تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

المعلوم بالاجمال بين خصوص الأخبار.

وأمّا ثانيا : فعلى تقدير عدم كون المعلوم بالاجمال بين الأحكام في خصوص الأخبار بقدر المعلوم بالاجمال بين الجميع إلاّ انّ دعوى كون الاخبار الصادرة من الأئمّة عليهم‌السلام المتصدّية للحكم الفعلي أعمّ من الواقعية والظاهرية أو الأخبار المعتبرة بينها كذلك بقدر المعلوم بالاجمال من الأحكام الواقعية بين الجميع قريبة جدّا ولا اشكال في حجيته الفعلية ولو لم يكن الحكم واقعيا ومن المعلوم انّ احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على ذلك كاف في انحلاله وعدم تأثيره في غير الأخبار كما لو كان معلوم الحرمة من شرب مقدار من الاناء بقدر المعلوم بالاجمال من الخمر بين الاناء.

وأمّا ثالثا : فعلى تقدير تسليم عدم الانحلال لكن الباقي دائر بين أطراف غير محصورة فغير مؤثّر في الحكم أصلا ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرناه ثانيا قد ظهر : انّ مقتضى هذا العلم الاجمالي الاحتياط في الأخبار بالعمل بالمثبتة منها للتكليف جميعا وبالنافية منها له لو لم يخالف الأصل المثبت وان كان أصل مثبت على خلافها فلما كان علم اجمالي بنقض بعض الاصول المثبتة للعلم بصدق بعض الأخبار النافية كذلك ، فيثبت جواز العمل على طبق الأخبار النافية على عدم المقتضي للاصول في أطراف العلم الاجمالي مطلقا ؛ وأمّا بناء على وجود المقتضي لها فيها وكون المانع عنها العلم بالتكليف فلا يجوز العمل بالأخبار النافية بل المتعيّن العمل بالاصول المثبتة حينئذ.

وعلى أيّ حال : فالعمل بالأخبار المثبتة بمقتضى العلم الاجمالي بصدور الأخبار الكثيرة أو المعتبرة بينها الوافية بالفقه لا مناص عنه ، ولا يلزم منه العسر والحرج لكثرة توافق الأخبار المثبتة ووفور النافية منها ولا ينجرّ الأمر إلى العمل

١٤١

بالمظنون الصدور منها من حيث المضمون كما أورده عليه الشيخ رحمه‌الله ثانيا. (١) وأمّا الأخبار النافية فقد عرفت صورة جواز العمل على طبقها عن غيرها. وأمّا حجيتها بحيث يخصص فيها مطلقا بها العموم أو يقيد بها الاطلاق فلا يثبت في صورة العلم الاجمالي. وأمّا وجوب العمل بها فليس فيها مطلقا حتى في صورة العلم بها تفصيلا.

ومن هنا ظهر : انّ ما أورده قدس‌سره ثالثا من عدم ثبوت حجية الأخبار النافية بالعلم الاجمالي فيصح دون ما أورده فيه من عدم ثبوت وجوب العمل بها ، لكونه مشتركا بين صورة العلم الاجمالي والتفصيلي كما عرفت.

الثاني من دليل العقل : ما ذكره في الوافية مستدلا على حجية الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير رد ظاهر ، بوجوه : قال : « الأول انّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة سيّما بالاصول الضرورية كالصلاة والركوع والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها مع انّ جلّ اجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر غير القطعي بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد ومن أنكر فإنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان » (٢) انتهى.

وفيه :

أولا : انّ العلم الاجمالي بالأحكام وبالاجزاء والشرائط إنّما هو في مجموع الأخبار وغيرها من الأمارات لا خصوص الطائفة المشتملة على ما ذكر من الشرائط فلازمه العمل بالجميع ؛ وما ذكرناه من الجواب عن الايراد بالدليل السابق غير متأت هنا حيث انّ العلم بصدور الأخبار بقدر الكفاية أو اعتبار مقدارها هناك

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٥٩.

(٢) الوافية : ١٥٩.

١٤٢

موجب للانحلال والعنوان فيما نحن فيه هو الخبر المشتمل على الشرائط المذكورة.

والانصاف انّ المعلوم بالاجمال منه ليس بقدر المعلوم بالاجمال الكبير أو بقدر الكفاية كي يوجب الانحلال.

وثانيا : انّ هذا الدليل لا يثبت به حجية الأخبار النافية للاجزاء والشرائط بحيث تكون هي المعمول بها ولو كان أصل أو عام ومطلق على خلافها.

الثالث : ما ذكره صاحب الحاشية قدس‌سره. (١)

وحاصله : انّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالاجماع بل الضرورة والأخبار المتواترة ، وبقاؤه الينا ثابت أيضا بالأدلة المذكورة وإنّما يكون الخروج عن عهدة هذا التكليف المعين عقلا بأن يرجع إليهما على وجه يحصل العلم منهما أو العلمي بالحكم لو أمكن وإلاّ فعلى وجه يحصل منهما الظن به كما إذا لم يكن الخبر معلوما أو علميا من حيث الصدور. ومراده من السنّة كما هو صريح كلامه : الأخبار الحاكية لقول الإمام عليه‌السلام أو فعله أو تقريره لانفسها ؛ كما انّ مبنى استدلاله على ثبوت التكليف المذكور وبقائه إلينا بالضرورة لا من جهة العلم الاجمالي بالأحكام الواقعية كي يرجع إلى دليل الانسداد ، ولا من جهة العلم الاجمالي بصدور خصوص الأخبار كي يرجع إلى الدليل الأول ، فلا وجه لا يراد الشيخ رحمه‌الله وتشقيقه بينهما. (٢)

نعم يرد عليه :

أولا : بأنّ الاجماع ان كان محققا حتى بالنسبة إلى زماننا هذا ممّا لم يكن فيه الخبر مقطوع الصدور أو الاعتبار فتكون الاخبار حجة بالخصوص تعبدا شرعا فلا وجه لجعل هذا الوجه من الدليل العقلي وإلاّ فلا وجه للتمسك بالاجماع

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٣٧٣ « السادس » ؛ الطبعة الحجرية : ٣٩٧ السطر ٢٨.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٣٦٣.

١٤٣

والضرورة لانعقادهما في الأخبار القطعية صدورا أو اعتبارا لا في مثل هذه الأخبار التي لم تكن قطعيا بوجه أصلا.

وثانيا : بأنّ مقتضى الاجماع على العمل بالسنّة لو كان هو الاقتصار على المتيقن من الأخبار الحاكية المعلوم انعقاده عليه في مثل زمان الانسداد وهو الخبر الصحيح الاعلائي لو كان بقدر الكفاية وإلاّ فيتعدى إلى المتيقن فالمتيقن حتى ينتهي إلى قدر الكفاية ، حيث انّه ممّا يتيقن انعقاد الاجماع على وجوب العمل به لا غيره وان لم يكن متيقن في البين أو لم يكن بقدر الكفاية ولو بانضمام المتيقن الاضافي ، فلا بدّ من الاحتياط بالأخذ بجميع طوائف الأخبار حتى يحصل العلم بالعمل بما انعقد الاجماع على العمل به من طائفة من السنّة حيث انّه ليس مجموع الطوائف ممّا انعقد الاجماع على العمل به وإلاّ فكيف يقتصر على ما يظن منه بالحكم.

وعلى أي حال فحيث انّ مناط الاستدلال على ثبوت التكليف المعيّن وهو وجوب العمل بالسنّة بالاجماع لا على العلم الاجمالي بالحكم الواقعي فمقتضاه هو ما ذكرنا من الأخذ بالمتيقن ممّا يجوز الاستدلال به من الأخبار لو كان وإلاّ فالاحتياط لا للعمل بما يحصل منه الظن بالحكم كما هو مقصود المستدل ، كما لا يخفى.

هذا كله في الادلة العقلية الدالة على حجية خصوص الخبر.

وأمّا الوجه الثاني منها القائم على حجية مطلق الظن بلا خصوصية فيه إلاّ من جهة كونه متيقن الحجية فيما إذا كان مفاد الدليل العقلي حجية الظن في الجملة فهي وجوه :

١٤٤

[ الدليل ] (١) الاول : انّ في مخالفة المجتهد لما ظنه من الوجوب والحرمة مظنّة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم عقلا.

أمّا الصغرى : فلأنّ الظن بالوجوب والحرمة ظن امّا باستحقاق العقاب على مخالفتهما وامّا بفوت المصلحة الملزمة في الأول ، وتركها امّا مفسدة بنفسه وامّا مثلها في لزوم التحرّز والوقوع في المفسدة اللازمة التحرّز في الثاني بناء على العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

وأمّا الكبرى ، فلا اشكال فيها عند العقلاء.

واجيب عنه بوجوه :

أحدها : ما عن الحاجبي (٢) من منع الكبرى وان الدفع للضرر المظنون يكون حسنا بناء على التحسين والتقبيح العقليين لا واجبا.

وفيه : انّ ملاكات الأحكام العقلية غير منحصرة بالتحسين والتقبيح بل متعددة :

منها : موافقة الغرض والمصلحة ككون قتل زيد العدو مصلحة لعدوه ومفسدة لأحبائه ؛ ولا اشكال في ثبوتهما عند العقل وكونهما ملاكا لحكمه.

ومنها : ملائمة الطبع بحصول الالتذاذ له ومنافرته بوصول الألم عليه ، وكأكل الطعام الموجب لرفع الألم ولحصول اللذة والشرب الموجب للضرر على النفس.

ومنها : الاتصاف بصفة الكمال كالعلم ، أو النقص كالجهل.

ومنها : كون الفعل بحيث يمدح عليه أو يذم عليه شرعا أو عرفا.

وليعلم انّ ما يتوقف عليه باب الملازمة المختلف فيه بين الأشعري وغيرهم

__________________

(١) أسميناه بالدليل لانه سيأتي من المصنف انه يسمي الثاني والثالث بالدليل.

(٢) شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب ١ : ١٦٣ ؛ منتهى الوصول والامل : ٧٦.

١٤٥

هو هذا الأخير ، بل هو بالحقيقة راجع إلى الثاني ، حيث انّ الداعي على الأفعال الصادرة عن شعور سواء كانت بدواعي عقلية كما في الفعل الصادر عن الانسان عن رويّة وفكر ، أو حسية كما في الفعل الصادر عنه بغير رويّة من العقل بل عن مطلق الحيوان ؛ لا بدّ أن يرجع إلى الملائمات والمنافرات بالنسبة إلى الفاعل بنفسه ، وبعبارة اخرى : إلى الاعراض النفسانية ، فالتحسين والتقبيح العقليين بناء على كونهما ملاكا للعقل انما هما للفرح وللاشمئزاز الحاصلين للعقل.

وإذا عرفت ذلك فاعلم : انّ مسألة الضرر وكونه مناطا لحكم العقل بوجوب الدفع ليست مبتنية على التقبيح العقلي لو لا العكس كما عرفت ، وإذا كان كذلك فكيف يحكم العاقل بكون الاشمئزاز الحاصل من تقبيح العقلاء بناء عليه مناطا لحكم العقل بوجوب الدفع دون الضرر الاخروي وهو الدخول في النار في المقام ، وهل هذا الاّ خلاف بداهة العقل؟ بل الضرورة والوجدان شاهدان بكون الاحتراز عن الضرر فطريا للانسان بل الحيوانات أيضا ، غاية الأمر يكون من منافرات القوة العاقلة تارة ولسائر القوى اخرى فيه وبخصوص سائر القوى فيها ؛ وعلى أي حال فالاحتراز فيه ـ مقطوعا كان أو مظنونا بل موهوما ـ مودع في الطبائع ولو لم نقل بالتقبيح العقلي ؛ ولا فرق في الضرر في لزوم الاحتراز عنه عقلا بين كونه اخرويا أو دنيويا.

والأولى الجواب عن هذا الاستدلال :

بأنّ المراد من الضرر لو كان هو العقاب فالصغرى ممنوعة ، لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لعدم كون الظن بمجرده ـ بلا انضمام علم اجمالي ونحوه إليه كما هو محل الكلام ـ بيانا عند العقل. نعم بناء على قول البعض من كون الظن كالعلم موجبا لتنجّز التكليف أو احتماله فيكون العقاب محتملا فيجب دفعه عقلا ولا تجري القاعدة المذكورة حينئذ لكونها مع القطع بعدم العقاب ، وبمجرد الاحتمال

١٤٦

ينتفي مجراها ؛ وحيث انّ المراد من البيان فيها عند العقل وعدمه ليس إلاّ عدم الأمن من العقاب ولو احتمالا والأمن منه ، لا البيان النقلي ، كما لا يخفى. ولكن التحقيق استقلال العقل بعدم العقاب مع الظن وعدم تنجيزه الواقع.

وان كان المراد من الضرر هو فوت المصالح والوقوع في المفاسد الكامنة في الأفعال المترتبة عليها قهرا ولا يرتفع بعدم البيان ؛ ومن المعلوم انّ الضرر ولو غير العقاب ممّا يكون بنفسه ملاكا لحكم العقل بلزوم دفعه مظنونا أو محتملا ولا يبتني على التحسين والتقبيح العقليين وان كانا موجودين فيه أيضا. وليعلم انّ التقبيح في الضرر المظنون ممّا لا يستتبع حكما شرعيا ولو على الملازمة ، حيث انّ عنوان مظنون الضرر من العناوين [ الاولية ] (١) التي تدور مدار الواقع وليست بنفسها ممّا يوجب البغض والحب مثل العناوين النفسية كي يتأتّى فيها باب الملازمة ، هذا.

ولكن التحقيق : انّ المصالح والمفاسد في المقام التي تكون ملاكات الأحكام الشرعية ليست من مصاديق الضرر المحكوم عقلا بوجوب دفعه ولو عند القطع بها.

بيانه : انّ المراد من الضرر الضرر الوارد على الفاعل المنافر لطبعه الذي يكون ملاكا لحكم العقل ولو لم يكن عقاب ولا تقبيح وأمّا المفاسد في موضوعات الأحكام فهي بالنسبة إلى النوع غالبا مثل اختلاط الانساب في الزنا مثلا ، ومن المعلوم انّه مع الفراغ عن جهة اخرى غيرها ليس ممّا يدعو الفاعل إلى تركه حتى في صورة القطع فضلا عن غيرها كما كانت مثل كون الهلاكة في السمّ مثلا كذلك. نعم فيها يحترز عنه من جهة التقبيح عليه ولكن في غيرها لا داعي للعقل ، امّا

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( الالية ).

١٤٧

المفسدة فلما عرفت من عدم كونه مناطا للحكم ، وأمّا العقاب فللقطع بعدمه ، وأمّا التقبيح فكذلك للجهل بالعنوان المقبّح مع اعتبار العلم في موضوعه ؛ والحاصل : انّ المصالح والمفاسد في الأحكام ممّا ليست يحكم العقل بلزوم الفعل أو الترك من جهتها كما في غالب الموارد التي اطلع العقل عليها وفي غيرها أيضا كذلك غالبا بالتجريّات التي حصلت من العصاة مثلا وفي الموارد النادرة ممّا يحتمل أن يكون الضرر راجعا إلى شخص الفاعل الذي يكون ملاكا للحكم بنفسه ليس احتماله ممّا يعتني به العقلاء ، وحينئذ فليس الظن بالوجوب والحرمة مستتبعا إلاّ لاحتمال المصلحة والمفسدة غير المعتنى به عند العقلاء.

وحاصل الجواب يرجع إلى منع الصغرى من جهة غير العقاب أيضا فلا يثبت وجوب متابعة الظن عقلا.

ومن هنا ظهر : انّ منع الصغرى من غير جهة العقاب من جهة عدم الضرر في نفسه لا من جهة التدارك بمصلحة اخرى كما في كلام الشيخ قدس‌سره (١) ؛ ولو تنزّلنا وقلنا بالظن بالضرر فينتقض بالظنون غير المعتبرة من الظن القياسي ونحوه ممّا ليس بحجة وقامت الأمارة أو الأصل على خلافها فانّ في مخالفة تلك الظنون يظنّ بالضرر أيضا.

وما أجاب به الشيخ قدس‌سره في الفرائد (٢) من الالتزام بوجود مصلحة عالية يتدارك بها ما فات من المصلحة الواقعية أو وقع فيه من المفسدة الواقعية ، مدفوع :

بأنّ المصلحة لو كانت في متعلق الأمارة يلزم التصويب ونحوه من الاشكالات الواردة على جعل الحكم على خلاف الواقع ، وان كانت في غيرها فلا يكون ممّا يتدارك بها ضرر المخالفة لعدم كون كلّ منفعة عائدة ـ على تقدير

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٠٩.

(٢) فرائد الاصول ١ : ١٠٩.

١٤٨

التسليم ـ ممّا يتدارك بها ضرر الوقوع في المفسدة.

والأولى الجواب عن النقض : بعدم القبح في الوقوع على ضرر مخالفة الواقع في موارد الأمارة إذا كان في الأمر بها مصلحة أعظم وأهم من مراعاة الواقع ولو كانت نوعية من مثل التسهيل ونحوه ممّا لم يكن راجعا إلى شخص الفاعل ولا قبح في مثل هذا الضرر لأجل مراعاة الأهم ، كما لا يخفى.

الدليل الثاني : انّ في العمل على خلاف المظنون أو التوقف على العمل به ترجيح للمرجوح على الراجح أو توقف عن ترجيح الراجح وكلاهما وان لم يكونا بمحال ـ كما في الامور التكوينية المستحيل تحققها بدون العلة التامة ـ إلاّ انّهما قبيحان فيجب العمل بالظن.

وفيه : انّه كذلك في مقام الدوران ولزوم العمل على أحد الطرفين ، كما لو تعلق الغرض بالواقع ولم يمكن تحصيل العلم به ولم يمكن الاحتياط ولم يجز الرجوع إلى البراءة إلى آخر مقدمات دليل الانسداد لا مطلقا كما هو المطلوب فرجع إلى دليل الانسداد وبدون تلك المقدمات لا يتم الدليل كما لو عمل بالاحتياط أو كان دليل علمي على طرف الموهوم.

الدليل الثالث : ما حكي عن السيد الطباطبائي قدس‌سره (١) من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك الاحتياط في المظنونات والمشكوكات والموهومات ؛ إلاّ أنّه لمّا استلزم العسر والحرج الشديدين فيتنزل إلى الظن وترك الاحتياط في غيره ، لعدم صحة التبعيض بغير هذا الوجه.

وفيه : انّه يحتاج تماميته إلى سائر مقدمات الانسداد ، وبدونه لا يكاد يتم ،

__________________

(١) المنقول انه ذكره في مجلس الدرس. بحر الفوائد ١ : ١٨٩ السطر ١٠.

١٤٩

فلا يكاد يعدّ دليلا على حدة في قباله.

الرابع : دليل الانسداد.

وليعلم انّ عدّه من جملة الادلة العقلية ـ مع كون بعض مقدماته شرعية كما سيظهر ـ انّ الحكم الثابت في الموضوع الذي اجتمع فيه المقدمات الآتية يكون عقليا وهو الحكم بوجوب العمل على طبق الظن دون غيره ، لا أن يكون عقليا بمجرد استلزام المقدمات الحكم المذكور وان كان شرعيا ، وإلاّ لكان كل حكم مستفاد من دليل كذلك ؛ فمحصّل الفرق كون النتيجة عقلية في المقام لا مجرد الاستنتاج.

ثم انّ دليل الانسداد مركب من مقدمات خمسة :

الاولى : العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية الكثيرة في غير ما علم بالضرورة والقطع ثبوتها من الدين.

الثانية : انّه لا يجوز الاهمال لنا بالنسبة إليها ، بأن نجعل أنفسنا في غير ما علم بالضرورة والقطع منها ممن لا حكم له أصلا.

الثالثة : انسداد باب العلم والعلمي بالنسبة إليها.

الرابعة : عدم كون طريق الامتثال بالنسبة إليها الطرق المقررة للجاهل من البراءة والاحتياط ؛ والفرق بينها وبين المقدمة الثانية إثبات الفعلية للأحكام فيها وفي الرابعة يثبت التنجّز وتبطل البراءة لأجله.

الخامسة : انّه لا يجوز التنزل إلى الشك والوهم بعد التنزل عن الامتثال العلمي الاجمالي لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وعند تمامية المقدمات يحكم العقل بوجوب العمل بالظن.

أمّا المقدمة الاولى والثانية : فلا يحتاجان إلى الاثبات لكون كل منهما مبيّنا بنفسه.

١٥٠

وأمّا المقدمة الثالثة : فبالنسبة الى انسداد باب العلم التفصيلي في زماننا هذا فكذلك ؛ وبالنسبة الى العلمي والظن الخاص فهو وان كان يختلف باختلاف الاحوال في حجية خبر الواحد إلاّ انّ الانصاف انّ المستفاد من الادلة السابقة حجية الخبر الموثوق بصدوره ولو للاحتفاف بما يوجب ذلك ، أو من ملاحظة الامور الخارجة وهو في الكتب الموجودة فيما بأيدينا بقدر الكتب ان شاء الله ، وعلى تقدير المنع عن ذلك فالعلم الاجمالي بالاخبار الصادرة عنهم عليهم‌السلام المتصدية للحكم الفعلي بضميمة المعتبرة منها المشتبهة بين الأخبار التي فيما بأيدينا كانت بقدر الكفاية وحينئذ ينحلّ العلم الاجمالي الكبير بالأحكام الواقعية بين جميع الأمارات بالعلم الاجمالي الصغير بالأحكام الفعلية في ما بين الأخبار ، فاللازم مراعاة الثاني بالاحتياط في الأخبار ، أو العمل بالظن بالصادر أو المعتبر منها فلا تصل النوبة إلى مطلق الظن.

وأمّا المقدمة الرابعة : وهي انّه لا تجوز البراءة عن كلّ حكم ولا سائر الاصول المقررة للشاك في كل مسألة على حدة مع عدم ملاحظة الموارد الأخر معها.

وأمّا البراءة : فقد استدل على بطلانها بوجوه :

الاول : الاجماع المدعى في كلام الشيخ قدس‌سره (١) في المسألة ، قال ما حاصله : انّ المسألة وان لم تكن معنونة في كلام القدماء بل بعض المتأخرين أيضا إلاّ أنّه يحصل القطع من التتبع في طريقتهم انّه ليس مذهبهم اجراء البراءة عن الأحكام في حال الانسداد ، فربّ مسألة غير معنونة يعلم اتفاقهم فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٨٨.

١٥١

وفيه : على تقدير تحصيل الاتفاق في المسألة ، انّه ليست المسألة ممّا يتطرق فيه التعبد حيث انّ الكلام فيها في تنجّز التكليف المعلوم بالاجمال وعدمه ، ومن المعلوم انّ مرجع التنجّز وعدمه إلى رفع المعذورية عند العقل وعدمه وهو حكم عقلي صرف ليس للتعبد فيه بمجال ، وعلى تقدير التطرق فلا يستكشف تعبّد عن المعصوم فيه بمجرد الاتّفاق لاحتمال استناده إلى طريق العقل.

الثاني : في انّ الرجوع في جميع الوقائع المشتبهة إلى البراءة مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة المعبّر عنها في لسان جمع من المشايخ بالخروج عن الدين بمعنى انّ المقتصر على التديّن بالمعلومات وترك العمل بغيرها ـ مع كثرتها وقلة المعلومات ـ يعدّ خارجا عن الدين وتاركا لشريعة سيد المرسلين ، وهذا أمر يقطع ببطلانه كلّ أحد بعد الالتفات إلى كثرة المجهولات كما لو فرض العياذ بالله انسداد باب العلم بجميع الأحكام فانّه لا ريب لأحد بطلان البراءة في الجميع وكذا الكثير الملحق به في الحكم.

ويشهد لذلك ملاحظة كلمات الأعلام في هذا المقام من المجوزين لخبر الواحد مثل الشيخ (١) وغيره (٢) والمنكرين له مثل السيد (٣) وأتباعه (٤) فانّه يظهر

__________________

(١) العدة ١ : ١٢٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٢ ـ ٧٥ الباب ٨ من ابواب صفات القاضي ، باب العمل باخبار النبي (ص) والائمة (ع) المنقولة في الكتب المعتمدة وروايتها وصحتها وثبوتها ؛ يشتمل على ٨٨ حديثا. الحدائق الناضرة ١ : ٢٥ ـ ٢٦. هداية الابرار : ١٦ ـ ١٧. مناهج الاحكام : ١٦٧ السطر ١٨ « المشهور بين اصحابنا اصالة حجية أخبار الآحاد ». المعتبر في شرح المختصر ١ : ٢٩ ـ ٣٠. مفاتيح الاصول : ٣٥٧ « القول في شرائط العمل بخبر الواحد ».

(٣) الذريعة الى اصول الشريعة ٢ : ٥٢٨ « فصل في اثبات التعبد بخبر الواحد أو نفي ذلك ». رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٠٩ المسألة ٤٨ في ابطال العمل باخبار الآحاد. و ١ : ٢٤ ـ ٢٥ ؛ و ١ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(٤) غنية النزوع ١ : ٣٥٤ و ٣٥٦. مجمع البيان ٩ : ١٣٣ في تفسير الآية ٦ من سورة الحجرات « ان جاءكم فاسق بنبإ ». السرائر ١ : ٥١. الوافية : ١٥٨. وكذلك حكاه معالم الدين : ١٨٩ عن ابن البراج.

١٥٢

من كلماتهم المحكية في الفرائد (١) التسالم على العمل بالظن على فرض انسداد باب العلم بغالب الأحكام وعدّ تاركه مخالفا لما علم من الشرع خلافه.

وليعلم انّ الخروج من الدين في كلماتهم يحتمل أن يراد منه لزوم الكفر مقابل الايمان باعتبار استلزام اجراء البراءة والالتزام بها انكار ما علم مجيئه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من غالب الأحكام ولكنه ليس بلازم في المقام ؛ ويحتمل أن يكون المراد انّ اجراء البراءة يستلزم الخروج من الدين من حيث العمل حيث انّ عدم العمل بغالب الأحكام مثل تركه في الجميع في أنّه يعدّ ممن كان خارجا عن الشريعة عملا كمن كان من غير الدين من الملل الاخرى وان لم يكن مثلهم من حيث الاعتقاد.

ولكنه لا يخفى ان عدّ من كان مقتصرا على العمل بالضروريات والقطعيات والاجماعيات والأخبار المتواترة والأدلة المعتبرة من باب الظن الخاص من ظاهر الكتاب وغيره في [ العبادات ] (٢) والمعاملات وسائر أبواب الفقه مع الاحتياط فيما علم شرعا الاهتمام به كما في الدماء والفروج ونحوها خارجا عن الدين وتاركا لشريعة سيد المرسلين ممنوع جدا ، وان كان يلزم عليه مخالفة العلم الاجمالي كما في سائر الموارد ؛ وما استشهد به من الكلمات لا تدل على أزيد ممّا عليم بالضرورة من الشرع من محذور مخالفة العلم الاجمالي فراجع.

الثالث : انّه لو سلّمنا انّ الرجوع إلى البراءة لا يوجب محذور الخروج عن الدين إلاّ انّ لزوم محذور مخالفة العلم الاجمالي بنفسه بحاله ولا تجري أدلة البراءة

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٨٨ و ٣٩٠ ـ ٣٩٤.

(٢) في الاصل المخطوط ( المعاملات ).

١٥٣

في أطرافه عقلا فيما كان المعلوم بالاجمال حكما فعليا كما هو المفروض في المقام وجمعا بينها وبين ما دلّ على وجوب الاحتياط بحملها على مورد الشبهة البدوية وحمله على أطراف العلم الاجمالي.

والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق واضح فانّ هذا الوجه لو لم يعدّ محذورا بوجه لكن الوجه السابق لا ريب في كونه محذورا بداهة.

ولكنه لا يخفى انّ تمامية هذا الوجه تبتني على كون العلم الاجمالي كما في غير المقام منجزا للتكليف المتعلق به وذلك إنّما يكون إذا تعلّق بالحكم الفعلي على أي حال ، ومع العلم بالترخيص في بعض الأطراف ـ كما سيجيء في بطلان الاحتياط الكلام في ذلك ـ لا علم بتكليف فعلي مطلقا لاحتمال كون المعلوم بالاجمال في ما علم فيه بالترخيص من موهومات التكليف عقلا فيما لو لزم من الاحتياط اختلال النظام وشرعا بالاجماع على عدم كون الطريق في حال الانسداد الاحتياط الكلّي أو بأدلة نفي العسر والحرج في غير ما يختل النظام ، فلا يبقى في البين إلاّ احتمال التكليف الفعلي على فرض كون المعلوم بالاجمال في غير ما علم فيه بالترخيص من مظنونات التكليف ومشكوكاته.

والفرق بين الاضطرار والترخيص المقارنين مع العلم الاجمالي والطاريين عليه : بالتنجّز في الثاني دون الاول ؛ وجعل ما نحن فيه من قبيل الثاني ، لعدم العلم بالترخيص أو الاضطرار من أول الأمر ، مدفوع :

مضافا إلى كون العلم بالترخيص فيما نحن فيه من أول الأمر أيضا ؛ انّه على تقدير التسليم إنّما يكون الفرق المذكور فيما كان سبب الترخيص أو الاضطرار حادثا بعد العلم الاجمالي لا فيما كان العلم بهما بعده وكانا بنفسهما مقارنين معه واقعا كما في المقام ، لكون الترخيص في بعض الاطراف ثابتا من أول الأمر وان كان العلم به متأخرا.

١٥٤

كما انّ الفرق بين الاضطرار ببعض معينا وبين الاضطرار ببعض غير معيّن برفع التنجّز في الأوّل دون الثاني كما في المقام لعدم كون الموهومات أطراف معيّنة ، لا وجه له ، لما سيجيء من عدم الفرق بينهما في كونهما سببا لعدم صيرورة العلم منجزا للتكليف معهما.

وأمّا فرض العلم الاجمالي الصغير في خصوص غير ما علم فيه بالترخيص من المظنونات والمشكوكات واستناد وجوب الاحتياط فيهما به دون العلم الاجمالي الكبير المعلوم بالترخيص في بعض أطرافه ، ففيه :

مع عدم تعيّن الموهومات ودوران الأطراف وانقلابها ظنا وشكا ووهما بالنسبة إلى اشخاص الفقهاء ، بل بالنسبة إلى شخص واحد في حالاته ومع مخالفته لما هو ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره (١) من تعبيره عن الاحتياط في المظنونات بالتبعيض في الاحتياط الظاهر في عدم علم اجمالي فيها على حدة وفي الموهومات على حدة وإلاّ لما كان وجه لتقديم الترخيص في بعض على بعض ، انّه على تقدير التسليم لا بدّ من بيان حكم صورة تقدير علم اجمالي في المجموع فقط بلا علم في البعض أيضا فانّه يشكل فيه وجوب الاحتياط مع الترخيص في بعض أطراف العلم وإلاّ لزم من الترخيص لزوم المناقضة مع التنجيز الفعلي بمقتضى العلم الاجمالي ؛ وسيجيء ما يؤيد ما ذكرناه من عدم كون العلم الاجمالي في المقام كغيره موجبا لتنجز المعلوم بالاجمال كي يوجب الاحتياط وإذا عرفت عدم لزوم الاحتياط من جهة العلم الاجمالي أصلا ، فاعلم انّه يمكن اثبات التنجّز بمجرد احتمال التكليف في مقامين :

الاول : الاحتمال في الشبهة الحكمية للمجتهد قبل الفحص والبحث فانّه لا

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٩٧ ، و ٢ : ١٣٧.

١٥٥

تجري البراءة العقلية من قبح العقاب بلا بيان حينئذ لكون المراد من البيان هو الدلالة على النحو المتعارف وهو إنّما يحصل بعد الفحص لا قبله ، ولا النقلية لانصراف أدلتها بما بعد الفحص.

والثاني : احتمال التكليف المحرز اهتمام الشارع وتعلق غرضه فيه بتحقق المكلف به من المكلفين في الخارج ولو حال عدم العلم بالتكليف فيلزم عند العقل حينئذ الاحتياط في أطراف الاحتمال ولو لم يكن علم به فيها ولو كانت الشبهة حينئذ موضوعية مع انّ البراءة فيها مسلّمة وذلك كما في مسألة الاعراض وحفظ الفروج والدماء ونحوها ، ومسألة الزكاة بناء على وجوب المحاسبة عند الشك في بلوغ النصاب.

ومن الموارد ما نحن فيه فانّ معظم الفقه إذا انسدّ فيه باب العلم بالنسبة إلى نوع المكلفين ممّا يعلم بتعلق غرض الشارع بعدم ترك الامتثال فيه في صورة الجهل بالتكليف بحيث لم يحتط في محتملاتها أصلا لأنّه وان ارتفع العلم الاجمالي بها بالترخيص في طرف الموهومات إلاّ أنّ المعظم بعد اختلاف المكلفين في الظن والشك والوهم من حيث المتعلق وتبدّل البعض بحسب حالاته فيها ممّا يعلم بعدم وقوع الخطأ فيه منهم جميعا ، وحينئذ يحكم العقل من جهة عدم لزوم نقض الغرض بالاحتياط في غير ما رخّص فيه عقلا ونقلا.

نعم يصح الكلام في انّه هل يكفي بعد احراز هذا الاهتمام من الشارع التفويض في مقام الامتثال إلى حكم العقل كما في صورة عدم انحلال العلم الاجمالي أو لا بدّ من ايجابه الاحتياط ولو باستكشاف من العقل.

والتحقيق هو الثاني ، حيث انّه بعد الجهل بالتكاليف وانحلال العلم الاجمالي بالترخيص لم يكن عند العقل بيان بالنسبة إليها فيكون موضوع حكمه بقبح العقاب بدونه محققا. ومجرد الاهتمام مع عدم علم كلّ واحد من المكلفين بكون التكليف

١٥٦

المهتمّ به في محتملاته لم يوجب البيان كما في الشبهة البدوية في كل تكليف مع احتمال كونه في أعلى درجة الاهتمام ، مع انّ جلّ التكاليف ممّا علم بالزام الشارع ، فلو كان مجرد الاهتمام مع عدم [ العلم ] (١) بتوجه التكليف الى المكلف بيانا فلا فرق بين الجميع أصلا عند العقل ، وإذا كان كذلك فيكشف العقل بمقدمة لزوم نقض الغرض ايجاب الشارع الاحتياط عند انسداد باب العلم بمعظم الفقه ولو لم يكن علم اجمالي في البين ، وبمقدمة الحكمة يستكشف في مقام الدوران مع عدم البيان بالنسبة إلى المورد انّه في المظنونات حيث انّها عند العقل أقرب إلى الواقع لا غيرها فلو كان المورد عند الشارع غيرها لكان عليه البيان كما يأتي تعيين أصل الظن بذلك بناء على كون نتيجة الانسداد مهملة.

هذا كله في إبطال البراءة.

وأمّا الاحتياط وهو وان كان مقتضى حكم العقل في جميع أطراف العلم الاجمالي إلاّ أنّه لا ريب في حكمه أيضا برفع اليد عنه فيما يلزم منه الاختلال وحينئذ :

فان سقط العلم الاجمالي عن إيراثه التنجز فتكون بقية الأطراف مجرى البراءة ، إلاّ أن يرجع إلى ما ذكرنا من استكشاف ايجاب الاحتياط بمقدمة نقض الغرض فترتفع البراءة بمقدار الاستكشاف ويكون الأصل حينئذ فيما لم يستكشف الاحتياط البراءة.

وأمّا ان قلنا بالتنجّز بواسطة العلم الاجمالي ولو مع الترخيص العقلي في بعض أطرافه امّا للاجماع ببطلان البراءة مع اشكال فيه كما عرفت ، وأمّا للفرق بين الاضطرار بالمعيّن أو المردد ووجوب الاحتياط عقلا في الثاني كما هو كذلك في

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( العدم ).

١٥٧

المقام ؛ فحينئذ يكون الأصل بمقتضى حكم العقل هو الاحتياط الاّ في ما دل على عدم وجوبه عقلا أو نقلا فبعد ما عرفت من لزوم رفع اليد عنه عقلا في قدر الاختلال فيبقى الكلام في وجوبه في غير هذا المقدار مطلقا ولو فيما لزم منه العسر غير المخلّ أو فيما لم يلزم منه ذلك أيضا أو عدم وجوبه مطلقا.

وقد استدل على عدم وجوبه في حال الانسداد بوجهين :

الاول : الاجماع القطعي على عدم وجوبه في جلّ الفقه في مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها في حال الانسداد قطعيا من القائلين به وتعليقا على الانسداد من القائلين بانفتاح باب العلم.

ولكن دعوى : تحقق الاجماع مع تطرق الشك في المسألة واحتمال استناد البعض فيها بعدم كون العلم الاجمالي منجّزا للتكليف عقلا وإلاّ فمع تنجيزه عند تعلّقه بالحكم الفعلي فكيف يحتمل الترخيص شرعا ، مشكلة.

الثاني : لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد في التزامه لكثرة المحتملات مظنونا أو مشكوكا أو موهوما بحيث لو بنى المجتهد في تشخيص موارده في غير ما علم فيه التكليف بالاجماع أو بالخبر المتواتر ، والمقلد في تعلم تلك الموارد منه مع الابتلاء في كلّ يوم وليلة يلزم منه العسر فضلا عن العمل به فيرتفع وجوب الاحتياط في غير العسر المخلّ بأدلة نفي العسر شرعا.

وفيه : بعد البناء على تقديم أدلة العسر على أدلة التكاليف حكومة أو جمعا لتعرّضها للعناوين الطارئة دونها ؛ انّه بناء على مذهب الاستاذ دام ظله (١) انّ معنى أدلة نفي العسر نفي الحكم كناية بلسان نفي الموضوع وانّها تفيد نفي ما للامور العسيرة والموضوعات الصعبة من الأحكام الشرعية التي كانت المنّة في رفعها ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥٨ و ٤٣٢ ؛ درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ١٣٥ ، والطبعة الحجرية : ٧٩ عند التعليق على قوله : « الثاني : العسر الشديد ».

١٥٨

يشكل التمسك بها لنفي الاحتياط في المقام لعدم كون الموضوعات للأحكام الشرعية عسيرة ؛ وما هو العسير من مجموع الأطراف ما كان الحكم فيه وهو وجوب الاحتياط في الأطراف إلاّ عقليا.

وأمّا بناء على المعنى الذي ذكره شيخنا العلامة أعلى الله مقامه (١) من انّ مفادها نفي الحكم الذي ينشأ منه العسر ، فيرد عليه :

انّه لو كان المراد العسر بلا واسطة اشتباه ونحوه فلا يشمل المقام.

وان كان المراد أعمّ منه ، ففيه : انّه حينئذ يرتفع الحكم الشرعي فيرتفع الاحتياط رأسا ولو في غير مورد العسر ، لأنّ المرفوع حينئذ مجموع الأحكام التي ينشأ منها العسر ولا دليل على إيجاب الاحتياط في البعض حيث انّ لسان الادلة النفي لا الاثبات.

وتوهّم : انّ المرفوع بها هو وجوب الاحتياط في جميع الأطراف فيبقى في البعض بحاله لا الحكم الواقعي كي لا يجدي في إيجاب الاحتياط في البعض ، مدفوع :

مضافا إلى كون الاحتياط في أطراف العلم عقليا فلا يقبل الرفع ؛ بأنّه على تقدير التسليم لا يجدي في المرام أيضا لما ذكرنا.

نعم فيما كان في البين دوران بين حكمين في عرض واحد أو كانا محققين معا يستلزم أحدهما العسر دون الآخر فبرفع الحكم العسري يتعيّن الآخر لا فيما كان في البين ـ مع قطع النظر عن أدلة العسر ـ حكم واحد معيّن فبارتفاعه لا يثبت حكم آخر كما في المقام.

ويظهر من تقريبه قدس‌سره في أدلة نفي العسر بما ذكرناه منه مع ما عرفت من

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٠ في قاعدة « لا ضرر » ؛ رسائل فقهية ٢٣ : ١١٤.

١٥٩

لازمه تأييد ما ذكرناه سابقا من عدم تأثير العلم الاجمالي في التنجّز كما وعدناك سابقا.

ثم انّه لو أغمض عمّا ذكرنا من الاشكال وقلنا بوجوب الاحتياط فيما لا يلزم منه العسر وعدمه فيما يلزم فيه لا يثبت به حجية الظن بحيث لم يبق محذور من الرجوع إلى الاصول في غير مورده كما لو انحلّ العلم الاجمالي ، غاية الأمر لمّا كان العمل بمقتضى العلم الاجمالي عسيرا وصعبا فلا بدّ من ترك الاحتياط في البعض ويبقى مقتضى العلم في الباقي بحاله.

نعم بناء على ما ذكرنا من كون الاحتياط من جهة الاهتمام ونقض الغرض لا من جهة العلم الاجمالي يمكن أن يدّعى انّه يستكشف منه حجية الظن لكفايته عند العقل لدفع نقض الغرض كالاحتياط الجزئي لابتناء على مشرب الشيخ (١) من كون الاحتياط بمقتضى العلم الاجمالي.

وبناء على ما ذكره قدس‌سره فلو دار الأمر بين ترك الاحتياط بين الابعاض مظنونها ومشكوكها وموهومها وكان ترك الاحتياط في طائفة منها كافيا في دفع العسر فقد ذهب الشيخ (٢) حينئذ إلى تركه في الموهومات والالتزام به في المظنونات والمشكوكات قضية للعلم الاجمالي.

وامّا الحاق المشكوكات بالموهومات :

فان كان للزوم العسر ، فقد ردّه بعدم لزومه فيها.

وان كان من جهة الاجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها الملازم لحجية الاصول فيها فقد ردّه بقوله قدس‌سره : « قلت : مرجع الاجماع قطعيا أو ظنيا على الرجوع في المشكوكات إلى الاصول هو الاجماع على الحجة الكافية في

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٢٠.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٤٢١.

١٦٠