أولا إلى محتمل المنع وهما ويكون احتمال المنع فيه حينئذ بمعنى احتماله لو لا مقدمات الانسداد ، وأمّا مع ملاحظتها فيقطع بعدم المنع وان لم يكن انضمامه إلى ما قطع فيه بعدم المنع كافيا أيضا فينضم إليها المشكوك أيضا ويكون الشك بالمعنى المذكور وإلاّ فينضم ما ظن فيه بالمنع بالمعنى المذكور أيضا.

ثم انّه لا فرق في عدم حجية محتمل المنع في الصورة الاولى بين كونه أقوى من غيره أم لا ، لما عرفت من عدم استقلال العقل بمجرد احتمال المنع وليس ذلك من باب الدوران وترجيح غيره عليه بل من جهة انّ العقل يستقلّ بحجية ما لا يحتمل فيه المنع ولا يكون الضعف مانعا عنده ولا يستقل بحجية ما يحتمل فيه ذلك فيبقى تحت الأصل ، ولا يحصل الالجاء بالنسبة إليه.

الأمر الثالث : انّه لا فرق في نتيجة مقدمات الانسداد : بين الظن الحاصل ابتداء من الأمارة بالحكم الفرعي الكلي كالشهرة أو نقل الاجماع على حكم ؛ وبين الحاصل به من أمارة متعلقة بألفاظ الدليل كأن يحصل من الظن الحاصل من قول اللغوي بأنّ الصعيد لمطلق وجه الأرض الظن بجواز التيمّم بالحجر مع وجود التراب الخالص ، حيث انّه بعد حكم العقل بحجية الظن لا فرق بين الأسباب كما عرفت

١٩٦

سابقا ، ومنه يظهر عدم احتياج ذكر هذا التنبيه في هذا المقام.

ثم انّ الظن المتعلق بالألفاظ من قول اللغة حجّة من حيث استلزامه للظن بالحكم الفرعي الكلي بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام وان لم يكن باب العلم باللغة في غير المورد مسدودا حيث انّ المتبع هو حجية الظن بالحكم الفرعي فيكفي جريان المقدمات فيه. نعم في حجية الظن بالمعنى اللغوي بالنسبة إلى سائر الآثار المترتبة على تعيينه غير تعيين الحكم الشرعي الكلي ـ كالوصايا والاقارير ـ اشكال أقواه العدم ، لأنّ مرجع العمل فيها بالظن إلى العمل بالظن في الموضوعات الخارجية المترتّبة عليها أحكام جزئية غير المحتاجة إلى بيان الشارع حتى يدخل فيما انسدّ فيه باب العلم ؛ وكذا لا فرق في الظن بالحكم بين الحاصل من أمارة متعلّقة به ابتداء وبين الحاصل من أمارة متعلقة بالموضوع الخارجي ككون الراوي عادلا أو مؤمنا وكون زرارة هو ابن أعين لا ابن لطيفة.

ومن هنا ظهر انّ الظنون الرجالية معتبرة بناء على اعتبار الظن بالأحكام ولا يحتاج من حيث دخلها في حصول الظن بها إلى ادراج أقوال أهل الرجال في الشهادة أو في الرواية وان كان يحتاج إليه في سائر الثمرات مثل الأحكام المترتبة على العدالة ونحوها.

ثم انّ استفادة الحكم الكلي من الدليل اللفظي غير العلمي مثل الخبر الواحد يتوقف على جهات عديدة : من الدلالة ، وصحة السند ، وكون وجه الصدور لبيان حكم الله الواقعي بلا داع آخر من تقية ونحوها ، فلا يخلو :

فاما أن يمكن تحصيل العلم والعلمي بكل من هذه الجهات.

أو لا يمكن في واحد منها ، فلا اشكال في لزوم تحصيل العلم أو العلمي في كل منها في الصورة الاولى والاكتفاء بالظن في الصورة الثانية.

وامّا ان يمكن منه في بعض منها دون بعض.

١٩٧

ففي الاكتفاء بالظن في كل ما يتمكن من تحصيل العلم فيه من الجهات اشكال ، أقواه تحصيل العلم فيه ، إذ مرجعه إلى لزوم تحصيل الظن القوي أو ما هو بحكمه من حيث تقليل جهات احتمال إطلاق وعدم الاكتفاء بالظن الضعيف ، ومن المعلوم استقلال العقل بلزوم تحصيل ما هو أقرب إلى الواقع بقدر الامكان ، ومع امكانه لا إلجاء بالنسبة إلى الأخذ بالظن الضعيف.

الأمر الرابع : انّ الثابت بدليل الانسداد هو الاكتفاء بالظن في تعيين الأحكام الكلية الإلهية بمعنى انّ المظنون إذا كان موافقا للواقع فيثاب عليه ولو كان مخالفا له فيكون المكلف معذورا في مخالفته وأمّا في مقام الامتثال وتطبيق العمل عليه فلا تدل مقدمات الانسداد على الاكتفاء في هذا المقام بالظن لعدم انسداد باب العلم فيه دون مقام تعيين الحكم الكلي لكونه منسدّا فيه.

مثلا لو كان المظنون في حال الغيبة وجوب صلاة الجمعة فيكون الظانّ معذورا على تقدير كون الواجب صلاة الظهر ، وأمّا لو ظن إتيان الجمعة خارجا فلا يكون معذورا في مخالفتها على تقدير الاكتفاء بالظن مع مخالفته للواقع بل يعاقب على تركها.

والسرّ : انّ الظن بالاتيان ليس ظنا بالحكم مع كون العمل مما يمكن تحصيل العلم به ، ولا يقاس بحجية الظن الحاصل من قول اللغوي ونحوه من حيث استلزامه للظن بالحكم الشرعي كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر انه لو كان موضوع كلي ذا حكم شرعي معلوم أو مظنون لا يعمل فيه بالظن إذا شكّ في انطباقه على مصاديقه الخارجية ؛ وبعبارة اخرى : الظن يكون موضوع جزئي من مصاديق ذاك الموضوع المحكوم بحكم كذا ليس بحجة من جهة اجراء مقدمات الانسداد في الأحكام الكلية ومنها حكم ذاك الموضوع حيث انّ الظن بانطباق الموضوع على المصداق الجزئي ليس ظنا

١٩٨

بالحكم الشرعي المتوقف على بيان الشارع وان كان ظنا بجزئيه غير المتوقف عليه.

نعم يمكن اجراء نظير مقدمات الانسداد في الأحكام في بعض الموضوعات كما في مثل الضرر ونحوه حيث انّه كان موضوعا لأحكام شرعية كثيرة من وجوب التيمم والافطار ونحوهما وكان العلم في غالب مصاديقه منسدّا وكان اجراء الاصول فيها مستلزما للمخالفة القطعية الكثيرة التي احرز انّها ممّا لا يرضى الشارع في الموضوع الذي يراد اجراء المقدمات فيه فيقطع من تلك المقدمات بحجية الظن. نعم في الموضوعات التي لم يحرز اهتمام الشارع فيها لا يتمّ اجراء المقدمات لعدم العلم بمحذورية المخالفة الكثيرة فيها كما لا محذور فيها في مثل الطهارة والنجاسة.

الأمر الخامس : في اعتبار الظن في اصول الدين وعدمه.

واعلم انّ المطلوب المهمّ في المسائل الاعتقادية ليس مجرد العلم بها بل الأثر المرغوب فيها هو الالتزام بها قلبا وعقد القلب عليها باطنا وهي في مقابل الفروع التي كان المطلوب فيها أولا وبالذات هو العمل جارحا وان وجب الاعتقاد بها جانحا ثانيا من باب الالتزام بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذا عرفت المهم فيها فاعلم : انّ البحث فيها في المقام من جهتين ، ولا يكون البحث فيها من كل من الجهتين داخلا في المسائل الاصولية.

الاولى : انّه هل يحكم العقل بوجوب المعرفة والاعتقاد في الاعتقاديات أم لا؟ وانّه هل يكتفى بالظن فيما يحكم فيه بتحصيل الاعتقاد أم لا؟ وكلما يحكم فيه العقل بوجوب الاعتقاد لا يستتبع حكما مولويا شرعيا كما سيظهر ان شاء الله ؛ ومن المعلوم انّ البحث عن حكم العقل غير المنتج للحكم الشرعي يكون داخلا في المسائل الكلامية.

١٩٩

والثانية : في انّ بعض ما لا حكم فيه للعقل هل كان للشرع فيها حكم بوجوب المعرفة أم لا؟ وانّ غير العارف باليقين فيها وان كان ظانّا هل كان موضوعا لبعض الأحكام الشرعية وضعية كانت أو تكليفية من النجاسة وعدم التوارث من المسلم والمناكحة ووجوب قتله وسائر آثار الكفر أم لا؟ ومن المعلوم انّ البحث عن هذه الجهة كان داخلا في المسائل الفقهية نظير البحث عن وجوب بعض الأعمال وعدمه ، ولكن البحث عنها في الاصول كان من باب الاستطراد.

إذا عرفت ذلك فنقول : انّه لا بد من التكلم في الاعتقاديات في امور :

الأول : انّ ما يجب معرفته والالتزام به على ثلاثة أقسام :

منها : ما يستقل العقل بلزوم معرفته ووجوب الالتزام به امّا من باب استقلاله بقبح تركه في نفسه ، أو من باب خوف الضرر عليه وهذا كمعرفة المنعم تعالى بذاته المستجمعة لجميع الصفات الوجوبية الكمالية ومنها العدل واختصاصه من بين الصفات لمزيد الاهتمام به والمنزهة عن النقائص الامكانية ومعرفة نبيّة بشخصه ونسبه ومعرفة الامام كذلك على وجه صحيح مقرر في علم الكلام.

وثانيها : ما يجب معرفته والالتزام به لكونه ممّا جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبر به ، والعقل يحكم بوجوب معرفة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لو لا هذه الجهة لما كان لهذا القسم خصوصية من بين سائر الأشياء يحكم العقل بوجوب معرفته من بينها ، وهذا القسم في الحقيقة من رشحات القسم الأول حيث انّ معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتصديق بنبوّته المطلقة التي كانت بمعنى عند الخاصة وهو : أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوما عن الزلل والخطأ والنسيان ومنزها عن المعصية وارتكاب القبيح كانت مستلزمة للتصديق بما جاء به وأخبر به وإلاّ لما حصل التصديق بنبوته بالمعنى المذكور ، وان أبيت عن ارجاعه إليه على وجه غير صحيح كما عند العامة فلا دليل

٢٠٠